رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبي علي بن سينا

الحمد لله الذي لا يخيَّب من بابه آمل، ولا يُحرم عن جنابه عامل، ولا يحجُب العارفين عن ورود مناهلِ مُشاهدة أنوار جلاله مانعٌ وحائل، ولم يمنع المشتاقين للقائه عن الصعود من حضيض الفراق إلى أوج الوصال ناقصٌ أو كاملٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مَن أخلص لمُشاهدة جلاله سرَّه، وعرض في منازل التوحيد على أعين النُّظَّار سيره، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله الذي عقد على أجياد أرواح الأبرار قلائد الأسرار، فصلوات الله عليه وعلى آله الأخيار. وبعد؛ فهذه رسالة حررتها في علم النفس، وجعلتها ثلاثة فصول:
  • الفصل الأول: في إثبات أن جوهر النفس مُغاير لجوهر البدن.
  • الفصل الثاني: في بقاء النفس بعد فناء البدن.
  • الفصل الثالث: في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد مفارقة النفس عن البدن.

ثمَّ ألحقت بها خاتمة أذكر فيها العوالم الثلاثة التي هي عالم العقل، وعالم النفس، وعالم الجسم، وترتيب الوجود من لَدُن الحق الأول إلى أقصى مراتب الموجودات على الترتيب النازل من عنده تعالى؛ ليكون الناظر في هذه الرسالة مُطَّلِعًا على جُملٍ من أجناس المخلوقات وشطر من أنواعها، فأهديتُ هذه الرسالة التي هي مشتملة على أهم المطالب وهو معرفة الإنسان نفسه، وما يئول إليه حاله بعد الارتقاء. وأيضًا فإن معرفة النفس مرقاة إلى معرفة الرب تعالى كما أشار إليه قائل الحق بقوله: «من عرف نفسه فقد عرف ربه.» ولو كان المراد بالنفس في هذا الحديث هو هذا الجسم لكان كل أحد عارفًا بربه، أعني خصوص معرفة، وليس كذلك؛ فهذه الرسالة تهديك إلى الأسرار المخزونة في عالم النفس الذي غفل عنه الدهماء من الناس، بل أكثر العلماء عنه غافلون؛ ولهذا أُوحي إلى رسول الله لما سُئل عن حقيقة الروح: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، ثمَّ قال عقيبه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا تنبيهًا على أكثر الناس عن النفس وحقيقة الروح؛ فهذا هو الإشارة المختصرة إلى فوائد هذه الرسالة، فلنشرع فيما ذكر من الفصول بتوفيق الله وحُسنِ هدايته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤