الفصل الخامس

المشهد الأول

(يدخل جاردنر أسقف ونشستر، ومعه خادم يتقدمه بشعلة، ويقابلان السير توماس لافل.)

جاردنر : إنها الواحدة صباحًا يا غلام!
الغلام : لقد دقَّت الساعة.
جاردنر :
ينبغي أن يفرغ الإنسان في هذه الساعة لما يلزمه من نوم
لا للهو والمتعة. إنه وقت إصلاح عطب الجسد
بالرُّقاد الشافي، ولا ينبغي لنا التفريط في هذه الساعات.
(يرى السير توماس لافل) طابت لك هذه الساعة من الليل، ٥
يا سير توماس. أين تمضي في هذا الوقت المتأخر؟
لافل : هل أتيتَ من عند الملك يا سيدي؟
جاردنر : نعم يا سير توماس، وتركتُه يلعب الورق مع دوق سافوك.
لافل :
لا بد أن أمضي إليه أنا أيضًا قبل أن آوي إلى الفراش.
دعني أودعك.
جاردنر :
بل اصبر قليلًا يا سير توماس لافل، ماذا حدث؟ ١٠
يبدو لي أنك في عجلة، وإذا لم يكن في سؤالي
تطفُّلٌ كبير، فأرجو أن تُلمح لي عما كنت تفعل؛
فالأفعال التي تسير (مثل الأرواح كما يُقال) بعد منتصف الليل
أغرب وأدعى للشطَط مما يجري بالنهار! ١٥
لافل :
سيدي، إني أحبك؛ ولذلك أعهد بسِرٍّ إلى أُذنك،
وهو سِرٌّ أهم وأثمن من أي عمل.
لقد حانت ساعة وضع الملكة، ويقولون إن وطأة المرض
قد اشتدَّت عليها، بل يُخشى أن تموت أثناء الوضع.
جاردنر :
أدعو الله من كل قلبي أن يُنقذ الثمرة في بطنها، ٢٠
ويعينها على وضعها، ويكتب لها السلامة.
أما جذع الشجرة يا سير توماس،
فليته يُجتَث الآن.
لافل :
يُخيَّل لي أنني أستطيع أن أقول آمين،
ولكن ضميري يقول إنها إنسانةٌ كريمة، ٢٥
وامرأةٌ رقيقة، جديرة بأمنياتنا الطيبة.
جاردنر :
مهلًا مهلًا يا سيدي، اسمعني يا سير توماس،
إنك سيد يُشارِكني آرائي الدينية،
وأنا واثق من حكمتك ومن تقواك وورعك!
لن تنصلح الأحوال مطلقًا يا سير توماس لافل،
أقول مطلقًا وصدقني، ٣٠
حتى ترقد في قبرها هي وكرانمر وكرومويل؛
فهما بمثابة اليدَين اللتَين تعمل بهما!
لافل :
سيدي، إنك تتحدث الآن عن رجلَين
من أبرز المرموقين في المملكة. أما كرومويل
فإلى جانب عمله في الإشراف على الفضيات والجواهر
فقد عُين قاضيًا في محكمة الاستئناف،
ومسئولًا عن الوثائق والبراءات والمنح١ ٣٥
وهو من أمناء الملك. وهو إلى جانب ذلك
ممن نتوقَّع لهم المزيد من المناصب العليا،
التي سوف يُمطِرها الزمان عليه!
ورئيس الأساقفة هو اليد اليمنى للملك،
وهو لسانه الذي ينطق به، فمن ذا الذي يجرؤ
على المساس به ولو بحرفٍ واحد؟
جاردنر :
بل هناك من يجرؤ يا سير توماس!
ولقد خاطرتُ أنا نفسي بالإعراب عن رأيي فيه! ٤٠
بل إنني فعلتُ ذلك اليوم (وسوف أبوح لك)
إذ أظن أنني أغضبتُ٢ اللوردات من أعضاء المجلس
بقولي إنه كبير المارقين، بل وباء تُبتلى به البلاد،
وتنتشر عَدْواه فيها، فهذا ما أعلمه حق العلم، ٤٥
وهذا ما يعلمونه أيضًا. وقد استشاطوا غيظًّا
فأبلغوا الأمر للملك الذي أصغى لشكوانا.
وقد تكرَّم وأولى الموضوع عنايتَه السامية
لما رآه من عواقبَ وخيمة، وللأسباب التي عرضناها عليه؛
ومِن ثَمَّ أصدر أمره بأن يمثُل للمساءلة أمام المجلس ٥٠
في صباح الغد. إنه من الأعشاب الضارة السامة
يا سير توماس، ولا بد من اقتلاعها!
لقد عطَّلتُكَ كثيرًا عن القيام بمهمتك. تصبح على خير
يا سير توماس.

(يخرج جاردنر مع خادمه.)

لافل : تُصبِح على ألف خير يا سيدي، وسأظل خادمَك الوفيَّ. ٥٥

(يدخل الملك مع سافوك.)

الملك :
اسمع يا تشارلز، لن أستمر في اللعب الليلة،
لا أستطيع التركيز في اللعب، وأنت أمهر من أن يُغْلب!
سافوك : لم يسبق لي يا مولاي أن كسبتُ جولةً واحدة معك.
الملك :
لم تكسب إلا قليلًا، بل ولن تكسب أبدًا حين أريد اللعب حقًّا.
والآن يا لافل، قل لي ما أخبار الملكة؟ ٦١
لافل :
لم أستطع تسليم رسالتك بنفسي كما أمرتَني،
بل أرسلتُها عن طريق وصيفتها، والملكة تُبلِغُك أسمى آيات الشكر
بأقصى التواضُع، وتطلب من سُموِّكم أن تدعُوَ لها من قلبك.
الملك :
أدعو لها؟ ماذا تقول؟ أفصح. ٦٦
أدعو من أجل أي شيء؟ هل بدأَت آلام الوضع؟
لافل :
هذا ما تقوله الوصيفات. وتقول أيضًا إن كل صرخة ألم
كأنها الموت من شدة المعاناة.
الملك : مسكينة أيتها السيدة الكريمة. ٧٠
سافوك :
فليُخلِّصها الله بسلامٍ من حَمْلها، وليُخفِّف عنها آلامها،
وليُفرِح قلبَ سُموِّكم بوريثٍ للعرش.
الملك :
لقد جاوزنا منتصف الليل يا تشارلز،
أرجو أن تمضي إلى فراشك، وأن تدعو في صلواتك
لهذه المرأة المسكينة. اتركني وحدي الآن؛ ٧٥
فيجب ألا يُرافقني أحد فيما لا بد أن أفكِّر فيه.
سافوك :
أرجو لسمُوِّكم ليلةً هادئة، وسوف أدعو لسيدتي الكريمة
في صلواتي.
الملك :
تصبح على خير يا تشارلز.
(يخرج سافوك.)
(يدخل السير أنطوني ديني.)
ماذا وراءك يا سيد … تكلَّم.
ديني : لقد أحضرتُ سيدي رئيس الأساقفة كما أمرتَني.
الملك : رئيس أساقفة كانتربري؟ ٨٠
ديني : نعم يا مولاي الكريم.
الملك : هذا صحيح. وأين هو الآن يا ديني؟
ديني : حاضر. ينتظر أمر سُموِّكم.
الملك : فليمثُل في حضرتنا.

(يخرج ديني.)

لافل (جانبًا) :
هذا هو ما كان الأسقف يتحدث عنه.
لقد حالفَني التوفيق إذ حضرتُ الآن. ٨٥

(يدخل كرانمر وديني.)

الملك :
لا تسلُك طريق البهو.
(يتلكأ لافل ويبدو أنه يريد المكوث.)
ألم تسمع ما قلتُ؟ انصرف. ماذا هناك؟

(يخرج لافل وديني.)

كرانمر (جانبًا) :
أوجس خيفةً منه. لماذا يعبس على هذا النحو؟
هذا هو تعبير عن الغضب. في الأمر شَر.
الملك :
كيف حالك سيدي؟ لا شك أنك تريد أن تعرف
سبب استدعائي لك.
كرانمر (راكعًا) : واجبي أن أُطيع ما تقضي به يا مولاي. ٩٠
الملك :
انهض، أرجوك يا لورد كانتربري الطيب الصالح،
أقبل. علينا أن نقوم بجولةٍ في البهو معًا؛
فلدي أنباءٌ سأُفضي بها إليك. أقبل أقبل أَعطني يدك.
واهًا لك أيها اللورد الكريم. إني ليحزنني أن أقول ما أقول، ٩١
ويؤسفني حقًّا أن أُكرِّره على أسماعك.
لقد سمعتُ في الآونة الأخيرة، وليتني ما سمعتُ،
كثيرًا من الشكاوى الجادة — وأُكرِّرها يا سيدي —
الشكاوى الجادة المرفوعة ضدكم!
وبعد أن أنعمنا النظر فيها قرَّرنا وقرَّر المجلس ١٠٠
استدعاءك للمثول بين أيدينا هذا الصباح.
ولما كنتُ أعرف أنك لن تستطيع تبرئة ساحتك بسهولة
في هذا المجلس، ولا بد أن تنتظر حتى انعقاد محكمةٍ أخرى
للنظر في التهم الموجَّهة إليك ولا بد لك من مواجهتها،
فإنني أدعوك للتمسك بأهداب الصبر، ١٠٥
وأن ترضى بالإقامة في البرج التابع لنا.
ومع أنك من إخوتنا أعضاء المجلس،
فقد رأينا أن هذا أفضلُ إجراء يمكن اتخاذه،
وإلا لأحجم الشهود عن الإدلاء بشهادتهم ضدك.
كرانمر (راكعًا) :
أشكر سُموَّكم بكل تواضُع،
وما أَسعدَني أن أغتنم هذه الفرصة السانحة
لإبراز الحقيقة الناصعة، وفصل التين عن القمح تمامًا! ١١٠
إذ أُدرك أنه ما من إنسان يتعرض لألسنة السوء والافتراءات
أكثر مني — أنا الضعيف المسكين.
الملك :
انهض يا كانتربري الصالح.
إن جذور صدقك ونقاء معدنك ثابتةٌ وعميقة
في نفس صديقك — فينا نحن الملك. أعطني يدك وانهض ١١٥
أرجوك سِر معي قليلًا.
قسمًا بالبتول لتقولنَّ لي أيُّ ضرب من الرجال أنت؟
عجبًا يا سيدي! كنتُ أتوقَّع أن تلتمس مني نظر حالتك،
وأن أعمل على المواجهة بينك وبين من يتهمونك، ١٢٠
وأن أستمع لوجهة نظرك فورًا دون الحاجة إلى حبسك في البرج.
كرانمر :
يا مولاي المهاب. إن دعامة الخير التي أرتكن إليها
تقوم على صدقي وأمانتي، فإذا انهار أساس هذا البنيان
كان مصيري الهزيمة من أعدائي ومن نفسي،
وإذا خلا شخصي من هاتَين الفضيلتَين فلن تكون له قيمة ١٢٥
في نظري، ولا أخشى مطلقًا ما يمكن أن يُقال في حقي.
الملك :
ألا تعرف حقيقة موقفك في الدنيا وآراء هذا العالم كله؟
ما أكثر أعداءك وما أرفع مناصبَهم! وأحابيلهم
تتناسب مع عددهم ورفعتهم! ولم يُكتَب يومًا ١٣٠
لعدالة القضية أو صدقها أن تنصر صاحبها بحكمٍ لصالحه!
وما أيسَرَ أن تجد العقول الخبيثة أوغادًا خبثاء
يشهدون ضدك ويُقسِمون على صدقهم!
لقد حدث مثل ذلك من قبلُ. إن أعداءك أقوياء
وأحقادهم بمثل قوتهم! هل تتخيَّل أنك ستكونُ أحسن حظًّا، ١٣٠
أقصد فيما يتعلق بشهود الزور، من سيدك الذي كنتَ مساعدًا له،
إبَّان حياته على ظهر هذه الأرض الأثيمة؟
كلا كلا. إنك تقف على شفا حفرة
ولا ترى أنها مهلكة،
بل تعمل على إهلاك نفسك في الواقع!
كرانمر :
الله قادر، وأنتم يا صاحب الجلالة، ١٤٠
على إظهار براءتي، وإلا سقَطتُ في الشَّرَك الذي أعَدُّوه ليز
الملك :
اطمئن! فلن ترجح كفَّتُهم عليكَ إلا بالقَدْر الذي
نسمح نحن به. وليهدأ بالك واحرص على المثول
بين أيديهم هذا الصباح، فإذا حدث واتهموك ١٤٥
بتهَمٍ معينة وحكموا بسجنك في البرج،
فتوسَّل بشتى الحُجج حتى تدحضَ اتهاماتهم،
وأظهر كل ما يستدعيه الموقف من ثقة وقوة،
فإذا عجز دفاعك عن تبرئة ساحتك،
فأظهر لهم هذا الخاتم (يعطيه خاتمه) ١٥٠
وقل لهم إنك تريد اللجوء إليَّ للحكم في القضية.
يا عجبًا! الرجل الصالح يبكي! إنه لأمينٌ قسمًا بشرفي.
أقسم بالبتول المباركة إنه لمخلصٌ،
بل لا تُوجد في المملكة نفسٌ أنقى وأطهر.
انصرِف الآن وافعل ما طلبتُه منك. ١٥٥
(يخرج كرانمر.)
لقد خنقَت العبَراتُ ألفاظه!

(تدخل امرأةٌ عجوز.)

سيد (من خارج المسرح) : عُودي هنا. ما معنى هذا؟
العجوز :
بل لن أعود؛ فالأنباء التي أحملها
تجعل من جُرأتي أخلاقًا حميدة، فلترفرفي الآن يا ملائكة الخير
حول رأس الملك، ولتُظِلي رأسه بأجنحتك المباركة. ١٦٠
الملك :
أستطيع أن أَحْدُس الرسالة من مظهرك.
هل وضعَت الملكة؟ قولي، تكلمي. هل أنجبَت غلامًا؟
العجوز :
نعم نعم يا مولاي، وهو غلامٌ جميل،
فليباركها رب السماء الآن وإلى الأبد.
إنها وضعَت أنثى تُبشِّر بالغلمان في قابل الزمن. ١٦٥
سيدي، الملكة ترجوك أن تزورها،
وأن ترى هذه القادمة الغريبة في هذه الدنيا.
إنها تُشبِهك تمامًا، مثلما تُشبِه الكرزة كرزةً أخرى.
الملك : لافل.
لافل : سيدي.
الملك : أعطها مائة مارك!٣ سأذهب إلى الملكة. ١٧٠

(يخرج الملك.)

العجوز :
مائة مارك؟ قسمًا بهذا النور لا بد أن أنال المزيد.
لا يتناول هذا المبلغ إلا خادمٌ عادي.
لا بد أن أنال المزيد، حتى لو نهرتُه حتى يعطيني ما أريد.
هل هذا ثمن قولي «إنها تُشبِهك تمامًا»؟
لا بد أن أنال المزيد وإلا رجعتُ عما قلته، ١٧٥
وسوف أُثير المسألة الآن قبل أن تَبرُد الأنباء.

(تخرج.)

المشهد الثاني

(غرفة داخلية وغرفة المجلس.)

(يدخل كرانمر رئيس أساقفة كانتربري، متبوعًا بالخدَم، ولدى الباب خدَمٌ آخرون.)

كرانمر :
عسى ألا أكون قد تأخرتُ أكثر مما ينبغي؛
فالسيد الذي أرسله المجلس رجاني أن أُسرع.
الأبواب مغلقة؟ ما معنى هذا؟ أنتم يا مَن هنا،
أين الحاجب؟ (يدخل الحاجب) أنت تعرفني بالتأكيد.
الحاجب : نعم يا مولاي، لكني لن أفتح الباب لك.
كرانمر : لماذا؟
الحاجب : لا بد أن تنتظر يا مولاي حتى يُنادوا عليك. ٥

(يدخل الدكتور بَتْس.)

كرانمر : فليكُن.
بتس (جانبًا) :
أحبولةٌ خبيثة! يسُرُّني أنني مررتُ من هنا،
ولحسن الحظ. لسوف أُبلغ الملك بها على الفور.

(يخرج بَتْس.)

كرانمر (جانبًا) :
إنه بَتْس، طبيب الملك. ١٠
لقد رمقني بنظرةِ اهتمامٍ بالغة أثناء مروره،
أدعو الله ألا يذيع أنباء هذا العار.
من المؤكد أنها إهانةٌ متعمَّدة دبَّرَها من يكرهونني لثلم شرفي
(اللهم انزع الغل من قلوبهم؛ فما فعلتُ ما يستوجب أحقادهم)
عار عليهم أن يجعلوني أنتظر لدى الباب،
وأنا زميل لهم في المجلس، هنا مع الخدم والحشم والأتباع،
لكنني لا بد أن أنصاع لمشيئتهم، وأن أصبر الصبر الجميل.

(يدخل الملك مع بَتْس ويُطِلَّان من نافذة على مُستوًى مرتفع.)

بتس : سأجعلك يا مولاي ترى أغرب مشهد.
الملك : وما ذاك يا بَتْس؟
بتس : أظنك يا مولاي قد شاهدتَ ذلك مراتٍ كثيرة. ٢٠
الملك : حلَّفتُك أين تُطلعني عليه، أين هو؟
بتس :
هناك يا مولاي. الترقية الكبيرة التي نالها معالي أسقف كانتربري،
الذي أصبح يزهو بكرامته لدى الباب بين الخدم والحشم والأتباع.
الملك :
حقًّا؟ إنه هو ولا شك.
أهكذا يكرِّم بعضهم بعضًا؟ ٢٥
الحمد لله أن فوقهم من يفوقهم في المكانة.
كنت أتصوَّر أنهم يتقاسمون الشرف والأمانة فيما بينهم،
أو آداب السلوك على الأقل، بحيث لا يُقْدمون
على جعل رجل في مثلِ مكانته، ويتمتع بحظوةٍ كبيرة لدينا،
ينتظر ذليلًا أن يأذنوا له بالدخول، ٣٠
ولدى الباب أيضًا مثل ساعي البريد الذي يحمل الطرود!
قسمًا بالبتول المقدَّسة يا بَتْس إنها نذالةٌ مقيتة.
اتركهم ولنختبئ خلف الستار هنا،
وسوف نسمع المزيد حالًا.
(يُدْخل الخدم منضدة اجتماعات المجلس، وبعض الكراسي الوثيرة، والمقاعد الصغيرة، ويضعونها تحت كرسي العرش. يدخل رئيس المجلس ويجلس على رأس المنضدة إلى الجانب الأيسر، وبعده مقعد يظل خاليًا، كأنما ليجلس فيه كانتربري، ويجلس دوق سافوك، ودوق نورفوك، وسَرِي، وكبير الأمناء، وجاردنر، بنظامٍ محكم على الجانبَين. ويجلس كرومويل في الطرف الآخر باعتباره أمينًا للمجلس.)٤
الرئيس :
اعرض الموضوع أيها الأمين. ٣٥
ما سبب اجتماع المجلس؟
كرومويل :
اسمحوا لي يا أصحاب السعادة،
القضية الرئيسية تتعلَّق بصاحب المعالي أسقف كانتربري.
جاردنر : هل أُحيط علمًا بها؟
كرومويل : نعم.
نورفوك : وهل هو حاضر هنا؟
الحاجب : بل في الخارج يا سادتي النبلاء.
جاردنر : فليكن. ٤٠
الحاجب : سيدي رئيس الأساقفة. لقد قضى نصف ساعة في انتظار تعليماتكم.
الرئيس : اطلب منه الدخول.
الحاجب (إلى كرانمر) : تفضَّل سعادتك بالدخول الآن.

(يقترب كرانمر من منضدة المجلس.)

الرئيس :
اسمعني يا رئيس الأساقفة، أيها اللورد الكريم،
يؤسفني كل الأسف أن أجلس هنا وأرى في هذه اللحظة
مقعدك خاليًا! ولكننا جميعًا بشر،
وفي طبائع البشر ضعف، ونستسلم لنوازع الجسد. ٤٥
ما أقلَّ الملائكة بيننا! وقد أدَّى هذا الضعف
والافتقار إلى الحكمة إلى ارتكابِكم جرائم ليست هينة،
وكان عليكم أن تكونوا أفضل المعلِّمين.
إنها جرائم في حق الملك أولًا، وضد قوانينه ثانيًا.
إذ أفشيت في المملكة كلها دروسك ودروس القسس التابعين لك ٥٠
(وفقًا لما بلغنا من أنباء) وهي التي تتضمن آراءً جديدة،
ومنحرفة٥ وخطرة! وهي تُعتبر بدعًا في الدين وهرطقة،
بل قد يكمن فيها الهلاك إذا تركناها دون إصلاح.
جاردنر :
ويجب أن يكون الإصلاح مباغتًا وقويًّا يا سادتي؛
فالذين يُروِّضون الخيول البرية لا يجعلونها تسيرُ الهُويْنى أمامهم ٥٥
حتى تَرِق طباعها، بل يضعون الشكيمة القوية في فم الفرس
وينخسونه بالمِهْماز حتى يطيع أوامرهم.
فإذا احتملنا التعرُّض لهذا الوباء المُعْدي،
بسبب تسامُحنا وشفقتنا الصبيانية على شرف رجلٍ ما،
كنا نقول وداعًا للعلاج والدواء. وما الذي يعقُب ذلك؟
قلاقلُ واضطراباتٌ وانتشار العدوى في جسد الدولة كله،
كما يشهد على ذلك ما حدث في الآونة الأخيرة،
عند جيراننا في أواسط ألمانيا؛ إذ دفعوا لها ثمنًا غاليًا،
ولم ننسَ كيف أشفقنا عليهم ورثينا لحالهم. ٦٥
كرانمر :
يا سادتي الأفاضل، كان ديدني وما يزال
في جميع مراحل حياتي ومهام منصبي،
أن أعمل بل وأبذل قُصارى جهدي للوصول
بالدروس التي أُعلِّمها، والسلطة الكبيرة المخوَّلة لي،
إلى غايةٍ واحدة آمنة ألا وهي فعل الخير. ٧٠
ولا يوجد رجلٌ في قيد الحياة يا سادتي
— وأقول ذلك بقلبٍ مخلص طاهر —
رجلٌ يفوقني في كراهية ومناهضة الذين يُعكِّرون صفو السلام
في الأمة، سواء في أعماق ضميره الشخصي،
أو في مهام منصبه. ٧٥
وأدعو الله ألا يجد الملك أبدًا قلبًا
يقل ولاؤه عن ولائي. إن الذين يتغذَّون على الحسد
وأحابيل الخبث الملتوية، يجرُءُون على نهش أفضل الفضلاء.
أتوسل إليكم يا سادتي مراعاة العدالة في هذه القضية، ٨٠
باستدعاء الذين رمَوْني بالتهم، مهما يكونوا،
وأن يقفوا أمامي وجهًا لوجه، وأن يصارحوني
بالتهم الموجَّهة إليَّ.
سافوك :
لا يا سيدي، لا يجوز هذا أبدًا؛
فأنت من أعضاء المجلس، وبهذه الصفة لا يجرؤ أحد
على توجيه الاتهام إليك. ٨٤
جاردنر :
سيدي، لمَّا كانت لدينا أعمالٌ أهم، فسوف نختصر الإجراءات معك.
لقد قضت مشيئةُ صاحب الجلالة، التي وافقناه عليها،
أن تُحبس منذ الآن في البرج، حتى تُحاكَم محاكمةً أفضل؛
إذ تصبح من جديدٍ فردًا عاديًّا، وبهذه الصفة
ستجد الكثيرين الذين يجرءون على توجيه اتهاماتهم الجسورة إليك،
بل أخشى أن تجد منهم أكثر مما تستطيع أن تواجهه. ٩١
كرانمر :
يا لورد ونشستر الكريم، شكرًا لك.
لقد كُنتَ وما تزال صديقي الصدوق،
فإذا وافق المجلس على قرارك، فسوف تكون سيادتكم
خصمًا وحكمًا معًا؛ فما أوفَرَ ما تتصف به من الرحمة! ٩٥
إنني أرى ما ترمي إليه وهو هلاكي.
ما أخلَق رجلَ الدين يا سيدي بأن يتصف بالحب والوداعة
بدلًا من الطموح! تسلَّح بالاعتدال سيدي
حتى تكسب النفوس الضالة من جديد،
ولا تنبذ أحدًا أبدًا. لسوف أُبرئ ساحتي،
وأتحمَّل بصبرٍ كل الأثقال التي سوف تُلقُونها على كاهلي. ١٠٠
ولا يخامرني الشك في أنكم لا تواجهون أي وازعٍ من ضمير
في المظالم التي تقترفونها كل يوم. أستطيع أن أقول المزيد
ولكن احترامي لمهنتكم ورسالتكم يفرض عليَّ التأدُّب.
جاردنر :
سيدي، أيها اللورد، أنت صاحب دعوةٍ دينية مارقة،
وهذه هي الحقيقة الناصعة! وبريقك الزائف ١٠٥
يكشف لمن يفهمك حق الفهم عن كلماتٍ جوفاء وضعفٍ متأصل!
كرومويل :
سيدي لورد ونشستر، اسمح لي أن أقول إن قسوتك
زادت عن الحد قليلًا؛ فالذين ارتقَوا ذُرا الشرف،
مهما يكن من أخطائهم، جديرون بالاحترام لقاء ما كانوا عليه،
ومن القسوة أن نُثقِل كاهل رجلٍ أناخ الدهر عليه! ١١٠
جاردنر :
سيدي أمين المجلس الفاضل، أرجو عفو سُموِّكم.
أنت آخرُ من يحقُّ له أن يقول هذا،
من الجالسين حول هذه المنضدة.
كرومويل : ولماذا يا سيدي؟ ١١٥
جاردنر :
لأنني أعلم أنك من أنصار هذه الدعوة الجديدة،
ولستَ صادق الإيمان.
كرومويل : لست صادقًا؟
جاردنر : لستَ صادقًا أقول.
كرومويل :
ليتك كنت تتحلَّى بنصف ما عندي من الصدق.
ولو كنتَ كذلك لاكتسبتَ دعواتِ الناس لك،
بدلًا من مخاوفهم.
جاردنر : لن أنسى هذه العبارات الجارحة.
كرومويل : بل اذكُرها، واذكُر حياتك الجارحةَ أيضًا.
الرئيس : لقد تماديتُم كثيرًا. كُفُّوا عن هذه المهاترات المشينة.
جاردنر : لن أزيد.
كرومويل : وأنا كذلك. ١٢٠
الرئيس :
وهكذا فقد اتفق الجميع فيما يتعلق بقضيتك يا سيدي،
وبالإجماع فيما أظن، على حبسك في البرج،
وأن تظل فيه حتى نعرف مشيئة الملك في أمرك.
هل تُوافقون جميعًا على ذلك يا سادتي؟ ١٢٥
الجميع : موافقون.
كرانمر :
ألا يُوجد سبيلٌ آخر للرحمة يا سادتي،
ولا بد أن يُلقى بي في البرج؟
جاردنر :
وما الذي تتوقَّعه سوى ذلك؟
ما أشدَّ مناكفتكَ وأغربَها!
فليستعِدَّ عددٌ من الحراس هناك.

(يدخل الحراس.)

كرانمر :
هل جاءوا من أجلي؟
هل أمضي إلى البرج بصفتي خائنًا؟
جاردنر : اقبضوا عليه، وأوصلوه سالمًا إلى البرج. ١٣٠
كرانمر :
انتظروا يا سادتي الأفاضل، لديَّ كلماتٌ قليلة.
انظروا أيها السادة. إنني بفضل هذا الخاتم
أُنقِذ قضيَّتي من مخالبِ قساة القلوب،
وأُحيلُها إلى قاضٍ ذي نبلٍ وافر،
هو مولاي الملك. ١٣٥
الرئيس : إنه خاتم الملِك.
سَرِي : إنه ليس زائفًا.
سافوك :
إنه الخاتم الصحيح قسمًا بالله. لقد أخبرتكم جميعًا
أننا إذا بدأنا نُدحرِج هذه الصخرة الخطِرة،
فسوف تقع على رءوسنا.
نورفوك :
هل تظنُّون يا سادتي أن الملك يقبل إلحاق أي أذًى
بهذا الرجل، ولو بأُصبعه الخنصر؟ ١٤٠
الرئيس :
لقد اتضح هذا الآن بما لا يدع مجالًا للشك.
تُرى كم يُقدِّر الملك حياة هذا الرجل؟!
ليتني لم أشارك في هذه الجلسة.
كرومويل :
كنتُ أوجس خيفةً عندما بدأتُ تجميع الشائعات والشكاوى
ضد هذا الرجل، وهو الذي لا يحقد على أمانته وشرفه ١٤٥
إلا الشيطان ورهطه، وأخشى أنكم سوف تُوقِدون نارًا تحرقُكم،
فاستعدُّوا الآن للثبور.

(يدخل الملك متجهمًا في وجوههم ويجلس على العرش.)

جاردنر :
أيها الملك المهاب، كم نحمد الله ونشكره كل يوم
على أن وهبنا مثل هذا الأمير! إنه فاضل وحكيم،
بل وأكثر الناس تقوى وصلاحًا. ١٥٠
لقد دفعَتْه طاعة الله إلى أن جعل الكنيسة
الغاية الأولى لإعلاء شرفه، وإلى تدعيم الواجبات الدينية
احترامًا وإعزازًا لها. وها قد أتى بذاته الملكية
ليُصدِر الحكم وينظر في القضية القائمة بين الكنيسة
وذلك العاصي الأثيم. ١٥٥
الملك :
لطالما تميَّزتَ بالبراعة في صوغ عبارات الثناء،
دون إعدادٍ سابق يا أسقف ونشستر! ولكن فلتعلم
أنني لم أحضُر الآن لأسمع عبارات المديح والملَق؛
فهي في حضرتي هزيلةٌ منحطة لا تقوى على إخفاء الآثام،
ولن تستطيع النفاذ بها إلى نفسي. إنك تلعب دور الكلب، ١٦٠
وتظنُّ أنك قادرٌ على استمالتي إذا بصبَصتَ بلسانك!
ولكن أيًّا كان ظنُّك بشخصي، فأنا واثق
أنك ذو طبعٍ قاس ودموي.
(إلى كرانمر) أيها الصالح، اجلس.
والآن دعوني أرى أشدَّكُم كِبرًا وصَلفًا
وأكثركم جرأةً وجسارة، من يستطيع أن يُحرِّك أصبعًا واحدًا
نحوك. أُقسم بكل المقدَّسات ١٦٥
سيكون الموت جزاء من يظن ولو للحظة
أنكَ لستَ أجدر بمكانته منه.
سَرِي : إذا كان جلالتكم يسمح …
الملك :
لا يا سيدي لا أسمح!
كنت أظُن أن لديَّ في المجلس رجالًا يتمتَّعون بالقدرة على الفهم
وبالحكمة، ولكنني لم أجد أحدًا بهذا الوصف. ١٧٠
هل كان من اللائق أيها السادة أن تتركوا هذا الرجل
— هذا الرجل الصالح — وما أقلَّ مَن يستحق منكم هذا الوصف!
بل هذا الرجل الصادق الأمين، ينتظر مثل خادمٍ حقير لدى باب المجلس؟
إنه لا يقلُّ عنكم في رفعة المكانة، لماذا؟
لماذا أنزلتم به هذه الإهانة؟ هل طلبتُ منكم ١٧٥
في الأمر الصادر إليكم أن تتمادَوْا حتى تَنسَوا أنفسكم؟
لقد خوَّلتُكُم سلطة محاكمته باعتباره عضوًا في المجلس
لا باعتباره خادمًا. أرى أن بعضكم يريد،
بدافع الحقد لا بدافع الشرف، أن يُحاكمه ويُصدر الحكم بإعدامه
لو توافَرتْ لكم الوسيلة، لكني لن أُتيح لكم هذه الوسيلة أبدًا،
طالما ظلَلتُ في قيد الحياة. ١٨١
الرئيس :
أرجوك يا صاحب الجلالة المرهوب الجانب،
أن تسمح للساني بأن يُبرِّر ما قصدنا إليه جميعًا.
أُقسِم بالإيمان الذي يعمُر نفوس البشر،
كان القصد من حبسه هو إعداده للمحاكمة ١٨٥
بهدف تبرئة ساحته، عدلًا وإنصافًا، أمام العالم كله،
لا أي حقدٍ كامن في نفسي.
الملك :
فليكُن فليكُن. عليكم إذن أيها السادة
إبداء الاحترام له، وضمه إلى صفوفكم، وإحسان معاملته؛
فهو جدير بذلك.
واسمحوا لي أن أقول كلماتٍ لصالحه:
فإذا كان يمكن للأمير أن يشعر بالامتنان لأحد أبناء الرعية، ١٩٠
قلتُ إنني ممتنٌّ لما غمَرني به من حب وما قدَّمه من خدمات.
لا أريد المزيد من الجلبة والضجيج، لكنكم سوف
تحتضنونه جميعًا وتعودون إلى صداقتكم القديمة.
هيا أيها السادة. أمَّا أنت يا لورد كانتربري،
فإن لي مطلبًا أرجو أن تُحقِّقه لي،
ألا وهو أن طفلةً جميلة ما تزال في حاجة إلى التعميد، ١٩٥
ولا بد أن تكون الإشبين والمسئول عنها.
كرانمر :
هذا شرفٌ يعتز به أعظم ملكٍ على ظهر الأرض،
فكيف أستحقُّه وأنا فردٌ فقير مسكين من أبناء رعيَّتِكُم؟
الملك :
لا، لا يا سيدي، لن أطالبك بتقديم هدية من الملاعق الفضية٦
وسوف تُرافِقك اثنتان من النبيلات؛ دوقة نورفوك العجوز،
ومركيزة دورسيت: هل يُرضيكَ هذا؟ ٢٠٢
إني آمركم مرةً أخرى يا لورد ونشستر بأن تحتضنوا هذا الرجل،
وبأن تُحبوه.
جاردنر : وأنا أفعل ذلك بقلبٍ مخلص وحبٍّ أَخوي. ٢٠٥
كرانمر : ولتشهد السماء على اعتزازي البالغ بتأكيد الثقة في شخصي.
الملك :
أيها الرجل الصالح، إن دموع الفرح التي تذرفها
تشهد على إخلاص قلبك. وهكذا اتفق الجميع فيما أرى
بل وتأكد رأيهم فيك. وأصواتهم تقول مجتمعةً ما يلي:
«إذا أسأتَ إلى لورد كانتربري أصبحَ صديقك إلى الأبد!»
هيا أيها السادة. إننا نضيع الوقت هنا.
إني مشتاقٌ إلى تعميد هذه الطفلة الصغيرة،
فما دمت قد وحَّدتُ كلمتكم أيها السادة فاذكروا التي تنتظر.
فسوف أزداد بها قوة، وتكسبون بها مزيدًا من الشرف. ٢١٥

(يخرجون.)

المشهد الثالث

(مدخل القصر الملكي.)

(أصوات صخب وضجيج من خارج المسرح – يدخل البواب وخادمه.)٧
البواب :
كُفُّوا عن الصخب فورًا أيها الأوغاد. هل أصبح القصر الملكي حديقة باريش؟٨
أيها الحُقَراء الوُقَحاء، كُفُّوا عن الصياح أقول.
صوت (يدخل من خارج المسرح) : سيدي البواب، أنا من رجال مخزن الطعام.
البواب :
فلتكُن من رجال المشنقة، ولتُعلَّق فيها أيها الوغد. ٥
هل من اللائق أن تصرخ في هذا المكان؟
(إلى خادمه) أحضر لي اثنتَي عشرة عصًا صُلبة قوية
حتى أُفرِّقَهم بها.
أُريدها من شجر التفَّاح القوي، فما هذه إلا أغصانٌ نحيلة.
تستحقُّون الضرب على رءوسكم حقًّا.
ألا بد أن تشهدوا حفل التعميد؟
هل تتوقَّعون شُرب الجِعَة وأكل الفطائر أيها الأوغاد السفلة؟٩
الخادم :
أرجوك يا مولاي صبرًا. من المُحال تفريق هؤلاء، ١١
أو إخلاء البوابة إلا إذا ضربناهم بالمدافع
فطارت أجسامهم في الهواء.
وهل يستطيع أحدٌ إجبارهم على أن يظلوا نائمين
في صبيحة عيد الربيع؟١٠ إنه محالٌ أي محال.
لن نزحزحهم ولو زحزحنا كنيسة القديس بولس! ١٥
البواب : كيف دخلوا قاتلكَ الله؟
الخادم :
لا أعرف. كيف يدخل مد البحر؟
لقد حاولتُ تفريقهم بقَدْر ما استطاعت هذه الهِراوة.
كان طولها أربعة أقدام — وهذا ما بقي منها.
لم أترك أحدًا إلا ضربتُه.
البواب : بل لم تفعل شيئًا على الإطلاق. ٢٠
الخادم :
أنا لستُ شمشون الجبار يا سيدي. لا ولا الفارس جاي
ولا العملاق كولبراند!١١ حتى أحصُدَهم حصدًا، لكنني
أُقسم إنني لم أتركْ أحدًا إلا ضربتُه على رأسه، شابًّا كان أم
شيخًا! ديوثًا كان أم فاسقة. وإذا كنتُ قد أهملتُ واجبي
فأدعو الله ألا أحيا حتى أذوقَ اللحم مرةً أخرى. ٢٥
حاشا لله أن أكون مهملًا، فليحفظ الله الأميرة.١٢
صوت (من خارج المسرح) : هل تسمعني يا سيدي البواب؟
البواب :
سألتفتُ إليك بعد لحظةٍ يا سيدي الكلب المحترم.
اسمع يا غلام! حَذارِ أن تفتح الباب لأحد.
الخادم : ماذا تريدني أن أفعل؟ ٣٠
البواب :
أن تفعل ما ينبغي لك أن تفعل. اقرعهم على رءوسهم بالعشرات.
هل هذه حقول «مورفيلدز» حتى يحتشدوا للنزهة فيها؟ هل وصل
إلينا بعض الهنود الحمر من أمريكا، بحرابهم الكبيرة، حتى يحاصرنا
النساء؟١٣ فليُباركني الله. ما هذا التزاحم الإباحي لدى الباب؟
لسوف نشهد نسلًا كثيرًا من هذا الجماع! ٣٥
قسمًا بضميري المسيحي إن حفل التعميد
سوف يُنجب لنا ألف طفلٍ وألف أبٍ وألف إشبينٍ معًا.
الخادم :
ستكون ملاعق التعميد أكبر يا سيدي. إن بالباب رجلًا يدل وجهه
ومظهره على أنه من النحَّاسين. أقسم إن لفحاتِ عشرين يومًا من
أيام الصيف تزفُر في أنفه! وكل ما فيه ينطق بخط الاستواء، بل ٤٠
بالجحيم الذي يكفي للتكفير عن جميع ذنوبه! هذا التنِّين الذي
يزفُر النار ضربتُه ثلاث مراتٍ على رأسه فهَبَّ من أنفه اللهيب
ثلاث مراتٍ نحوي. إنه يقف هناك مثل مدفع الهاون على أُهْبة
الانطلاق لينسفنا ويُزيحَنا من طريقه! وكانت تقف قريبًا منه زوجة ٤٥
خردواتي ضعيفة العقل! ظلت تسبُّني وتشتمُني حتى سقطَت قبَّعتُها
الحمراء التي تشبه الطبق المقلوب من رأسها؛ وذلك لأنني في
زعمها تسبَّبتُ في هذا الضجيج. تصوَّر! وقد تفاديتُ الرجل
الذي كان كالشهاب الساقط فاصطدمتُ بالمرأة التي صاحت
«أدركوني!» فإذا بي ألمح من بعيدٍ نحو أربعين من شبان الحرفيين ٥٠
يحملون الهِراوَات ويُهْرعون لنجدتها. كانوا زهرة شباب حي
«ستراند» الذي تُقيم فيه. وعندما هاجموني صمدتُ لهم أولًا، ثم
بدءوا ينازلونني بمقابض المكانس فقاومتُ ما استطعتُ المقاومة، ولكنَّ
صفًّا من الصبيان برز فجأةً من خلفي كأنهم فريق من القنَّاصين،
أَمطَروني بوابلٍ من الحصى والحصباء، حتى حَمِدتُ الله أن استطعتُ ٥٥
أن أَطوِي بُردة كرامتي وأترك القلعة لهم. كان الشيطان لا شك
بينهم فيما أظُن!
البواب :
هؤلاء هم الشبان الذين يُبرِقون ويُرعِدون في المسارح، ويتقاتلون
للحصول على التفاحات التي قُضِم بعضها١٤ ولا يحتملون إلا الجمهور
الذي يشهد تنفيذ الإعدام في «تاور هيل» أو زعانف مدينة لايم ٦٠
هاوس،١٥ إخوانهم الأعزاء! لقد رأيتُ بعضهم في السجن،
ومن المحتمل أن يقضوا الأيام الثلاثة الحالية في الرقص، إلى جانب
تناوُل المرطِّبات مع قدوم مساعدي القَس!١٦ ٦٥

(يدخل كبير الأمناء.)

كبير الأمناء :
ألا فليرحمني الله. ما هذا الحشد الحاشد؟!
إن أعدادهم تزداد باطراد، وهم من كل حدبٍ ينسلون،
كأنما نعقد سوقًا هنا! أين البوابون؟ أين الأوغاد الكُسالى؟
(يراهم) ما أروعَ ما قمتُم به يا هؤلاء!
لقد سمحتُم لأجمل الرعاع بالدخول! ٧٠
هل هؤلاء جميعًا من أصدقائكم المخلصين في الضواحي؟
لم يعُد هناك مكانٌ تمر منه السيدات عند العودة من حفل التعميد!١٧
البواب :
لو سمحتُم يا صاحب السعادة.
ما نحن إلا بشر، وقد فعَلْنا ما في استطاعتنا،
بأعدادنا المحدودة، دون أن يُمزِّقوا أوصالنا.
لا يستطيع جيشٌ كامل أن يتحكَّم فيهم. ٧٥
كبير الأمناء :
أُقسم إنني لو تعرَّضتُ للتأنيب على ذلك من الملك،
فسوف أضع أقدامكم في الحبس١٨ على الفور،
وأفرض على رءوسكم غراماتٍ كبيرة لهذا الإهمال.
أيها الأوغاد الكُسالى، ها أنتم تُواجهون القلق بأقداح الجِعَة ٨٠
والواجب يقضي أن تنهضوا بأعمالكم! اسمعوا صوت الأبواق.
لقد عاد الجميع من حفل التعميد. هيا أذيعوا النبأ للجمهور،
وأفسحوا مكانًا يمر منه الموكب بسلام.
هيا وإلا أفسحتُ لكم مكانًا تلعبون فيه شَهرَين، ٨٥
في سجن «مارشال سي»!
البواب (يصيح) : أفسحوا مكانًا للأميرة.
الخادم :
أنت يا ضخم الجثة، ابتعد والتصق بالآخرين،
وإلا قرعتُ رأسك.
البواب :
أنت يا من ترتدي معطفًا من وبر الجمل،
قف إلى جوار السور وإلا قذفتُ بك من فوقه.

(يخرجون.)

المشهد الرابع

(القصر الملكي.)

(يدخل اثنان من نافخي الأبواق، ينفخونها، ثم يدخل اثنان من أعضاء مجلس المدينة والعمدة، وكبير حُجَّاب الملك، وكرانمر، ودوق نورفوك وهو يحمل عصا الماريشالية، ودوق سافوك، واثنان من النبلاء يحملان وعاءَين كبيرَين لهما أرجلٌ يقفان عليها ومخصَّصان لهدايا التعميد، ثم أربعة من النبلاء يحملون مظلةً تسير تحتها دوقة نورفوك (الإشبينة) وهي تحمل الطفلة التي ترتدي ملابسَ فاخرة ووشاحًا وما إلى ذلك، وذيل ردائها تحمله إحدى السيدات. وتَدخُل بعد ذلك مركيزة دورسيت (الإشبينة الأخرى) مع بعض السيدات. ويمُر الموكب على المسرح ثم يتكلَّم كبير الحُجَّاب.)

كبير الحجاب :
يا رب السموات، من خيرك العميم الذي لا حد له،
أَنعِم بالحياة الهنيئة، والعمر المديد السعيد أبدًا،
على أميرة إنجلترا السامية ذات العزة والمنعة — إليزابيث.

(دويُّ الأبواق، ويدخل الملك مع الحرس الخاص به.)

كرانمر (راكعًا) :
وأنا أدعو الله مع شريكتي،
أن يهَب جلالتَكم وجلالةَ الملكة الكريمة، ٥
كلَّ الهناء والفرح بهذه الآنسة الكريمة،
ولتُمطِر السماء قطراتِ السعادة في كل ساعة،
على الأبوَين الكريمَين.
الملك :
شكرًا لك يا رئيس الأساقفة الأكرم.
ما اسمها؟
كرانمر : إليزابيث.
الملك :
انهض يا سيدي.
(الملك يُقبِّل الطفلة.)
خذي البركة مني بهذه القُبلة. ١٠
أدعو الله أن يُحبكِ ويرعاك، وقد وضعتُ حياتكِ بين يدَيه.
كرانمر : آمين.
الملك :
أيها الإشبين النبيل، لقد أفأتَ علينا كرمًا زائدًا،
فشكرًا لك من قلبي. وسوف تشكُرك هذه الآنسة
عندما تتعلَّم الإنجليزية.
كرانمر :
دعني أتكلم الآن يا سيدي، فهو ما تأمرني به السماء. ١٥
ولا يظُننَّ أحدٌ أن ما أقوله من قبيل الرياء، بل هو الحق عينه.
إن هذه الأميرة الطفلة — كلأها الله بعين رعايته —
ولو أنها ما تزال في مهدها، تحمل البشرى للمملكة
بألف ألف بركة عندما تبلغ أشُدَّها وتستوي. ٢٠
ورغم أن ذلك الهناء لن يشهده إلا القليل من يعيشون الآن بيننا،
فسوف تُصبِح بالتأكيد قدوةً لكل الأمراء المعاصرين لها،
وكل من سيَخلُفهم.
ستكون هذه الطاهرة أشد حدبًا على الحكمة،
وعلى ناصع الفضيلة، من بلقيس ملكة سبأ. ٢٥
إن شيم الأمراء الغَرَّاء، التي ستصوغ هذه الدُّرَّة
ذات القوة والمنعة، وكل ما يتحلى به الأخيار من الفضائل،
ستنهمر عليها أضعافًا مضاعفة. سترضع دَرَّ الحق،
وتهتدي بالقيم القدسية والسماوية على الدوام،
وسوف يُحبها الناس ويخشَون جانبها. ٣٠
لسوف يباركها أصدقاؤها، أما أعداؤها
فسوف يرتعدون مثل سنابل القمح في أيدي الريح العاتية،
ويخفضون رءوسهم أسًى وأسفًا. الخير يترعرع معها؛
ففي زمانها سوف يطعم كل إنسان آمنًا،
ثمار غرسه تحت كَرْمته، ويُنشد أهازيج السلم الهانئة ٣٥
لجميع جيرانه. وسوف يتقي الناس ربهم حق تقاته،
ويتعلم من يخالطونها منها سبل الشرف والكمال،
ويقيمون دعوى مجدهم على شرف الفعال لا على كرم المَحتِد.
ولن يرقُد هذا السلمُ عندما ترقُد رقدةَ الأبد،
بل مثلما يهُبُّ الطائر الأعجوبة، العنقاء العذراء، ٤٠
من رقدة الموت، فيتخلَّق من رُفَاتها وريثٌ جديد،
أعجوبة مثلها تضارعها عظمة، سوف تُخلِّف هذه الملكة
(عندما تستدعيها السماء من سحابة الظلمة في هذه الدنيا)
خصالها المباركة لوريثٍ عظيم، يهُبُّ من رُفَاتها المقدَّس الشريف،
ويسطع في السماء مثل النجم، ذائع الصيت مثلها،
ثابتًا كالنجم لا يأفُل. وعندها
سيصبح السلم والرخاء والحب والصدق ورهبة الجانب،
اللائي خدَمن هذه الطفلة المصطفاة،
خدمًا له، وسوف تترعرع مثل الكَرْمة بين يدَيه. ٥٠
وحيثما تسطع شمس السماء الوهَّاجة،
فسيسطع شرفُ اسمه وتسطع عظمتُه،
وتنشئ أممًا جديدة. لسوف يزدهر ويزدهي
مثل شجرة الأَرْز فوق الجبل؛ إذ تمتد فروعها
إلى جميع السهول من حوله، ولسوف يَشهَد أحفادُنا كل ذلك،
ويباركون السمواتِ العُلى. ٥٥
الملك : لقد تحدَّثتَ فأبدَعتَ.
كرانمر :
لسوف يطول عمرها فتسعد بها إنجلترا.
وعلى كثرة الأيام التي ستشهدها
لن يمر يوم دون عملٍ صالح يُكلِّله.
ليتني كنتُ أعرف المزيد، لكنها عندما تقضي نَحْبها،
شأن كل حي، فسوف تكون في زمرة القدِّيسات؛ ٦٠
إذ ستموت بِكرًا، كالزهرة الناصعة الطاهرة يَطْويها الثرى،
وسوف يبكيها العالم كله.
الملك :
سيدي رئيس الأساقفة، بفضلك أصبحتُ الرجل الكامل.
لم يُكتَبْ لي قبل هذه الطفلة الميمونة أن أنال شيئًا. ٦٥
لكم أسعدتَني بهذه النبوءة الجميلة!
بل إنني عندما أمضي إلى السماء،
سأتمنى أن أرى ما تفعلُه هذه الطفلة،
وأحمد خالقي. شكرًا لكم جميعًا.
إنني ممتنٌّ لكم يا سيدي العمدة الكريم، ٧٠
ولإخوانكم الأفاضل. لقد شرَّفتُموني كثيرًا بحضوركم،
وسوف تجدونني شاكرًا لكم. تفضَّلوا بالسير أمامي
أيها السادة كي نقابل الملكة جميعًا حتى تُعرِب لكم عن شكرها
وإلا غضبَت وحزنَت. فلينسَ الجميع أن لهم ما يشغلهم في منازلهم؛
إذ لا بد أن تمكثوا جميعًا معنا؛ ٧٥
فالطفلة الصغيرة ستجعل اليوم يوم عطلةٍ مقدَّسًا.

(يخرجون.)

١  يقول هولنشد في تاريخه إن كرومويل تولَّى هذه الوظائف على امتداد أعوامٍ طويلة، اعتبارًا من عام ١٥٣٠م، وبعدما أصبح لورد إيسكس Essex وكبير الأمناء. انظر: الحاشية على السطر ٤٤٩، من المشهد الثاني، بالفصل الثالث.
٢  يزعم بعض الشراح أن incensed يجب أن تصبح insensed بمعني أخبرتُ أو أطلعتُ، ولكن القراءة الأخيرة شاذَّةٌ، ولا وجود لها في معجم شيكسبير.
٣  لم يكن المارك عملةً متداولة، ولكن مقدار من النقود، وكان أصلًا وزن ثماني أوقيات من الفضة، تبلغ قيمتها ١٦٠ بنسًا؛ أي ٢٠ بنسًا للأوقية. وهكذا كانت قيمة المارك تبلغ ثُلثَي قيمة الجنيه.
٤  معظم الناشرين يُغيِّرون الإرشادات المسرحية هنا، وهي الموجودة في طبعة الفوليو، بحيث ينصُّون على خروج الملك وبَتْس وكرانمر والأتباع، وعلى بداية مشهدٍ جديد. ولكن إرشادات الفوليو واضحة، وهي تنص على وجود كرانمر على المسرح طول الوقت، وعلى إدخال الأثاث من بابٍ جانبي. وتقول الإرشادات المسرحية بعد السطر ٤١ إن كرانمر «يقترب» من منضدة المجلس. أما الأتباع فيخرجون أثناء إدخال الأثاث.
٥  هذا هو المعنى القديم لكلمة divers.
٦  إشارة إلى عادة تقديم طقم من الملاعق الفضية (١٢ ملعقة) تُسمَّى ملاعق «الرسل» بسبب نقش صورة رسول على المقبض، وهي التي يُقدِّمها الإشبين للطفل عند تعميده. والملك يقصد التفكُّه بالإشارة إلى أن تواضُع كرانمر ينمُّ في الواقع على بُخله.
٧  يقول الشراح إن هذا المشهد يُصوِّر أبناء الشعب لأول مرة في فرحهم بالأميرة الوليدة.
٨  Parish Garden أو Paris Garden كانت حلبة مصارعة الثيران والدببة على شاطئ التيمز في لندن، وقريبة من مسرح الجلوب، وكان يُضرَب بها المثل في ضجيج الغوغاء.
٩  كانت الجِعَة والفطائر هي ما يُقدَّم عادةً في الاحتفالات العامة إلى أبناء الشعب. والجِعَة المقصودة هي شراب الشعير الذي لا يحتوي على نسبةٍ كبيرة من الكحول.
١٠  عيد الربيع هو May Day وهو ساعة الفجر يوم أول مايو حيث ينهض الجميع قبل انبلاج الصبح لجمع الزهور وتزيين أبواب البيوت ومطارحة الغرام.
١١  «جاي» هو لورد واريك، وتُنسب إليه بطولاتٌ خارقة في الأساطير، أهمها قَتْل العملاق «كولبراند»، على نحو ما ذكَر الشاعر درايتون في النشيد الثاني عشر من قصيدته الطويلة «بولي أولبيون».
١٢  العبارة الأصلية: And that I would not for a cow, God save her! غامضة، ولم يُقدِّم الشراح أي تفسيرٍ مقنعٍ لها، والترجمة هنا تُورِد المعنى العام وحسب.
١٣  كان استعمار ولاية فيرجينيا الأمريكية من الأنباء الذائعة آنذاك؛ إذ أُنشئَت مدينة «جيمز تاون» في عام ١٩٠٨م، وكان العائدون يُحضِرون كثيرًا من الهنود الذين كانوا يُباعون بأثمانٍ باهظة بسبب شهرتهم بأعمال السحر، خصوصًا للنساء. وهناك إشارةٌ مضمرة للقدرة الجنسية أيضًا.
١٤  حتى يقذفوا بها الممثلين.
١٥  لايم هاوس لم تكن مدينة بالمعنى المفهوم، بل حي من أحياء مدينة لندن يقيم فيه العاملون بصناعة السفن، واشتُهر عنهم الصخب والفوضى.
١٦  يتضمن التعبير لمسةَ سخرية لأن مساعدي القسس سوف يقومون بضربهم علنًا في الشوارع.
١٧  الأصل تعبير ساخر وهو «ما أشدَّ اتساع المكان الذي ستمر منه السيدات … إلخ.» وهو استمرار لنبرة السخرية في حديث كبير الأمناء.
١٨  إما أنه يعني إدخالهم السجن أو وضع أقدامهم في الحباسة الخشبية Stocks.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤