فاتحة خير

يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير.

وهي كلمة رائقة معجبة تروع المسامع وتستحق في بعض الأذواق أن تقال، ولو تسامح القائلون والسامعون في بعض الحقيقة طلبًا لبلاغة المجاز.

ولكنها في الواقع هي الحقيقة في بساطتها الصادقة التي لا مجاز في لفظها ولا في معناها، ولا تسامح في مدلولها عند سامع ولا قائل، بل هي من قبيل الحقائق الرياضية التي تثبت بكل برهان، وتقوم الشواهد عليها في كل مكان.

فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يُعرف الشيطان بصفاته وأعماله، وضروب قدرته، وخفايا مقاصده ونياته.

كان ظلام لا تمييز فيه بين طيب وخبيث، ولا بين حسن وقبيح، فلما ميز الإنسان النور عرف الظلام، ولمَّا استطاع إدراك الصباح استطاع أن يعارضه بالليل، وبالمساء.

كانت الدنيا أهلًا لكل عمل يصدر منها، ولم يكن بين أعمالها الحسان وأعمالها القباح من فارق إلا أنَّ هذا يَسرُّ وهذا يسوء، وإلا أنَّ هذا يُؤمَن وهذا يُخاف، أما أن هذا جائز وهذا غير جائز في ميزان الأخلاق، فلم يكن له مدلول في الكلام، ولم يكن له — من باب أولى — مدلول في الذهن والوجدان.

وكانت القدرة هي كل شيء.

فلما عرف الإنسان كيف يذم القدرة ويعيبها عرف القدرة التي تجمل بالرب المعبود، والقدرة التي لا تنسب إليه، ولكنها تنسب إلى ضده ونقيضه.

وهو الشيطان.

وكانت فاتحة خير لا شك فيه.

كانت فاتحة خير بغير مجاز وبغير تسامح في التعبير.

وكانت للإنسان عين يعرف بها الظلام؛ لأنها عرفت النور وخرجت من غيابة الظلمات التي كانت مطبقة عليه.

فتاريخ الإنسان في أخلاقه الحية لا ينفصل من تاريخ الشيطان.

وأوله هذا التمييز بين الخير والشر.

ولكنه الأول في طريق طويل لم يبلغ نهاية مطافه.

فبعد التمييز بين الخير والشر خطوة أخرى ألزم من تلك الخطوة الأولى في تاريخ الأخلاق الحية.

وتلك هي معرفة الخير في الصميم.

فقد كان على الإنسان أن يعرف حقيقة الخير ليعمله على علم وبصيرة.

فليس الخير خلوًا من الشر وكفى.

وليس الخير ابتعادًا من الشر وكفى.

وليس الخير عجزًا عن الشر وكفى.

وليس الخير مخالفة للشر وكفى.

كلا، بل الخير شيء قائم بذاته، وليس قصاراه أنه امتناع من شيء سواه.

الخير هو القدرة على الحسن مع القدرة على القبيح، وهو الاختيار المطلوب بعد التمييز بين القدرتين.

ولهذا عرفنا من تاريخ الشيطان أنه سقط؛ لأنه أنف من تفضيل آدم عليه وعلى الجان والملائكة أجمعين.

وإنما فُضِّلَ آدم عليه؛ لأنه عرضة للخير والشر، ولأنه مطالب بالخيرات وهو ممتحن بالشرور.

فُضِّلَ على الملائكة الذين لا يصنعون الشر لأنهم بمنجاة من غوايته، وَفُضِّلَ على الجان الذين لا يختارون بين نقيضين.

ومن تلك الآونة عُرِفَت وظيفة الشيطان في هذا العالم، وَعُرِفَت معها فضيلة الإنسان.

فإنما وظيفة الشيطان أن يثبت عجز الإنسان أمام الغواية والفتنة، وأن يمتحن مشيئته وهو يتردد بين الخير والشر، والمباح والحرام.

وإنما فضيلة الإنسان أن يصنع خيرًا وللشر عنده غواية وله في نفسه فتنة، ولولا ذلك لما كان له فضل على الملائكة ولا على الجان.

لا جرم كان تاريخ الشيطان تاريخًا للأخلاق الحية في وجدان آدم وبنيه.

•••

وتمتحن الأخلاق الحية بمحنة المعرفة والجهل كما تمتحن بمحنة الخير والشر، والفضيلة والرذيلة.

فمهما نتخيل من مخلوق قابل لأن يعرف بعد جهل، ويدرك بعد قصور، فليس غيرَ الإنسان مصداقٌ لذلك المخلوق.

ليست الملائكة ولا الجان في صورتها الحية مخلوقات نامية في معرفتها، عالمة ما تعلمه بعد جهله، متقدمة من الطفولة إلى الرشد إلى غاية المدى المقدور لكل مخلوق.

ولكنها في صورتها تعلم ما تعلمه كأنه من خصائص معدنها التي لا تفارقها، فلا اجتهاد لها فيما تعلم، ولا فوات على اجتهادها فيما تجهل، وكل ما أُوتِيَتَه من علم فلا حيلة لها ولا حول فيه؛ كلمعان النور، ووهجان النار، ولألاء الجوهر الصافي، وجريان الماء، وخفقان الهواء.

ولا كذلك سليل التراب، إنه ليعلم حتى لتعجب كيف علم، وإنه ليجهل حتى لتعجب كيف جهل، وَمَنْ كان قابلًا لأن يأتي بالعجب في علمه وجهله فهو مسئول عن هذا وذاك.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ

فليست القداسة أن تكون نورًا وأنت نور، وليس الفخار أن تكون نارًا وأنت نار.

وإنما القداسة والفخار أن تكون نورًا ونارًا وأنت تراب، وأن تسبح وتقدس وأنت قادر على الفساد والعدوان.

وكلما ذكرت الأخلاق الحية فقد ذكر تاريخ الشيطان في ثوب الحياة، وقد ذكر تاريخ الغواية والحرية في المطاوعة والاعتصام، وتلك هي الأخلاق الحية كما تعيش في اللحم والدم، وفي القيم والمزايا، فأما الأخلاق في صفحات الورق وفي مصطلحات الباحثين فهي كلمات وحروف وأصداء.

ولم يوجد النوع البشري بصفاته وأخلاقه ليكتبها سطورًا على صفحات، ويجمعها أطروحة في قاعة درس، أو سفرًا على الرف إلى جانب أسفار.

ولكنه وجد بصفاته وأخلاقه ليحياها ويعيش بين حقائقها، ويعطيها الأسماء التي تدله على تلك الحقائق كما يستقبلها بحسه وشعوره، ويواجهها برجائه وخوفه، وبإقباله ونفوره، ويُنادَى بالاسم من هذه الأسماء فلا يفهمه كما تفهم الكلمة عند المراجعة في القواميس، بل يفهمها حبًّا وبغضًا، وغبطة وندمًا، ورضوانًا وسخطًا، وحركة تنبض بها العروق، وسرًّا يختلج في الأعماق.

وهكذا ينطبع الحي على صفاته وأخلاقه، وهكذا تتعارف عليها الأمم وهي تحيا وتعتلج بالحياة، وهكذا تضطرب بين الأكوان التي لا تحصرها الأوراق، ولا تحدها الحروف، ولا تحتويها العقول، بل تجيء العقول طارئًا عليها، وضيفًا في رحابها، وقد مضى عليها في مكانها أدهار بعد أدهار، وأسماء بعد أسماء، ولغات بعد لغات.

الشيطان!

أي مجموعة من الأسفار تؤدي للضمير ما تؤديه هذه الكلمة بقارعة واحدة تنفذ من الآذان إلى الأعماق.

وإلى اليوم يكتب الباحثون ألف مذهب ومذهب، ويلحقون بها ألف «لوجي ولوجي» على غرار السيكولوجي، والبيولوجي، والميثولوجي، وغيرها من اللواحق في الأواخر على اختلاف الصيغ واللغات.

إلى اليوم يفرقون بين الصفات والأخلاق بهذه المصطلحات، فلا يبلغون بها في الحس ولا في الذهن ما بلغه المتكلمون بلغة الحياة ولغة الفطرة ولغة «الهيروغليفية» التي تسبق كل كتابة، وتلحق بكل كتابة إلى آخر الزمان.

وقد سمعنا عن الصفات الإلهية، والصفات الملكية، والصفات الشيطانية، والصفات الإنسانية، والصفات البهيمية، والصفات السبعية، فَمَنْ لم يفهم هذه العناوين بمدلولاتها الحية فما هو بفاهم شيئًا من فوارق الأخلاق يشرحها له ألفُ عالم، ويُسجِّلها له ألف كتاب.

وَلِمَنْ شاء أن يرفع هذه الكلمات ويضع في مواضعها كلمات الاصطلاح اللغوي أو الفلسفي من قبيل الأخلاق المثالية، والأخلاق الاجتماعية، والأخلاق النفعية، وأخلاق التقدميين، وأخلاق المحافظين، وما أشبه هذه الكلمات والمصطلحات؛ فإنه لا يحس منها إلا أنها بطاقات معلقة على واجهات أو شواخص لا نبض فيها ولا دم ولا حراك.

ولكنه لأول وهلة يسمع الصفات الإلهية فيفهم أنها أعلى الصفات، ويحس أنه يرتفع بالاتجاه إليها والرجاء فيها إلى أعلى عليين، ويستشرف لها بقلبه، ويتفتح لها بمغاليق سريرته، ويعرفها حقيقة حية، ولا يكون قصاراه من معرفتها أنها مادة في معجم، أو عنوان على مذهب، أو إشارة مرور إلى حيث يسير أو لا يسير.

ولأول وهلة يسمع الصفات الملكية أو صفات الملائكة فيفهم أنها الطيبة والطهارة، والحب والسلامة، ويقابلها في الوقت نفسه بالحنين إليها؛ لسلامتها ووداعتها والعطف عليها؛ لخفاء الشر عليها، واحتجاب أساليب الكيد والخداع عنها.

ولأول وهلة يسمع الصفات الإنسانية فيعرف منها ما يناقض البهيمية والسبعية، ويقابل الإلهية والملكية، ويعرف في الوقت نفسه أن الإنسان قابل للطموح إلى ما يعلو عليه، والهبوط إلى ما ينحدر دونه من صفات الكائنات جمعاء.

ولأول وهلة يسمع الصفات الشيطانية فيفهم أنه في موقف احتراس وحذر، وإن لم يخلُ من تطلع في أحيانٍ، ومن إعجاب في أحيان أخرى، ولا يضطر إلى مراجعة اللغة أو مراجعة الحكمة ليفهم ما يحذره من الشيطان، وما يستقبله منه بالفكر أو الوجدان؛ فإن هذه الكلمة تقع في موقعها عنده كأنها نقلت إليه الشيء نفسه محسوسًا ملموسًا، معقولًا مدروسًا، ولم تنقله منه بإشارة أو عنوان.

وقس على ذلك ما يفهمه من كلمات الصفات البهيمية أو الصفات السبعية، فإنها كذلك تنقل إليه أشياء وأحياء، ولا تنقل إليه حروفًا وكلمات.

إن خالق الكون لم يرد بإعطاء الناس حياتهم أن يعطيهم قاموسًا أو موسوعة من العناوين والمصطلحات، ففي وسعهم هم أن يعطوا أنفسهم هذه القواميس، وقد أعطوا أنفسهم هذه القواميس فعلًا، فإذا هي أكثر الأشياء اختلافًا بين قبيل وقبيل، وبين أمة وأمة، وإذا هي برج بابل يمتد على كرة الأرض ولا يزال أبدًا في حاجة إلى ترجمان.

ولو كانت هذه المدلولات في اللغات هي الحقائق المقصودة لما كان للمدلول الواحد ألف كلمة في كل لسان.

ولكن هذا النوع الإنساني تلقى وجوده من خالقه حياة تجيش في ضمائره وفيما حوله بالحقائق الحية كائنًا ما كانت أصداؤها في عالم الحروف والرموز والإشارات والكلمات والطلاسم، أو في «الهيروغليفية الكونية» على الإجمال.

وَمَنْ شاء فليبادل إن كانت له الجرأة!

مَنْ شاء واستطاع فليعد بالإنسان إلى أوله لينتزع من ذاكرته ووجدانه كل ما أحسه وتعلمه من كلمة الشيطان، أو كلمة الملك، أو كلمة الخطيئة، أو كلمة العصيان، وليضع في مكانها ما يقترحه في تصريف اللغة ومصطلحاتها مفسرة ميسرة، محكمة مقسمة، ولينظر ماذا صنع بالإنسان فيما مضى، وما يصنع به فيما بعد، فإنه قاتله وملقيه في مقبرة من قاموسه الجليل.

مَنْ كانت له الجرأة، وكانت لديه القدرة، فليبادل ولينظر فرق ما بين كلماته ومصطلحاته ومدلولاته، وبين هذه «الهيروغليفية» الكونية التي هي الكلام، وهي متكلموه، وهي المحسون به وفاهموه.

وليقف خاشعًا مستعيذًا «بالشيطان» من الغرور.

وليرجع في أمان هذه «المعوذة» إلى تاريخ الشيطان؛ ليعلم منه تاريخ الأخلاق الحية وتاريخ الإنسانية الخالدة.

فإذا كان لا يدرك تاريخ الأخلاق الإنسانية حقًّا وصدقًا إلا من تاريخ الشيطان، فلا ينكرن هذا الاسم، ولا ينكرن وجوده من باب أولى.

إنه وجود أرسخ من وجود الإنسان.

وَمَنْ لم يكن في وسعه أن يدرك ما وراء هذه الحقيقة، فأحرى به ألا يتطفل على الوجود والعدم، والحياة والموت، والحق والباطل، والعلانية والخفاء، والظواهر والأسرار، فكل أولئك له معناه الذي لا يدركه ولا يدريه.

وسنكتب فيما يلي تاريخ الشيطان؛ لنستخرج منه تاريخ الأخلاق الإنسانية كما تشخصت في ثنية الحياة، ونركب عليها بعد ذلك ما يوافقها أو يلافقها من مصطلحات القاموس!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤