الفصل الثاني

أسماء الشيطان الأكبر

تمثلت قوة الشر «العالمية» في شخصيات مرسومة الملامح، معروفة الأسماء، اشتهرت بها في كل لغة من لغات الحضارة الكبرى التي سبقت ظهور الديانات الكتابية، وسنذكر هذه الشخصيات بملامحها وأسمائها عند الكلام على أهم تلك الحضارات التي لها علاقة بصورة الشيطان كما تخلفت في الأعصر الحديثة، ولكننا نتقدم قبل ذلك بخلاصة عاجلة لأسماء الشيطان الأكبر التي بقيت إلى اليوم لورودها في الديانات الكتابية؛ ولأنها قد أصبحت ذات مدلول لغوي إلى جانب مدلولها الديني، فإن حضور هذه الأسماء في الذهن يبرز معالم الطريق إلى الوجهة التي انتهت إليها سوابق التاريخ ومقدراته، منذ ظهرت «شخصيات» الشيطان الأكبر في الحضارات الغابرة، إلى أن ظهرت شخصيات هذا لشيطان في كل ديانة من الديانات الكتابية التي أسلفنا أن اسم الشيطان فيها قد أصبحت له دلالته اللغوية إلى جانب دلالته الدينية.

واسم «الشيطان» بالألف واللام هو أشهر هذه الأسماء؛ لأنه ورد في كتب الديانات الثلاث، ودخل في تعبيرات اللغات الأوروبية المتداولة بلفظه المنقول عن اللغات السامية، فيتحدث الغربيون اليوم عن الفكرة الشيطانية أو عن العمل الشيطاني، ويفهمون من عباراتهم معنًى لا يلتبس على القائل ولا على المتكلم. ومعنى الصفة الشيطانية عندهم مرادف للصفة الجهنمية التي تنطوي على الخبث والبراعة، وحب الأذى والتمتع بالإيذاء؛ كأنه منفس لطبيعة صاحبها يفرج عنه ويسره أن يلمح آثاره وهو مستتر وراءه.

والرأي الغالب أن كلمة «الشيطان» هذه عبرية بمعنى الضد أو العدو، ومن أسباب الظن باستعارتها من اللغة العبرية أنها لغة اليهود، وأن ديانة موسى عليه السلام سابقة للمسيحية وللإسلام، ولكنه ظن يصدق في حالة واحدة، وهي أن يكون اليهود أصلاء في الكلام عن الشيطان لم يسبقهم أحد من المشارقة إليه، إلا أنها حالة لم تثبت، وقد يكون الثابت خلافها ونقيضها؛ فإن اليهود قد وصفوا الشيطان بعد هجرتهم إلى بابل، وليست طريق بابل موصدة دون الأمم السامية غير اليهود.

والأرجح عندنا أن الكلمة أصيلة في اللغة العربية، قديمة فيها، لا يبعد أن تكون أقدم من نظائرها في اللغة البابلية؛ لأن اللغة العربية قد اشتملت على كل جذر يمكن أن يتفرع منه لفظ الشيطان، على أي احتمال وعلى كل تقدير.

ففيها مادة شط وشاط وشوط وشطن، وفي هذه المواد معاني البعد والضلال والتلهب والاحتراق، وهي تستوعب أصول المعاني التي تفهم من كلمة الشيطان جميعها.

فالشطط من الغلو الذي يدخل في أخص عناصر «الشيطنة»، والشط بمعنى الجانب المقابل قد تلحظ في مقابلة الخير بالشر من جانب الشيطان.

وشاط بمعنى احترق وتلف، وأشاطه بمعنى أهلكه وأتلفه، وانطلق شوطًا أي ابتعد واندفع في مجراه، وشطن أي ابتعد فهو شيطان على صيغة فيعال.

وقد كان العرب يسمون الثعبان الكبير بالشيطان، ويقال في بعض التفسيرات: إن هذا المعنى هو المقصود من: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وذكر الشُّرَّاح اليهود المتأخرون أن الشيطان تمثل لآدم في صورة الحية حين أغراه بأكل الثمرة المحرمة، ولم تنقطع العلاقة بين الحية والشيطان، ويؤخذ من سفر أيوب عليه السلام — وهو عربي باتفاق المؤرخين — أن الشيطان كان معروفًا بين العرب من ذلك العهد الذي كان سابقًا لعهد خروج بني إسرائيل من مصر، ويؤخذ من تاريخ الأدب العربي في الجاهلية أن العرب قد عرفوا الشيطان في أدواره الفنية والأدبية مع السحرة والشعراء، فليس هو مجرد اسم معرب نقلوه من لغة أخرى ولم يزيدوا على وضعه في موضعه من المأثورات العبرية.

وأشهر أسماء الشيطان الأكبر في اللغة العربية هو اسم «إبليس» الذي يختلف اللغويون في أصله، كما يختلفون في نسبة كلمة شيطان إلى إحدى اللغات السامية.

والمتكلم العربي يفهم من وصف إنسان من الناس بأنه «إبليس» كل ما يريده القائل من هذه الصفة، فهي دالة في كلام الخاصة والعامة على الدس والفتنة والدهاء والسعي بالفساد، ولم تحمل كلمة واحدة من دلالتها اللغوية أكثر مما حملته هذه الكلمة مستعارًا من صفات إبليس في العقيدة الإسلامية.

ويرى بعض الغربيين أن الكلمة في أصلها يونانية من كلمة ديابلوس “Diabolos” التي تفيد معنى الاعتراض والدخول بين شيئين، كما تفيد معنى الوقيعة، وأصلها في اليونانية من ديا “Dia” بمعنى أثناء، وبالين “Ballein” بمعنى يقذف أو يلقي، ومعنى الكلمتين معًا قريب من معنى الاعتراض والدخول بين الشيئين، أو قريب من ثَمَّ إلى معنى الوقيعة.
وعندنا أن هذا التركيب أضعف من قول القائلين: إن كلمة ديفل “Devil”، أي الشيطان، في اللغات السكسونية مأخوذة من فعل الشر “Do-evil”، أي من كلمة «دو» بمعنى يفعل، وكلمة «إيفل» بمعنى الشر. وقد أجمع اللغويون والدينيون على نبذ هذا التركيب مع أنه أقرب إلى صفة الشيطان من الصفة التي توحي بها الكلمتان اليونانيتان بعد التمحل والاعتساف.

ولسنا على يقين من انقطاع الصلة بين الكلمة اليونانية والكلمة العربية، ولكننا على يقين أن «شخصية» إبليس تحتاج بل تتوقف على الدلالة التي تستفيدها من مادة «الإبلاس»، أي فقد الرجاء؛ فإن ضياع الأمل ألزم صفات إبليس على ألسنة الخاصة والعامة، وليس أشهر من المثل الذي يضرب بأمل إبليس في الجنة مرادفًا لمعنى الأمل الضائع كل الضياع. وقد فرق هذا المعنى بين كلمة إبليس وكلمة الشيطان في ملامح الشخصية، فهذا قد ضيع الحق وهذا قد ضيع الرجاء، وكذلك قد فرقت بينهما شروح الفقهاء، وفرقت بينهما الدلالة الملموحة بين الشيطنة والإبلاس.

والغربيون اليوم يستخدمون الكلمة اليونانية في صيغة النعت، وقلما يستخدمونها في صيغة العلم، فإذا قالوا عن شيء: إنه «ديابولي» أو إبليسي، فالمفهوم منه أنه عمل من أعمال التمرد والجبروت، لا يلزم أنه سيِّئ كل السوء، وإنما يلزم أنه خلا من الصفات الإلهية، أو الصفات «الرحمانية» على الخصوص، وكذلك توصف الثورات الجائحة التي تدمر الظلم وتنسف معالم الطغيان، فهي من الجبروت بحيث توصف «بالديابولية»، ولكنها من العنف بحيث تخالف الأعمال «الرحمانية» في الرفق والرضوان.

•••

ومن أسماء الشيطان التي دخلت في الدلالات اللغوية اسم لوسيفر “Lucifer” أو حامل النور، وهو في أصله اللاتيني اسم الزهرة حين تكون «كوكب صباح»، ولم تكن له من مبدأ الأمر دلالة سيئة، ولكنه جاء في كلام النبي أشعيا في معرض التبكيت لملك بابل الذي سمى نفسه بكوكب الصباح، وفهم الحواريون من كلام السيد المسيح «أنه رأى الشيطان كنجم سقط من السماء» أن المقصود هو الزهرة، وأنه كناية عن الخيلاء التي تقود صاحبها إلى السقوط، على أن سفر الرؤيا يذكر على لسان السيد المسيح أنه تحدث عن نفسه فقال: «أنا كوكب الصبح المنير.»

وإذا وصف إنسان اليوم بأنه «لوسيفر»، فالمفهوم من هذا الوصف أنه يلمع ويتخايل باللمعان، ويبلغ من العجب به حد السماجة والصفاقة، فهو الخطيئة الساطعة أو الخيلاء المتبجحة، وَمَنْ كان كذلك فسقوطه أمل يود الناس أن يتحقق، ولا يشعرون له بالرثاء الذي يصاحب المجد المنهار.

ويذكر الأوروبيون بعلزبوب وبعلزبول في مقام المتهكم بالرئاسة الشيطانية، وأصل بعلزبوب أنه إله معبود في عقرون، يقال عنه: إنه رب الطب، وإنه يشفي المرضى؛ لأنه سيد الشياطين. وكانت الأمراض العصبية كالجنون، والشلل، والفالج، والصرع، والهزال تنسب إلى تلبس الشيطان بجسم المريض.

ومعنى بعل زبوب رب الذباب، فحوله العبريون إلى بعل زبول، أي رب الزبالة؛ سُخريةً منه وتحقيرًا لأمره ودعواه؛ لأنهم كانوا ينكرون عبادة البعل، ويَدْعُون إلى عبادة «يهوا» أو الإيل، وقد قالوا حين سمعوا بمعجزات السيد المسيح في شفاء المرضى: إنه يشفيهم بمعونة رب الشياطين بعلزبول.

والدلالة اللغوية التي يفيدها وصف «بعلزبول» في أساليب العصر الحاضر هي الإقرار بالقدرة على قمع الشر؛ لأنها مستمدة من الشر نفسه، فهي الشيطنة التي تقمع الشياطين لزيادتها عليها في الشيطنة، لا لأنها تُصلح أو تبتغي الإصلاح، وهي إلى ذلك لا ترتفع في قدرتها عن قدر الزبالة والذباب.

•••

وهناك شيطنة خاصة تدل عليها كلمة مفستوفليس، ويقال إنها مأخوذة من كلمة يونانية مركبة تفيد معنى كراهة النور، ويرجحون أنها من «مي» بمعنى لا، و«فوس» بمعنى نور، و«فيلوس» بمعنى يحب، ولكن أصلها القديم متفق عليه، فهي مستمدة من السحر البابلي الذي سرى إلى الغرب على أيدي اليهود واليونان، وتمثل روحًا من أرواح النحس التي تتسلط على بعض الكواكب، ويستعان بها على النكاية وخدمة الشهوات السوداء.

وشيطنة مفستوفليس «ذهنية» موسومة بعيوب الذهن في أسوأ حالاته من السخرية والاستخفاف، والزراية بالمثل العليا، واستباحة كل شيء بالحيلة والمكر والدهان، فهو ذهن يصنع الشر لأنه لا يبالي الشر والخير على السواء، وإذا طاب له الخير فعَله غير مغتبط بفعله، كما أنه يفعل الشر ولا يلوم نفسه عليه، ويسر صاحبه أن يرى خيبة الأمل في الصلاح والفضيلة؛ لأنه يثبت بذلك فلسفة السخرية وسخافة المثل الأعلى، ويدفع عن نفسه نقد الناقدين واحتقار المحتقرين.

وقد كان مفستوفليس في القرون الوسطى شيطان السحر والمعرفة السوداء، وكان رجال الدين يتخذونه مثلًا للعلماء الكفار الذين غرتهم المعرفة الدنيوية فانصرفوا إليها، وشُغِلوا بها عن معارف الدين.

ويتردد من حين إلى حين اسم إله الخراب أو إله القفار «عزازيل».

وهو اسم ورد في العهد القديم، واختلف الشُّرَّاح في نسبته إلى أصله، ويرى بعضهم أنه من مادة الإزالة العربية، ويقول آخرون إنه كان رئيس الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض فأعجبهم «بنات الناس» وتزوجوا منهن، ثم انهزم أمام جند السماء فلاذ بالصحراء، ويقال أيضًا إن إبليس كان يُسَمَّى عزازيل، ثم سقط فزال مكانه من السماء.

وقد كان من عادة اليهود أن يقترعوا على ضحيتين تذبح إحداهما للرب «يهوا»، وترسل الثانية محملة بالخطايا إلى عزازيل رب الأرض الخراب. وشيطنة اليوم في لغة المجاز مرادفة لمعنى العظمة التي تحتفظ بحق التضحية لها، وحمل القرابين إليها، ولو كانت تساق إلى عرش يستوي على مملكة الخراب.

وليس بين أسماء الشيطان الأكبر التي دخلت في مدلولات اللغة ما هو أشهر ولا أدل من هذه الأسماء: الشيطان، وإبليس، ولوسيفر، وبعلزبول، ومفستوفليس، وعزازيل، فهي اليوم كلمات وأعلام، وقد اجتمع لها من معاني الشيطنة كل ما نستقصيه فيما يلي متفرقًا عن تواريخ الأمم والديانات حول «قوة الشر الكبرى»، أو قوة الشر العالمية في موقفها أمام عوامل الخير والكمال.

الشيطان في الحضارة المصرية

من أقدم الحضارات التي تمثلت فيها قوة الشر في صورة شخصية مميزة باسمها وملامحها حضارة مصر القديمة.

فمن أقدم عصور المملكة القديمة عرف المصريون حساب الروح بعد الموت، وموازين الجزاء على الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وشروط البقاء التي تستوفيها الروح لتنعم بالحياة الأبدية في العالم الآخر. ولم يكن العالم الآخر عندهم مؤجلًا أو منتظرًا في المستقبل بعد خراب هذا العالم الدنيوي، ولكنه كان امتدادًا للعالم الذي هم فيه — وهو الديار المصرية — وهو كارثة طامة لم يكن من اليسير عليهم أن يتخيلوها ويتخيلوا عالمًا قائمًا بعدها، وإنما كانوا يتخيلون مصر عالمين دائمين في كل وقت؛ أحدهما ظاهر يسكنه أحياؤهم، والآخر باطن يسكنه موتاهم، فإذا حدث الخراب في الأرض فإنما هو عارض يجنيه الظلم على الحاكمين والمحكومين، ثم يزول العارض وتعود البلاد سيرتها الأولى مع انتظام الحكم على سنن العدل والإنصاف، وتأتي الحياة بعد الموت متصلة بالحياة على وجه الأرض، مستبقية لمطالبها ومآكلها ومشاربها في ظل حكومة كحكومتها، أو هي في ظل حاكم خالد كان فعلًا في يوم من الأيام حاكم الأرض المصرية أثناء حياته الفانية.

وفي كل أمة من الأمم القديمة الكبرى يتناقل الكهان والشعب قصة عن نقمة الإله الأكبر على الجنس البشري، وندمه على خلقهم، وتفكيره في إبادتهم عقابًا لهم على ذنوبهم. وتختلف هذه الذنوب باختلاف الأمم والكهانات؛ فهي تارة مسألة تقصير في الضحايا، وتارة مسألة غيرة «إلهية» من المعرفة البشرية، وتارة أخرى مسألة فساد واشتغال باللذات إلى غير ذلك مما سجلته قصص الخلق والعقاب في جميع الأساطير الأولى.

أما هذه القصة في الديانة المصرية، فهي قصة حاكم يغضب على المحكومين لأنهم ثاروا عليه وهموا بخلعه؛ لأنهم استضعفوه، وظنوا أنه شاخ وهرم فلم تبق فيه بقية للقدرة على ولاية الأمور.

وقد كُتبت هذه القصة على جدران الحجرة الخاصة في هيكل سيتي الأول، الذي بُنِيَ حوالي سنة (١٣٥٠) قبل الميلاد، وخلاصتها أن الإله الأكبر «رع» علم بتآمر البشر على العصيان، فعقد مجلس الآلهة وشاورهم في أمر هذه الفتنة، فاستقر الرأي على إبادة العصاة، وأرسل الإله الأكبر عينه عليهم، فألفاهم قد هجروا الديار ولاذوا بالجبال، وتعقبهم جنوده فأثخنوا فيهم القتل حتى فاضت الأرض بالدماء، وبقيت منهم بقايا تتوارى هنا وهناك من زبانيته، فحزن «رع» لأنه أحس حقًّا بالعجز عن إبادة العصاة أجمعين، وطفق بعض الأرباب يواسونه ويقولون له: إن مشيئته وقدرته سواء، فكل ما يشاء فهو قادر عليه.

وتتم القصة على صورة أقرب إلى الرفق والمسامحة، فيقال في ختامها: إن «رع» سئم الكنود من رعاياه، فأجمع نيته على الاعتزال والإقامة في السماء، فندم الناس على كنودهم وعصيانهم، وتابوا إليه؛ فلم يعدل الإله الأكبر عن نيته، ولكنه أمر إله الحكمة «توت» أن يلقن الناس أسرار الحكمة وتعاويذ الوقاية من الآفات، ومنها الهوام والثعابين، وأن يهدي بها إلى السلامة مَنْ هو أهل للهداية.

وتروى قصة النقمة من البشر على روايات شتى يكثر فيها التناقض على ما هو مألوف في الأساطير الأولى، فأشدها وأصرمها هذه القصة التي نُقِشَت على هيكل ملك يهمه أن يبالغ في بطش الأرباب ومصير العصاة، وأقربها إلى الرفق تلك الروايات التي تقول: إن الأرباب راجعوا الإله الأكبر، وراح بعضهم يمزج الجعة بالأصباغ الحمراء ليحكي بها لون الدم، ويزعم للأرباب الساخطين أنه قد أريق منه ما يكفي للزجر والعقاب.

وكانت فكرة المصريين الأقدمين عن قوة الشر أو قوة الإله الشرير موروثة من أقدم العهود، تتسم كما يتسم كل شيء في مصر القديمة بالمحافظة الشديدة، واستبقاء الكثير من مخلفات كل عصر سابق، وكل عقيدة مهجورة، فيكثر فيها الاختلاف والتناقض على حسب الحواشي والإضافات التي تلصق بها من كل حقبة مرت بها في طريقها البعيد.

ففي صورة إله الشر بقية من عبادة الأسلاف، وبقية من امتزاج السحر بالعبادة، وبقية من عبادة الشمس، وبقية من تعدد الآلهة بين مصر السفلى ومصر العليا، وفيها مع ذلك أثارات تدل على أنها في جملتها معلومات تاريخية واقعة عرض لها التشويه، وانطوت في عداد المجهولات التي يُستدل عليها بالتخمين والترجيح.

ومهما يكن من خلاف في العقائد المصرية العريقة، فالقاعدة المطردة في تمحيص لبابها أنها مشتملة ولا بد على شيء يتعلق بكيان الأسرة، وشيء يتعلق بكيان الدولة، وشيء يقوم على الشريعة والعرف الاجتماعي، أو على ما نسميه اليوم بالنظام.

وعلى هذه الصورة تتمثل قوة الشر كما خلصت من الروايات المتعددة على طول الزمن، فهو صورة الأخ الشرير، والحاكم المغتصب، والمفسد الذي يعيث في الأرض ويخرج على العرف والعادة. وهذه هي صورة الإله «ست» إله الظلام في عقيدة الشعب المصري على الأقل؛ لأن عقائد الكهنة كانت تخالف العقائد الشعبية في تفصيلاتها، إن لم تخالفها أحيانًا في الجملة والتفصيل.

وقد مضى زمن كان فيه «ست» معدودًا من آلهة الحق والاستقامة، وكان الإله الموسوم بالشر هو «أبيب»، الذي كانوا يرسمونه في صورة حية ملتوية تحمل في كل طية من جسمها مُديَة ماضية، وتكمن للشمس بعد المغيب؛ فلا يزال إله الشمس «رع» في حرب معها ومع شياطينها السوداء والحمراء إلى أن يهزمها قبيل الصباح فيعود إلى الشروق. وقد خُصِّص الجزء التاسع والثلاثون من كتاب الموتى لوصف القتال بين الإلهين إله الشمس وإله الليل، أو إله النور وإله الظلام.

وربما كانت القضية كلها في أوائلها المنسية قضية النزاع على العرش بين أخوين هما: أوزيريس وست، وبقي لكل منهما حزب يُعظِّمه وينتصر له، حتى تغلب الحزب الظافر كل الغلبة فتضاءل أنصار الفريق المغلوب، وشاعت عنه أنباء الشر والتهمة، وانتهى بتمثيله في صورة «أبيب» إله الظلام، وتمثيل أخيه في صورة «رع» إله النور.

ولا يبعد أن يكون في الأمر خيانة زوجية أو شبهة من قبيلها؛ لأن أسطورة أوزيريس تروي أن الإله «رع» فاجأ الملكة «نوت» زوجته وهي في عناق «سب»، فلعنها ولعن ذريتها، وأقسم لا تلدن في يوم من أيام السنة، فلجأت إلى الساحر الأكبر «توت»، الذي كان مشهورًا بعلم السماء وتسخير الأرواح العلوية والسفلية، فاخترع أيام النسيء الخمسة لتضاف إلى السنة، واستطاعت نوت أن تلد ولديها التوءمين أوزيريس وست في اليوم الثالث من هذه الأيام، وهي غير محسوبة من أيام السنة التي يطلعها «رع» بعلمه كلما عاد من الظلام، فخرج الولدان وفي أحدهما أو كليهما طبيعة الظلمة، أو طبيعة النور المختلس بغير علم من إله النور.

أما الرواية التي استقرت عليها قصة أوزيريس، فهي أن الأخوين تنافسا، فخدع «ست» أخاه وصنع صندوقًا أغراه بالنزول فيه ليقيسه على جسده، ثم قتله ومزقه وألقى أشلاءه في النيل، فجمعتها إيزيس — زوجة أوزيريس — بمعونة الساحر توت، وبوأته عرش المغرب، فهو من ثَمَّ رمز للشمس في حالة الغروب.

وهناك رواية أخرى لعلها هي الأرجح والأقدم في التاريخ، وخلاصتها أن «ست» لم يقتل أوزيريس، ولكنه نازع ابنه «حوريس»، فتغلب عليه هذا وخصاه ليحرمه ويقطعه عن الملك في حياته وبعد حياته، ولم يكن للإله المغلوب من مكان يعبد فيه غير أقصى الجنوب في مكان «كوم امبو» اليوم حيث كان معبد التمساح.

ومما يرجح أن القضية في أوائلها المنسية كانت قضية نزاع على الملك، أن اسم «ست» مُحِي من الهياكل بعد زمن، وأن أتباعه لاذوا بالجنوب، حيث يلوذ كل حاكم منهزم في عاصمة المملكة الشمالية، وأن ملوك الرعاة أعادوا ﻟ «ست» كرامته حين أرادوا أن يحاربوا السلطان القائم، فبنوا له هيكلًا في مصر السفلى، وأوجبوا عبادته هناك.

وقد استعيرت صفات «ست» من صفات أوزيريس على التناقض والتقابل بين الطرفين، فكان من صفات أوزيريس «أنه ملك الخلود، وسيد الباقيات، وأمير الأرباب والناس، وإله الآلهة، وملك الملوك، وسيد العالم الذي لا يفنى سلطانه».

أما صفات «ست» فهي نقيض الخلود والسيادة على الأرباب والناس، فلا سيادة له على غير الأرواح الخبيثة والأحياء الدنيا؛ ومن ثَمَّ يصورونه برأس حيوان مجهول، لا يراد به تمثيل حيوان معين، ولكنه يمثل الحيوانية في صورتها المبهمة، ويجعلون له أذنين منتفضتين كناية عن الإسراع إلى استطلاع الشر، وذنبًا شائلًا كناية عن الحران والأشَر، ويعودون عليه باللائمة كلما أصيبت الدولة بالهزيمة، أو أغار على البلاد مُغيرٌ مغتصب؛ لأنهم شخصوا فيه عوامل التمرد والانتقاض، فربما كان هذا من أسباب حظوته عند ملوك الرعاة، فاعتبروه عونًا لهم وخصمًا للسلطان الزائل الذي أغاروا عليه، وأحبوا أن يتقربوا إلى عباده في الجنوب تمهيدًا لضم الأقاليم جميعًا في مصر العليا إلى دولتهم التي استقرت بمصر السفلى زمنًا، وتوقفت عندها جهودهم قبل إجلائهم آخر المطاف عن الجنوب والشمال.

ومن أصالة الصبغة الحكومية أو صبغة الحكم والتحكيم في أقدم المأثورات المصرية، أن الأساطير العريقة في القدم تروي لنا من أخبار خصومة ست وأوزيريس، أن «ست» اتهم أخاه بالجور عليه، فوكلت الأرباب قضيتهما إلى أمينها الخاص الذي يعرف أسرارها، ويحفظ حكمتها، ويؤتمن على قضاياها — وهو الإله توت — فتبين له صدق أوزيريس وكذب ست، وخرج هذا مدينًا بالذنب والشر من زمرة السماء، فما برح كل مصري في الزمن القديم يتقرب إلى إله الحكمة، عسى أن يتولى الدفاع عنه بعد الموت، وينصفه في قضيته كما أنصف أوزيريس من أخيه المفتري عليه.

وقد شغل «ست» وظيفة ضرورية في عهود الأزمات التي تنهزم فيها الدولة، وتنضب الثروة، ويختل نظام الحكم، وتضطرب مرافق المعيشة، فقد كان «ست» يبوء وحده بجريرة ذلك كله، وكانت عليه وحده تبعة كل آفة لا يستطاع دفعها، ومن هذه الآفات: ريح السموم، وعوارض الجفاف والقحط، وأوبئة المرض، وسائر الأمراض التي كانت تنسب من قديم الزمن إلى الجان والعفاريت، وقد كانت عليه التبعة أيضًا في بقاء السحر الخبيث؛ لأنه كان على علم واسع بفنونه، ولم يكن في وسع الكهان والسحرة أن يعالجوا شروره، ويبرئوا المرضى من آفاته بغير وسائله وأسراره؛ ولهذا كثرت عندهم التمائم والتعاويذ، ومنها ما بقي إلى اليوم في صور الجعل والحشرات والأساور والقلائد التي لا تُصنع للزينة، ولكنها تقرن بالأدوية والعقاقير طلبًا للشفاء، ويقول الأطباء الذين كانوا يشتغلون بالطب والسحر: إن الدواء هو الذي يشفي ويبرئ من المرض، ولكن التمائم والتعاويذ هي التي تمنع «العكوس» من فعل أرواح الشر وأطياف الظلام.

وقد كان الفراعنة أنفسهم يلجئون إلى السحر لمغالبة الأرواح الخفية، فاستعان رمسيس الثاني بأصحاب التمائم والتعاويذ على مداواة أهل بيته، ولم يفعل ذلك جهلًا منه بالطب ولا تعظيمًا منه لقدر السحر، ولكنه فعله إيمانًا بضرورة اختيار الترياق من جنس المرض، ولكل شيء آفة من جنسه، كما قيل من قبل ويقال في كل زمان.

ولدينا من بقايا قصص السحرة نخبة لم يتخيرها جامعو الآثار، ولكنها اجتمعت لهم من حيثما اتفق بين الأنقاض والمحفورات، وكلها تروي أعمال السحرة في مجازاة الأشرار، كقصة الساحر «أبانير»، أي فالق الصخر، الذي استخدم سحره في الاقتصاص من عشيق زوجته، فصنع على يديه تمساحًا من الشمع أرسله في البركة التي يغتسل فيها العشيق فالتهمه، وذهب ليبلغ الملك نبأ هذه العقوبة كي تحدث في ملكه بعلمه وإقراره.

وَمَنْ لم يكن سحره قصاصًا من المُسيئين إليه وإلى الفضيلة، فهو من قبيل «خفة اليد» التي يستخدمها الساحر لاستخراج النفائس المفقودة، كما فعل الساحر «خاتشا منخ» حين سقط الخاتم من إصبع إحدى الجواري المصاحبات للملك «سنفرو» في زورقه، فحسر الساحر الماء وكشف عن أرض البركة حيث استقر الزورق إلى جانب الخاتم المفقود، ثم تلا الساحر عزائمه فتلاقى الماء من تحت الزورق ورفعه رويدًا رويدًا حتى استوى على البركة كما كان.

•••

يقول صاحب كتاب صناعات السحر في مصر القديمة:
إن السحرة المصريين كانوا على علم تام بلزوم الفضيلة والطهارة للساحر الطبيب، وفي اعتقادهم على الدوام أن الآلهة إنما يقترب منها كل طاهر القلب، سليم النية، وكانوا ينشئون على الإيمان بأن العبث ومطاوعة الشهوات تجور على العقل والبدن، وتعوق طالب المعرفة.١

ومن أجل هذا كانوا يقسمون علم الأسرار إلى أقسام ودرجات، فمنها العلم الذي يستعان فيه بقدرة إله الخير على الشر وجنوده، وقوامه الصلوات والرياضات الروحية.

ومنها العلم الذي يستعان فيه بقدرة الشيطان الكبير على الشياطين الصغار، وقد يدخل فيه السحر الخبيث بحكم الضرورة على غير اختيار.

ومنها السحر الخبيث للأغراض الخبيثة، ولا يليق بالكهان الأبرار أن يشتغلوا به، وإن وجب عليهم أن يتعلموه لاتقاء ضرره، والتعوذ من سوء عقباه.

ويمكن أن يقال على الجملة إن الشر في العالم كله إنما كان في عرف الحضارة المصرية «جريمة اجتماعية وطنية» غير مشروعة، ولم يكن عنصرًا أصيلًا في تركيب الدنيا أو تركيب الإنسان، وقد بلغ من تطور هذه العقيدة في تفكيرهم الديني أن إخناتون استغنى عن الجحيم، وأنكر دعوى أوزيريس في السيطرة على عالم العقاب بعد الموت.

ولا نظن أن تاريخ «ست» قد استوفى حتى اليوم دراسته المثلى في علوم الآثار، أو في علم المقابلة بين الأديان، فإن الذي عرف منه إلى يومنا هذا يسوغ القول بكثير من الفروض والاحتمالات التي كانت تلوح للنظرة الأولى ضربًا من الخيال أو اللعب بالجناس، ولا نعني تسويغ القول بها أنها ثابتة، أو أنها راجحة مقبولة على علاتها، ولكننا نعني أنها فروض واحتمالات لا ترفض، ولا يزال مَنْ يرفضها محتاجًا إلى سند وثيق.

فالمؤرخ بلوتارك يذكر في كتابه «إيزيس وأوزيريس» أن «ست» كان يُلَقَّب «بيبون»، وأن هذا اللقب معناه العقبة المعترضة في طريق يفضي إلى الخير لتتحول به إلى الشر، ويقول في الفصل الثامن والعشرين: إن الأساطير تروي أن اليهود هم أبناء «ست» من أتان، ويعلق المؤرخ «أوليفيه بور جارد» على ذلك في كتابه عن الأرباب المصرية فيقول: إن هذه الأسطورة أصل الخرافة التي شاعت في تقديس اليهود في هيكلهم لرأس حمار٢ … ويقول غيره بين الجد والهزل: إن شمشون حاربهم من أجل ذلك بفك حمار، وإنهم لهذا يتبركون بالمخلص الذي يأتي في آخر الزمان على حمار ابن أتان.
وقد تكرر القول بأن كلمة «ست» و«ستان» أو الشيطان العبرية من أصل واحد، ولا نزاع في اقتباس اليونان والعبريين من المصريين في تصوير «الشخصيات» العلوية والسفلية، فليس من الأناة أن نجزم ببطلان التشابه في اللفظ بين الفرعونية والعبرية مع عبادة الملوك الرعاة للإله الفرعوني كما تقدم، وليس من الأناة أن نجزم ببطلان التشابه بين مدلول اسم «ست» عند المصريين ومدلول اسم الشيطان “Diabolos” باليونانية، وكلاهما يفيد معنى الاعتراض والدخول بين شيئين للتعويق والإفساد، وقديمًا شاعت نحلة إيزيس وأوزيريس وغيرهما من الآلهة المصرية بين بلاد اليونان في آسيا الصغرى وبين الإثيوبيين واليمانيين في الجنوب، وقال ديودور الصقلي: إنه رأى في «نيسا» من بلاد العرب عمودًا للإله أوزيريس وشيئًا من قصته ملخصًا على ذلك العمود.
وقد ختم الأستاذ بورجارد كتابه الذي أشرنا إليه آنفًا عن الأرباب المصرية قائلًا: إن النحلة المصرية نقلها العبريون من مصر إلى الشام واليمن، ونقلها الإغريق إلى اليونان، ونقلها الفينيقي قدموس إلى اليونان وإلى بلاده، وإن أعظم العقول اليونانية كانت تهاجر إلى مصر لتدرس المعرفة المصرية في طيبة ومنف وعين شمس وسايس، وَعَدَّدَ منهم ليكرج “Lycurgos” وصولون، وطاليس، وفيثاغورس، وأفلاطون، وإيدوكس، وَعَدَّدَ بعدهم أُممًا من تلميذات الثقافة المصرية بين أهل الكتاب وغير أهل الكتاب. ولا شك في شيوع عقيدة الثواب والعقاب وعالم الأبرار وعالم الأشرار في الديانة المصرية القديمة، فليس من الغريب أن تتخلف منها بعض المصطلحات والمسميات، وليس من الأناة على الأقل أن ينتهي تاريخ «ست» حيث انتهى في هذا الموضوع، وقد قيل: إن العزى هي إيزيس، وإن مناة هي منوت أو موت، وإن النصوص متقاربة بين بعض المزامير وبعض أناشيد أتون، وإن أيوب عليه السلام كان يسكن إلى جانب مصر، ويتحدث عن أهرامها التي تبنى لتخليد الموتى، ويكافح الشيطان الذي يوسوس له ويغريه بالكفران والعصيان. وأقل من هذه الملابسات حقيق بالتريث عنده، وترك الباب مفتوحًا بعده لما تأتي به الكشوف وتسفر عنه المقارنات.

الشيطان في الحضارة الهندية

ترجح فئة من علماء المصريات أن الديانة الهندية القديمة دخلتها مقتبسات كثيرة من ديانة المصريين الأوائل، ويرى برستيد وإليوت سميث أن معظم هذه المقتبسات من كتاب الموتى، ومن شعائر تقديس الملوك التي يستطاع التحقق من سبق الحضارة المصرية إليها.

ويرد ذكر مصر في كتب البورنا التي جمع فيها الهنود الأقدمون قصص الآلهة وبعض الملاحم الكونية المتوارثة عن آبائهم الأولين.

ولكن طبيعة الديانة الهندية تقرر الحدود التي بلغتها تلك المقتبسات، ولا يمكن أن تذهب بعيدًا إلى ما وراءها، فهي لا تكون بطبيعة تلك الديانة إلا من قبيل الشعائر والمراسم، ولا يتأتى أن تتخطاها إلى أصول الديانة في جوهرها، إذ كانت الديانتان الهندية والمصرية على اختلاف كاختلاف النقيضين أو الطرفين المتقابلين، ولو أراد أحد أن يضع ديانتين يتوخى فيهما التقابل في العقائد الأساسية التي تدور عليها كل ملة، لما استطاع أن يبلغ في هذا التقابل ما بلغه أهل مصر وأهل الهند في العهود المتتابعة على غير قصد بطبيعة الحال.

والعقائد الأساسية التي تدور عليها كل ملة تتناول وجود الإنسان ونظام المجتمع، ووجود العالم كله أو الوجود على إطلاقه، وفي هذه المسائل الثلاث تقف الديانتان العريقتان موقف التقابل من طرف إلى طرف، كأنهما عامدتان إلى تصوير سعة الآفاق التي تحيط بالعقائد في ضمائر بني الإنسان.

فالديانة المصرية تصون جسد الإنسان وتستبقيه إلى الحياة الأبدية، والديانة الهندية تنكر الجسد، وتعلم أتباعها أن الروح تنسخ جسدها مرة بعد مرة، ولا تنال الخلاص إلا إذا فني الجسد كل الفناء.

والديانة المصرية تعتبر دوام الأسرة آية من آيات النعمة الإلهية، ولا تعرف دعاء إلى خالق الكون أحب إلى الداعين من بقاء تراث الآباء والأجداد، واتصال العقب إلى آخر الزمان، وعلى نقيض ذلك ديانة الهند التي تعلق النجاة بالإفلات من دولاب الحياة والموت، والرجوع إلى «النرفانا» من طريق «الموكشا»، أي اجتناب العلاقة الجنسية ولو في حالة الزواج.

وتؤمن الديانة المصرية القديمة بأن العالم المحسوس حق وخير، فتجعله مثالًا لعالم الخلود، وعلى نقيض ذلك ديانة أهل الهند التي تحسبه شرًّا محضًا، وباطلًا موهومًا، ومنبعًا لجميع الشرور التي تعترض عالم الحقيقة، وتشغل الروح بالأعراض والقشور.

ويكفي هذا الاختلاف بين الديانتين لامتناع التشابه بينهما على الخصوص في مسألة الشر، وقوة الشر، وعلاقة هذه القوة بنواميس الكون الخالدة، سواء منها ما يتمثل في صورة «الذات» الإلهية، أو ما يتمثل في الناموس الأعظم أو «الكارما» الذي ليس له ذات.

على أن الديانة الهندية تحير علماء المقارنة بين الأديان أشد الحيرة في أمر «الشخصية» التي تقابل شخصية الشيطان، أو قوة الشر العالمية عند أصحاب الديانات الأخرى. وأسباب هذه الحيرة متعددة لا يصادفها العلماء بهذه الكثرة وبهذه الصعوبة في غير الديانة البرهمية وما تفرع عليها.

من هذه الأسباب أن الهنود الأقدمين قد تعاقبوا على البلاد بعقائد مختلفة يوشك أن تتناقض بين قبيل وقبيل من السابقين واللاحقين، وربما تعمد القادمون أن يهدموا عقائد مَنْ تقدمهم، فلا ينجحوا كل النجاح ولا يتركوها سليمة من التضارب والاختلاط، ومن ذلك في هذا الباب عقيدتهم في العفاريت الخبيثة أو العابثة التي يسمونها باﻟ «راكشا»، وينسبون إليها أعمالًا كأعمال الشياطين في الديانات الأخرى، فإن الباحثين في اشتقاق الكلمة يقولون تارة: إنها تفيد معنى الحراسة، ويقولون تارة أخرى: إنها الاسم الذي كان يطلق على الهمج الأولين الذين سكنوا الهند قبل إغارة الآريين عليها، وكانت لهم حراسة على الطرق وعلى ينابيع الماء. وقد رسخ في الأذهان من أحاديث القتال بينهم وبين الآريين أنهم أعداء البشر، وأنهم يتربصون بالناس كما يتربص الناس بهم في كل مكان، فلا ينجو أحدهم من الآخر حيث أصاب الغرة منه، ثم تطاول الزمن فانقسموا في أساطير العامة إلى أقسام ثلاثة: أحدها يشبه أرواح «الياكشا» البريئة التي تهيم على وجهها ولا تؤذي أحدًا إلا أن يتعرض لها، والثاني يشبه العصاة المتمردين من الجن ويعادي الإنسان ألد العداء، والقسم الأخير يلوذ بالمقابر والصوامع ويحالف الموت والخراب، ويقول مَنْ يزعمون رؤيتهم: إنهم مشوهون، بعضهم ذو رأسين، وبعضهم ذو ثلاث أرجل، ومنهم مَنْ له عين واحدة في رأسه، ومنهم مَنْ له عدة أعين، وكلهم على خلاف البشر في التركيب.

ولا ينسب إلى هؤلاء «الراكشا» عمل من أعمال الإغراء والإغواء، ولكنهم قد يغتصبون النساء عنوة، ويتلصصون في الطرق المقفرة، ويستبيحون الأذى للكيد أو للعبث والدعابة. ورئيس هؤلاء «الراكشا» المسمى «رفانا» هو الذي اختطف الحسناء «سيتا» زوجة البطل «رام»، كما جاء في ملاحم «الريجيفيدا»، ثم حملها إلى جزيرة سرنديب، ولم يستطع زوجها أن يهتدي إليها ويخرجها مِن أسْرها إلا بمعونة القرد هنومان.

فالشياطين في صورة «الراكشا» هم «الشر» الذي أبغضه الآريون، وصوَّروه لأبنائهم في الصورة التي تنفرهم منه، وتحذرهم من كيده، واتهم عندهم بما يتهم به كل شعب مهزوم يستأصله أعداؤه، ويدفعون به إلى أقاصي الأرض وزوايا المدن، ويستثيرونه أحيانًا من فرط الظلم فيثور، ويهملونه أحيانًا فيهيم على وجهه عاجزًا عن الأذى، قانعًا بالسلامة أو متحفزًا للانتقام.

•••

وإلى جانب التتابع في الديانات والأقوام المغيرة على البلاد، يقوم السبب الشامل في جميع العهود، ولا سيما العهود الأخيرة التي تطورت فيها فلسفة الهياكل، ووجد فيها الكهان المفسرون والمفكرون على أعقاب الكهان المتنسكين أو الدهاة المتحكمين؛ ففي هذه العهود الأخيرة تمكن الاعتقاد ببطلان العالم المحسوس، وغلبة الشر على طبيعة الوجود كله، فلم يكن في «الوجود» الشرير محل خاص لقوة تفسده وتدحض فيه الحق، أو تنقض فيه الخير. وما فيه من حق ولا خير إلا أن يفارقه الصالحون الناجون بأرواحهم إلى عالم الفناء.

وقد اشتمل الثالوث الأبدي في الديانة البرهمية على ثلاثة أرباب؛ هم: «براهما» الإله في صورة الخالق، و«فشنو» الإله في صورة الحافظ، و«شيفا» الإله في صورة الهادم، فكان الهدم — من ثَمَّ — عملًا ربانيًّا يقوم به الإله في صورة من صوره، وينصف به الحق من هذا الوجود الباطل الذي ينبغي أن يزول؛ ليمهد سبيل الطهارة والصفاء. وبهذه المثابة يضيق مجال الشيطان ولا تمس الحاجة إليه في نظام الوجود.

ومن الصعوبات التي تُحيِّر علماء المقارنة بين الأديان أن التناسخ أو تعدد الصور للروح الواحد عقيدة عميقة متشعبة في الديانة البرهمية وفروعها، فليست هي مقصورة على الإنسان في أدوار حياته المتعاقبة، ولا على الحيوان في أشكاله المتنوعة، بل تعم الوجود كله من الأرباب العليا إلى ما دونها من الحيوان والنبات حتى الجماد؛ ولهذا يتفق أن تكون للإله صور متعددة تقترن النعمة ببعضها، وتقترن النقمة بغيرها، فيدين أناس للإله «شيفا» على أنه مصدر الخير وقائد الأرواح في طريق الفناء إلى حظيرة «الوجود» الأسنى، ويرهبه أناس آخرون على أنه سلطان الغضب والنكاية، فلا رحمة عنده ولا موئل من قصاصه وتقلُّب أطواره.

وليس تعدد الصور كل ما يواجه العلماء من أسباب الحيرة وتناقض الصفات في الإله الواحد، بل هناك سبب آخر يضاعف هذا التعدد، ولا يمنع «الشخصية» الربانية الواحدة أن تتولى أعمال العدد العديد من الشخصيات الربانية في معظم الديانات، وهذا السبب هو إضافة اﻟ «شاكتي»، أي قرينة الإله الأنثوية، إلى وظيفته في المسائل الدنيوية.

فكل إله له «شاكتي»، بمعنى القرينة أو الزوجة، هي التي تنوب عنه في «شئون الدار»، أو في الشئون التي يتركها ولا يتفرغ لها إيثارًا للعمل في الآفاق العلوية.

وتعود الأقاويل إلى «الشاكتي» فتجعل لها طبيعتين: طبيعة بيضاء منها الرفق والرحمة، وطبيعة سوداء منها العسف والقسوة، وقد تتسمى الطبيعة الواحدة باسمين؛ فتصبح «الشاكتي» الواحدة ذات أربعة أسماء غير اسمها الأصيل، وعلى هذا المثال تُسَمَّى قرينة سيفا إله الشر باسمها الأصيل «ماهسواري»، ثم تُسمَّى باسم «أوما» واسم «جورى» حين ترجى منها الرحمة والمودة، وَتُسَمَّى باسم «جوري» واسم «كالي» حين تُخْشَى منها النقمة وسوء النية. واسم كالي الأخير هو الاسم الذي يعرفها به عبادها الذين اشتهروا باسم الخناقين، واتخذوا شعارهم في القرابين البشرية قتل الضحايا بغير إراقة الدماء.

وقد عاشت جماعة الخناقين زهاء ستة قرون تتعبد للإلهة «كالي» بخنق ضحاياها، والتقرب بأسلابهم على محاريبها. وتُتَخيَّل هذه الإلهة على مثال امرأة عابسة تحيط خصرها بنطاق من الجماجم والسكاكين، وتحمي كل مَنْ يطيعها ويتقرب إليها بتلك القرابين. وعقيدتهم في ذلك أن الإله «فشنو» يحافظ على الأحياء فيتكاثر عددهم، ويعجز الإله «شيفا» عن ملاحقته في مهمة الإبادة والإفناء، فيستعين «بالشاكتي كالي» على هذه المهمة، ويتزلف إليها عبادها بالمعونة على القتل مع اجتناب سفك الدماء؛ لأن الدم الذي يراق على الأرض تتولد منه الحياة.

وجماعة الخناقين هذه طائفة قليلة بين الملايين من الهنود الذين ينكرون عبادتها، ويسفهون أحلامها، ويحرمون قتل الحيوان، بل قتل الهوام والحشرات، فضلًا عن الإنسان، ولكنهم لا ينكرون ربوبية «كالي»، ولا يتركون عبادتها على النحو الذي يرتضونه ويحسبون أنه أقرب إلى رضاها، ومن ذاك أنهم يترهبون أو يكفون عن النسل فيرضونها بغير حاجة إلى قتل الأبرياء.

وتلك الأسباب في جملتها هي التي تحير علماء الأديان كلما أرادوا أن يحصروا الشر في «شخصية شيطانية» تنعزل بقوتها عن القوى الإلهية في أقانيمها المتعددة.

ولكنهم يثوبون في النهاية إلى عقيدة واحدة مشتركة بين النحل والمذاهب، ولا حيرة فيها عند تصوير الشر في صورته الكونية الشاملة، وهذه العقيدة هي الإيمان بأن العالم المحسوس شر وباطل، وأن كل ما يربط الإنسان به شر وباطل مثله، وتشتمل روابط الإنسان بالعالم المحسوس على كل مطمع، وكل شهوة، وكل أمل يفتنه بلذة من لذاته، أو قنية من مقتنياته، وتتجمع هذه الفتن قاطبة في «المرأة»؛ لأنها سبيل الروابط الدنيوية التي تقيد الحي بالدورات الأبدية في دولاب الولادة والموت، وأن لعنة الموت لتلاحق كل مَنْ يولد ويلد حتى ينقطع عن النسل، ويثوب إلى «النرفانا» بغير علاقة ترده إلى هذا العالم المحسوس؛ ومن ثَمَّ يُفضي به المطاف في الآباد المتطاولة إلى غاية كل مطاف من الفناء والسلام.

ويلاحظ أنهم يحيلون الأمر على «الأنوثة» كلما عرضوا لعمل من أعمال الأرباب ينزهون عنه الآلهة، ويلحقونه بالشواغل الدنيوية الأرضية.

ويلاحظ كذلك أنهم يقولون عن العالم المحسوس كله: إنه «مايا» أو وهم وضلالة، وأنهم يصورون هذا «المايا» في صورة أنثى شديدة الفتنة والغواية، ويمثلون جمال العالم المحسوس بجمال الأنثى التي تستعين بالغريزة الجنسية على خداع المفتونين عن الحقيقة، فيحسبون اللذة نعمة تُبتغَى وهي شقاء أبدي لا يؤدي إلى غير شقاء.

وليس في الديانة الهندية وفروعها المتشعبة شخصية واحدة تشبه شخصية الشيطان غير الرب الذي يسمونه «المارا» من الموت، ويقولون: إنه يسيطر على السماء السادسة وما دونها من العوالم الأرضية، وكأنهم جمعوا فيه فتنة الحياة الدنيا مشخصة معروفة باسم واحد بدلًا من تعميم القول على الفتن التي تساور النفس ولا تتمثل لها ذات في الحس أو الخيال.

وهذا «المارا» هو الذي قيل في قصة «بوذا»: إنه وسوس له وألح في وسواسه ليشغله عن النسك، ويصرفه عن مسلكه من الحكمة، وهو مسلك الزهد والاعتدال.

فالشر الكوني هو الشر النفسي الذي يخامر الضمير، ويزين له ترك الحكمة والإقبال على الأوهام والأباطيل.

وديانة الهند على هذا لم تبتدع شيطانًا أو أرواحًا شيطانية غير الأرواح التي يسمونها بالراكشا، ويردونها إلى الشراذم المشردة من أبناء البلاد الأصلاء الذين صمدوا للآريين زمنًا ثم استكانوا على مضض وتربص، أو على هوان واستسلام.

أما «الشيطان الكوني» فهو مرادف للفتنة وكل ما يغري النفس بمطامع الحياة.

ويصعب على المتتبع للأعمال التي تُنْسَب إلى بعض الآلهة، والأعمال الهامة التي تُنْسَب إلى الشياطين الهادمة أو المعادية للجنس البشري أن يفرق بينهما بغير الرجوع إلى النيات، فقد تتشابه في الهدم ولا تفترق عن القصد والنية، فما كان هدمًا للقضاء على مطامع الدنيا وحبائلها فهو خير، وما كان هدمًا للتنافس على هذه المطامع، والوقوع في هذه الحبائل؛ فهو من عمل الشيطان كيفما كان الاسم الذي يطلق عليه.

الشيطان بين النهرين

ظفرت «بلاد النهرين» بعناية من المؤرخين الدينيين وعلماء المقارنة بين الأديان لم يظفر بها قطر آخر؛ لأنها ميدان للبحث لا يضارعه ميدان آخر في اتساعه وامتداد تاريخه، وتعدد أقوامه، وتيسُّر البحث فيه لنوعين من المقارنة يندر جدًّا أن يتيسرا في رقعة أخرى من الكرة الأرضية؛ وهما: مقارنة الأديان ومقارنة الأجناس في وقت واحد، إذ كان وادي دجلة والفرات وطنًا قديمًا أقام فيه الآريون والساميون والطورانيون، وسواء صح أن السومريين الذين أقاموا فيه زمنًا قد وفدوا إليه من الصين أو لم يصح هذا القول الغالب، فقد صح أن «زرادشت» نبي المجوسية عاش بين الطورانيين والمغول حقبة من الزمن، ووفق بين عبادتهم وعبادة الوثنية المجوسية بعض التوفيق.

وهذا التعدد في السلالة يصاحبه تعدد آخر في الأحوال الاجتماعية بين مجتمع المدن ومجتمع الرعاة، ومجتمع الزراعة الدائمة ومجتمع الزراعة المتنقلة، وبين أناس يبنون الهياكل وأناس لا يعرفون البناء، أو أناس يعبدون النار والكواكب وأناس يلصقون عبادتهم بالأرض ومعالمها وعناصر الطبيعة التي تهيمن على أرزاقهم ومساعيهم.

وتتضاعف العناية بالديانات التي نشأت بين النهرين لسبب غير هذه الأسباب، يهتم به الأوروبيون وأتباع الأديان الكتابية على العموم؛ لأن مراجع الأديان الكتابية تبتدئ في بلاد النهرين منذ عهد إبراهيم الخليل إلى عهد الشريعة الموسوية وشريعة حمورابي إلى عهد السبي واختلاط بني إسرائيل بالبابليين والميديين، واقتباسهم ما اقتبسوه منهم في العرف الديني والشعائر التي لها اتصال بمراسم العبادة، ثم تأتي عبادة «مترا» وعبادة «المانوية»، وقد زاحمتا المسيحية مزاحمة شديدة في دولة الرومان من شواطئ آسيا إلى الجزر البريطانية.

فالعقائد الدينية التي نشأت قديمًا حول بلاد النهرين لم تزل محور البحث ومرجع المقارنة والاستشهاد في جميع الديانات الكبرى، وأولها المسيحية التي يدين بها الأوروبيون، وهم أول مَنْ درس المقارنة بين الديانات على النهج الحديث.

ونحن في هذا الفصل لا نقصر الكلام على البلاد التي تحصرها الأوضاع الجغرافية بين النهرين، ولكننا نمضي معها إلى حدود الحضارة التي تأثرت بها أو أثرت فيها من وراء النهرين شرقًا إلى أرض فارس، ومن ورائها غربًا وجنوبًا إلى الأقطار العربية أو الأقطار السامية التي كان لها اتصال بالدولة القائمة في بابل وآشور.

ولا حاجة بنا — في هذا الفصل — إلى استقصاء العقائد والشعائر في هذه الرقعة الواسعة من المساكن والسكان، وإنما ننظر إلى عقائدها وشعائرها من جانب الصلة بموضوع الكتاب، وهو الكلام على «الشيطان» أو قوة الشر العالمية، وقد كان لحضارة النهرين صلة وثيقة بجميع الأمم التي دخلت في عداد المؤمنين بالأديان الكتابية، فليست في حضارات العالم حضارة أحق بالدراسة في هذا الصدد من الحضارتين البابلية والفارسية، وكلتاهما تدخل في العنوان الشامل الذي نطلقه على أقطار «ما بين النهرين» بشيء من التجوز من الوجهة الجغرافية، وبغير تجوز من الوجهة الثقافية.

فنحن نرجع إلى «بابل» لفهم التطور في معنى «الخطيئة» مميزًا من معنى الذنب أو العيب أو الرذيلة أو الجريمة.

ونحن نرجع إلى «فارس» لفهم التطور في مذهب «الثنوية» أو النزاع بين سلطان الخير وسلطان الشر في الأكوان العليا والسفلى، ومنها الكرة الأرضية.

•••

إذا كنا نعرف للحضارة المصرية صبغة نلتمسها في جميع مظاهرها، وهي صبغة الحكم والشريعة ونظام الدولة، فالصبغة التي تغلب على حضارة بابل — على هذا النحو — هي صبغة التنجيم والأزياج الفلكية. وسنرى أن علماء المقارنة بين الأديان لم يلتفتوا إلى هذه الناحية في علاقتها بفهم المقصود من معنى «الخطيئة»، مع أنها — على ما نرى — لا تُفهَم حقَّ فهمها ما لم تبتدئ من هذه البداية.

لقد عرف البابليون رصد الكواكب من أقدم الأزمنة، وعلقوا مصائر الناس وأقدارهم بسعودها ونحوسها، فلا يسعد أحدهم بنعمة السماء ولا يشقى بغضبها إلا وهو في الحالتين عرضة للقضاء المسطور في أزياج النجوم.

وقد نشأ عندهم علم الفلك بحسابه وتقديره مصاحبًا لعلم التنجيم بخرافاته وأوهامه، ولم تكن كل هذه الخرافات والأوهام خداعًا من الكهان السحرة، بل كانت عندهم عقيدة يصدقونها ويمزجونها بالقصص والألغاز التي يدركها العامة، ولا يدركون ما وراءها.

وما من قصة بلغتنا من أرض بابل في تاريخها القديم إلا وهي قصة من قصص المناظرة بين الأرض والنجوم في شكل من الأشكال التي يفتن فيها الحس والخيال.

فرَبَّةُ الأرض «تيامات» تتحدى السماء فتستعين بالطوافين على حكم أقطارها، وتخلق من جوفها الحيات والحيتان لتوطيد سلطانها، وبرج بابل يقيمه المتمردون من البشر ليرتفعوا به إلى مناجزة الأرباب في سماواتها، وكل ثورة من ثورات الأساطير المزعومة فإنما هي في مدلولها خروج من الأرض على إرادة السماء، لا تلبث السماء أن تكبحه وتروضه على الطاعة الواجبة، وعلى التسليم لها بحقوق الصلاة والقربان.

فلم يكن للبابلي من همٍّ في سره وعلانيته إلا أن يستطلع إرادة النجوم، ويَخرُج بالإذعان لها وموافقة هواها من عداد «المنحوسين» إلى عداد السعداء، ويسأل العارفين بالتنجيم: ماذا تريد النجوم؟ وماذا كُتب لي في كتابها المرقوم؟ فما كان رضًى للنجوم فهو الفلاح والنجاح، وما لم يكن رضًى لها فهو الخيبة والضياع.

لم يكن الأمر هنا أمر الحسن والقبيح، أو أمر الصلاح والفساد، أو أمر الاستقامة والإجرام، كلا … وإنما هو أمر الرضى من كواكب السماء بما يوافق المسطور المكتوب، أو أمر الغضب الذي يحيق بمَنْ يخالف قضاء الكواكب في مجراه.

والفارق بين الأمرين إنما هو الفارق بين الموفق السعيد والخائب المنحوس، أو بين مَنْ يسلك سبيل السلامة ومَنْ يقترف حماقة الخلاف بغير رجاء.

•••

وينبغي أن نفهم هذا الخلاف بالمعنى الذي يميزه من معنى الذنب، ومعنى العيب، ومعنى الرذيلة، ومعنى الجريمة؛ فإنه يباينها في طبيعته، ولا يتأتى للإنسان أن يعرف موضوع التحريم منه إلا إذا عرف مشيئة الله فيه، وليست الذنوب أو العيوب أو الرذائل أو الجرائم بهذه الصفة الخاصة بين المحرمات؛ لأن الإنسان قد يعرفها ببداهته أو بتعليم المجتمع الذي يعيش فيه.

فالذنب إساءة قد يجنيها الإنسان على مَنْ هو مثله أو مَنْ هو دونه، وقد يصاب بها كما يصيب، فهو مسألة إنصاف أو إجحاف في المعاملة.

والعيب نقص يعتري الإنسان من عجزه أو جهله، فهو مسألة كفاية وقصور.

والرذيلة إسفاف يتورع عنه صاحب الفضيلة الذي يروض نفسه على الكمال، فهي مسألة كرامة وابتذال.

والجريمة عدوان بغير حق يتعارف الناس على إنكاره ومجازاة فاعله، فهي مسألة قانون وقضاء.

أما الخلاف الذي يُسَمَّى «خطيئة»، فيكفي فيه أن يعمل الإنسان ما لم يُرِده الإله، ولو لم يكن من ورائه ضررٌ يعلمه؛ لأن الخلاف قلة إيمان بالمشيئة الإلهية؛ فهو مسألة أدب أو سوء أدب مع الله.

ولفهم الخطيئة على هذا الوجه مُشابِه في علم السحر والكهانة يُقرِّبه من الأذهان على نحو سائغ في كل تعليم، فليس من أدب التلميذ الذي يتلقى خفايا السحر والتنجيم أن يجترئ على كشف القناع عن سر يحجبه المعلم إلى حين، وعليه أن يغمض عنه عينيه ثقةً منه بما يختاره له معلمه من درجات المعرفة على حسب مواقيتها المقدورة، فإن خالفه يومًا متعجلًا أو مستريبًا؛ فهذا الخلاف سوء أدب أو جهل يخرجه من عداد الصالحين لعلم الأسرار.

وهذا رسم الخطيئة بين سائر المحرمات! رسمُها أنها تحريم يُنَاط بمشيئة الله، ولا يُطْلَب من العباد أن يتجنبوه لسبب غير هذه المشيئة وإن خفيت عليهم وجوه الحكمة فيها.

وقد أورد برتشارد٣ في كتابه عن شعائر الشرق الأدنى الغابرة وعلاقتها بالعهد القديم نماذج من الصلوات البابلية المحفوظة يعلن أصحابها التوبة، ويطلبون الغفران؛ لأنهم أكلوا طعامًا حرامًا ووطئوا على بقعة محرمة بغير علم ولا اجتراء على مغبة العقاب.

وقد نزيد المسألة توضيحًا حين نقول: إن الإله وحده هو الذي يحق له أن يحرم شيئًا ولا يذكر سبب تحريمه؛ لأنه هو وحده الذي يعلم مصلحة الخلق جميعًا فيما يبيحه لهم وينهاهم عنه، فأما غير الإله فالمحرمات التي ينهى عنها لغير سبب لا تدين أحدًا بالخطيئة، وكل ما يخشاه من إتيانها أن يتعرض للغضب أو للعقاب.

فلا جرم تتقدم البلاد البابلية غيرها من البلاد؛ لأنها تقدمتها في كشف الطوالع، ورصد الكواكب، وتفسير ما تنبئ عنه من سعود أو نحوس، وتستحيل السعود والنحوس إلى مباحات ومحظورات ومحللات ومحرمات، حين تستحيل الكواكب أربابًا علوية تريد السعد والنحس بحساب وتقدير.

•••

أما الحصة التي ساهمت بها عقيدة فارس في تاريخ الأديان وتاريخ قوة الشر على التخصيص، فهي «الثنوية» أو تنازع النور والظلام على سيادة الوجود.

ويظهر أن الثنوية هذه عريقة الأصل عميقة الجذور في البقاع الفارسية وما حولها، فإنها بعد تهذيب الأديان الكتابية لها لم تزل متغلغلة في أفكار بعض الكتابيين مِمَّنْ ينتمون إلى اليهودية أو الإسلام، ويقيمون في أطراف البلاد التي كانت تحيط بها حضارة ما بين النهرين منذ أربعين قرنًا أو تزيد. وقد روى الدكتور يوسف وولف، صاحب الرحلة إلى بخارى (من سنة ١٨٤٣ إلى سنة ١٨٤٥)، أن شيخًا يهوديًّا يدعى ناثان زاره ومعه درويش من كشغار، فسأله الدرويش ممتحنًا: مَنْ خلق النار والماء؟ قال الدكتور وولف: فلما أجبته أنه هو الله، صاح بي قائلًا: صه! لا شيء من ذاك؛ لأن النار والماء عنصران مهلكان، ولا ينبغي لله أن يخلق المهلكات، وعليك أن تعلم أن الكون يحكمه إلهان؛ أحدهما: إله الملأ الأعلى، وهو رب الخير الذي خلق نورًا لا يحرق، وخلق الوردة والبلبل، وقد تصدى له إله العالم الأسفل فحجب عنه خلائق الخير، وشنَّها حربًا لا تزال حتى اليوم حامية الأوار، فمَنْ عمل خيرًا من الناس فهم خدام الإله الأعلى، وَمَنْ عمل شرًّا منهم فهم خدام الإله الأسفل، وسوف تحتدم الحرب كرة أخرى، فيصعد الإله الأسفل إلى السماء السابعة تحلق معه ألوف من جنده، وتطير بينها الحيات والثعابين، فيدور القتال سجالًا حتى ينهزم الإله الأسفل ويلقي عصا الطاعة لإله السماء.

وأغرب من بقاء هذه العقيدة في موطن الثنوية أنها بقيت بين الأوروبيين إلى القرن السابع عشر، وكانت لها نحل ومعابد من بلاد البلقان إلى العواصم الفرنسية في الشمال والجنوب، وإذا صحَّت بعض الأخبار — مِمَّا نشير إليه في الفصول التالية — فقد بقيت شعبة منها إلى القرن العشرين تتستر باسم الماسونية، وتستقبل المصلين في باريس حيث يقربون القرابين إلى الشيطان، ويكررون التلاوات التي كانت ترتل في معابد النحل الشيطانية قبل ثلاثة قرون، وتدور خلاصتها على الإيمان بسيادة الشيطان على الدنيا، واعتبار المادة خلقة شيطانية يتنزه عنها إله السماء، ولا تسري عليها أوامره ونواهيه.

وقد تطور الإيمان بالثنوية أو هو قد ترقى مع الزمن في القرون الأولى كأنه جذر عريق لا يقتلع مرة واحدة، ولا يزال قابلًا للنمو في منبت بعد منبت من العبادات الخالية.

فكان الوجود قسمة متساوية بين النور والظلام كما يتساوى النهار والليل، ثم ترقى المؤمنون بهذه الثنوية فآمنوا بإله واحد يسمونه «زروان»، وقالوا بولدين له كانا في رحم الغيب، فوعد أكبرهما بالسيادة على الدنيا، فاحتال إله الظلام منهما على الخروج أولًا لعلمه بمسالك الظلمة، فكان له السلطان على الرغم من أبيه إنجازًا لوعده، ولم يستطع الأب إلا أن يعد ابنه إله النور بالغلبة بعد حينٍ يُقدِّرونه بتسعة آلاف من السنين الكونية.

هذان الإلهان هما: «أورمزد» و«أهرمان»، أو الروح الطيب والروح الخبيث.

ومن عقائد بعض الثنوية أن الخلائق النافعة من صنع إله النور، وأن الخلائق الضارة أو التي لا نفع فيها من صنع إله الظلام.

وبعض طوائف الثنوية يعتقدون أن الجسد كله شر، ولكن الأرواح العلوية أرادت أن تحارب جنود الظلام فأنبأها الإله الأعظم أنها لا تقوى على حربها بغير أجساد كأجسادها، فإن شاءت بقيت على صفائها، وإن شاءت لبست أجسادًا من المادة فكافحتها بسلاحها. وهذه هي الأرواح العلوية التي بقي الأكثرون منهم على صفائهم، ورانت الغواية الجسدية على بعضهم فغلبتهم الفتن والشهوات.

ويعتقد فريق من الثنوية أن آدم من خلقة الشيطان، ولكن الأرواح العلوية تعالج أن تصلحه، وتقوم أوده، وتستخلصه من وهدة الطين بقبس من النور تدسه له في وجدانه، فيأنف الحياة الأرضية، ويتطلع ببصيرته إلى السماء.

وجاءت المانوية فانتشرت في بقاع الدولة الرومانية بعد ظهور المسيحية، ونافستها أشد منافسة في آسيا الصغرى وبلاد الروم من آسيا وأوروبة، فامتلأت معاهد الدينيين بالكلام عن الشيطان، واستصوب أناس من آباء الكنيسة أن ينتزعوا شعائر عباد النور، فجعلوا يوم الأحد يوم الأسبوع المختار؛ لأنه كان مخصصًا لعبادة الشمس،٤ وجعلوا اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر يوم الميلاد؛ لأنه كان يومًا ينصرف فيه المسيحيون إلى سهرات الوثنيين، لاعتقاد هؤلاء أنه اليوم الذي يقصر فيه الليل ويطول النهار، فهو هزيمة لإله الظلمة، ونصر لإله النور.

وقبل المسيحية نظر اليونان الوثنيون إلى أصول العقيدة الثنوية، فحولوا أسطورة زروان الذي وُلِدَ له «أورمزد» إلى أسطورة كرونوس، الذي وُلدَ له زيوس رب الأرباب وسيد الملأ الأعلى. فبحقٍّ يهتم الباحثون الدينيون بهذا الميراث العريق من بلاد بين النهرين؛ لأنه سابقة لا تنقطع عمَّا تلاها من أطوار الإيمان بالخير والشر، وبالقوة الكونية التي نزهتها الأديان الكتابية بعد ذلك في عقيدة الوحدانية، ودونها القوة الكونية التي تمثل فيها الشر مخلوقًا متمردًا على الله.

•••

وفي الوعي الديني عوامل ذات بال لا تحسب من الفرائض والشعائر، ولكنها تحسب من الخواطر التي تخامر النفس وتعمل عملها في تقويم الأخلاق المصطبغة بصبغة الإيمان.

من هذه الخواطر التي تستكثر على اللاهوت القديم خاطران يتخللان كتب الديانة «الزردشتية» من أقدم عصورها، أولهما أن الشر «شك»، وأنه نبت في الكون لأول مرة حين تساءل زروان بينه وبين نفسه: وما جدوى كل هذا التكوين وكل هذا التقدير؟ والخاطر الآخر أن الشر كذب، كما جاء في قصة «يامه» التي تضمنت أقدم الخواطر عن السقوط والخلاص، فقد دعاه أورمزد لحراسة الحق فاستعفاه؛ لعظم الأمانة وإشفاقه من العجز عنها، فأرسله إلى الأرض وخوله ما سأله من الغلبة على الموت، فامتلأت الأرض بالأحياء التي لا تفنى، وامتلأت نفس «يامه» بالخيلاء، فسولت له أن يناظر الإله بهذه العصمة، وأن يكاذب نفسه بخيلائه، فلحق به الشر، وجاءه الموت مع الشر، فكان ذلك من جناية «يامه» على نفسه وعلى زمرته تسللت إلى الوجود من مدخل الباطل، وهو أصل جميع الشرور.

هذان الخاطران يتخللان الكتب الزردشتية من أقدم العصور، ولم يدخلا العقائد التالية من طريق الفكر والتأمل، بل دخلاها من طريق الأشكال والرموز التي يلم بها الحس قبل التفكير فيها.

الشيطان في حضارة اليونان

يحتاج النقاد التاريخيون إلى تحرير موازينهم جميعًا قبل الاطمئنان إلى رأي صحيح في أي شأن من الشئون السياسية التي قامت عليها حضارة اليونان.

ذلك بأن الناقد التاريخي سيرى بين يديه تاريخين غير متفقين في بعض الأصول، وفي كثير من التفصيلات: تاريخ الأمة اليونانية الحقيقية، وتاريخ الأمة اليونانية التي جعلها الأوروبيون المحدثون عنوانًا للفضائل الغربية في مسائل العلم والفن والسياسة والأخلاق، كلما أرادوا أن يضعوا أنفسهم موضع المناظرة والموازنة أمام الشرقيين فيما قدَّروه لهم من نصيب في هذه المطالب وهذه المزايا.

وبلغ من رغبة الأوروبيين في ترجيح الغرب كله باسم اليونان أن فريقًا منهم تنكر للمسيحية؛ لأنها ثمرة شرقية، وفريقًا منهم زعم أن المسيحية ثمرة الفكرة اليونانية من طريق بولس الرسول وجماعة الفلاسفة المسيحيين، الذين طبقوا الدين على الفلسفة بعد القرن الأول للميلاد، وذكروا من براهينهم على ذلك أن الأناجيل كُتِبَت باللغة اليونانية، وأن كلمة الإنجيل نفسها بمعنى البشارة من لغة اليونان.

وقد عمد الغرب إلى هذا الاستغلال التاريخي لتراث اليونان؛ لأنه احتاج إليه لتدعيم دعوى السيادة والرجحان على أمم الشرق في عصر الاستعمار، فاتخذ من تعظيم اليونان وسيلة إلى تحقير الشرقيين واستباحة السيطرة عليهم؛ بدعوى الوصاية الطبيعية التي تخول المتقدمين من بني آدم أمانة الإشراف على تعليم المتأخرين.

إن أمة اليونان الحقيقية غير هذه الأمة «المصنوعة» التي احتال بها الغربيون في عصر الاستعمار على خدمة السياسة، وخدمة العصبية، ومرضاة الغرور الذي يساور «الغربي» في مقام المفاخرة وإن لم يكن من خدام الاستعمار.

وليس من المنصفين مَنْ يبخس لهذه الأمة الحقيقية فضلًا في تاريخ الثقافة الإنسانية، فمما لا نزاع فيه أن نصيبها في هذه الثقافة لا يعلوه نصيب، ولا حاجة بها معه إلى انتحال الدعوى واغتصاب الفخار بغير دليل، وحسبها أنها أخرجت للعالم سقراط وأفلاطون وأرسطو في ثلاثة أجيال متعاقبة مع مَنْ أخرجتهم من الحكماء السابقين واللاحقين، وأنها تعد من شعرائها، أمثال: هوميروس، ويوربيدس، وإسكايلاس، وسفوكليس، وأرستوفان، ومن علمائها ومؤرخيها ذلك الطراز الأول الذي تلاحق على مدى ثلاثة قرون في عصر لم يكن فيه أحد يضارعهم أو يقاربهم في هذه العلوم، ومعهم رهط من نوابغ الفن وأساطين السياسة والحكم يوازنون نظراءهم من كل أمة، ويرجحون أحيانًا على أولئك النظراء بالكثرة والقيمة.

حسب الأمة اليونانية هذا الفخار الذي يقره جميع المنصفين من الشرقيين والغربيين.

فأما أنها استأثرت بالقيم الإنسانية العليا في الذوق والفكر والخلق، فتلك هي الدعوى التي يروجها الغَرضُ ولا يسلمها التاريخ، فإذا كانت الشهادة لها بهذا الاستئثار هي المقدمة اللازمة للوصول إلى النتيجة المقصودة من تحقير الشرق وتسويغ استعباده، فهي مناجزة يقابلها الشرقيون بما ينبغي لها من التصحيح والتفنيد، وإنها لينبغي لها أن تصحح وتفند لغرضين واجبين؛ أحدهما: تمحيص الحقيقة، والآخر محو الأثر السيئ الذي تعقبه في نفوس أبناء الشرق، فتوقع فيها اليأس، وتقضي عليها بالمهانة ضربة لازب بحكم الخصائص الفطرية التي لا تتغير ولا تتبدل مع الزمن، في زعم الزاعمين.

لقد حصروا في طبيعة الغربي — من وراء اليوناني — كل قيمة إنسانية عالية في مزايا الفكر أو الحكم أو الخلق، وقابلوه في هذه الخصائص بالشرقي، فخرج الغربي بمزية العقل الذي يطلب العلم للعلم، ومزية الحكم الذي يقوم على حقوق الشعب، ومزية الخلق الذي تتقدم فيه الفضائل الاجتماعية على دواعي الأنانية ودوافع الغريزة، وخرج الشرقي من هذه الموازنة بالطرف النقيض، كأنهما متقابلان على خط من خطوط المسطرة لا يتلاقى طرفاه من أقصاه إلى أقصاه.

ونحن نصحح هذه المزاعم في مناسباتها إنصافًا للحقيقة، ومنعًا للضرر الذي يتخلف من آثارها، وبخاصة حين يتلقفها من أبناء الشرق مَنْ يحب الشهرة بالتحدي والمنافرة، ومَنْ يحب التشدق بالغرائب والتعالم بالبدع والنقائض. وقديمًا رأينا من أصحاب هذه النزعة مَنْ ينافرون بني آدم اعتزازًا بعنصر الشيطان، وكذلك كان بشار بن برد حين قال:

إبليس أشرف من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسمو سمو النار
فليس للغربيين امتياز فطري في طلب المعرفة للمعرفة بغير نظر إلى منافع الكسب والصناعة، وليس الشرقيون محرومين من طلب المعرفة للمعرفة في قديم الزمن أو حديثه، فقد رصد المصريون — مثلًا — كواكب السماء، وعرفوا أن الشعرى تظهر في موضع معلوم عند وصول الفيضان إلى منف، فاستخدموا الرصد بعد ذلك في تقرير مواعيد الزراعة، ولكنهم كما قال صاحب كتاب الرياضيات في الثقافة الغربية: قد رصدوها مئات السنين حبًّا للمعرفة قبل أن يثبت لهم ذلك الموعد الذي انتفعوا به في تنظيم الري والزراعة.٥

وإنما امتاز الإغريق بالبحوث الفلسفية في زمن من الأزمان لسبب واضح: هو أن هذه البحوث كانت مباحة عندهم حيث كانت تمتنع على غيرهم من أبناء الدول الشرقية العريقة، وهي لم تكن مباحة لهم لمزية أصلية في طبيعة التركيب … ولكنها أبيحت لهم لأن بلادهم نشأت وتطورت دون أن ينشأ فيها عرش قوي وكهانة قوية، ولو قامت عندهم الدولة القوية والكهانة القوية، كما قامت في مصر وبابل، لكان شأنهم في أسرار الدين والمسائل الإلهية كشأن البابليين والمصريين.

فالبلاد التي تجري فيها الأنهار الكبيرة تنشأ فيها الممالك الراسخة، وتنشأ مع الممالك كهانات قوية السلطان تستأثر بالبحث في أصول الأشياء وحقائق التكوين، وتتولى شئون العلم والتعليم كأنها حق لها مقصور عليها لا يجوز الافتئات عليه، وإلا كان المفتئت كالمعتدي على نظام الدولة ومحراب العبادة، ومتى طال الأمد بهذه الكهانات جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر؛ تمكن سلطانها، وتشعبت دعاواها، وتلبست معلوماتها بلباس الأسرار والطلاسم، وابتعدت شيئًا فشيئًا عن نطاق البحث الحر إلى نطاق المحفوظات والمأثورات.

وقد حكم على سقراط بالموت، وهرب فيثاغوراس قبله من وطنه، وهرب غيره من الفلاسفة من أثينا، دون أن تكون في بلادهم تلك الكهانات الراسخة التي طالت بها العهود في البلاد الشرقية، «وحدث للأوروبيين ما حدث في الشرق حين قامت في بلادهم الكهانات القوية، وبسطت سلطانها على التعليم ومعارض البحث في حقائق الدين وأسرار الطبيعة».٦

ودعوى الامتياز الفطري بالحكم الحر أضعف من دعوى الامتياز الفطري بطلب المعرفة حبًّا للمعرفة.

فالشائع على الألسنة أن التقدم العقلي ألهم اليونان أن يختاروا الحكومة الديمقراطية — أي الحكومة الشعبية — من كلمة ديموس، بمعنى الشعب في اللغة اليونانية القديمة.

وهذا خطأ من جميع أطرافه؛ فإن الحكم الذي سُمِّيَ بالديمقراطي أو النيابي لأنه يجري بالانتخاب لم يبتدئ في أثينا، حيث يتكلم الفلاسفة ويتذاكرون، بل كان مبدؤه في «أسبرطة» العملية التي تختار النظام؛ لأنه أيسر تطبيقًا وأنفع عملًا، وتتبع هذه السُّنَّة في اختيار كل خطة تنتظم بها الإجراءات، ويمتنع بها الشغب والنزاع.

وكلمة «ديمقراطية» لم تُؤْخَذ من حكم الشعب، ولكنها أُخِذَت من كلمة «ديموس» بمعنى المحلة التي تقيم بها القبيلة، ثم استعيرت للقبيلة نفسها وللحكومة التي تشترك فيها القبائل.

وقد كان الانتخاب في أثينا القديمة مسألة «إجراءات» كما كان في أسبرطة من قبلها، ولم يحدث قط أن أحدًا نال حق الانتخاب لأنه حق إنساني تُنَاط به التبعات والواجبات، وإنما كانت الطوائف تناله واحدة بعد أخرى كلما اضطرت الدولة إلى الاستعانة بها في القتال، فلم تنله طائفة الملاحين مثلًا إلا بعد ثبوت الحاجة إليهم في الحروب البحرية بعد وقعة سلاميس.

ويصدق هذا القول على الديمقراطية الغربية كلها بعد الديمقراطية اليونانية القديمة بأكثر من عشرين قرنًا؛ فإن عمال الصناعة نالوه بعد عمال الزراعة؛ لأن عمال الصناعة ألزم للدولة من غيرهم في معامل الذخيرة والسلاح، وأقدر على المطالبة والإضراب، ولم تنل المرأة حق الانتخاب إلا بعد ثبوت الحاجة إليها في تلك المعامل مع إلحاح الطلب على المجندين من الرجال، ولم يصل الزنوج الأمريكيون إلى تطبيق هذا الحق فعلًا إلا بعد الحرب العالمية الثانية التي اشتركوا فيها مقاتلين كما اشتركوا فيها صُنَّاعًا للذخيرة والسلاح.

أما حكم الشورى الذي هو تكليف إنساني منوط بحقوق المساواة وتبعات الحكام والمحكومين، فلم ينشأ في اليونان ولا في أمة غربية، بل نشأ في الإسلام في الجزيرة العربية، ولم تسبقه إليه ملة ولا دعوة فكرية.

•••

ونأتي بعد بيان الحقيقة في امتياز المعرفة وامتياز الحكم إلى موضوع هذا الكتاب، وهو «قوة الشر» ومكانها من الإله الأكبر أو من نظام الوجود.

ففي الحضارات الشرقية التي أجملنا القول فيها رأينا أن «قوة الشر» مغضوب عليها؛ لأنها تضر وتفسد وتدس الغواية على الإنسان. وخلاصة المعايير الأخلاقية هنا أن القيم الصالحة في جانب الإله، والقيم الفاسدة أو الخبيثة في جانب «قوة الشر» أو الشيطان.

لكن الأمر ينقلب تمامًا في معايير الأرباب اليونانيين؛ لأن «برومثيوس» الذي ينصب عليه غضب الأرباب وكبيرهم زيوس هو المعلم الذي هدى الإنسان إلى سر النار، وألهمه السعي في طلب البقاء، وَبَصَّرَهُ بالمجهول من خفايا الكون الذي يعيش فيه، وتمثله الأساطير على قسط وافر من الفطنة يغار منه رب الأرباب، وَيُخَيَّل إليه من أجل ذلك أنه يتعالم عليه.

أما رب الأرباب «زيوس» فهو أشبه ما يكون بالشيطان في الديانات الشرقية القديمة، وهو في جميع صوره شهوان نهم أكول، شديد الطمع، لا يبالي شيئًا من الدنيا غير استبقاء سطوته وموارد خزانته؛ ولهذا أرسل الصاعقة القاتلة على «أسقولاب» أبي الطب؛ لأنه يشفي المرضى فلا يموتون ويخسر «بلوطس» في العالم الأسفل ضرائب نقلهم على الهاوية السوداء.

وتمتلئ الأساطير اليونانية بأنباء الشجار بين رب الأرباب هذا وقرينته «هيرا» التي كانت تفاجئه في خياناته الغرامية مع نساء الإلهة وبني الإنسان، وربما عنفته في بعض هذه المشاجرات؛ لأنه ينحرف نحو «الشذوذ الجنسي» فيهبط إلى الأرض ليختطف منها الغلام الجميل «جانيميد» يجعله ساقيًا في الملأ الأعلى يدير الرحيق عليه وعلى ندمائه المقربين.

وتتمثل لنا صورة زيوس هذا في أساطيره الكثيرة نموذجًا للقوة الجسدية، وللحقد على مَنْ يظهرون الذكاء ويحرمونه لذات المخدع والخوان؛ فإن غضب فإنما يغضب لفوات لذة أو أكلة، وإن رضي فإنما يرضى لخدمة أو وساطة في طعام أو غرام. وهذه إحدى المحاورات بينه وبين برومثيوس كما تمثلها «لوسيان الساموسي» أديب الأساطير المشهور.

– أطلقني يا زيوس؛ حسبي ما قاسيت.

– أطلقك؟ أطلقك أنت؟ كيف؟ إنك لأولى أن يُزَاد عليك ثقل الأغلال، وأن تطبق عليك جبال القوقاز جميعًا، وأن ينهش من كبدك اثنا عشر عقابًا بدلًا من هذا العقاب الواحد؛ فإنك أنت الذي أغريت هذه المخلوقات البشرية اللعينة بأن تجترئ على مناوأتنا، وأنت الذي اختلست سر النار، وأنت الذي سويت المرأة! وما بي من حاجة أن أُذكِّرك بما صنعت حين وضعت لي العظم على المائدة وغطيته بالشحم تخدعني عن طعامي، فذُق إذن جزاءك؛ فإنك به لجدير.

– وهل تراني لم أصب من ذلك الجزاء ما هو حسبي؟ ألم ألصق هنا بالجبل سنين بعد سنين يأكل من كبدي عقابك هذا اللعين الأثيم؟

– إنك لم تصب عشر معشار الجزاء الذي أنت به حقيق.

– تأمَّل؛ إنني لا أطلب منك الإفراج عني سماحة بغير عوض، وإنما أهب لك سرًّا من الأسرار الغالية التي تعنيك.

– آه. إنها إذن لحيلة من حيل برومثيوس.

– حيلة من حيلي! ولأي غرض؟ إن جبل القفقاز موجود، وإنك لقادر على الرجعة بي إليه إن كذبت عليك.

– قُلْ لي أولًا في أي شيء تكون هذه النصيحة الغالية.

– أإذا أنبأتك حقًّا بشيء عن هذه النصيحة، ألا تعلم منها أيضًا أنني أحس بالنبوءة عن الغيب؟

– بكل يقين.

– إنك على موعد زيارة لثيتس.

– إلى هنا أصبت، فماذا بعد هذا؟ قُلْ؛ إنني الآن أصغي إليك.

– لا تضاجعها يا زيوس؛ فإن بنت نيريس لا تلبث أن تحمل منك حتى تلد طفلًا يبتليك بما تبتليني به الآن.

– تعني أنني أفقد عرشي؟

– أعيذك من القضاء، وإنما أُنبئك بما سيكون من وراء ذلك اللقاء.

– إذن وداعًا يا ثيتس. وأنت يا برومثيوس سيأتيك هيفستس بالفرج القريب.

•••

ورواية لوسيان لأخبار برومثيوس مع رب الأرباب تطابق رواية «هزيود» الذي تولى تنقية الأساطير، وحاول أن يعرض زيوس في معرض التقديس والتنزيه، فلم يترفع به عن وصمة النهم الذي يغضب لأكلة، ولا عن تهمة الغيرة من ذوي الفطنة والحيلة، بل ألقى اللوم على المغضوب عليهم لأنهم استحقوا الغضب بالتعالم عليه، وحكى وهو يبسط القول في أوائل خلق الكون قصته التالية:

… وولدت كليمين بنت الأوقيانوس ولدًا أصمع القلب هو الأطلس، وكذلك ولدت منوتيوس المجيد، وبرومثيوس اللبيب صاحب الحيل والأساليب، وأييمثيوس الذي كان من مبدأ أمره شرًّا على الناس الذين يأكلون الخبز؛ لأنه هو الذي أخذ من زيوس المرأة التي خلقها، وكان منوتيوس ثائرًا مثيرًا، فرأى زيوس بثاقب نظره أن يرجمه بصاعقة هبطت به إلى أرينوس لادعائه وإمعانه في كبريائه … وقضى على برومثيوس ذي البديهة الحاضرة والعارضة القوية أن يوثق بأغلال لا يفلت منها، وقيود قاسية لا ترحمه، وأن يطعن أحشاءه بسهم يكشف عن كبده لينهشها النسر الطويل الجناحين، فيلتهمها بالنهار، ويتركها في سواد الليل تعود سوية كما كانت ليعاود تمزيقها في الصباح.

وقد جاء هرقليس فقتل هذا النسر وأنقذ برومثيوس من عذابه … ولم يكن ذلك بغير رضًى من زيوس صاحب العرش الرفيع في الأولمب، وإنما أراد نباهة الشأن لابنه هرقليس … فنظر بعين الرضى إلى فعلته وإن يكن غاضبًا من برومثيوس؛ لأنه تسامى إلى مناظرة الإله الأكبر في الذكاء … وقد كانت لذلك قصة يوم انقسم الأرباب والبشر، وذبح برومثيوس ثورًا عظيمًا ليطعمهم منه؛ فسولت له نفسه أن يخدع زيوس، وأن يضع اللحم الجزل أمام غيره، ويضع أمامه عظمًا مكسوًا بالشحم يلمع عليه ويخفي ما تحته بلباقته وخبثه، فلم يلبث زيوس أن صاح به: يا ابن يابيتس سيد السادة، ما أشد إجحافك — سيدي — في قسمتك!

كذلك قال زيوس صاحب الحكمة الخالدة يؤنبه، فلم ينس برومثيوس مكره، وراح يجيبه في ابتسام وصوت خفيض: «خذ من هذه الأنصبة جميعًا ما ترضاه»، وظن أنه يحتال على الإله الأكبر بهذه الخديعة، ولكن الإله الأكبر صاحب الحكمة الخالدة لمح كيده، ولم يخف عليه قصده، وأضمر في قلبه شرًّا لأبناء الفناء من البشر لا محيص لهم من قضائه، وتناول الشحم الأبيض بكلتا يديه وقلبه مفعم بالغضب، وروحه يتلهب سخطًا كلما رأى العظم الأبيض مدسوسًا في خبث واحتيال؛ ولهذا قضى على عشائر البشر أن تحرق العظم الأبيض على المذابح المعطرة قربانًا للأرباب الخالدين. ويزمجر مرسل الغمام بصواعقه محنقًا إذ يقول لبرومثيوس: يا ابن يابيتس، يا بارعًا فوق البارعين، كأنك يا سيدي لم تنس بعدُ أساليبك في المكر والخداع!

كذلك قال زيوس السرمدي الحكمة في غضبه، وظل منذ تلك الساعة يذكر الحيلة، ويأبى أن يسلم سر النار إلى الخلائق البشرية الهالكة التي تعيش على الأرض، إلا أن برومثيوس النسيب الحسيب غلبه دهاؤه، واختلس قبسًا من النار في جوف قصبته، وأحس زيوس مرسل الصواعق في العلا بلذعة في فؤاده حين لمح النار بين أبناء البشر …

ثم مضى هزيود يروي قصة المرأة التي خلقها زيوس شرًّا للبشر، وجعل اجتنابها في الوقت نفسه شرًّا يورث العقم، وجاء برومثيوس فأغرى الإنسان بالنسل مستهينًا بشر الفتنة حذرًا من شر الفناء.

وبديه أن تستهوي الشعراء هذه الأسطورة التي تحيط بمأساة البشر بين القوة الإلهية التي تحبهم، والقوة الكبرى التي تبغضهم وتلقيهم بين شرين من الفتنة والفناء، فقد جرب الشعراء أخيلتهم في نظم الأسطورة وإيداعها كل ما تتسع له من أحاسيسهم وأفكارهم، ومن تصويراتهم للقدر المحيط بالإنسان بين السماوات والأرضين، وقد تناولها في العصر القديم شاعر من أكبر شعراء اليونان، وتناولها في العصر الحديث شاعر من أكبر شعراء الإنجليز وشعراء الغرب أجمعين، فنظم فيها «إسكايلاس» قصيدته بعنوان «برومثيوس المعتقل»، ونظم فيها «شلي» قصيدته بعنوان «برومثيوس الطليق».

وكلاهما قد وضع برومثيوس وزيوس في مكانيهما من الإنصاف والإجحاف، ومن الخير والشر، ومن البر والعقوق، فجعل الشاعر اليوناني زبانية زيوس نفسه يرثون لبرومثيوس الذي قُضِيَ عليه — لعطفه على أبناء البشر — أن يوثق إلى صخرة نائية لا يراها أحد منهم، ولا يسمعه منها أولئك الذين قد شقي في سبيلهم فيجزيه عطفًا بعطف، وإحسانًا بإحسان، وجعل الشاعر الحديث رب الأرباب كالمارد العربيد أسكره النصر، فقام بين مخلوقاته الذين تسعدهم عزته، ونعى لهم صديق البشر الذي يرفعون إليه قرابينهم على كُره منهم، وفي قلوبهم غصَّة، وعلى ألسنتهم نفاق.

ويقرأ المثقفون من الغربيين هذا الشعر الرفيع ولا يشعرون بالمناقضة بين ما يوحيه من القيم الأخلاقية في تصوير أصول الخير والشر، وبين دعوى الامتياز الأوروبي على أمم الشرق في تصويرهم لهذه الأصول، وليس في وسعهم أن ينكروا دلالة الأساطير الكونية على معايير الأخلاق وبواطن الشعور، وليس في وسعهم كذلك أن ينكروا التواتر في رواية تلك الأساطير. ونحسب أن السهو عن بيان هذه المفارقات في كتاب يوضع عن «الشيطان» يخل بأمانة الكاتب من الشرقيين وغير الشرقيين، ولكن الكاتب الشرقي — من أبناء هذا العصر خاصة — يخل بأمانتين لا بأمانة واحدة حين يسهو في هذا السياق عن تمحيص الحقائق، ودفع الأباطيل التي تتجاوز الخطأ إلى الضرر بالنفوس.

•••

ويبدو أن اليونان المتأخرين — قبل عصر المسيحية — قد استعاروا من الشرق فكرة أخرى عن أصل الخطيئة، أو أصل الخطايا الشيطانية جميعًا، فردوها إلى الكبرياء، وأطلقوا على هذه الخلة اسم الهوبري “Hubris”، وهي كلمة قريبة من دلالات الرجس في اصطلاح الدينيين.

ولكن الكلام في الكبرياء لا يغني عن تعقيب ينفي عن الكبرياء محاسنها، ولا يبقي لها غير عيوبها التي ينكرها الدين كما ينكرها معيار الأخلاق.

فالكبرياء على الإله الكامل العظيم في صفاته وآلائه كفران لا شك فيه، وخطيئة لا مسوغ لها من العقل ولا من الضمير. أما الكبرياء على صاحب سلطان يستسلم لشهواته، ويصب صواعق السماء في سبيل أكلة من اللحم والشحم، فليس فيها من معنى الخطيئة كثير ولا قليل، وليس في استعارتها لهذا المعنى دليل على معيار صادق للحسنات والعيوب، ولكنه من قبيل النقل على السماع في غير موضعه ومغزاه.

١  “The Occult Arts of Ancient Egypt” by Bernard Bromage.
٢  صفحة ٢٠٥ من كتاب الأرباب المصرية. “Les Divinités Egyptiennes” par Beauregard.
٣  “Aacient Near Eastern Texts” by Pritchard.
٤  ومن هنا بقى اسم “Sunday” بالإنجليزية.
٥  “Mathematics in Western Culture” by Morris Kline.
٦  راجع كتابنا عن أثر العرب في الحضارة الأروبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤