الفصل الثالث

(١) في طريق الأديان الكتابية

قبل أن ننتقل إلى عقائد أهل الكتاب في قوة الشر العالمية، نتريث هنا لحظة لتلخيص المرحلة الطويلة التي عبرها الإنسان في هذا الطريق، من خطواته الأولى حيث لا تمييز بين خير وشر، ولا بين إله وشيطان، إلى غايته القصوى في حضارات الأمم القديمة حيث ظهرت ديانة التوراة، وهي أول الأديان الكتابية في التاريخ.

آمن الإنسان بالأرواح والأطياف من أول عهده بالدين في الهمجية الأولى، وآمن منها بما يرجوه وما يخشاه، ولكن كما يرجو النفع ويخشى الضرر من كل شيء يحيط به، وتتعلق به المنافع والمضار، ولم يكن للتفرقة بينها معنًى في مقياس الأخلاق أرفع من معنى التفرقة بين الحيوان الأنيس والحيوان الضاري، أو بين الحشرة المأمونة والحشرة السامة، أو بين جمادين أحدهما يفيد ولا يضر، والآخر يضر ولا يفيد، وربما تلبس عنده الجماد بروح من الأرواح أو طيف من الأطياف كلما ارتجى نفعه واتقى أذاه.

وخطا في طريق التدين خطوة أخرى حين قسم الأرواح والأطياف إلى طيب وخبيث، واحتاج إلى الكاهن والساحر، ليروض له الخبيث بالرقى والتعاويذ، ويجزي عنه الطيب بالدعوات والقرابين، وعمل التخصص عمله البطيء فانفصل دور الدعاء ودور السحر، وإن عمل فيهما كاهن واحد، كما كان ينفصل دور الراعي ودور الصياد وإن كان كلاهما يرعى الحيوان النافع، ويصيد الحيوان الذي يفتك بالأناسي والماشية.

ثم خطا الإنسان خطوة أخرى من التمييز بين المنفعة والمضرة، وبين المنفعة التي تصدر على الدوام من الطيبة وحسن النية، والمضرة التي تصدر على الدوام من طبع خبيث ونية سيئة، ولم يكن أمامه في هذه الخطوة مثلٌ على الشر الخبيث الذي يضمر السوء، ويتوارى عن النظر، أقرب إلى الحس والخيال من الحية التي تزحف على التراب، وتندس في الجحور كيدًا وخديعة وتمكنًا من الدَّسِّ والأذى فيما توهمه، ولم يكن في وسعه أن يتوهم شيئًا سواه؛ ولهذا بقيت صورة الحية مقترنة بقوة الشر حقيقة أو رمزًا إلى أحدث العصور.

وعاش الإنسان عصورًا مديدة يعمل الأعمال أو يتركها لأنها مأمونة نافعة، أو محذورة وخيمة العاقبة، فلما أخذ يعملها أو يتركها لأنها واجبة مطلوبة، أو لأنها محرمة محظورة، كانت هذه خطوته الأولى في طريق التمييز بين الواجب والمحرم، وبين الخير والشر في أضيق الحدود.

ولم يزل خيره وشره خير قبيلة واحدة أو شر قبيلة واحدة، حتى تجمعت القبائل في أمة ذات مجتمع واحد وشريعة واحدة، فعمت نظرته إلى الشر والخير، ولم تزل تتسع في عمومها حتى برزت في ذهنه فكرة «النوع الإنساني»، ووجدت مع هذه الفكرة الرفيعة فكرة أرفع منها وأشرف جدًّا في مغازيها وثمراتها؛ وهي فكرة الإنسان عن ضمير الإنسان. ولم يكن في الوسع أن يعقل شيئًا عن «الضمير الإنساني» قبل أن يعرف أن الإنسان نوع واحد من وراء العشائر والقبائل والشعوب والأقوام.

وكانت الحضارات الأولى خطوة بل خطوات واسعة في هذا الطريق، ولكنها خطوات متفرقة تتقابل أحيانًا، ولا تتقابل دائمًا في الاتجاه إلى معنى الخيرات والشرور، وقد كانت خيرات وشرورًا قبل أن تجتمع في خير واحد بمقياس واحد، أو في شر واحد بمقياس واحد يتقارب فيه جميع بني الإنسان.

كانت مسألة العلم مسألة دولة وشريعة ونظام في عرف الحضارة المصرية الأولى؛ فالخير شريعة تستتب عليها الأمور، والشر مروق من تلك الشريعة وإخلال بالنظام الذي استتبت عليه.

وكانت المسألة مسألة كونية في عرف الحضارة الهندية الأولى، فالكون الظاهر كله باطل وزيف وشر، ولا خير في غير الإعراض عنه، والنفاذ إلى ما وراءه، ولعل المجاز هنا قد فعل فعله في المشابهة بين صيرفة الجواهر وصيرفة الموجودات على عمومها؛ فقد كانت صيرفة الجواهر فنًّا قديمًا في حضارة اللآلئ والحجارة الكريمة وحلي التيجان والقصور، وما عداها أو ما دونها من الحلي الزائف والحلي المبذول، وكلها كثيرة قديمة في بلاد الهنود.

وكانت المسألة مسألة فلكية في حضارة «بين النهرين» بفرعيها من فارس وبابل.

فما عدا النور فهو ظلام، وكل ما في الوجود فهو بين النور والظلام، وهذه هي خلاصة الديانات الثنوية في مختلف المذاهب والتأويلات.

وتختلف عقيدة فارس وعقيدة بابل في تلك الحضارة أو تلك الحضارات الواسعة، ولكنها لا تزال فلكية في الصميم؛ لأن الخير والشر فيها مقسومان بين السعود والنحوس كما سطرت في أزياج الكواكب، ودارت عليها أفلاك السماوات.

أما الحضارة اليونانية الأولى فالخير فيها مسألة حظ، والشر فيها مسألة اعتراض لذلك الحظ الذي لا حيلة فيه للمحظوظ ولا للمعترض عليه.

فلم يكن «زيوس» رب الأرباب لأنه أطيب منها، أو أعلم منها، أو أرفع منها خلقًا، أو أشرف منها مقصدًا، إذ إنه في الواقع أقل من الأكثرين بين الأرباب في جميع هذه الخصال، وإنما «الحظ» وحده هو الذي يفسر علوه عليها بغير تلك الفضائل والمزايا. ولم يكن هذا «الحظ» عرضًا من الأعراض، أو مصادفة من المصادفات في الثقافة اليونانية المتقدمة، فضلًا عن الأساطير البدائية التي لم تخلص من سذاجتها واختلاطها، بل كان «الحظ» مدار القصائد الكبرى والدرامات التي وضعها نوابغ الشعراء، ومثلوا فيها مصائر الأبطال وما كتب عليهم قبل مولدهم من قسمة مبرمة، وقضاء محتوم لا مهرب لهم منه بحيلة أو اجتهاد، ولا نجاة منه لذي حسنة أو ذي سيئة من المتفائلين أو المتشائمين.

وإذا لخص النزاع بين زيوس وبرومثيوس في قصة مفهومة، فليس لفهمه وجه من الوجوه على غير معنًى واحد، وهو النزاع بين صاحب حظ غالب وصاحب حظ مغلوب. ولعل فلاسفة اليونان لم يجتهدوا اجتهادهم في كلامهم على السبب والمصادفة — أو البخت كما ترجمه الفارابي — إلا لأنهم كانوا يلقون «البخت» أمامهم عقبة قائمة في طريق كل تفكير، وكان إيمان العظماء به قد بلغ من الرسوخ والخطر ألا يقدم أحدهم خطة من خطط السلم، أو غزوة من غزوات الحرب، إلا بعد استطلاع العرَّافين عن «الحظ» المكتوب له أو عليه.

على أننا — في هذه العجالة — في مقام الحد الفاصل بين الحضارات الأولى والأديان الكتابية من وجهة النظر إلى «قوة الشر العالمية» أمام قوة الخير، أو أمام المشيئة الإلهية التي آمن بها الناس وهم يعلمون فكرة «النوع الإنساني» وما تلاها من فكرة أرفع منها وأشرف، وهي فكرته عن «ضمير الإنسان».

ونحسب أن الحد الفاصل إنما هو الفارق بين التقديم والتأخير بين صفتين من صفات الإله الأكبر؛ وهما: صفة السيادة والسلطان، وصفة الخلق والتكوين.

فالأقدمون قد آمنوا بخلق الله للأكوان، ولكنهم لم يبرزوا صفة الخلق كما أبرزوا صفة السيادة، ولعلهم كانوا منساقين في ذلك مع عقائد الفطريين الأسبقين الذين كانوا يؤمنون بأرواح لم ينسبوا إليها خلق شيء من الأشياء، فضلًا عن خلق الكون الذي يحتوي جميع الأشياء، ثم تدرج الناس من عبادة الروح المتسلط إلى عبادة الإله المتسلط، فجعلوا صفة الخلق تابعة لصفة السيادة والسلطان.

أما الديانة الكتابية فقد أبرزت صفة الخلق وجعلتها شاملة لكل ما عداها من الصفات الإلهية، ومنها صفات السيادة وتصريف المقادير، ويأتي من هذا الفارق شيء كثير.

يأتي منه أن الشر في الحالة الأولى إنما يحسب من قبيل الحماقة قبل أن يحسب من قبيل الكنود والفساد، فلا يقال عنه: إنه يليق أو لا يليق كما يقال عنه: إنه عمل حكيم أو غير حكيم. وبين هذا، وبين وصف الشر بالسوء والكفران بون واسع لم تعبره الأمم الإنسانية طفرة واحدة، بل تقدمت فيه خطوات بعد خطوات كما سنرى في عقائد الأديان الكتابية مِمَّا قبل التوراة إلى ما بعد الإسلام.

(٢) الأديان الكتابية

العبرية

نسميها العبرية لأننا لا نعرف تسمية تصدق عليها منذ نشأتها في بلاد بين النهرين كما تصدق عليها هذه التسمية.

فلا يصدق عليها اسم «اليهودية» لأن النسبة إلى يهوذا حدثت بعد موسى عليه السلام.

ولا يصدق عليها اسم «الموسوية»؛ لأن موسى قام بالدعوة بعد يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام.

ولا يصدق عليها اسم «الإسرائيلية» لأن الإسرائيلية تنسب إلى إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق، وكان إبراهيم الخليل جدهم أجمعين يلقب بالعبري في بعض كتب العهد القديم، فإطلاق اسم العبرية على العقائد التي دانت بها العشائر التي نشأ فيها إبراهيم أصدقُ من كل اسم آخر في الإحاطة بديانة القوم، من أوائل تاريخها وفي جميع أطوارها المعلومة إلى أن عرفت أخيرًا باسم ديانة التوراة.

وينبغي أن نميز العبرية، في نشأتها الأولى، من ديانة التوراة كما تلقاها المسيحيون الأوائل، وكما انتهت إلينا مهذبة في القرآن الكريم.

فقد حملت «العبرية» عبء التوسط بين الوثنيات الأولى وعقائد التوحيد من قبل ظهورها إلى ما قبل المسيحية بنحو مائتي سنة، فلم تستقم على عقيدة الإله الواحد المنزه عن اللوثة الوثنية إلا حوالي القرن الثاني قبل الميلاد.

ولم تكن قط، قبل ذلك ولا بعد ذلك، ديانة إنسانية عامة تتساوى فيها جميع السلالات، وتُنَاط فيها العقيدة بضمير الإنسان غير منظور فيه إلى عنصر أو نسب، وإنما نشأت وعاشت ديانة «قبيلة خاصة» أو قوم معلومين.

ولم ترتفع قط بإدراكها للتنزيه الإلهي إلى الأفق الذي ارتفع إليه آخر الأديان الكتابية، وهو الإسلام.

بل كان العبريون الأوائل ينكصون حينًا بعد حين إلى شعائر الأوثان والأصنام، وعبادة البعل وتموز وعشتروت، ويُعرضون عن أنبيائهم الذين يغارون من منافسة هذه الأرباب لرب إبراهيم؛ فلا يعودون إلى الوحدانية — أو ما يشبه الوحدانية — إلا بعد تقرير الدعوة من جديد.

ولبثوا زمانًا يصفون الإله بالصفات التي لصقت به في الوثنية أو في ديانات الحضارات الأولى، فكان الإله عندهم يغار من الجنس البشري، ويشفق من يوم يهتدي فيه إلى شجرة الخلود، ويتوعده بالموت إن أكل منها، فيقيم الملائكة الأشداء حرسًا حولها، كما روي عن الأرباب البابليين في حواشي قصة الخلق وقصة الطوفان، وكانوا يقولون لموسى عليه السلام: إنهم يتهمون «يهوا» بالكيد لهم، ونصب الفخاخ في البرية للتغرير بهم، وإنه لم يستدرجهم إلى سيناء إلا لأنه يبغضهم ويتمنى لهم الهلاك بعيدًا من أرض وادي النيل التي أخرجهم منها.

وكانت فكرة السيادة في عبادتهم للإله غالبة على فكرة الخلق، كما كانت غالبة على أديان الحضارات الأولى، فلم ينكروا وجود الأرباب التي تدين بها العشائر الأخرى، ولكنهم أنكروا سيادتها، ودانوا بالولاء للإله «يهوا» وحده، كما يدين الشعب لملكه وهو يعلم بملوك غيره لا تجب عليه طاعتهم، ولا يأمن العاقبة إذا أشرك بينهم وبين مَلِكِه في فرائض الولاء.

ويتضح من مقارنات الأديان أن العقيدة تعزل قوة الشر وتحصرها في «الشخصية الشيطانية» كلما تقدمت في تنزيه الإله، واستنكرت أن يصدر منه الشر الذي يصدر من الشيطان.

ولهذا لم يشعر العبريون الأوائل بما يدعوهم إلى عزل الشيطان أو إسناد الشرور إليه؛ لأنهم كانوا يتوقعون من الإله أعمالًا كأعمال الشيطان، وكان العمل الواحد عندهم ينسب تارة إلى الشيطان وتارة إلى الإله، كما حدث في قضية إحصاء الشعب على عهد داود، فإنه في المرة التي ورد فيها اسم الشيطان بصيغة العلم قيل إنه هو الذي أغرى داود بإحصاء الشعب، كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام الأول، ولكن الرواة يروون هذه القصة بعينها في سفر صمويل الثاني فيقولون: إنه «حمي غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلًا: امض وأَحْصِ إسرائيل ويهوذا …»

ولم يكن الشيطان هو الذي أغوى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة، بل كانت الحية هي صاحبة الغواية هنا، جريًا على سنن الأقدمين الذين كانوا يوحدون بين الضرر الحسي وبين الخطيئة الأخلاقية، وقبل أن تصبح الحية مجرد رمز إلى الشيطان تُلاحَظ فيه المشابهة بين نفث السم ونفث الشر على أسلوب المجاز.

ولم يذكر الشيطان قط في كتاب من الكتب قبل عصر المنفى إلى أرض بابل سنة (٥٨٦ قبل الميلاد) … ثم كان ذكره فيها على الوصف لا على التسمية، فجاء مرة بمعنى الخصم في القضية، وجاء مرة أخرى بمعنى المقاوم في الحرب، وأطلق مرة على الملك الذي تصدى لبلعام في طريقه؛ لأنه كان بمعنى المعترض أو الضد أو الخصم المقاوم، ولم يذكر بصيغة العلم إلا حيث قيل في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام: إنه «وقف الشيطان ضد إسرائيل».

وقد كانت قرابين الكفارة تقسم على التساوي بين الإله وبين عزازيل رب القفار، أو الجني الذي يهيمن على الصحراء، وكان إيمانهم بوجود الأرباب الأخرى التي يعبدها غيرهم من الأمم بديلًا من صور الشياطين؛ لأنها كانت تعمل عمل الشيطان، كلما صرفت الشعب عن عبادة «يهوا» إلى عبادة غيرها تثير النقمة على العصاة، وإنما تأتي النقمة إذن من «يهوا»، ولم تأْتِ قط من أولئك الأرباب الأجنبيين، البُدلاء من الشياطين.

وقد تمثل الشيطان في صورة الواشي الموغر للصدور في قصة أيوب عليه السلام، ولم يكن منعزلًا عن الملائكة، بل دخل معهم إلى الحضرة الإلهية، وجرى سياق القصة على النحو الآتي كما جاء في الإصحاح الأول من سفر أيوب: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم، فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطانُ الربَّ وقال: من الجَوَلان في الأرض ومن التمشِّي فيها، فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ إنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، فأجاب الشيطانُ الربَّ وقال: هل مجانًا يتقي أيوبُ اللهَ؟ أليس أنك حميته بحياطتك إياه، وحياطة بيته وكل ما يملك من ناحية؟ … باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض …»

ثم تبتدئ المحنة بتسليط الشيطان على أيوب لامتحان تقواه وصبره على ضربات المرض، والبلاء، والفقر، والحرمان.

وقصة أيوب عربية باتفاق الشُّرَّاح المؤرخين وَنُقَّاد العهد القديم، ولها نظائر في الأدب العربي إن لم تكن هي القصة بعينها منقولة في رواية أخرى، ونعني بها القصة التي أشار إليها امرؤ القيس حيث يقول في معلقته:

وواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوي كالخليع المعيل

فإن الجوف بلغة اليمن هو الوادي، وكلمة العير في هذا البيت بديل من كلمة «الحمار» اسم صاحب القصة، ولم تستقم كلمة الحمار في وزن الشعر فجاء الشاعر بكلمة العير لتدل على معناها، وكان حمار بن مويلع هذا رجلًا من العمالقة له مال وبنون، وزرع وضرع، فنزلت على أبنائه صاعقة في بعض أسفارهم أحرقتهم وما معهم، فكفر الرجل بالله وقال: «لا أعبد ربًّا أحرق بَنِيَّ.» ثم عكف على عبادة الأصنام فأرسل الله على واديه نارًا أتت عليه، وجعلته مضرب المثل في الخراب، فيقال على هذه الرواية: «أخلى من جوف حمار.»

وأيًّا كان القول في هذه القصة فلا خلاف على قصة أيوب، ولا على نسبة أيوب إلى العرب، ولا على انفراد هذه القصة بين كتب العهد القديم بتمييز قوة الشر والغواية في «شخصية الشيطان» … وتلك قيمة من القيم الاعتقادية التي لم يميزها العبريون؛ لأنهم لم يبلغوا من التمييز بين طبيعة الخير وطبيعة الشر أن يفرقوا بين الملائكة والشياطين، وأن ينزهوا الإله الذي يعبدونه أو تعبده الأقوام الأخرى عن قبائح الشيطان.

وقد نبهنا إلى تحرير موازين النقد قبل النظر فيما كتبه الأوروبيون عن اليونان، وليست الحاجة إلى تحريرها في صدد المأثورات العبرية بأقل من الحاجة إليه في صدد المأثورات اليونانية؛ لأن الأوروبيين لا يتجردون من الهوى والعصبية كلما خلطوا بين تاريخ عقائد العبريين منذ القدم، وبين تاريخ العهد القديم، على اعتباره كتابًا من كتب المسيحية التي يؤمن بعض الكنائس بتنزيلها، وينظر إليه بعضهم كأنه تراث أدبي موصول بتراث الدين.

فقد وهم الكثيرون من قدم الديانة العبرية، وأنها أسبق الديانات الكتابية في التاريخ أن هذه الديانة سبقت المسيحية والإسلام إلى أصول العقائد والعشائر في جميع الفرائض والعبادات، ولكن الواقع أن العبريين استعاروا كل ما دانوا به، ولم يعيروا المسيحية والإسلام شيئًا غير ما جاء من تطور الأفكار، ولم يكن مجيئه على يديهم في أكثر الأحيان.

وعلى خلاف الشائع بين أصحاب الدعايات والعصبيات كان أنبياء العرب أساتذة الأنبياء العبريين في أهم الأصول الدينية، وهي مسألة الخير والشر، ومسألة الثواب والعقاب؛ ففي سفر أيوب قبل جميع الأسفار التوراتية ظهرت هذه الأصول، وقد تتابعت النبوءات في بلاد العرب قبل أن يكون للنبوءة شأن بين العبريين، وذكر القرآن الكريم من الأنبياء العرب هودًا وصالحًا وشعيبًا وذا الكفل.

وجاء في التوراة ذكر بلعام وأيوب وشعيب، وجاء فيها أيضًا أن شعيبًا عَلَّم موسى وهداه إلى سياسة قومه، وأن بلعام كان حكمًا بين إسرائيل وخصومها في جنوب فلسطين. ومن صيحات النبي «أرميا» يتبين أن المجهول من أخبار الأنبياء في بلاد العرب كان أكثر من المعلوم المذكور في كتب العهد القديم؛ لأنه يستغيث متسائلًا عن هداية الجنوب وينادي: أما من حكمة بعد في تيمان؟

وإنما تضخمت مأثورات العبريين بعد اختلاطهم بأهل بابل ومصر وبلاد العرب واليونان، واحتوت كتب التلمود والمشنا أهم عقائد القوم في مسألة الخير والشر، ومسألة الثواب والعقاب. ولا بد أن يذكر على الدوام أن هذه الكتب جُمِعَت بعد المسيحية، وظلت تُجْمَع وَيُضاف إليها حتى القرن العاشر للميلاد، وفي هذه الكتب خلاصة ما استفاده العبريون من مجاورة الأمم التي تقدمتهم في إدراك الصفات الإلهية والصفات الشيطانية، ومن هذه الكتب أخذ الآخذون ما حسبوه تراثًا إسرائيليًّا، وهو في حقيقته تراث الحضارات الغابرة من أقدم العصور.

مثل واحد يدل على نصيب القوم من الأصالة والنقل في القصص الدينية، والتعليق على المسائل الغيبية، فإنهم ظلوا إلى ما بعد الإسلام ينقلون عن العرب قصصًا كان موطنها في أرض بابل وآشور كقصة هاروت وماروت، وأحق ما يكون بالتنبيه في هذا المقام أن اليهود خرجوا من أرض بابل وعادوا إليها أيام السبي قبل الميلاد بستة قرون، ولكنهم لم يأخذوا هذه القصة إلا بصيغتها العربية بعد عصر السبي بأكثر من ألف سنة، فليس من شروط القدم في الديانة الكتابية أن يكون القوم معيرين، وأنهم لا يستعيرون.

ويدل تأخر المصادر التي فصلت أوصاف الشيطان على تأخر القوم في التمييز بين الخير والشر، كما مَيَّزَ بينها أبناء الحضارات التي تقدمت الإشارة إليها؛ ففي الروايات التلمودية المتأخرة يبدأ كل تفصيل عن العداوة الشيطانية للإنسان، وعن أثر هذه العداوة في خروج آدم من النعيم، وفيها ارتقاء من وسوسة الحية إلى وسوسة شمائيل، رئيس الملائكة الذي عمل في القصة عمل إبليس، وتوسع رواق اليوبيل حوالي القرن الثاني قبيل الميلاد في الكلام على «مشطيم»، اسم الفاعل من مادة شط في اللغة العربية يقابله كلمة «مشيطن» في اشتقاق اللغة العربية.

وتحتوي التلموديات في مثل هذا العصر كلامًا عن الشيطان بليعال روح الكذب والخداع، وهو يقابل في العربية «بلاعول»، أي لا معول عليه، ولا خلاق له، ولا خير فيه. ويحتوي كتاب أخنوخ، قرابة هذا الوقت، كلامًا عن الملائكة الهابطين بقيادة كبيرهم المطرود من رحمة الله، ويقول كتاب الحكمة: إن الموت نزل على الدنيا من جراء حسد الشيطان. وأما قبل هذا العصر بعدة قرون فقد كان كُتَّاب التوراة يذكرون الشياطين بأسمائها البابلية كما ذكروا «الشعريم»، أي الشياطين ذوات الشعر، والليليت أي الشياطين الليلية، والكتيب والدبير١ وغيرها من الجِنَّة والعفاريت التي اقتبسوها بمدلولها، فنقلوها بأسمائها ونعوتها.

•••

ونعود فنقول: إن الديانة العبرية تحملت أعباء التوسط بين الديانات الوثنية وديانات التوحيد الكتابية، وصورة الشيطان في عقائدها هي أوفق مقياس لسلم التطور الذي ارتقت عليه من أقدم عهودها في التاريخ إلى العهد الذي ظهرت فيه المسيحية.

ففي أقدم العهود لم يكن عند العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية، وخلائق الكائنات الأرضية من إنسانية وحيوانية، ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق وخلائق الشيطان.

فكان الشيطان يحضر بين يدي الله مع الملائكة، وكان الملائكة يهبطون إلى الأرض فيعاشرون بنات الناس، وكان الإله نفسه يمشي في ظل الحديقة مبتردًا، ويأكل اللحم والخبز، ويحب ريح الشواء، ويغار ويحقد وينتقم كما يفعل كل مخلوق من مخلوقاته في الأرض أو في السماء.

وتطورت عقائدهم في الملائكة، فأصبح منهم نظراء لقوى الطبيعة في أساطير الوثنيين الأقدمين، فمنهم ملائكة للآبار، وملائكة للأنهار، وملائكة للتلال، وآخرون للمغاور والوهاد، وآخرون للأسماك والحيتان، ولكل صيد من حيوان البر والبحر والهواء. ومن هؤلاء الملائكة مَنْ يعمل في طاعة الشيطان، ويتنقل بين الأعمال السماوية وأعمال الأرض والهاوية كأنها نمط واحد من الأعمال يختلف باختلاف الرؤساء والدعاة.

وتروي «الزوهار» أن الملائكة هم الذين استكبروا آدم يوم صنعه الله لأول مرة ملء السماوات والأرضين، فتساءلوا مستنكرين: أفي الكون إلهانِ؟ فَصَغَّره الله وجبل له جسمًا من التراب.

وفي ميثاق أخنوخ، أن الملك شمهازي قاد رهطًا من الملائكة إلى الأرض ففسق وعصا، وخاف أن ينفرد بالعقاب فدعاهم أن يُقسموا معه ليفعلن مثل فعله، فأقسموا معه على جبل حرمون، وسُمِّيَ الجبل بهذا الاسم لأنهم أقسموا عليه بحرمة الحرمان، وعقدوا النية على المحرمات، ثم فجروا مع النساء، وعلموهن الزرع والحصاد، وهموا بإهلاك رجالهن، فتعلم الرجال منهم الفتك والعدوان.

وَيُرْوَى عن أخنوخ أنه هو الذي عزر الملائكة المتمرسين بشهوات الأرض، وقال لهم حين تشفعوا به: أولى لكم أن تهجروا الأرض، وأن تعيشوا سماويين لا تأكلون ولا تشربون.٢

ومن علماء الأساطير العبرية — مثل أبشتين وجرنبوم — مَنْ يقررون أن اليهود أخذوا طائفة من قصص الشيطان رواية عن المصادر الإسلامية، وأن سعديا وابن سابا نقلا أسباب سقوط إبليس عن هذه المصادر، ومعها كثير من الأوصاف والفعال التي يتميز بها الشياطين.

وكان الحكماء والربانيون يختلطون بكهان الديانات البابلية والمجوسية، ويسمعون منهم أوصاف أهريمان إله الظلام وجنوده، فينقلونها إلى الشيطان، ويضعون هذا الشيطان شيئًا فشيئًا في موضع العدو المناجز لله والإنسان، ومما اقتبسوه من أولئك الكهان — من الفصل الثالث في كتاب البنداهش “Bundahesh” — أن أهرمان تشكل بشكل الحية وملأ آفاق الفلك الأعلى والأرضين حتى لم يبق فيها منفذ لإبرة، ونفث سمومه فامتلأت حتى هبط إله الخير «أورمزد» إلى الأرض فرده إلى قراره.

ولوحظ في المقارنات بين العقائد أن اختصاص الشيطان بخلائقه، التي تنافر الأخلاق العليا، إنما كان يزداد ويتمكن كلما استعار العبريون شعائرهم ومأثوراتهم من أبناء الحضارات الكبرى، وأن أنبياءهم الذين أكدوا لهم عقيدة التوحيد والتنزيه لم يجدوا منهم سميعًا قبل القرون الثلاثة الأخيرة التي سبقت ظهور المسيحية، ولم يكن تمييز الشيطان بخلائقه المنافرة للخير «عقيدة رسمية» يقرها الرؤساء المسئولون، ولكنه كان من قبيل التراث المحفوظ الذي تعرف مصادره حينًا، وينقل من رواته في البيئة التي يشيع فيها بغير مصدر معلوم.

فَلَمَّا تلاقت العبرية والمسيحية في الزمن، كانت صورة الشيطان على ما انتهت إليه يومئذ ميراثًا مشاعًا لا يستند فيه اليهود إلى نسختهم من التوراة، ولا إلى أسانيدهم «الرسمية»، ولكنها كانت صورة لا يختصون بها، ولا يمتنع أحد على غير ملتهم أن يقبلها؛ لأنهم نقلوها كما نقلها سواهم من مصادرها المعلومة أو مصادرها المجهولة، ولم ترجع بها كتب التلمود والمشنا إلى نبي من أنبيائهم المعدودين.

المسيحية

ذُكِرَ الشيطان بأسماء متعددة فيما روته الأناجيل من أقوال السيد المسيح، أو أقوال المتحدثين إليه على اختلاف المعتقد والنية.

فَذُكِرَ باسم الشيطان، واسم «روح الضعف»، واسم الشرير، واسم رئيس هذا العالم، واسم بعلزبول، وقيل عن بعلزبول بلسان الفريسيين: إنه رئيس الشياطين.

وتذكر الأناجيل أخبار المجانين الذي شفاهم السيد المسيح فتقول عنهم تارة: إنهم صرعى الشيطان، وترد كلمة الشيطان في الترجمة اليونانية مقابلة للكلمة اليونانية التي تطلق على إبليس “Diabolos”، أو مقابلة للكلمة التي تطلق على العفريت والروح المتسلط “Demon”، سواء كان شريرًا أو غير شرير.

وفي أحد هذه الأخبار ذُكِرَت امرأة مصابة فقيل عنها: إنها «كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة، وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة»، فلما رآها يسوع دعاها وقال لها: «يا امرأة، إنك محلولة من ضعفك …» الإصحاح الثالث عشر من إنجيل لوقا.

وبصدد المخبولين والمصروعين وشفائهم على يد السيد المسيح قال الفريسيون: إنه يحالف رئيس الشياطين، ويأمرهم باسمه وسلطانه فيطيعونه ويخرجون من أجسام صرعاهم. وقد جاءت هذه القصة بصيغ مختلفة في الأناجيل، ورواها إنجيل متى فقال: «إنه أحضر إليه مجنون أعمى وأخرس فشفاه، وتكلم الأعمى والأخرس وأبصر، فَبُهِت كل الجموع وقالوا: ألعل هذا هو ابن داود؟»

أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا: هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين. فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم: «كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته، فكيف يثبت ملكه؟ وإن كنت أنا ببعلزبول أُخرِج الشياطين، فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم، ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله.»

وموضع الالتفات في كلام السيد المسيح هنا هذه المقابلة بين مملكة بعلزبول وملكوت الله، وأن السلطان الذي لا يكون بقوة الشيطان إنما يكون بروح الله.

وأصرح من ذلك الإشارة إلى سلطان إبليس على العالم قصة التجارب التي امْتُحِنَ بها السيد المسيح في البرية، وكان إبليس هو الذي يجربه ويحاول إغواءه بما يملكه من العروض والمغريات، ويستوفي إنجيل لوقا هذه القصة إذ يقول: «إن يسوع رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس، وكان يُقَاد بالروح في البرية أربعين يومًا يجربه إبليس، ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام.

فلما تمت جاع أخيرًا، وقال له إبليس: إن كنت ابن الله فَقُلْ لهذا الحجر أن يصير خبزًا، فأجابه يسوع قائلًا: مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله. ثم أصعده إبليس إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجده؛ لأنه إليَّ قد دُفِع، وأنا أعطيه لِمَنْ أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع، فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان! إنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد.

ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل؛ لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك، فأجاب يسوع وقال له: إنه قيل لا تجرب الرب إلهك. ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين.»٣

وهذه القصة أوفى ما جاء في الأناجيل عن سلطان إبليس على ممالك العالم، وأنها دُفِعَت إليه ليعطي منها ما يشاء لِمَنْ يشاء، فهو قريب من صورة أهريمان، إله الظلام في ديانة الفرس القديمة، ولكنه لا يملك إلا ما يُدْفَع إليه بمشيئة الإله القادر على كل شيء، وتلك أول تفرقة في الديانات الكتابية بين إله الظلام وأمير الظلام، كما سُمِّيَ إبليس بعد عهد السيد المسيح.

وآخرة إبليس كما جاء في كلام السيد المسيح تناسب موضعه هذا من العالم، ومن العزة الإلهية، ولا تصعد إلى المنزلة التي أنزل بها الفرس الأقدمون إله الظلام في ديانتهم الثنوية، وفي الإصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متى شرح هذه الآخرة كما ينتهي إليها الملائكة والقديسون، وينتهي إليها الشياطين والأشرار: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميع الملائكة والقديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار، ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم … ثم يقول أيضًا للذين عن اليسار: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.»

ويقول السيد المسيح فيما رواه إنجيل لوقا: إن الشيطان يغربل تلاميذه، وقال الرب: «سمعان، سمعان، هو ذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة …» الإصحاح الثاني والعشرون.

ويذكر إنجيل لوقا قبل ذلك أن الشيطان يداخل مَنْ يوسوس لهم، وأنه «دخل في يهوذا الذي يُدْعَى الأسخريوطي … فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وَقُوَّاد الجند» ليسلم المسيح إليهم.

وينفرد إنجيل يوحنا بكلام منسوب إلى السيد المسيح يصف فيه إبليس بأنه رئيس هذا العالم، وتكرر ذلك في غير موضع؛ فجاء في الإصحاح الثاني عشر أن السيد المسيح قال لتلاميذه ليلة وداعهم: «الآن دينونة هذا العالم. الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا، وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع.»

وفي الإصحاح الرابع عشر يقول: «… لأن أبي أعظم مني، وقلت لكم الآن قبل أن يكون … لا أتكلم معكم كثيرًا؛ لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء.»

وفي الإصحاح السادس عشر: «أما الآن فأنا ماضٍ إلى الذي أرسلني، وليس أحد منكم يسألني أين تمضي، لكن لأني قلت هذا قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزِّي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذلك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة. أما على خطية؛ فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر؛ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا، وأما على دينونة؛ فلأن رئيس هذا العالم قد دين.»

وفي إنجيل لوقا وردت الكلمة التي شبهت لقراء الأناجيل اسم الشيطان باسم «لوسيفر» حامل النور، كما كان يُدعى بعد عصر الأناجيل بعدة قرون؛ ففي الإصحاح العاشر من إنجيل لوقا يقول السيد المسيح للتلاميذ السبعين الذين أرسلهم للبشارة من قبله: «إني رأيت الشيطان ساقطًا كالبرق من السماء.»

أما غاية ما وُصِفَ به إبليس من السطوة، فهو قول بول الرسول عنه في رسالة كورنثوس الثانية: «إن كان إنجيلنا مكتومًا، فإنما هو مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين.»

وإنما كان بولس يذكر سطوة الشيطان وهو يرى أمامه معابد «مترا» في كل مكان يرحل إليه، ويسمع أتباع مترا يذكرون إله الظلام وإله هذه الدنيا السفلى التي تخضع لسلطانه، وتنتظر نور الخلاص بعد رجعة «مترا» بالظفر والغلبة في الدهر الموعود، وقد أخذ العبريون تقسيم الدهر إلى دهرين من أقوال أهل بابل وفارس، ولم يكن من شأن المسيحيين الأوائل أن يهونوا من شرور إله الظلام في هذه الدنيا، بل كانوا يسبقون أتباع «مترا» إلى تعظيم الفارق بين النور الإلهي والظلمة الشيطانية، وتسمية بولس للشيطان بإله هذا الدهر إنما هو من قبيل تحقير الدهر الذي يعبدونه فيه. وتلك عادة من عادات العبريين الأقدمين في الزراية بأدعياء الربوبية عند الأمم الأخرى، فكان من أساليبهم في إنكار ربوبية بعل أن يسموه — على رأي الكثيرين من الشُّرَّاح — رب الذباب، ورب الزبالة؛ ومن ثَمَّ اسم بعلزبوب وبعلزبول.

وتمتزج بأقوال بولس على الدوام تعبيرات مجازية تدل على إلمامه بالأساليب اليونانية في التعبيرات، وسماعه بالآراء التي كانت تنقل عن حكماء اليونان، ويسوقونها مرة في معرض الطبيعيات، ومرة في معرض الدينيات، ومن ذاك قوله عن إبليس في رسالة أفسس: «إنه رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.» ومنه قوله في تلك الرسالة: «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكان إبليس؛ فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل مع أحفاد الشر الروحية في السماوات.»

ويرى اللاهوتيون المحدثون أن أقوال بولس هنا تحتمل الإشارة إلى الطبيعيات اليونانية، كما تحتمل الإشارة إلى التراث العبري في مسائل الروحانية، قال الدكتور هوجو راهنر “Hugo Rahner” في بحثه عن الروح الأرضي والروح الإلهي في علم اللاهوت القديم: «إن عبارة رئيس سلطان الهواء في كلام بولس الرسول تثير أسئلة شتى في التاريخ الديني، ينبغي أن نعرض لها إن أردنا أن نفهم آراء آباء الكنيسة الرفيعة في طبيعة الأرض الروحية الشيطانية … أفلا يقع في أخلادنا أننا نسمع هنا نغمة مألوفة؟ أليس تصور الروح الشيطاني سلطانًا على الطبقة المظلمة من الهواء صدًى واضحًا من نظريات أفلاطون وزينقراط وبلوتارك؟

إن التشابه لظاهر، وإن البحوث التي عرضت لهذه المسألة لكثيرة منوعة، ولكن الأرجح على ما يبدو أن بولس الرسول إنما اتخذ هذه الصورة من الروحانيات اليهودية المتأخرة، فقد كان من العقائد الشائعة بين اليهود أن الأرواح الشريرة لا تهبط إلى ما دون الهواء المحيط بالأرض، وأنها من هذا المهبط تباشر عمل الشر عليها. وإنما ترمز هذه الصورة في ذهن بولس الرسول إلى خصومة أصبحت خلقية نفسية، ولم تبق كما كانت قبل ذلك كونية طبيعية، فالعالم عنده في أساسه إنما هو الإنسان، وهذا الإنسان الذي يوصف بأنه أرضي، وأنه موثق إلى الأرض، وأنه خاطئ؛ خليقٌ أن يخضع لسلطان أرواح الشر عليه، ولكنه قادر كذلك على أن يرتفع بنفسه من الظلام إلى النور، ومن الشيطان إلى الله.»

•••

ومعلوم أن كتاب «العهد الجديد» هو مرجع المسيحية الأكبر الذي تتفق الكنائس على اعتماده في العقائد الجوهرية، ولكن العهد الجديد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: «أولها» الأناجيل، و«ثانيها» أقوال الرسل، و«ثالثها» أقوال الصحابة والرواة المتصلين بالرسل، وترتيبها كما جاء في شروح بعض اللاهوتيين المحدثين أن الأناجيل وحي غير مصحوب بتفسير، وأن أقوال الرسل وحي وتفسير، وأن أقوال صحابتهم تفسير بغير وحي. وقد جاءت في أقوال الرسل وما بعدها تفسيرات في المنزلة الأولى من مأثورات العقيدة المسيحية، يتقدمها جميعًا ما جاء عن خطيئة آدم وعن تكفير الخطيئة، وعن الحية والشيطان، ولم تسبق الإشارة إليه في الأناجيل.

ففي هذه المراجع أول إشارة إلى تسمية الحية بالشيطان، كما جاء في الإصحاح الثاني عشر من أعمال الرسل، حيث يذكر التنين ويقال عنه: «إنه التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم».

وفي رسالة يوحنا الرسول الأولى: «مَنْ يفعل الخطيئة فهو من إبليس؛ لأن إبليس من البدء يخطئ، ولأجل هذا ظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس.»

وفي هذه الرسالة أيضًا: «إن الإنسان من الله أصلًا، ولكن «العالم» كله قد وُضِعَ في الشرير.»

وتتكلم الكتب «البوكريفية» عن دخول الموت إلى العالم بدخول الخطيئة فيه، ومعظم هذه الكتب لا يرتقي إلى طبقة الأقوال المأثورة عن الرسل مباشرة، ولكنه يعتمد للترجيح والتفسير، وَسُمِّيَ بالكتب «البوكريفية» بمعنى «السرية» أو الخاصة في اليونانية؛ لأنه كان من المراجع التي يُضَن بالاطلاع عليها على غير الواصلين في الإيمان والمعرفة.

وعندنا أن الفرق في أوصاف الشيطان بين الأناجيل وما تلاها إنما هو الفرق بين الأوصاف السماعية والأوصاف القياسية أو العقلية؛ فإن الشيطان لم يتقرر له «شأن» أو دور معلوم في الأديان الكتابية قبل القرن الأول للميلاد، وإنما كان في الكتب العبرية أو اليهودية واحدًا من الملائكة المغضوب عليهم، أو واحدًا من الأرواح المتمردة، فلا يُعْرَف إلا بما سُمِعَ من أوصافه، ولا شأن له في ذلك إلا كشأن الأبطال التاريخيين، أو «الشخصيات التاريخية» التي تُعْرَف بالمسموع عنها بين المسموعات المختلفة، ولا يمكن أن تُعْرَف بأوصاف عامة يقتضيها العقل والقياس.

أما الشيطان الذي تقرر له «دور» معلوم أمام الله فلا يتوقف العلم بأوصافه على السماع، بل يجوز للمفكر أن ينسب إليه كل ما يقتضيه ذلك الدور من الألوان والملامح والخصائص والتبعات، ويجوز له كذلك أن ينسب له ما سوف يأتي به بعد أزمنة طويلة في نهاية العالم ومصيره المقدور.

وقد تقرر دور الشيطان، وتقرر سلطانه على الشر وعلى العالم الأرضي في مقابلة العالم الإلهي في السماء، فكل صنيع يوصف بالشر فهو من عمله بغير حاجة إلى رواية السماع، وكل خطيئة أو غواية أو ضلالة أو عاقبة محذورة؛ فإنما تُنْسَب إليه كما تُنْسَب الخصائص إلى معدنها بحكم البداهة التي لا تحتاج إلى عيان أو إلى إسناد، وعلى هذا القياس قال بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: إن رؤساء هذا الدهر — أي الشياطين كما جاء في تعبيراته السابقة — هم الذين صلبوا السيد المسيح، ورماهم بالجهل وقلة الدراية بعقبى ما يصنعون؛ لأنهم ظنوا أنهم يخدمون مقاصدهم بتقديم المسيح إلى الصليب، وما كانوا يخدمون غير مقاصد الله منذ الأزل بما دبروه ورتبوه، فقال عن حكمة الإيمان وحكمة الشيطان: «إننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سر الحكمة المكتوبة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا، ولم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر؛ لأنهم لو عرفوها لما صلبوا رب المجد.»

فإذا كان الأئمة الأسبقون في صدر المسيحية يذكرون الشيطان بصفات لم ترد في الأناجيل ولا في كتب العهد القديم، فإنما يذكرونه بالصفات التي تكون له لا محالة بحكم طبيعته المميزة، أو بحكم دوره المعلوم، وهو الدور المقابل للخير والحق وصدق النية في كل عمل مضى، وكل عمل يتكشف عنه الغيب.

وينبغي أن تلاحظ النقلة الواسعة هنا في تطور الأخلاق والمقاييس بين أوائل العقائد العبرية وبين العقائد التي شاعت في القرن الأول للميلاد.

فقد كان الضرر والشر بمعنًى واحد في العقائد البدائية، وكان الروح الضار كالحيوان الضار في مقاييس الأخلاق أو مقاييس النعمة والبلاء، وكان من الجائز أن تستقل الحية بالضرر دون أن يلقنها الشيطان غواية آدم، فهي حيوان ضار يؤذي ويخيف، وكفى بذلك وصفًا للشرير في العقائد البدائية؛ فما زال الضرر والشر يتميزان ويختلفان في الميزان حتى وجب عقلًا أن يكون الشيطان وراء الحية في غواية آدم وحواء، وحتى وجد في عالم الضمير فارق واسع بين الخوف من لذعة الحية الماكرة ودسيسة الشهوة والعصيان.

•••

إلا أن المسيحيين الأوائل استرسلوا في حديث الحية؛ لأنهم وجدوا فيها أصلح صورة لتمثيل الشيطان للحس، وكان تمثيل الشيطان للحس يتتابع في «رؤى» النساك والمتنبئين مستقلًّا عن تمثيله للنفس في بحوث الفقهاء وعلماء اللاهوت. فإذا تكلم اللاهوتي عن الشيطان فإنما يستنبط أوصافه بالقياس إلى طبيعته وعمله كما تقدم، ولكن الناسك المتنبئ صاحب الرؤى والمشاهد الغيبية إنما ينقل رموزًا وجدانية قابلة للمشاهدة في الحس، كما هي قابلة للمشاهدة في الرؤيا.

وليس في الأشياء التقليدية ولا في تشبيهات الخيال أقرب من الحية القديمة، وإذا بولغ في تشويهها وتبشيعها وتعظيم ضررها فهي التنين الذي يضيف إليه الخيال من الأشياء والطبائع ما لم يتحقق في الحية المعهودة، فهو ذو رأسين، أو ذو أرجل وأجنحة، أو ذو لسان يندلع بالشرر ويقذف باللهب.

وقد ساعد على انتشار هذه الصورة للشيطان أنها كانت شائعة من أقصى الصين إلى أرض بابل وآسيا الصغرى، وأنها كانت شائعة كذلك في كتب العهد القديم، وصادفهم خطر التنين الأكبر، أو خطر الحية الشيطانية في مقر عبادتها بآسيا الصغرى، فكثرت في رسائل العهد القديم إشارات النساك إلى «برجاموم»، عاصمة هذه العبادة التي يظهر أنها كانت متوارثة هناك منذ زمن قديم، وتجددت دعوتها بعد قيام الدعوة المسيحية، على سبيل المقاومة ورد الفعل، مع غيرها من الدعوات التي كان أصحابها يتألبون عمدًا أو على غير عمد لمقاومة الدين الجديد.

ويمكن أن تعتبر رموز الرؤى مقدمة للصور الفنية التي اختارها المصورون والمثالون بعد انتشار المسيحية، وقيام هياكلها، واشتغال أصحاب الفنون برسومها ومبانيها، فهناك صور للشيطان على مثال التنين، وصور أخرى على مثال التنين في جميع أعضائه غير الرأس، فقد كانوا يجعلونه رأس إنسان ذي قرنين أو أذنين صاعدتين في مكان القرنين، وكلما تقدم اللاهوت في وصف طبيعة الشيطان غابت ملامح الحية والتنين، وخلفتها ملامح إنسان خبيث الطلعة يعمل الفن عمله في إيداعه دلائل الشر، التي تغني عن استعارة الشبه الشرير من مشابه الحيوان، ولكنهم ظلوا إلى زمن أخير يصورون الشيطان بظلف مشقوق، ويحتفظون في هذا الشبه بصورة «الساتير» اليوناني المتهالك على الشهوات ومعاقرة الخمور.

أما الصور اللاهوتية فقد أفاض الآباء الأولون في شروحها وفروضها، واجتهد كل منهم على حسب علمه واطلاعه في تطبيقها على الطبيعة المفروضة للشيطان، ويعتبر ترتوليان “Tertullian”، المتوفى سنة (٢٣٠م)، وأوريجين، المتوفى سنة (٢٥٤م)، أوفر الفقهاء المتقدمين مشاركة في وصف الطبيعة الشيطانية، وإسناد الأفعال والنيات التي تلائمها إلى الشيطان وأجناده على حسب درجاتهم في السيادة العالية.

وعند ترتوليان أن الشيطان الأكبر يرصد شيطانًا من جنوده لكل إنسان من بني آدم وحواء، وأن أدلة وجود الشياطين عامة متواترة في عقائد المهتدين والوثنيين المضللين، وكلهم يسلمون أن الشيطان يتعقب الإنسان ويتسلل إلى مخادع نفسه على غفلة منه أو بعلمه واختياره، ولكن المسيحي المؤمن بقدرة السيد المسيح، المستقيم على منهجه، يملك السلطان النافذ في هذه الشياطين، ويستطيع أن ينقذ منها فرائسها إذا صدقت نيتهم في طلب الخلاص منها، وليس المسيحي الذي يعجز عن قهر الشيطان خليقًا عنده بوصف الإيمان.

ولا شك أن «أوريجين» كان فقيه القرون الثلاثة الأولى غير مدافع، وكان له من العلم بحكمة عصره ما لم يكن لأحد من معاصريه، وكان إلى جانب ذلك مؤمنًا راسخ الإيمان، تقيًّا شديد التقوى، ولم يكن له مطمع في رئاسة كهنوتية أو غنيمة دنيوية، فقد جب نفسه ليتقي فتنة الشيطان وهو يعلم البنات والفتيات، ويعظ النساء في البيع والبيوت، وقد علم وهو يفعل ذلك أنه يحرم نفسه مناصب الكهنوت العليا التي تحرم على المجبوبين والمشوهين، فلم يستعظم هذا الحرمان حماية لسريرته من غواية الشيطان.

وهذا مع إسهامه في التفرقة بين دواعي الشر التي يوحي بها الشيطان وجنوده، ودواعي الشر التي ركبت في طبيعة الإنسان، وهي شهوات الطعام، ولذات الجسد، وفي مقدمتها اللذة الجنسية، ولعله في كل ما كتبه عن تسخير الشيطان لهذه الشهوات لم يثبت قدرته على الغواية كما أثبتها على ذلك النحو الرهيب.

ولم يجد أوريجين مشقة في إسناد الشر والخطيئة إلى سيادة هذا العالم، فإنه عاش في زمن قد اجتمعت مذاهبه على تحقير المادة، واعتبارها جرثومة النقص والكثافة والفساد، وَعَمَّ فيه القول بين النساك والزاهدين بأن طلب السيادة هو المحنة التي أسقطت إبليس وجنوده، وأن «التواضع» هو شعار ملكوت السماء، وهو آية المسيح المخلص الذي يزهد في المواكب، ويأتي كما أتى من قبل على حمار ابن أتان، غير أن أوريجين كان يمزج اللاهوت بمعارفه الفلسفية، ويقرر طبيعة الشيطان وفقًا لما تمليه عليه الفلسفة والدين. ورأيه في تكوين الشيطان أنه ذو جسد يلائم مقامه في الهواء الكثيف المحيط بالأرض، ويتطلب الغذاء من الدواخين والأبخرة والدم الخالص مجردًا من اللحوم والعظام، ولهذا يحاول أن يفسد القرابين الإلهية، ويختلس أبخرتها ودماءها ليتحول بها عن مقصدها.

ويفرق أوريجين بين الملك الساقط والشيطان الرجيم، ويوافق بعض الذين سبقوه فزعموا أن الطبيعتين تلتقيان في ذرية الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض، فعشقوا بنات الناس وقالوا: إنهن حسنات، ولم يقصدوا العصيان بل وقعوا فيه وهم لا يعرفون عقباه.

وللشيطان سبيلان إلى غواية الإنسان في رأي الفقيه الفيلسوف: أحدهما أن يوسوس له من حيث لا يراه؛ لأن طبيعة جسده كما تقدم من طبيعة الهواء، فهو يجري من سريرة الإنسان مجرى النفس الذي لا تراه العينان، والسبيل الآخر أن يستولي عليه ويتخبطه على هواه، ويبتليه بالأمراض والعاهات، وقد يسلط الأوبئة والطواعين على المدن والأقطار الواسعة ليذودها عن رحمة الله، وله جنود في كل مدينة وكل قطر، وبين كل معشر يعبدون الأوثان أو يعبدون ربًّا من الأرباب غير الإله الواحد الذي يدين به أتباع السيد المسيح، فما كانت هذه الأرباب والأوثان إلا شياطين من جنود إبليس تنتزع أبناء آدم وحواء من سلطان السماء، وتموه عليهم العقيدة الصالحة بما يشبهها من الشعائر المسيحية؛ ليختلط عليهم الحق والباطل، وطريق الهدى وطريق الضلال.

وكان من عقائد أوريجين أن التمييز بين الخير والشر فطرة في كل موجود عاقل يدرك ويختار، ولا استثناء في ذلك للشياطين عامة، ولا لرئيسهم الأكبر إبليس، فهم لم يخلقوا منحرفين مضللين، ولكنهم انحرفوا وضلوا بما داخلهم من الكبرياء والتمرد والحسد، فغلبتهم الشقوة، وَعَزَّ عليهم أن يستمعوا لنداء الخير والمحبة والسلام، فأقبلوا على الشر وأمامهم سبيل الصلاح يمضون فيه لو سلست له قيادتهم، ورفعوا عن أعينهم تلك الغشاوة التي وضعوها عليها بأيديهم، ولا بد لهذا الضلال من نهاية بعد زوال المحنة وانقضاء التجربة التي يُبتلى بها العالم آخر الزمان.

ولما أراد أوريجين أن يقدر للشيطان مصيره في نهاية العالم لم يتبع أقوال المتنبئين وأصحاب الرؤى، بل اتبع النصوص القديمة وفسرها على هدي الحكمة الحديثة في عصره، ولم تكن في عصره حكمة أحب إليه من الحكمة الرواقية التي تلقاها اليونان قديمًا من الهند، وبثوا فيها من عقائد فيلسوفهم فيثاغوراس قبسًا يقربها إلى العلم وأدب السلوك.

فقد وجد «أوريجين» في عصره قصصًا دينيًّا مستفيضًا عن وقائع الشيطان مع الملائكة، ومصيره بعد الهزيمة الحاسمة في آخر الزمان، وفي هذه القصص ملاحم الحرب بين ميخائيل رئيس الملائكة وإبليس رئيس الشياطين، وأطوار القتال الذي يدور سجالًا بين الفريقين، ويؤسر فيه بعض الشياطين فيحبسون في باطن الأرض، أو يقيدون بالأغلال حتى الموعد الأخير.

وتروي هذه القصص أخبارًا عن الشياطين والملائكة المطرودين الذين لا يستطيعون الصعود إلى السماء، أو الذين يصعدون إليها فيرتدون عنها خوفًا من الرجوم الإلهية، فمقامهم بعد ذلك عند السماء الثانية أو في مغاور الأرض، يتحصنون بها من هجمات الملائكة الصالحين والقديسين المقربين، ثم تنشب الملحمة الأخيرة قبل القيامة وبعد ظهور المسيح الأول بألف سنة، فيذهب أهل النار إلى النار، ويرتفع أهل النعيم إلى النعيم.

أما «أوريجين» فنهاية العالم عنده هي نهاية الدورة الكونية التي اعتقدها الهنود من قبل، ثم اعتقدها الرواقيون بعدهم، وفرضوا لها آدابًا من آداب السلوك تكفل لِمَنْ يسلكها أن ينجو من الكارثة الكونية مطهرًا من شوائب الحياة الأرضية، فيخلص إلى الوجود الحق في آفاق عليين.

وستنتهي الدورة الكونية وتتطهر الخلائق بالنار الأبدية، ويبطل الفناء، ويموت الموت، فلا خطيئة ولا عقاب في عالم لا موت فيه، ويتعذر — طبعًا وعقلًا — أن يبقى الشيطان على شره بعد زوال معدنه، وخلاص العالم من الموت الذي ابتلاهم به من طريق الخطيئة، ومن الجائز ألا يتم الخلاص والتطهير على درجة واحدة، بل يأتي تباعًا على درجات مترقيات، ولكنه لا يكون متى أتى إلا كما ينبغي أن يكون بلا موت ولا خطيئة ولا عقاب.

ونكتفي بما لخصناه من شروح أوريجين وفروضه في التعريف بالشيطان، أو التعريف «بالشيطانيات» على الأصح؛ لأنه قد جعل هذا التعريف بابًا من أبواب الدراسة اشتهر في الأزمنة الأخيرة باسم «الديمنولوجي» أي علم الشيطانيات، ولكننا لا ننتقل منه إلى ما بعده دون أن نلاحظ على هذه التعريفات ملاحظة جديرة بالتوقف لديها فيما روى عن القرن الثالث للميلاد على التخصيص، ففي ذلك العهد المريب لم تكن في العالم عقيدة غير المسيحية توحي إلى المؤمن بها مثل هذه الثقة بالأمور المغيبة في أدق الجزئيات.

وذلك هو سر قوتها وارتياح النفوس إليها بين ظلمات الحيرة والريبة التي رانت على المذاهب جميعًا، وتركتها لمعتقديها أشبه شيء بالسلوى التي يرجى بها الفراغ، ولا تمضي مع الجد خطوة إلا عادت إلى اللعب خطوات، وقد كان أشبه المذاهب بالجد في ذلك العصر مذهب المعرفيين “Gnostics” الذي كان في حقيقته عنوانًا لكل مذهب يرد على الخاطر في تلك الآونة؛ إذ كانت المعرفة ألوانًا، وكانت ألوان الوسائل التي تطلب بها لا تقل عن ألوانها.

ومنها — فيما نحن بصدده من حديث الشيطان — معرفة الخبرة باللذات والرذائل المحرمة؛ لأن الجهل بها يسلب طلاب المعرفة حظًّا يتاح للجاهل ولا ينبغي لهم أن يتجنبوه، وقد أباحت طائفة من هؤلاء المعرفيين عبادة الشيطان مع أصحاب النحل التي كانت تعبده وتتقرب إليه باستباحة الرذائل والأرجاس، وتسميها المعرفة بالنور من طريق المعرفة بالظلام، ولم تنقض فترة طويلة على هذه النحل المتفرقة حتى تجمعت منها نِحلة كبيرة أوشكت أن تعم القارة الأوروبية، من أقصاها شرقًا إلى أقصاها غربًا في القرون الوسطى، وبقيت منها — كما تقدم — بقية إلى أوائل القرن العشرين.

ولا يتوقف تاريخ اللاهوت بعد أوريجين على أسماء أكبر من أسماء القديس أوغسطين، والقديس توما الأكويني، ومارتن لوثر رافع علم الثورة الذي سمَّى هو نفسه شيطانًا، وسمى الحبر الأعظم في زمانه بالشيطان.

•••

عاش القديس أوغسطين بين أواسط القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للميلاد (٣٥٤–٤٣٠)، وأحاط بما تقدمه من الشروح والفروض في موضوع الشيطانيات، وذهب في علة سقوط الشيطان مذهبًا كمذهب أوريجين، فقال إنه خلق للخير، ولكنه أشقى نفسه بحسده وكبريائه، فأنزله الله من سماء الأثير الصافي إلى هواء الأرض الكثيف، ولا يمتنع عند أوغسطين أن يكون هذا الجسد ملائمًا للتناسل من الأجساد البشرية؛ لأن الحديث عن علاقة الشياطين بالنساء الآدميات متفق عليه بين الوثنيين عباد الشياطين، وبين المؤمنين الذين يلعنونها ويؤمنون بوجودها.

واطلع أوغسطين على أطراف من الفلسفة اليونانية كما اطلع عليها أوريجين، فلم يستبعد أن يكون جسد الشيطان أرفع من جسد الإنسان، كما زعم الفيلسوف الأفلاطوني أبوليوس “Apuleius”، الذي كان له بعض الحظوة بين المثقفين من رجال الدين، ولكنه أبى أن يقول إن امتياز الشيطان بالجسد يرفعه رتبة على الإنسان، فإن الحيوان ليمتاز على الإنسان بالحس، كما يمتاز النسر بالنظر، والكلب بالشم، والطير بالخفة، ولا يقال إنها أرفع منه رتبة لرجحانها عليه في هذه الحواس. وقد يخف جسم الشيطان عن الجسم البشري، ولكنه يصلى بجسمه نار العذاب كما جاء في وعيد السيد المسيح.

وأوغسطين هو صاحب الكتاب المشهور عن «مدينة الله» أو عن ملكوت الله، وتقابله مملكة العالم التي قد يسيطر عليها الشيطان عنوة أو بالكيد والخديعة، وفي وسعه أن يتسلل إلى الأرواح من مسكنه في طبقات الهواء، أو يترصد لها وهي صاعدة إلى الملأ الأعلى؛ فإنها في معراجها لا تني تعبر بالشياطين الملعونين والملائكة الأبرار، فإذا كانت في حياتها قد غلبت سيادة الشر بقمع الشهوات، والزهد في المطامع، فلا سلطان للشيطان عليها في معراجها إلى عليين، وإذا خرجت من الدنيا وفيها شائبة من غواية الشيطان عالقة بها، فتلك هي العلاقة التي يقنصها منها الشيطان! ويعوقها بها من الصعود، ويهبط بها إلى هوائه أو هاويته حيث يشاء.

ويرى أوغسطين كمن تقدمون وأتوا بعده أن الشيطان عليم بالسحر، قادر على نشر الأوبئة والمداواة منها، وأن الأوثان المعبودة شياطين لها هذا العلم، وهذه القدرة، وفي وسعها أن ترضي عبادها بقضاء المطامع، وترهبهم بالخوف والمرض، ولكنها قدرة محدودة تقصر عن عزيمة الإيمان إذا صدقت نية المؤمن عليها، ولم يترك المؤمنون سدًى في حربهم معها؛ لأنهم معانون عليها بكفارة السيد المسيح.

وأعظم الأعلام في اللاهوت المسيحي بعد أوغسطين فيلسوف القرون الوسطى توما الأكويني (١٢٢٧–١٢٧٤)، الذي فلسف العقائد المسيحية على مثال لم يسبق إليه ولم يلحقه أحد بعده، ومحور فلسفته حرية الإرادة التي يملكها كل مخلوق عاقل، وأولهم الشيطان؛ لأنه كان في المنزلة العليا بين المخلوقات العلوية، وكان امتحانه من ثم أعسر من امتحان سواه، وكانت قدرته كذلك على الثبات والنجاة أعظم من قدرة الآخرين، فأذهلته العظمة عن كل شيء غير نفسه، وطمح إلى مساواة الله في عظمته، ومشاركته في وحدانيته، وتبعه ممن هم على غراره، فهوى من عليائه، وهوى معه تابعوه.

ويسمي الفيلسوف هؤلاء الشياطين جميعًا بالكائنات العقلية أو الكائنات الذهنية؛ تمييزًا لها عن الكائنات الحيوانية المولدة من التراب، ويقول إنها مسلطة على عقول البشر لاستدراجها واستخراج غاية ما انطوت عليه من الصدق والمناعة، وقد يحدث ذلك بإذن الله وقضائه، وقد تكون ذرائعه الكبرى مستقرة في غرائز الإنسان، ويكون الإنسان فيها عدوًّا لنفسه إذا غلب عليه هواه قبل أن يغلبه وسواس الشيطان.

ويجاري الفيلسوف مَنْ تقدموه في الاعتراف للشيطان بالقدرة على العجائب والأفانين التي تشبه المعجزات، ولكنه يحد هذه القدرة حد العالم الفيلسوف الذي يرفض عقله التسليم بالعبث في نظام الطبيعة، فلا خوارق على التحقيق في طاقة الشيطان، ولا تعقل الخوارق إلا من عمل الإله الذي وضع للعالم نظامه وأجراه عليه، وإنما يستطيع الشيطان إثارة المادة بعناصرها، فيدمر بها من تراد له الفتنة، ولا يتعدى هذه العوارض إلى تبديل جوهر المادة، أو تبديل جوهر الروح، وكل ما يصنعه الشيطان مما يلتبس على الناس بالمعجزات، فإنما هو خداع لحس الإنسان حتى يرى الأشياء على غير صورها، أو تبديل لأشكال تلك الأشياء لا ينفذ إلى الصميم.

ولعل القديس توما الأكويني قد قال كلمة اللاهوت الأخيرة في هذا الموضع، فلم يحدث بعده رأي غير هذا الرأي في تصوير الشيطان، أو تصوير قدرته على بني الإنسان.

•••

ويأتي أكبر الأعلام بعده في اللاهوت المسيحي على اتجاه غير هذا الاتجاه، ولكنه لا يغير شيئًا من وصف الشيطان كما يغير الشيء الكثير من وصف الذين استهواهم الشيطان في رأيه بين رجال الدين ورجال الدنيا.

جاء مارتن لوثر في أواخر القرن الخامس عشر، وعاش إلى ما بعد منتصف القرن السادس عشر (١٤٨٣–١٥٤٦)، ولم يتغير بين عصر الأكويني وعصره معتقد واحد من المعتقدات التي كانت شائعة عن الطبيعة الشيطانية.

فكان لوثر يؤمن بوجود السحرة ومبايعتهم سرًّا أو علانية لأرواح الشر وزمرة الشيطان، وكان يؤمن بقدرتهم على تسخير الأوبئة والآفات، واستحقاق السحرة قضاء الموت الأبدي إذا ثبتت عليهم ممالأة الشياطين على المؤمنين الأبرياء. وتمتلئ أحاديث المائدة التي نقلت عنه بما كان يرويه لجلسائه من قصص الشياطين السحرة في زمانه وقبل زمانه، ومنها أن رجلًا من المؤمنين بصق على الشيطان فلاذ بالفرار، وأن رجلًا آخر لقيه فكسر له قرنًا من قرونه، وحاول ذلك رجل آخر دونه في الإيمان فبطش به الشيطان، ونصيحة لوثر للمؤمنين أن الشيطان سخرية فأضحكوا منه ولا تهابوه!

ومما تحدَّث به في مجالسه قصة عن الإمبراطور فردريك الذي كان يصادق علماء الغرب، ويطلع على علومهم، ويُتَّهم بالزيغ والكفر لاشتغاله بالمحرمات من العلوم والصناعات، وخلاصة هذه القصة أن الإمبراطور دعا إلى مائدته ساحرًا مشهورًا، وأراد أن يناجزه في القدرة، فجعل له في يديه مخالب كمخالب الرخاخ الأسطورية ذات الأجنحة والقوائم والأنياب، فخجل الساحر ولم يمد يديه إلى الطعام … وإنهم لعلى المائدة إذا بصيحة من الطريق تزعج الإمبراطور، فينهض إلى النافذة ليطل عليها، فيغنم الساحر فرصته السانحة ويجعل للإمبراطور قرونًا على رأسه كقرون الأيائل، فلا يستطيع أن يرتد برأسه عن النافذة وعليه تلك القرون …

وعلى جدار من جدران قلعة «وارتبرج» مداد سائح بقيت آثاره، وعلم الزوار مما يرويه حراس القلعة، نقلًا عن المعاصرين، أنه من مداد الدواة التي ألقاها لوثر على الشيطان، حين تراءى له ليصده عن دعوته، ويكفه عن هجماته على أحبار زمانه، ولم يبرح لوثر طوال أيامه إلى آخر حياته ينادي بأنه في حرب مع الشياطين، ويحسب القائمين بالسلطان في الأرض باسم الدين نورًا على ملكوت السماء.

•••

ثم انقضت القرون الوسطى وتقدمت النهضة العلمية، فاصطدمت في كل وجهة تتجه إليها بالكلام في «الشيطانيات» أو علم «الديمنولوجي» كما عرف في الزمن الأخير.

كانت النهضة العلمية تصطدم بهذا البحث خاصة؛ لأنه كان يدور على السحر والسحرة ومخالفة «المعرفة الدنيوية» للشياطين أعداء الله وأعداء الدين، وكانت مجالس التفتيش تعمل عملها في مطاردة السحرة أو المتهمين بالسحر؛ لأنهم ينظرون في الكتب التي لا يقرها اللاهوتيون.

وانقسم الباحثون في «الديمنولوجي» قسمين متنازعين: قسم اللاهوتيين، وهمهم الأكبر أن يُوفِّقوا بين النصوص الكتابية ومعارف الزمن الحديث، وقسم العلماء التجريبيين، وهمهم الأكبر أن يدفعوا عن أنفسهم تهمة التحالف مع الشيطان، ويشككوا في وجود الشيطان أو يجزموا بإنكاره؛ لأنه لا يظهر لهم عيانًا، ولا يظهر لهم بالتجربة والبرهان.

غير أن اللغة التي تداولها الناس من قبل القرون الوسطى قد تلقت من «الديمنولوجي» تعبيرات مفهومة غير ملتبسة على أحد يتكلم بها أو يسمعها، وجرت هذه التعبيرات على ألسنة المتدينين كما جرت على ألسنة المنكرين أو المتشككين في العقائد الدينية، فلما كان لوثر يقول — مثلًا — عن الربا وبيوت التجارة والمصارفة في القرون الوسطى إنها «مخترعات» شيطانية، وإن الشيطان هو الذي يدير تلك البيوت لحسابه، لم يكن أحد يحمل كلامه على المجاز، أو يشك في قصده إلى شيطان غير شيطان النصوص الدينية الذي يجوز أن يبدو للعيان، أو يعمل مع أصحاب تلك البيوت في الخفاء، ولكن المتدينين وغير المتدينين شهدوا بعد ذلك قيام الصناعة الكبرى وأجهزة البخار الضخمة، فوسموها «بالشيطانية»، ونعتوها بالصناعة السوداء أو بصناعة الظلام، وهم يأخذون من هذه الكلمات معناها الذي لا يختلفون فيه، ويفهمون منها أن تلك الصناعة خلو من الرحمة والعطف، مظلمة من ظلام الفحم والدخان، أو ظلام الغشم والقسوة، سواء نسبوها إلى الشيطان، أو جعلوا الشيطان علمًا مفهومًا على كل هذه المساوئ والنعوت.

ويغلب على الظن أن سهولة التعبير المجازي على هذا النحو سولت لأناس في القرن التاسع عشر أن يقحموا فوارق اللون والعنصر في أحاديث «الديمنولوجي»، وأن يزعموا كما زعم الدكتور كارترايت أن الشيطان لم يتكلم في الجنة بلسان الحية، بل كان كلامه بلسان زنجي أسود على مثال الشيطان الذي كان يصبغ بالسواد في صور القرون الوسطى، وكأنما أراد كارترايت أن يترقى بالفكرة درجة فوق الدرجة التي وصل إليها الأسقف آدم كلارك في تعليقاته على سفر التكوين «سنة ١٨٢٥»، فجعل الحية زنجيًّا بعد أن كانت في رأي كلارك قردًا من فصيلة الأورانج أو تانج … وفي هذه الآونة — أو حواليها — كان الرحالون يسيحون في أمريكا الجنوبية فيسمعون من أهلها البيض أن الزنجي هو البهيمة الكبرى التي ذكرت في كتاب الرؤيا الإبكريفية،٤ ويتشكك الكثيرون منهم في نسبته إلى حام؛ لأنهم لا ينسبونه إلى فصائل الآدميين!

•••

يعود نقاد الاجتماع المحدثون إلى عقيدة الخطيئة وزلة آدم في الفردوس، وهبوطه مغضوبًا عليه إلى الأرض، فيحاولون تفسيرها بأحوال الطبقات واختلاف هذه الأحوال بين عصر النبلاء وعصر أبناء الطبقة الوسطى، ومن هؤلاء النقاد جون فلكسنر “Flexner” الأمريكي، الذي يقول في فصل كتبه عن الملك الفنان: «إن عقيدة القرون الوسطى أن الإنسان سيئ بطبيعته من أثر الخطيئة المتأصلة فيه قد وافقت الميول الأرستقراطية؛ لأنها سوغت كبح الفرد والحد من حريته، بيد أن الطبقة الوسطى المناهضة باجتهادها لتستقبل الفرص السانحة لها أصرت على براءة الإنسان، وأنه قد ولد ملكًا وأفسدته النظم التي فرضها عليه الملوك.»

وليس في المقارنة بين العقائد والأحوال الاجتماعية ما يرجح هذا التفسير أقل ترجيح؛ لأن عقيدة سقوط آدم تشمل الإنسان الحاكم وتشمل الإنسان المحكوم، وقد اقترنت بها عقيدة ملازمة لها أشد قسوة على الحاكمين من كل عقيدة شاعت في العصور الحديثة، وتلك هي عقيدة السيادة الشيطانية على الأرض، وأن سادة هذا العالم شياطين أو حلفاء للشياطين.

ولم تقرر المسيحية دعوة كما قررت هذه الدعوة التي تفرق بها كل التفرقة بين مملكة العالم وملكوت السماء أو ملكوت الله. تكاد المسيحية كلها أن تكون مجموعة في هذه الدعوة قبل غيرها من دعواتها الأصيلة، فقد كان حتمًا لزامًا أن تجتهد المسيحية اجتهادها كله في التفرقة الكاملة بين مملكة الأرض وملكوت الله الذي بشر به السيد المسيح، كان ذلك حتمًا لزامًا؛ لأنها نقلت رسالة المسيح المخلص من إقامة العروش على الأرض — أو تجديد ملك داود — إلى إقامة الملكوت الإلهي في السماء.

وكان ذلك حتمًا لزامًا؛ لأنها جاءت بالعزاء للمحرومين من سيادة الأرض والمبتلين بطغيان سادتها، فهم في حمى الله صاحب الملكوت الأعلى؛ إذ يكون أصحاب السيادة والطغيان في حمى الشيطان وفي هاوية الأرض وما وراء من هاوية الجحيم: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون، طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله، طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون، طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات».

فرسالة المسيحية في جانب الإنسان المغلوب، وسيادة العالم هي ثمرة الخطيئة التي باء بها الغالبون، ولم يتسم الشيطان بوسم السيادة على العالم تعظيمًا له، بل تهوينًا من شأن العالم، وتحقيرًا لغنائمه ومطامعه وشهواته، ولم يكن أيسر على طالب الحرية الفردية في الحضارة الحديثة من أن يقول: إنه هدم سيادة الشيطان، وإنه غلب الخطيئة في معقلها وكفَّر عن جرائرها بالثورة على أصحاب السيادة الشيطانية.

وعلى هذا الفهم ينبغي أن تفهم رسالة المسيحية التي بشرت بملكوت الله، وجعلت هذه البشارة مقارنة للنعي على السيادة الشيطانية والإزراء بها، فكل تعظيم لسيادة الشيطان فهو في لبابه تهوين للعالم الذي يسوده، وتقديس للملكوت الإلهي الذي يرجوه المساكين والحزانى والودعاء والمطرودون من أجل البر وصانعو السلام.

أما رسالة المسيحية في تقرير طبيعة الشيطان نفسه، فهي تفرقة أخرى لا تقل في قوة مغزاها عن تلك التفرقة بين مملكة هذا العالم ومملكة السماء.

لقد كان الضرر والشر مترادفين في الديانة العبرية أو كالمترادفين، فالمسيحية هي التي فرقت بين الضرر الذي هو نقيض السلامة والأمان والمنفعة، وبين الشر الذي هو نقيض الخير والفضيلة والصلاح، فذلك ضرر مرتبط بالديانة، وهذا شر مرتبط بالمروءة والتقوى.

إن المسيحية هي التي فرقت بين مثال الضرر في الحية الحيوانية، ومثال الشر في الروح الخبيث الذي ينفث سمومه في القلب، ولا يضير الإنسان إلا حيث يضار حقًّا في أشرف خصال الإنسان.

•••

وكلمة عابرة تقال في ذيل هذا الفصل عن رسالة المسيحية التي جاءت بها للتعريف بمعاني الشيطان.

إن الكنيسة الرومانية إذا رفعت أحدًا إلى منزلة القديسين لم تفعل ذلك قبل التحقق من براءته من العيوب التي تنتفي معها القداسة، وتعهد في هذه الحالة إلى وكيل للخصومة عليم بكل ما يقال عنه لانتقاصه بالحق أو بالباطل.

ووكيل الخصومة هذا يسمى بالمحامي الشيطاني Diaboli Advocatus تشبيهًا لعمله بعمل الشيطان في إنكار فضائل أيوب أمام الله، وآية جديدة على عمل الشيطان في امتحان الخير، وأنه دور لازم في تقرير كل قداسة يخلقه الناس مختارين، ولا يصح من أجل هذا أن يقال: إنه وهم من اختراع الخيال.

الإسلام

دور الشيطان في الديانات الكتابية الثلاث مختلف.

واختلافه بينها جوهري يدخل في كيان كل ديانة منها، وترتبط به مقاييسها للخير والشر والتبعة والعقاب.

فهو في الديانة العبرية دور عامل مُستغنًى عنه لأنه شبيه بغيره.

وهو في الديانة المسيحية دور عامل فعال لا ينفصل من حكمة الوجود كله.

وهو في الديانة الإسلامية دور عامل فضولي مرذول يختلس ويروغ، ويخذل فريسته بالنية الخفية والعمل المكشوف.

على مسرح الخلق دور الشيطان في الديانة العبرية دور «النكرة» الذي ينوب عنه كل نكرة مثله؛ إذ ليس بين الشيطان والملك طريق مفترق ولا عمل منقسم، وليس بين الإله الذي يعبدونه والإله الذي يعبده سواهم خلاف في الرضى والغضب، ولا في النعمة والنقمة غير الخلاف بين النظراء في السلطان.

أما المسيحية فدوره فيها على مسرح الخليقة دور الشرير في قصة الخلق كله؛ إذ كان قوام الخليقة سجالًا بين الخطيئة والكفارة أو الغفران، فلولا غواية الشيطان لم يسقط آدم، ولولا سقوط آدم لم تكن به ولا بذريته حاجة إلى الخلاص من طريق الفداء.

وليس في الإسلام ذنب يرثه أحد من أبيه، أو يُورِّثه لبنيه، فغواية الشيطان لا تخلق الخطيئة ولا تعفي منها، وشوكة الشيطان لا تحمي أحدًا، ولا هو يسخرها لحماية أحد، وحدود التبعات واضحة حيث يعمل الشيطان وحيث لا يعمل، فهو لا يحمل عن شريك من شركائه تبعة وزر من أوزاره، ولا يداري حماقة الغافل الذي ينقاد إليه.

وفي القرآن الكريم يحمل آدم وحواء تبعة الخطيئة على عملهما بغواية الشيطان: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

وكلما ذكرت في القرآن الكريم غواية إبليس ذكر معها أنه ما كان له عليهم من سلطان: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.

ولذلك تقول الشياطين لمن يرجع إليها بذنبه: وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ.

ولا ينفع من ضل أن يعتذر من ضلالته بوسواس الشيطان؛ فإن الشيطان ينكره ويبرأ منه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.

وليس شياطين الجن بأقدر على الغواية من شياطين الإنس؛ فإن الشيطنة هي عداوة الحق حيث كانت: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.

بل ليس للشياطين من الجن علم الغيب ولا علم السحر، إلا أنه خداع للحس وفتنة للنفس تُخيِّل إلى المخدوع ما ليست له حقيقة قائمة في غير وهمه: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.

وفي سورة سبأ عن جنود الجن التي جهلت موت سليمان وهو قائم أمامهم: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ.

وإنما المسحور كالمخمور مخدوع الحواس: لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ. يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ. وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.

وقد ورد في القرآن ذكر الجن الذين يعملون للإنسان بإذن الله، ومنهم جنود سليمان: وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ.

وفيه ذكر الجن التي تؤمن بالدين وتصدق بالكتب، وذكر الجن التي تسترق السمع من السماء، وذكر الجن التي تقارن الإنس، وذكر الجن والعفريت الذي تُطوى له المسافة، وتنقاد له المصاعب، ولكنه لم يذكر لها في مجال التكليف عملًا قط يسقط عن الإنسان تبعته، أو يجعل لها سلطانًا عليه بغير مشيئته، ولا يستعاذ فيه من شر يأتي به الجن إلا وهو كذلك من الشرور البشرية، أو من الوسواس الخناس: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.

وعلى هذه الصفة تروى تبعات الخطيئة حيث رويت في قصة آدم وما بعدها من قصص الأولين.

وقد رويت قصة آدم في مواضع متفرقة من القرآن الكريم، ورويت توبته من عمله أو قوله في بعض هذه المواضع، وهي جميعًا مآل التكليف الذي يفرض على الإنسان؛ يُسأل عن خطيئته وإن وسوس له الشيطان، وتحسب له توبته وإن كانت بهداية الله.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

•••

وجاءت في سورة الحجر حيث يفاضل إبليس بين خلقته وخلقة آدم: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ.

•••

وقد تساءل المعقبون على قصة آدم من الشُّرَّاح الغربيين عن معنى الشجرة التي أكل منها آدم في الدين الإسلامي، وقال بعضهم: إن القرآن تركنا في حيرة من أمر هذه الشجرة، ما معناها؟ وماذا جناه آدم وحواء من جراء الاقتراب منها وأكل ثمراتها؟ وليس في الأمر ما يدعو إلى التساؤل ولا في الحيرة، لولا أن هؤلاء الشُّرَّاح وضعوها في أذهانهم معنًى معلومًا، وأرادوا أن يجدوه في القرآن فلم يجدوه كما أرادوه.

إذ لا يخفى على الناظر في القصة أن ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات «التكليف» بجميع لوازمه ونتائجه، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل منها إلا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة، والحياة «المكلفة» التي لا تخلو من المشقة والشقاق والامتحان بالفتنة ومعالجة النقائص والعيوب، كلما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة، ويبدو ذلك جليًّا من المقابلة بين ما تقدم وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف، وذاك حيث يذكر التصوير بعد الخلق، أو إعطاء الصورة بعد إعطاء الوجود، ثم تمضي القصة على ما يلي:

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.

ومن تمام التوكيد لحدود التكليف في هذه القصة أن خطاب آدم به لا يغني عن خطاب بنيه وأعقابه، فهو مكلف وهم مكلفون، وخطيئته لا تلزمهم وتوبته لا تغني عنهم، ومولدهم منه يخرجهم على سنة الأحياء المولودين حيث يحيون وحيث يكدحون ويموتون.

ويميل الشُّرَّاح الغربيون إلى النقد كلما وجدوا له ندحة في قصص القرآن ولا سيما هذه القصة، وآخر من وقفنا على نقد له من هذا القبيل «بابيني» الإيطالي صاحب كتاب الشيطان، فإنه يستغرب أن يؤمر إبليس بالسجود لآدم مع غلو القرآن في تحريم الشرك، وتنزيه الوحدانية الإلهية، ولكن المطلعين من الشُّرَّاح الغربيين على اللغة يفهمون معنى السجود هنا، ولا يخرجون به عن معنى التحية والإكبار، ومنهم من يفعل ذلك لأنه يريد أن يرجع بعقائد الإسلام إلى الأصول الإسرائيلية كما فعل توري “Torrey” في كتابه عن أسس الإسلام من التراث اليهودي. ولم يكن في التراث اليهودي ذكر لغير الحية في هذا المقام، وهو فارق شاسع تقوم عليه الفوارق الشاسعة جميعًا في التفرقة بين الضرر والشر، أو بين الشر الحيواني والشر الأخلاقي كما قدمنا.

•••

وقليل من النقاد الدينيين في الغرب من يفطن للخاصة الإسلامية الأخرى التي تتمثل في قصة آدم مع الملائكة والجان، فإن الغالب عليهم أن يتكلموا عن زلة آدم فيُسمُّوها «سقوطًا»، ويرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين، وليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الأرضية، فليس فيه شيء عن سقوط الإنسان، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، أو من عهد البراءة والدعة إلى عهد التكليف والكلفة، وليس فيه شيء عن سقوط الملائكة وانحدارهم من طبيعة عليا إلى طبيعة دونها من طبائع الشيطان، وقصة الملكين هاروت وماروت فاصل بين ما يعزى إلى الملك ويعزى إلى الشيطان من ضروب السحر المباح أو السحر الحرام: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ.

فالملك الذي يعرف السحر لا يخدع به أحدًا، ولا يُعلِّم مَن يريد أن يتعلَّم إلا أن يُطلِعه على حقيقته، وليس الخداع ولا الإضرار بالعلم من طبيعة الملك، بل من طبيعة الشيطان.

هذه القصة بعينها — قصة هاروت وماروت — يطول فيها الجدل بين اللاهوتيين الباحثين عن أصولها؛ لأن شراح التلمود من اليهود يعتسفون الأقوال والشواهد لردها إلى المصادر الإسرائيلية، وكثير من الشراح اليهود أنفسهم وغير اليهود ينفون العلاقة بينها وبين تلك المصادر، فمن الذين ردوها إلى المصادر الإسرائيلية من يرى أن الملكين هما أريوخ وماريوخ الموكلان بحراسة كتاب إدريس. ويستند صاحب كتاب أساطير اليهود إلى مراجع كثيرة لتصحيح هذا الخطأ وترجيح مصدرها الفارسي٥ … ويزعم جيجر “Geiger” أنهما الملكان شمهازي وعزازيل اللذان هبطا إلى الأرض في عهد نوح فتزوجا من بنات الناس، ووجدا أنهن «حسنات» كما جاء في سفر التكوين، ويعتمد جورج سيل مترجم القرآن على تحقيقات هايد “Hyde” في تصحيح هذا الخطأ، والرجوع بها إلى أصل بابلي، كما جاء في القصة القرآنية.

وكاد الخلاف على هذه القصة أن يعدل الخلاف على قصة آدم وتعليمه الأسماء ومخالفته أمر ربه بغواية الشيطان، وهي القصة التي يحسبها بعضهم من الأخبار التلمودية، ويقول إبشتين وحرنبوم: إن التلمود اقتبسها مباشرة من المراجع الإسلامية، وبطريق غير مباشر من المراجع المسيحية.

غير أن هذه المناقشات جميعًا يعتورها النقص الشامل لتحقيقات النصوصيين والحرفيين أجمعين، وهو الوقوف عند النص أو عند الحرف، وإغفال الجوهر الذي من أجله استحقت القصة أن تكون موضع اهتمام ومناقشة في مباحث المقارنة بين العقائد والديانات، فليست المسألة في هذه القصص مسألة أسماء ومواقع، ولكنها مسألة القيم الروحية التي ترتبط بها، وتتغير مع الزمن حسب تفسيراتها، ولو بقيت بنصها وحرفها في الروايات المتعاقبة.

وجوهر المسألة كله، في القصة التي نحن بصددها، أن القرآن الكريم لم يذكر قط شيئًا عن سقوط الخليقة من رتبة إلى رتبة دونها، ولم يذكر قط شيئًا عن سقوط الخطيئة الدائمة، وسقوط الخطيئة التي يدان فيها الإنسان بغير عمله؛ إذ العقيدتان كلتاهما غريبتان عن روح الدين الإسلامي كل الغرابة، ولا يعرف الإسلام إرادة معاندة في الكون لإرادة الله يكون من أثرها أن تنازعه الأرواح، وتشاركه في المشيئة، وتضع في الكون أصلًا من أصول الشر، وتسقط الخلائق التي ارتفعت سوية بمشيئة الخالق.

فقد جاء الإسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان فقرر في مسألة الخير والشر، والحساب والثواب أصح العقائد التي يدين بها ضمير الإنسان، وقوام ذلك عقيدتان؛ أولاهما: وحدة الإرادة الإلهية في الكون، والثانية: ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربه.

فليست الخطيئة في الإسلام أصلًا كونيًّا يعاند الإرادة الإلهية بإرادة مثلها، أو مقاسمة لها في أقطار الوجود العليا والسفلى، ولكنها اختلاس وخلل وتقصير، وله علاجه من عمل العامل نفسه بالتوبة والهداية، بالتكفير والجزاء، ولما كانت فضيلة آدم على الملائكة والجن أنه تعلم الأسماء التي لم يتعلموها، كانت هدايته إلى التوبة كذلك بكلمات من المعرفة الإلهية، ولم تكن بشيء غير عمله وقوله.

فإذا فهمت العقيدة الإسلامية على هذا الوجه؛ فهذه هي القيمة الروحية التي تجري المقارنة والموازنة عليها كائنًا ما كان القول في تشابه الأسماء والقصص، وتوافق المراجع والأسانيد. وما من دين قط خلا من الأسماء والقصص التي سبقته إليها الأديان المتقدمة عليه في تاريخ دعوتها، وليس أكثر من الأسماء البابلية والفارسية في كتب العهد القديم وكتب التلمود، وليس أكثر من هذه جميعًا في مسألة واحدة قبل كل مسألة يتناولها الإيمان، وتلك هي مسألة الخير والشر، والتبعة والجزاء، ولا خلاف — مع فهم هذه المسألة — على فضل الإسلام في هذه السبيل.

•••

إن الأديان الكتابية لم تتعاقب عبثًا، ولم تأت المقدمات فيها بغير نتائجها.

فالعبريون تلقوا ديانتهم وهم على حالهم من الوثنية، فلبثوا زمنًا يخلطون بين فواصل الخير والشر، وفواصل المنفعة والضرر، ولبثوا زمنًا أطول من ذلك يخلطون بين الوحدانية في الوجود كله، وبين الوحدانية التي تميزهم بإله لا يقبل المشاركة من الأرباب الأخرى، كأنهم شركاء المنافسة والمناظرة بغير حق وبغير قدرة.

ثم جاءت المسيحية ففصلت بين الخير والشر بفاصل كبير، وحققت معنى الخير الروحاني الذي ينفصل من معنى المنفعة والسلامة، وباعدت بين العالمين، وتركتهما من بعدها كأنهما دولتان تتقابلان، هذه في السماوات وهذه في الأرضين، وتكاد الأرضية منهما تبسط يدها إلى حوزة الأخرى، وتأخذ منها إلى حوزتها معقلًا يسترد ويستعاد، ولا يملك الإنسان فيه حيلة أمام الإله وأمام الشيطان، وإنما يجيء الذنب بعمل الشيطان، ويزول الذنب بعمل الإله.

ثم جاء الإسلام فبسط على الوجود كله وحدة لا مثنوية فيها على وجه من الوجوه، ومنح الإرادة الإنسانية حقها وتبعتها، وجعلها ظالمة لنفسها إذا سمحت للشيطان أن يظلمها، فإنما هو خداع وضعف، وإنما هما طريقان بينان لا يخدع عنهما سوى المأخوذ أو المسحور، إلا أن يؤثر الضلالة على الهدى، ويصر على ضلالته بين دواعي التوبة والندم.

فهذه الديانات لم تتعاقب عبثًا، ولم يكن لها في أطوارها سبيل أقوم من هذا السبيل ولو نظرنا إليها فرضًا وتقديرًا، ولم ننظر إلى وقائع التاريخ.

•••

وكان ما تقدم إنما يتبين لنا من العقائد الإسلامية كما نتلقاها من القرآن الكريم، وقد أحسن فهمه مفسرون وأساء فهمه مفسرون، ولعله لا ينصف العقائد الإسلامية شيء كما ينصفها في هذا المقام أن نرجع إلى المسيئين فنراهم جميعًا قد أساءوا فهم كتابهم؛ لأنهم فسروه بالإسرائيليات والتلموديات، وحسبوها سندًا محققًا عند أصحابها الأولين، وما كانت عندهم غير أحاديث يتلقفونها ممن تقدمهم؛ لأنهم لم يفهموا كتبهم فالتمسوا فهمها بمعونة من تلك الأحاديث.

وليس من عملنا هنا أن نستقصي أقوال المفسرين في شئون الغيب، ولكننا نلخصها إجمالًا فيما نحن بصدده من طبيعة الشيطان، وطبيعة الخلائق العلوية كالملائكة والأرواح، فأضعف الأقوال أن الملائكة والجن تشملهم كلمة «الاجتنان» لمعناها اللغوي الذي يفيد معنى الخفاء، وأرجحها القول الذي أخذ به الفيلسوف الرازي في تفسيره حيث يقول: «لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب ألا يكون من الملائكة؛ لقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ. وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملائكة.»

ولا حاجة بنا إلى إسهاب أو إيجاز في نقل أحاديثهم عن الجن وأسمائها وأجسامها، ومن يأكل منها، وما يأكله أو لا يأكله، فهو على لغوه وخطله ليس له مساس بما نعنيه في هذا السياق.

١  أهم المراجع التي اعتمدنا عليها في هذه الأسطر كتاب «الشيطان صورة» لمؤلفه إدوارد لانجتون Edward Langton.
٢  تراجع في كل هذه العقائد مجلدات الأساطير اليهودية جمع جنجبرج. “The Legends of the Jews” by Gingburg.
٣  الإصحاح الرابع من إنجيل لوقا.
٤  كتاب «الكبرياء العنصري» تأليف دنيجوال “Racial Pride” by Dingwal.
٥  صفحة ١٦٠ من الجزء الخامس من مجموعة جنزبرج Ginsberg.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤