الفصل الخامس

الشيطان والفنون

قال أبو العلاء:

وقد كان أرباب الفصاحة كلما
رأوا حسنًا عدوه من صنعة الجن

وربما كان أبو العلاء يخص العرب دون غيرهم بهذا القول، ولكنه في الواقع قول يعم جميع الأقوام، ويعم جميع أنواع الإحسان في الكلام وفي غير الكلام.

فالعبقرية عند الأوروبيين منسوبة إلى الجن، ومعنى العبقري عندهم أنه صاحب الجِنَّة، أو الشبه بالجِنَّة في القدرة والتفوق، كائنًا ما كان العمل الذي يتفوق فيه، وكلمة «جينياس» “Ginius” تطلق على كل صاحب قريحة خارقة للمألوف في الابتكار والابتداع، سواء كان ابتداعها في الشعر والنثر، أو في التصوير والنحت، أو في الإنشاء والتلحين، أو في العلم أو الصناعة، أو تدبير المال وسياسة الشعوب.

والعبقرية في التعبير العربي الحديث مأخوذة من كلمة عبقر، موضع يقولون إن الجن تسكنه، وإن الصناعات الفائقة كلها تنسب إليه، ومنها صناعة السيوف كما قال امرؤ القيس:

كأن صليل المرو حين تطيره
صليل سيوف ينتقدن بعبقرا

ويقولون إن سكانه أنفسهم موصوفون بالجمال كما قال الأعشى: «كهولًا وشبانًا كجنة عبقر.»

ويرد بعضهم أن الكلمة مأخوذة من الكلمة الفارسية «آبكار» بمعنى الرونق، وهو بعيد؛ لأن اقتباس كلمة الرونق لا يفسر القصص المنسوجة حول البلد المسمى بعبقر، ولا يوجد في الأصل الفارسي ما يوحي بهذه القصة، أو يوحي بأسباب اقتباس الكلمة على حسب العرف المأثور في هذه المقتبسات.

وتذكر كلمة «عبقري» وصفًا للنفاسة بغير نظر إلى اشتقاقها من المكان المزعوم، كما جاء في سورة الرحمن من القرآن الكريم: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ.

•••

ومن التعبيرات المتشابهة بين اللغات وصف الإبداع بالإعجاز، ووصف الإعجاز تارة بالدقة التي تخفى أسرارها على غير ذوي الفطنة، وتارة بالفخامة التي تتعاظم العاملين من غير ذوي العزم والقدرة الخارقة.

يقال ذلك في البلاغة ومعانيها الخفية وفطنتها النافذة إلى الخبايا والأعماق.

ويقال ذلك في المساعي الكبار التي يضطلع بها المردة الجبارون، ولا يقوى على هذا الاضطلاع بها مَن دونهم مِن ذوي الأجسام المحسوسة.

وحيث تسري الخواطر إلى تصور الخفاء والدقة والقدرة الخارقة لا جرم تنتهي بمسراها إلى العوالم الخفية التي لا تُرى بالعيون، ولا تحدُّ قدرتها بما يحدُّ الأيدي والأقدام من أجسام بني آدم وحواء.

ولهذا الاستطراد الطبيعي في تتابع الخواطر توافقت بداهة البشر على علاقة البلاغة بالجن، بل على علاقة كل «بالغ» من الأقوال والأعمال بتلك الخلائق المستترة التي لا تحدها نقائص اللحم والدم؛ لأنها متلبسة في الأذهان بخلقة النار والريح ومادة «الجو اللطيف» مما لا يُحصر ولا يُحال بينه وبين مسعاه.

والعرب تزعم أن شعراءها تستوحي الجن، وأن كل شاعر منهم يستعين بشيطان يصاحبه ويعرفه باسمه، فهبيد اسم شيطان عبيد، ومسحل اسم شيطان الأعشى، وجهنام اسم شيطان عمرو بن قطن، وسنقناق اسم شيطان بشار. ويزعم الفرزدق أن الشعر منقسم بين شيطانين؛ أحدهما يسمى الهوجل، وهو موكل بالجيد من الشعر، والآخر يسمى الهوبر، وهو موكل برديئه وسقطه. وأنشده رجل من تميم بيتًا يقول فيه:

ومنهم عمر المحمود نائله
كأنما رأسه طين الخواتيم

فضحك وقال: «إنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت، فكان معك الهوجل في أوله فأجدت، وخالطت الهوبر في آخره فأفسدت.»

وكان أبو النجم الرجاز يفخر على الشعراء ويقول: إن شياطينهم جميعًا إناث ما خلا شيطانه، فهو شيطان ذكر:

إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

وكأنه نظر في ذلك إلى فحولة الكلام مما اشتهر به الرجز، ولم يشتهر به الشعر في زمانه.

ويكون مع الشيطان تابع أو «رئي» كأنه الراوية الذي يحفظ ما يلقيه الشيطان القائل عفو الخاطر.

وفي كتاب «آكام المرجان في أحكام الجان» نَظْمٌ كَثيرٌ منسوب إلى الجن بغير واسطة الأنس، أو مشترك بين قائلين؛ أحدهما من هؤلاء، والآخر من هؤلاء، ومن هذا الشعر المشترك قال بعد عنعنة طويلة: «خرجت مع نفر من قريش نريد الشام، فنزلنا بواد يقال له وادي عوف، فعرسنا به، فاستيقظت في بعض الليل فإذا أنا بقائل يقول:

ألا هلك النساك غيث بني فهر
وذو الباع والمجد التليد وذو الفخر

فقلت في نفسي: والله لأجيبنه، فقلت:

ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر
من المرء تنعاه لنا من بني فهر

فقال:

نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى
وذا الحسب القدموس والمنصب القهر

فقلت:

لعمري لقد نوهت بالسيد الذي
له الفضل معروفًا على ولد النضر

فقال:

مررت بنسوان يخمشن أوْجُهًا
صباحًا عليه بين زمزم والحجر

فقلت:

متى؟ إن عهدي فيه منذ عروبة
وتسعة أيام لغرة ذا الشهر

فقال:

ثوى منذ أيام ثلاث كوامل
مع الليل أخرى الليل أو وضح الفجر

فاستيقظت الرفقة فقالوا: مَن تخاطب؟ فقلت: هذا هاتف ينعى ابن جدعان، فقالوا: والله لو بقي أحد بشرف أو عزة أو كثرة مال لبقي عبد الله بن جدعان، فقال ذلك الهاتف:

أرى الأيام لا تبقي عزيزًا
لعزته ولا تبقي ذليلا

فقلت:

ولا تبقي من الثقلين ثقلًا
ولا تبقي الحزون ولا السهولا»

وكأنما نظر صاحب هذه القصة إلى قول حسان بن ثابت في المساجلة الشعرية حيث يقول عن صاحبه الجني:

ولي صاحب من بني الشيصبا
ن فطورًا أقول وطورًا هوه

وقد روى صاحب «آكام المرجان» أبياتًا كثيرة من نظم الجن في رثاء عظماء الصحابة وآل النبي، منها ما نسب إلى الجن منفردين به، ومنها ما اشترك فيه قائلان كالأبيات التي رويت في رثاء ابن جدعان.

وكانوا يقولون عن توارد الخواطر بين الشاعرين: إنهما يأخذان من شيطان واحد، فذكر صاحب مواسم الأدب أن الفرزدق وجريرًا ركبا ناقة إلى الرصافة لاستمناح هشام بن عبد الملك، فنزل جرير في بعض الطريق فتلفتت نحوه الناقة، فأنشد الفرزدق:

علام تلفتين وأنت تحتي
وخير الناس كلهم أمامي
متى تردي الرصافة تستريحي
من الإدلاج والدبر الدوامي

ثم قال في نفسه: الآن يجيء ابن المراغة فيسمع ما أنشدته فيه فيجيبني بقوله:

تلفت أنها تحت ابن قين
أبي الكيرين والفاس الكهام
متى ترد الرصافة تخز فيها
كخزيك في المواسم كل عام

ثم جاء جرير، فأخبره الفرزدق بالقصة وأنشده البيتين الأولين، فلم يلبث أن أنشده البيتين الأخيرين، فضحك الفرزدق وقال: والله، يا أبا حرزة، لقد قلتهما قبل أن تأتي، قال جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد؟

وكل هذا ولا شك تلفيق يعلمه ملفقوه، ولكن الأصل فيه قائم على اعتقاد طبيعي شائع، يخيل إلى الناس في شتى الأمم أن المعاني الخفية لا تخلو من علاقة بالمخلوقات الخفية، وأن أسرار الصناعات التي تدق عن نظر العيون ينبغي أن تطلع عليها العيون التي تعيش في عالم الأسرار، ولا يدق عن نظرها شيء في حلكة الظلام.

ويقال عن فن الغناء ما يقال عن فن القريض، وبخاصة في الزمن الذي كان فيه الغناء موقوفًا على البيت أو الأبيات يختارها المغني من كلام الشاعر في عصره، أو في غير عصره.

روى صاحب الأغاني أن الغريض كان يقتبس بعض أصواته من عزيف الجن، ويزعم ذلك مغالاة بصنعته، فأنكر عليه سامعوه ما يدعيه، حتى كان ذات ليلة يغني لجماعة من نساء مكة فسمعن عزيفًا عجيبًا ذعرن منه، فقال لهن الغريض: إن في هذه الأصوات صوتًا إذا نمت سمعته وأصبحت فغنيت به، وأصغين إلى الصوت فإذا هو من نغمة ألحان الغريض.

وادعى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الغناء الماحوزي، الذي افتن به الناس من فن أبيه، إنما كان من صنع إبليس، قال عن أبيه: «استأذنت الرشيد أن يهب لي يومًا من أيام الجمعة أنفرد فيه بجواري وإخواني، فأذن لي في يوم السبت … فأقمت بمنزلي، وأخذت في إصلاح طعامي وشرابي، وأمرت البواب ألا يأذن لأحد في الدخول علي، فبينما أنا في مجلسي والحرم قد حففن بي، إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال، عليه خفان قصيران، وقميصان ناعمان، وعلى رأسه قلنسوة، وبيده عكازة مقمعة بفضة، وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار … فدخلني غيظ عظيم لدخوله وهممتُ بطرد بوابي …

فسلَّم علي أحسنَ سلام، فرددته عليه، ودعوته إلى الجلوس فجلس، وأخذ في أحاديث الناس وأيام العرب وأشعارها حتى سكن ما بي من الغضب، فظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله علي لأدبه وظرفه، فقلت: هل لك في الطعام؟ فقال: لا حاجة لي فيه، قلت: فالشراب؟ قال: ذلك إليك، فشربت رطلًا وسقيته مثله، فقال: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئًا فنسمع من صنعتك ما قد فُقتَ به عند الخاص والعام … فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي، فأخذت العود فجسست، ثم ضربت وغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم!

فازددت غيظًا وقلتُ ما رضي بما فعله في دخوله بغير إذنٍ واقتراحِه عليَّ حتى سماني باسمي ولم يجمل مخاطبتي، ثم قال: هل لك أن تزيد ونكافئك؟ فتعجبت في نفسي وقلت: بم يكافئني؟ ثم أخذت العود فغنيت، وتحفظت بما غنيته وقمت به قيامًا كافيًا لقوله لي أكافئك، فطرب وقال: أحسنت يا سيدي! ثم قال: أتأذن لعبدك في الغناء؟ فقلت: شأنك! واستضعفت عقله أن يغني بحضرتي بعد ما سمعه مني، فأخذ العود وجسَّه، فوالله قد خلت أن العود ينطق بلسان عربي فصيح في يده، واندفع يغني:

ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبدًا ليست بذات قروح

إلى آخر الأبيات …

فوالله لقد ظننت أن الحيطان والأبواب والسقوف وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن صوته، حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه، وبقيت مبهوتًا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لِما خالط قلبي من اللذة التي غيبتني عن الوجود، فلما رآني كذلك أخذ العود ثانية، واندفع يغني هذه الأبيات:

ألا يا حمامات اللوى عدن عودة
فإني إلى أصواتكن حزين

إلى آخر الأبيات …

فكاد عقلي أن يذهب طربًا، ثم غنى ليزيد بن الطثرية:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجدًا على وجد

إلى آخرها …

ثم قال: يا إبراهيم، هذا الغناء الماحوزي خُذْهُ وانْحُ نَحْوَه في غنائك، وعلِّمْهُ جواريك، فقلت: أعِدْه عليَّ، فقال: لست بمحتاج، قد أخذته وفرغت منه. ثم غاب من بين عيني فارتعدتُ لذلك، وقمت إلى السيف فجردته، وغدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن عندي؟ فقلن: سمعنا أحسن غناء، لم نسمع قط أحسن منه. فخرجت متحيرًا إلى باب الدار فوجدته مغلقًا، فسألت البواب عن الشيخ الذي خرج، فقال: أي شيخ؟ والله ما دخل عليك أحد … فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا أبا إسحاق! أنا أبو مرة إبليس … وقد كنت نديمك اليوم فلا ترع … فركبت إلى الرشيد وأخبرته بالحديث، فقال: ويحك! أعِد الأصوات التي أخذتها. فأخذت العود فإذا هي راسخة في صدري …»

وقد كان عهد العرب بعزيف الجن في الصحراء قديمًا جدًّا لم يتغير ظنهم به فيما نظمه الشعراء الإسلاميون، كذي الرمة حيث يقول:

ورمل كعزف الجن في عقداته
هرير كتضراب المغنين بالطبل

غير أنهم خصوا الشاعر بالشيطان الملازم، ولم يجعلوا للمغني شيطانًا مثله؛ لأن فن الشعر كان أقدم عندهم من فن الغناء، وإنما كان غناؤهم حداء أو محاكاة للحداء، وكان الحداء نغمًا شائعًا يغنيه كل سائق يحدو الإبل، فهي طريقة لا محل فيها للافتنان والتنويع، وكان غناؤه على الأكثر في قافلة لا ينفرد عنها بمكان يظن أنه يخلو فيه بالجن لتلقنه ويستمع منها، فلما ظهر المغنون آحادًا منقطعين لعملهم، منفردين بوضع ألحانهم، أحبوا محاكاة الشعراء بالأخذ عن الجن في صناعتهم مغالاة بها عن قدرة الإنس في هذه الصناعة، ولكنهم طرءوا بهذه الدعوى ولم يتأصلوا فيها كما تأصل الشعراء، فسمعت من آحاد متفرقين ولم تكن إجماعًا من وحي البديهة في البيئة بأسرها.

•••

وقد روي عن الصناعات العلمية كالطب ما روي عن صناعة الكلام وصناعة الغناء، فأسند صاحب كتاب «الهواتف» إلى النضر بن عمرو الحارثي قصة قال فيها:

إنا كنا في الجاهلية إلى جانبنا غدير، فأرسلت ابنتي بصحفة لتأتيني بماء فأبطأت علينا، وطلبناها فأعيتنا فيئسنا منها … قال: والله إني جالس ذات ليلة بفناء مظلتي إذ طلع علينا شيخ، فلما دنا مني إذا به ابنتي، قلت: ابنتي؟ قالت: نعم، ابنتك! قلت: أين كنت أي بنية؟ قالت: أرأيت ليلة بعثتني إلى الغدير؟ أخذني جني فاستطار بي، فلم أزل عنده حتى وقع بينه وبين فريقين من الجن حرب، فأعطى الله عهدًا إن ظفر بهم أن يردني عليك، فظفر بهم فردَّني عليك. فإذا هي قد شحب لونها، وتمرط شعرها، وذهب لحمها، وأقامت عندنا فصلحت، فخطبها بنو عمها فزوجناها.

وقد كان الجني جعل بينه وبينها أمارة إذا رابها ريب أن تدخن له، وإن ابن عمها ذاك عيَّب عليها وقال: جنية شيطانة! ما أنت بإنسية. فدخنت، فناداه منادٍ: ما لك ولهذه؟ لو كنت تقدمت إليك لفقأت عينك، رعيتها في الجاهلية بحسبي، وفي الإسلام بديني، فقال له الرجل: ألا تظهر لنا حتى نراك؟ قال: ليس لنا ذاك؛ إن أبانا سأل لنا ثلاثًا: أن نرى ولا نُرى، وأن نكون بين أطباق الثرى، وأن يعمر أحدنا حتى تبلغ ركبتاه حنكه ثم يعود فتًى.

فقال ابن عمها: ألا تصف لي دواء حمى الربع؟ قال: بلى؛ قال: ما رأيت تلك الدويبة على الماء كأنها عنكبوت؟ قال: بلى! قال: فخذها، ثم اشدد على بعض قوائمها خيطًا من عهن فشدَّه على عضدك اليسرى. ففعل، قال: فكأنما نشط من عقال، فقال الرجل: يا هذا، ألا تصف لنا دواء رجل يريد ما تريد النساء؟ قال: هل ألمت به الرجال؟ قال: نعم، قال: لو لم يفعل وصفت لك.

وجاء في كتاب «آكام المرجان» بعد نقل هذه القصة جملة أخبار من قبيلها، يتلقى فيها الأنس عن الجن علمًا من علوم الطب لعلاج بعض الأمراض، ومنها أمراض لها في عرف الأقدمين علاقة بالجن كالصرع والوهم والهزال، وبعض هذا العلاج دواء، وبعضه من الرُّقى والتمائم التي تدخل في طب السحر والكهانة.

وما من صناعة بلغت مبلغ الإعجاز في رأي قوم إلا كان لها تفسير من معونة الجن أو المردة، ويرجعون في هذا التفسير إلى الخبر المنقول كما يرجعون إلى المجاز والتخيل، فمما نقله الشعراء من أخبار الرهبان ونساك البِيَع قبل الإسلام قول النابغة عن معابد بعلبك أو تدمر:

إلَّا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد

وجاراه البعيث في قوله:

بني زياد لذكر الله مصنعة
من الحجارة لم يعمل بها الطين
كأنها غير أن الأنس ترفعها
مما بنت لسليمان الشياطين

والبحتري يصف إيوان كسرى المهجور فيقول:

ليس يدرى: أصنع إنس لجن
سكنوه أم صنع جن لإنس؟

فهو هنا يرى بناء فخمًا مهجورًا يصح أن يكون من صنعة الإنس للجن؛ لأنه خراب موحش كمساكن الجان، ويصح أن يكون من صنعة الجن للإنس؛ لأنه فيما هاله من فخامته أكبر مما تبلغه طاقة الإنسان.

ولا يفهم القول بتسخير الجان لخدمة الفنون فهمًا صحيحًا إلا مع التفرقة الواجبة بين نوعين من التسخير ينبغي ألا يلتبس أحدهما بالآخر في هذا المقام.

فالتسخير الذي يشمل بني آدم جميعًا، ويشمل القوى والعناصر جميعًا غير التسخير الذي يأتي فلتة من حين إلى حين بالحيلة التي يحتالها الشيطان، أو يحتالها الإنسان، ولا تبلغ بحال من الأحوال أن تساق مساق التعميم في الكلام على خلق الأحياء وخلق السماوات والأرضين.

فمن التسخير الذي يجري مجرى النواميس الكونية قوله تعالى في القرآن الكريم: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ.

وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.

وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.

وقوله تعالى عن داود وسليمان: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ.

ولم يرد في القرآن الكريم ذكر لتسخير الجن والإنس والحيوان إلا بهذا المعنى، ومنه ما جاء عن تسخيرها لسليمان: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.

ومنه: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ.

فهذا التسخير الذي يفهم منه أن الإنسان قد أوتي علمًا يسيطر به على القوى والعناصر وما في الأرض، إنما يجري مجرى النواميس الكونية على عمومها، ولا يُخصُّ به إنسان من الناس إلا كما يخص بعلم بناء السفن، وصوغ الحديد، واستخدام الريح بأمر من الله في غير احتيال من الشيطان، أو اختلاس من الإنسان.

وليس من قبيل هذا التسخير ما يقال عن أسرار السحر والطلاسم، وأغراض التحالف والمخادنة بين الأناسي والشياطين؛ فذاك تسخير تجري فيه إرادة الله وقدرة الإنسان وأحكام القوى والعناصر، كيفما سميناها، مجرى العموم المطرد في النواميس الكونية التي يعلمها من يقدر على علمها.

أما التسخير المقصود بالسحر وما إليه، فهو إلى خرق النواميس أقرب منه إلى مجاراتها والعمل بإرادة الله فيها، وإنما تخرق فيه هذه النواميس بثمن يبذله الساحر من روحه أو جسده، كأنه محاباة الرشوة وجزاء المخالفة والمروق عن مجرى الأمور.

ونعود إلى عمل الشيطان في الفنون، فنلاحظ أن ملكة الخيال تتقارب في رواياته وأقاصيصه بين المشرق والمغرب كأنها تصدر من إنسان واحد يتخيل الشيء الواحد في أوقات مختلفات.

فالعرب يتحدثون عن شياطين الشعراء، واليونان — ومن نقل عنهم — يتحدثون عن جنيات الفنون التي اصطلحنا على تسميتها بالعرائس، ولم نسلبها بذلك نسبتها إلى الجان، وقد قيل عن سقراط: إنه كان يستمع وحي الحكمة من جني أو شيطان كأنه يستمع إلى صوت صديق من الإنس يحاوره ويناجيه.

وقصة الموصلي مع إبليس لها نظير من قصة الموسيقي الإيطالي جيوسبي ترتياني في أوائل القرن الثامن عشر (١٧١٣)؛ حيث كان نزيلًا بأحد الأديرة فجاءه الشيطان في المنام وتناول قيثارته وعزف عليها لحنًا أذهله، ولكنه لم يذكره كله حين أيقظه إبليس وتحداه أن يعيده كما سمعه، فقنع منه بما وعاه وسمَّاه هزة الشيطان.

والمردة الذين كانوا يقيمون الصروح في الشرق يضارعهم في اليونان جماعة المردة المشهورين باسم «التيتان».

والأطباء في القرون الوسطى كانوا ينافسون الكهنة في صلواتهم ودعواتهم للمرضى، فيتعلمون من الشيطان تلك الرقى والتمائم التي يزيفونها باسم الطب، ويشترون بها أرواح المصابين ثمنًا لما يخدعونهم به من ظاهر الشفاء، وباطن الهلاك والبوار.

والحكم على شياطين الفنون من الوجهة الدينية متقارب في المشرق والمغرب.

فالغالب على شياطين الفنون أنها شياطين قدرة وإبداع، وليست بشياطين غواية وإفساد.

ولكن الفنون قد تستخدم للغواية والفتنة كما تستخدم للزينة وإبراز معاني الجمال؛ كان جرير يفخر بشعره فيقول: إنه من رُقى الشيطان، ويمدح الرجل الصالح فيقول ما معناه: إن الله عصمه من رقاه:

رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيًا

فإذا كان الفن من آلات الإصلاح والفطنة فشيطانه من شياطين القدرة والجمال، وإذا كان من آلات الفتنة والغواية فشيطانه من جند إبليس، وقد قال الإمام ابن الجوزي في فصل من كتابه «تلبيس إبليس» وحرم في نهايته غناء التطريب واللهو، قال في أوله: «وفصل الخطاب أن نقول ينبغي أن ينظر في ماهية الشيء، ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير ذلك، والغناء اسم يطلق على أشياء منها: غناء الحجيج في الطرقات، فإن أقوامًا من الأعاجم يقدمون للحج فينشدون في الطرقات أشعارًا يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام، وربما ضربوا مع إنشادهم بطبل، فسماع تلك الأشعار مباح، وليس إنشادهم إياها مما يُطرِب ويُخرِج عن الاعتدال.

وفي معنى هؤلاء الغزاة؛ فإنهم ينشدون أشعارًا يُحرِّضون بها على الغزو، وفي معنى هذا إنشاد المبارزين للقتال أشعار التفاخر عند النزال، وفي معنى هذا أشعار الحداة … وإن رسول الله مال ذات ليلة بطريق مكة إلى حادٍ مع قوم فسلم عليهم فقال: إن حادينا نام، فسمعنا حاديكم فملتُ إليكم … وقد كان لرسول الله حادٍ يقال له أنجشة يحدو فتعنق الإبل، فقال رسول الله: يا أنجشة، رويدك! رفقًا بالقوارير. وفي حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله إلى خيبر، فسرنا ليلًا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تُسمعنا من هنياتك؟ وكان عامر رجلًا شاعرًا فنزل يحدو بالقوم يقول:

لاهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينة علينا
وثبت الأقدام إذ لاقينا

فقال رسول الله : من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع، فقال: «يرحمه الله».»

ولنذكر مع كلام الإمام ابن الجوزي أنه أَلَّفَ كتابه للكشف عن تلبيس إبليس، فلم يدع طائفة إلا كشف منها لونًا من ألوان هذا التلبيس، ولم يستثن الحكماء والفلاسفة والمتصوفة والنساك، فما بالك بأصحاب الفنون وقالة الشعر ومنشدي الغناء.

شياطين الشعراء والكتاب

يغلب أن يكون شيطان الشعر من خلق الشعراء أنفسهم، وأن يكون الكلام عنه لاحقًا لظهور الشعر وانتشاره، فإن لم يكن هذا الشيطان مخلوقًا شعريًّا، فهو مخلوق خيالي أبدعه كاهن قديم، أو مفكر من مفكري الجاهليات الغابرة له خيال كخيال الشاعر، وقد تشابه أسلوب السحرة والكهان في نبوءاتهم المزعومة باللغات المعروفة بين أهل المشرق والمغرب، فكلها تتوخى السجع والقافية، وتخالف كلام الساحر أو الكاهن في سائر أقواله، ليصح القول فيها إنها من وحي غير وحيه، ومصدر باطن غير مصدر تفكيره الظاهر، فإذا نسب الشعر إلى مصدر كمصدر السحر فالخطوة قريبة، والقياس معقول. ولم يزل بين الشعر والسحر نسب قديم.

على أن خيال الشعراء يعمل في تصوير كل كائن غير منظور ولو لم يكن من خلق الشاعر، وشيطان الأديان لم يخلقه الشعراء، ولكنهم صوروه في الصور التي تتمثل للعين، والصور التي يدركها الفكر وتلم بها أحلام اليقظة، وندر من الشعراء خاصة مَن سمع بالشيطان ولم يصوره لنفسه على صورة قابلة للتمثيل في العيان، أو للتجسيم على يد الفنان، وقد صنع له المثالون الغربيون تماثيل على صورة الإنسان ذات ذنب وقرنين وظلف كأظلاف الجداء، وجاء في الشعر العربي ما يصلح أن ينقل منه تمثال محسوس كما قال بعض الأعراب في رواية الخليل بن أحمد:

وحافر العير في ساق خدلجة
وجفن عين خلاف الإنس في الطول

ويوشك كل من تصوره من العرب أن يجعله على مثال إنساني منحرف بعض الانحراف، أو مشوه في أصل الخلقة لمجرد المخالفة بينه وبين الملامح الإنسانية، ومن ذاك وضع العين بالطول، وتخيله بعين واحدة في وسط جبهته، إلى أشباه ذلك من التشويه المقصود لمجاراة الخيال في استلزام المخالفة بين منظر الإنسان ومنظر الشيطان، وعلى نقيض ذلك كان تصوير شاعر الفرس — السعدي الشيرازي — للشيطان الذي رآه في الحلم، فقد رآه «بقامة كفرع البانة، وعينين كأعين الحور، وطلعة كأنها تضيء بأشعة النعيم» … ولما علم أنه الشيطان أدهشه أن يكون الرجيم البغيض بهذه الوسامة المحبوبة، وسأله فلاحت على طلعته كبرياؤها وقال: «لا تصدق، يا صاح، أنه مثالي ذاك الذي رأيتهم يمثلونه؛ فإن الريشة التي ترسمني تجري بها يد عدو حسود، سلبتهم السماء فسلبوني الجمال.»

ولا يعنينا في هذا الفصل نقل الصور «الحسية» التي اخترعها الشعراء والفنانون لذلك الكائن المحتجب عن النظر، ولكننا نجمع هنا بعض أوصافه التي تقع في روع المتخيل، أو تعرض للفهم عن تفكير واستنباط، وليست هذه الأوصاف بالكثيرة ولا بالمتباعدة في جوهرها، وليس فيها من ابتداع إلا والمنطق يوحي به لزامًا في أوصاف الشياطين على إجمالها، وإنما الجديد فيها قدرة الشاعر على إبراز «الشخصيات» وتلوينها بألوانها الخلقية، وكل هذه الشياطين التي جاءت «مشخصة» في أقوال شعراء الغرب قريب من قريب.

وليس أشهر في «الشخصيات» الشيطانية المسرحية من شياطين مارلو وجيتي وملتون وبليك وكردوتشي، من شعراء القرن السادس عشر فما بعده، فإنهم هم الشعراء الذين خلعوا على الشيطان مسحة مسرحية من فنهم، ولم يكن تصويرهم للشيطان كله نسخة منقولة من الشيطان كما صورته كتب اللاهوت، ولم يرد شيطان كردوتشي في قصة مسرحية، ولكنه مثله على مثال الشخصيات السياسية التي تقوم ببعض الأدوار على مسرح الحوادث.

ولد كريستفور مارلو “Christopher Marlowe” الشاعر الإنجليزي في سنة ١٥٦٤، وظهرت في حياته قصة الساحر فوستوس بالألمانية، ثم ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، ومدارها على رجل ساحر متعطش إلى المتعة والسطوة، لم يجد بغيته منهما في العلم والفقه، فأقبل على كتب السحر الأسود يلتمس منه القدرة على تسخير الشيطان لما يهواه، وتعاقد مع الشيطان على قضاء أربع وعشرين سنة في المتعة التي يهواها، ثم يسلمه روحه ليهبط بها إلى الجحيم.

ويجري الحوار بين فوستوس والشيطان عند التعاقد بينهما كما يأتي:

مفستوفليس : فوستوس! أقسم بالجحيم ولوسيفر أن أنجز جميع الوعود التي اتفقنا عليها.
فوستوس : إذن؛ دعني أقرأها على الشرائط التالية:
  • أن يكون فوستوس روحًا في الصورة والهيولي.

  • وأن يكون مفستوفليس خادمه وطوع أمره، وأن مفستوفليس يجيبه إلى كل طلب، ويحضر له كل مطلوب.

  • وأن يكون في بيته أو مكتبه غير منظور.

  • وأن يظهر لجون فوستوس في كل وقت كما يجب.

  • وأنا الدكتور جون فوستوس من ويرتنبرج، بهذا الجزاء، أضع جسدي وروحي بين يدي لوسيفر أمير المشرق، ووزيره مفستوفليس، وأفوض لهم بعد أربع وعشرين سنة كل التفويض بناء على هذا العقد المسجل غير منقوص ولا منقوض، أن يبحثوا عن هذا المدعو جون فوستوس حيث كان، وأن يحملوه جسدًا وروحًا ولحمًا ومتاعًا إلى حيث يقيمون.

ويتسلم مفستوفليس هذا العقد موقعًا بدم الساحر بدلًا من المداد.

ويظهر مفستوفليس في الرواية باسم ملك السوء حينًا، وباسم الشيطان أو باسمه المشهور في أكثر الأحيان، وهو رئيس لزمرة من الشياطين، مرءوس لإبليس المسمى هنا باسم لوسيفر زميل بعلزبول، ومن مرءوسيه سبعة شياطين متآمرين؛ هم: شيطان الكبرياء، وشيطان الطمع، وشيطان الغضب، وشيطان الحسد، وشيطان الشهوة، وشيطان الكسل، وشيطان الدعارة.

ويقضي الدكتور فوستوس أيامه مع الشياطين مستمتعًا بما يهواه من حسان الدنيا وحسان التاريخ، ومنهن «هيلينا» التي فتنت اليونان الأقدمين وباريس، والتي نالت الجائزة قديمًا في مباراة الجمال.

ويغلب على لوسيفر — كما صوره مارلو — أنه يضع الأمور في مواضعها، ويطلب حقوق الشر كما يدعيها، ويعطي الخير حقوقه كما تجب، فهو ييئس الساحر العالِم مِن سعي السيد المسيح في خلاصه، وينبئه أنه عاجز عن إنقاذ روحه، ولكنه لا يرد هذا العجز إلى غلبته ورجحان الشر على الخير في حوله وحيلته، بل يرده إلى عدل المسيح، وأنه ليس من العدل أن ينجو من لم يكن أهلًا للنجاة، ولا ينكر الشيطان جدوى الندم والبكاء واستجابة الصلاة والدعاء، ولكن الشيطان يستخدم حقه — على حكم العهد — في تقييد يدي الساحر فلا يقدر على رفعهما إلى السماء، ونزف دموعه فلا يقدر على البكاء، وعقد لسانه فلا ينطق بالصلاة والدعاء.

ويأتي ملتون (١٦٠٨–١٦٧٤) بعد مارلو بفترة وجيزة في التاريخ الزمني، ولكن الشيطان الذي صوَّره ملتون أهم من الشياطين «الشعرية» التي صورها من سبقوه ولحقوه في هذا الموضوع بين شعراء الغرب. ومن الدراسات التي تناولته دراسة الشاعر من الوجهة النفسية، ودراسة الأدب والبلاغة، ودراسة العقائد وعلاقتها بالعصر والأحداث السياسية، ودراسة الأطوار التي تتمثل فيها التقوى، حيث تتراءى أحيانًا على نحو يوافقها كما تتراءى على نحو يناقض مظهرها وغايتها.

فالشاعر ملتون كان من المتدينين المتطهرين، وكان أمين السر اللاتيني في حكومة الثورة، وكان وثيق الصلة بالقائد كرومويل الذي قاد الثورة على الملك شارل الأول، وقد عمي في أواخر أيامه، وشمت به شارل الثاني فقال له: ألا ترى يا مستر ملتون أن الله عاقبك بفقد بصرك على ما كتبته في أبي؟ وكان ملتون مشهورًا بسرعة الجواب، وأجوبته في قصيدة الفردوس المفقود تعرض لقارئها أمثلة كثيرة على هذه القدرة في حوار الشيطان والملائكة، فأسرع إلى الجواب قائلًا: وعلى أي ذنب عوقب أبوك بفقد رأسه؟

وملتون لم يبدع قصيدته كل الإبداع، بل استعار من جليوم دي بارتاس “Bartas” (١٥٧٨) في قصيدته أسبوع الخليقة، واستعار من أفيتوس “Avitus” في قصيدته عن الخليفة والسقوط والنفي من الفردوس، واستعار من القصص الشعبي الذي كان يدور حول مأساة آدم وحواء، ولكن هذه القصص جميعًا نسيت أو كادت وبقيت قصته؛ لبلاغتها ودلالة صورها وتشبيهاتها، واتساعها لتلك الدراسات المنوعة التي أشرنا إليها.

يقول الشاعر دريدن: إن الشيطان هو بطل ملحمة «الفردوس المفقود» دون من فيها من الشخصيات العلوية والسفلية، ويرى النقاد الأدبيون رأي دريدن في هذه الملاحظة؛ فإن ملتون قد حول التفات القراء إلى الشيطان بما ألقاه على لسانه، وما شرحه من مزاعمه ومواقفه. وهو لا يعفيه من الذم واللعن والاستنكار، ولكن عباراته التي يذمه بها، ويستنكر بها فعاله، إنما تأتي مجاراة للعرف الشائع الذي يتشابه فيه كل قائل، على حين تبرز الأعمال والأقوال التي ينسبها إليه، أو يضعها على لسانه بروزًا قويًّا موفور النصيب من عناية الشاعر وإعجابه.

وسر ذلك — مع تشيع ملتون للمتطهرين الدينيين — أنه كان ثائرًا، ووجد في تمرد الشيطان فرصة للإفصاح عن حجج الثورة ودواعيها، وربما ظهر من دراسة الشيطان في قصيدة ملتون أنه يمثل شارل الأول في بعض الخلال، كما يمثل كرومويل في حالات أخرى، غير أنه كان يمثل شارل الأول في الخلال التي يعيبها الشاعر ويضيفها إلى خبائث الشيطان ومساوئه، ويمثل كرومويل في الصلابة والجرأة والاعتزاز بالنفس، وفي مجموعة تلك الخلائق التي جعلته يطلب المكان الأول في جهنم، ولا يقنع بالمكان الثاني في السماء.

ويلقي ملتون على لسان الشيطان أنه يرثي للملائكة الذين يحاربونه في صف الإله، وهو الذي غضب لهم، وأنِف من المهانة التي تلحقهم بتفضيل بني آدم عليهم، وأنه لولا صواعق السماء لما طمعت جنود السماء في الغلبة عليه، وتخيل ملتون شيطانه في بعض مواقفه كأنه سلطان شرقي يستوي على ديوانه، ويحيط عرشه بوزرائه وأعوانه، وتخيله في أكثر المواقف على هيئة المغلوب الذي يؤسف على هزيمته، ولا تراد له إلا لأنه قضاء لا مردَّ له من الله.

وقد تضطرب صور الشيطان بين موقف وموقف إلا صورة واحدة تثبت له في جميع مواقفه، وهي الصورة التي ترضي الشاعر حين يتخذه لسانًا ناطقًا بحجج المتمردين، وحين يتخذه شبحًا يحمله أوزار الطغاة وذوي الجبروت، فإن ملتون هو ملتون في الحالتين، وإن بدا الشيطان في صورة مضطربة كلما سامه أن يمثل الحالتين، ولا يندر أن تتقابلا مقابلة النقيضين.

ولعل القول الأصح أن الاختلاف بينهما إنما هو اختلاف دورين لا اختلاف شخصيتين، فقد كان الفرق بين كرومويل وشارل الأول فرق الطرفين المتقابلين، والعدوين المتقاتلين، ولكنهما في الطبائع الشخصية لا يتقابلان هذا التقابل على طرفي الميدان، بل يتقاربان تقارب الأشياء والنظراء.

•••

وفي هذه الأسطر محل لأديب من معاصري ملتون يقتحمه اقتحامًا بحكم المعاصرة، والاشتراك في الحرب الأهلية، والكلام عن الشيطان، ولا محل له إلى جوار ملتون بغير هذه المعاصرة وهذه المناسبة، ونعني بهذا الأديب جون بنيام “Bunyam” مؤلف رحلة الحاج والحرب التي شنها شداي على إبليس. وإبليسه غاصب محتل لمدينة الروح الإنسانية، يحاصره عمانويل ابن باني المدينة شداي — اسم من أسماء الله عند العبريين — ثم يستولي عمانويل على المدينة، ويتغلغل فيها إبليس وجنوده بالمكر والدسيسة، ويستردها جميعًا ما عدا قلعتها المحصنة، وهي ضمير الإنسان المؤمن بكفارة الخلاص.

•••

أما الشيطان الذي يلي شخصية إبليس في الفردوس المفقود، فهو شيطان رواية فاوست التي ألفها شاعر الألمان الأكبر جيتي (١٧٤٩–١٨٣٢)، وجعل فيها للشيطان مفستوفليس دورًا بين الأرض والسماء، وبين الخالق والمخلوقات، غير الدور الذي تقدم في رواية مارلو؛ فإن مفستوفليس في رواية جيتي هو بعلزبوب نفسه، وليس زميلًا أو تلميذًا من تلاميذه، ودوره في هذه الرواية يعم ظواهر الوجود كله، ولا تحده المهمة التي يندبه لها فاوست وأمثاله.

وهو يصف نفسه مرة بأنه «جزء من القوة التي امتزجت بالسوء قديمًا، ولكنها لا تفتأ تصنع الخير».

ويصف نفسه مرة أخرى بأنه القوة النافية التي تقول «لا» أمام كل إيجاب.

ويوصف في جميع الأحوال كأنه المفسد الذي يتخلل مفاتيح المعزف بالزوائد والعوائق كلما انتظمت عليها نغمة من نغمات النظام.

ويقول مفستوفليس للدكتور فاوست: إن الوجود كله عبث، وإنه كان من الخير ألا يوجد، فيقول فاوست: والآن علمت ما تريد … إنك لم تستطع أن تعدمه جملة، فأنت تشيع العدم فيه بالتجزئة، أو تبيعه بالمفرق!

وقد وضعت قصة فاوست على غرار قصة أيوب في العهد القديم، وظهر الشيطان في أولها يقول لله: إنك خلقت العقل للإنسان لتميزه على البهائم، ولكنه يستخدمه ليصبح دونها في الشر والجهالة، وإنني لا أبالي أن أشقي بني آدم؛ فإنهم متكفلون دوني بإشقاء أنفسهم، ثم يقع الرهان على روح العالم فاوست الذي يئس من البحث والعلم، وآب إلى البؤسى التي لم يستطعم معها مذاقًا للحياة، فيتفق الشيطان والعالم على شروط كالشروط التي تقدمت في رواية مارلو، ويأخذه الشيطان إلى وكر الساحرة لتعيده بإشرافه — أي إشراف الشيطان — إلى الشباب، فيَعاف العالم ذلك الوكر ويسأل مفستوفليس: أما من وسيلة غير هذا السحر القبيح لتجديد الشباب؟ فيجيبه مفستوفليس: بلى! هناك وسيلة أهديك إليها؛ تذهب إلى الغيط وتحرث وتكرث، وتأكل اللقمة التي تجدها، وتحصر الحياة في أضيق حدودها، وتأتي عليك الثمانون وأنت في غرارة الشباب.

قال فاوست: لست بهذا … قال مفستوفليس: إذن لا مناص من السحر والساحرة، وسأله فاوست: ولم الساحرة؟ فأجابه الشيطان: إنها صناعة صبر طويل لا أطيقه، ولا بد لكل صناعة من أحكام.

وتبدأ الغواية برؤية الفتاة مرجريت عائدة من كرسي الاعتراف، فيشتهيها فاوست، ويروضها له الشيطان، ويتواعدان على اللقاء بعد أن تنام أمها بجرعة مخدرة، فتموت الأم بالجرعة، وتحمل مرجريت ثم تلد فتقتل وليدها، وفي خلال ذلك يأتي أخوها الجندي فيطلع على سر هذه الفاجعة، ويذهب إلى فاوست ليقتله، فيقتله فاوست في مبارزة بينهما، ثم يغلبه الحنين فيعود إلى مرجريت، ويعلم أنها سجينة، وييسر لها وسائل الخلاص من السجن فتأبى، وتتقبل العقوبة المنتظرة للتكفير عن جريمتها، ثم تصعد روحها إلى السماء فيقول القائلون: لقد هلكت، وتهتف الملائكة: لقد نجت بإذن الله!

ويمضي فاوست في تجربة أخرى غير تجربة العشق والغواية، فيرتفع في عيني الملك، وينال ما يرضيه من السلطان بالحظوة لديه، ويطمعه الشيطان في المزيد من الجاه والملك، فيعاوده الحنين إلى العشق وغواياته، ويسوم شيطانه هذه المرة أن يبعث له الفاتنة «هيلينا» من الأموات، فيبعثها ويأتي بها إليه، ولكنها تراوغه إذ يضمها إلى ذراعيه، فلا يجد منها غير جلبابها في يديه!

وكان فاوست بعد مصرع مرجريت قد آلى على نفسه ليذوقن كل ألم يبتلى به بنو آدم لينسى جنايته على الفتاة البريئة، وعلى أمها وأخيها، ويخشى الشيطان عاقبة هذا الندم فيشغله عنه بدسائس القصر وضجته، ويوشك أن ينسيه الندم لولا سآمة ترين على صدر العالم الحكيم فيزهد في كل ما احتواه، ويربأ بعقله وحكمته عن هذه الصغائر التي تلهيه ويسأل: أين هي السعادة؟ فيعلم أنه لم يجدها قط في لهوه الأول، ولا في لهوه الأخير، ثم يلوح له أن يستخدم علمه في تعمير الخراب، وإصلاح البوار، ومعونة الضعفاء، وإنه لكذلك إذ تحين ساعته وتخرج روحه، فيَهُمُّ الشيطان بقبضها للهبوط بها إلى الجحيم، وتتنزل الملائكة من السماء فتنازعه عليها وتقول له: إنه قد خسر الرهان؛ لأن فاوست على ما اقترف من جريمة ورذيلة قد عاش وهو يتجه بعينيه إلى النور، ومات وهو متجه إليه.

•••

وأغرب الشياطين الشعرية كافة ذلك الشيطان الذي ابتدعه خيال وليام بليك بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وليس هو على هذا بأغرب من خيال الشاعر الذي ابتدعه؛ فإنه شاعر في العصر الحديث يدين جدًّا وصدقًا بالمذهب الثنوي ومذهب المعرفيين “Gnostics”، الذي ذهب معتقدوه بذهاب القرون الوسطى.

كان بليك من أتباع المتنبئ السويدي سويدنبرج، وكان سويدنبرج من أصحاب الرؤى المصدقين لما يعتريهم من حالات الوجد والنشوة الدينية، ووقر في خلده بعد أن جاوز الخمسين، في منتصف القرن الثامن عشر، أنه يتلقى الوحي من عالم الغيب، فاعتزل وظائف الدولة وأعلن خروجه على المذاهب المتبعة، وبشَّر برسالته التي سماها المسيحية الحقة، وفسر الكتب المسيحية تفسيرًا يخالف التفسيرات التي اعتمدتها الكنائس الكبرى، ثم هجر وطنه وأقام بالعاصمة الإنجليزية حتى مات بها (سنة ١٧٧٢).

ودرج بليك في حجر أسرة إنجليزية تدين بمذهب سويدنبرج، ولكنه انقلب عليه ولم يرجع إلى مذهب من مذاهب الكنائس المعروفة، بل راح يستقل بتفسيراته وتأويلاته على حسب ما يستوحيه من تفكيره وإلهامه، ولم يكن على علم بشيء من اللاهوت ولا من معارف عصره؛ لأنه لم يدخل مدرسة منتظمة في صباه.

وشيطانه يصح أن يكون فكرة مجردة، كما يصح أن يكون روحًا إنسانيًّا، أو ملكًا من الملائكة المغضوب عليهم، بل يصح أن يكون عنوانًا يضعه الشاعر على كل «شخصية» مفروضة تنتمي إلى الشر والخباثة، وعنده أن الشر كل الشر هو الصرامة في الأوامر والنواهي، والتشدد في المحللات والمحرمات، فكل رب جاء عنه في الأساطير الغابرة والديانات الأولى وصف العبوس والجهامة، واتسم في ضمائر عباده بالقسوة والصرامة؛ فهو شيطان يترقى في الشيطانية، على حسب قسوته وصرامته، إلى منازل الآلهة الوثنيين المنعوتين بآلهة الشر، أو آلهة الظلام.

ومن أوهامه التي لا يدري أحد أهي أوهام شعر أم أوهام اعتقاد ثابت، أن روح الشاعر ملتون حلت فيه لتكفر عن خطيئتها في تصوير السيد المسيح وتصوير إبليس، وأن الكتب القديمة أدخلت في أذهان الناس أن الإنسان ذو حقيقتين جسدية وروحية، وأن نشاط الجسد من الشيطان، ونشاط العقل من الروح، وأن الله يعذب الإنسان عذاب الأبد لمطاوعته بواعث جسده، ولكنه من الحق الذي يناقض هذا أن جسد الإنسان غير منعزل عن روحه؛ لأن حواس الجسد هي منافذ الروح إلى المعرفة، وأن النشاط كله من الجسد دون غيره، وليس العقل إلا الحدود التي تحيط بذلك النشاط، وأن النشاط هو الفرح الأبدي، وما عداه كسل وإحجام عن الحياة.

ولم ينشر بليك مؤلفاته لأنه كان يمقت الطباعة، ويناظرها بأدوات من اختراعه للنقش والرسم والكتابة يرى أنها أليق بالوحي الروحاني من تلك المطبوعات الصناعية. وقد جمعت آثاره بعد موته من قصاصات مشعثة كان يدون فيها خواطره، ويتم بعضها ويترك بعضها مبتورًا في نهايته، أو مبتورًا في أوله ووسطه. وهذه شذرة منها تعوَّد أن يُدوِّنها بعنوان «خطرة مذكورة»، وفي الخطرة التالية عن الشيطان والملك يقول:

رأيت يومًا شيطانًا في لهيب النار يرفع هامته إلى ملك جالس على سحابة، ويصيح به: اسمع يا هذا، إن عبادة الله هي تمجيد هباته لغيرك على قدر هذه الهبات، واختصاص أعظم الناس بأعظم المحبة، وما الذين يحسدون العظيم أو يفترون عليه إلا أعداء الله، فلا إله غير ذاك.

وسمع الملك مقاله فازرقَّ، ثم ملك جأشه فاصفرَّ، ثم سكن فابيضَّ، وعلته حمرة وابتسامة، وقال: «يا عابد الصنم! أليس الله بالإله الأحد؟ أليس الله قد تجلى في عيسى المسيح؟ أليس المسيح قد بسط بركته على الوصايا العشر؟ أليس سائر الناس حمقى وخطاة وعدمًا ونكرات؟»

ثم يلقي بليك على لسان الشيطان ردًّا يقول فيه: «إذا كان المسيح أعظم إنسان؛ فأحببه حبك للإنسان الأعظم.» … ثم يحكي له الشواهد من أعمال المسيح ناقضًا ما يفهمه الأكثرون من الوصايا العشر، ويختم هذه الشواهد قائلًا: «لقد كان عيسى فضيلة كله؛ لأنه كان يعمل بباعث عطفه ولا يتقيد بالقيود.»

وكل ما ألقاه بليك على ألسنة الشياطين فهو من قبيل ما تقدم، مع التناقض الذي لا يثبت فيه غير معنًى واحد، وهو التبرم بالأوامر الصارمة، والفضائل الجافية، والتفكير المنتظم، وقد قال عن الملائكة: إنها تحسب أنها دون غيرها تتحدث بالحكمة، وكل من يفكر على قياس مطرد خليق أن يغتر هذا الغرور، وأكثر النتف التي تركها تحمل عنوان الخطرة المذكورة، وتجتمع فيها هذه الخطرات بعنوان القران بين السماء والجحيم، وينعقد قران السماء والجحيم، ولقاء الملك والشيطان، في رأيه، بالعمل الذي يصدر من الحب ونشاط الجسد منبعثًا بوحي الفطرة الصادقة.

فالشيطان على هذا الاعتبار جيوش من الشياطين يجسمها القارئ، أو ينظر إليها كأنها معاني الشاعر في قريحته مطلقة بغير تجسيم، وبغير شخصية مرتسمة في الحس أو الخيال.

وبعد شيطان بليك — أو شياطينه — لا تحفظ تواريخ الأدب الغربي صورة لشيطان شعري عمل فيها الفن، وبواعث النفس، وحوادث العصر غير شيطان كردوتشي، شاعر الثورة الإيطالية (١٨٧٠–١٩٠٧) وصاحب جائزة نوبل قبل وفاته بسنة.

وتكاد قصيدة الشيطان من نظم كردوتشي أن تكون نشيد صلاة، وقد سماها هو نشيدًا ونظمها على وزن التراتيل التي تُنشد في الصلوات، وقال فيها: إنه لا يحفل بالتاريخ القديم تاريخ حرب الشيطان مع الملك ميكائيل، وإنه يحيي إبليس لأنه قاهر الكهان ورافع علم الثورة، ويناديه: لا تهرب مني حين أناجيك؛ فإنني أود أن أنطلق إليك بروحي، ولا يكفيني أن ألتقي بك في الشعر والخيال. ويختم النشيد قبل المقطوعة الأخيرة قائلًا:

إنك أيها الشيطان العظيم، إنك تعبر البحار وتطوي الأرضين، إنك تنفث الدخان كالبركان، وتجوس خلال الديار، وتمضي حيث تشاء كما تشاء.

وانطلاق الشيطان مع سخريته بالكهان هما آية الحرية عند كردوتشي الثائر على طغاة الدنيا والدين، ولا يبعد أن يكون الشاعر — كما قال ابن وطنه جيوفاني بابيني — متأثرًا بأستاذه ليوباردي في قصيدته عن إله الشر أهريمان، صاحب القضاء النافذ في الوجود كله، منفردًا — في رأي ليوباردي — بغير شريك من أرباب الخير أو ملائكته في الزمن القديم أو الزمن الحديث.

ونحن في هذه العجالة يجزئنا ما تقدم في باب شياطين الشعراء التي عمل فيها الفن، واصطبغت بصبغة البواعث النفسية والحوادث السياسية، ولم يستوعب هؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم كل ما يقال عن إبليس أو عن الشياطين كما يعتقدها أتباع المذاهب منذ القرون الوسطى، فقد كان أكثر الشعراء يجربون قرائحهم في مأساة آدم والشيطان. ولعلنا نحيط بهذا العالم الزاخر إذا عرفنا أن رجلًا مثل هوجو جرويوس (١٥٨٣–١٦٤٥)، الملقب بأبي القانون الدولي، قد جرب قلمه وقريحته في هذه المأساة، وكان معاصرًا للشاعر ملتون، فانتشرت قصائده إلى جانب القصائد الخالدة التي نظمها ذلك الشاعر المعدود اليوم في الذروة بين أشعر شعراء العصور.

وبعد زهاء قرنين، أوحى اسم هوجو إلى سميه الفرنسي الكبير فكتور هوجو (١٨٠٢–١٨٨٥) أن يجرب قلمه وقريحته على نمطه، فنظم قصائده في خاتمة الشيطان، ونادى بموته ولحاقه بإبليس جاحد ربه بين عقول كالخفاش الذي يخاف النور، أو البومة التي تستهدي الظلام، والغراب الذي يسلم الفضاء للنسر والعقاب والعنقاء ومن فوقها مرمى السهام التي لا تبلغ الهدف إلا من وراء قناع الموت! ودون ذلك كله، وتنحسر أشواط الأبالسة والشياطين.

إلا أن هذا المحصول الزاخر لا يزيدنا لونًا من ألوان الصورة في ضمير المؤمن، أو في قريحة الشاعر، وهذا الذي تحريناه في إهمال ما أهملناه، والإلمام بما أشرنا إليه، بيد أننا لا نستطيع أن نهمل هنا صورة شيطانية تقترن باسم الشاعر الفرنسي بودلير، صاحب ديوان «أزهار الشر»، وناظم القصائد في الابتهال إلى الشيطان «أحكم الملائكة الذي سرق منه القضاء ثناءه، والذي سجل عليه الطرد والحرمان من لا يزال يخطئ ويغلط»؛ فإن هذا الشيطان عارض نفساني يصور الانعكاس في السريرة المشوهة، فتتعمد التوجه إليه على سبيل النقمة والنكاية، وتصلي إليه ليشفق عليها كأنها تستجدي الشفقة الإلهية — عكسًا — بلسان اليأس والكبرياء.

وفيما عدا شيطان بودلير لا نرى في هذا الفصل موضعًا للشياطين التي تخيلها الشعراء، ولم تدخل في عداد الصور الخلقية وخوالج الوجدان في الإنسان منفردًا، أو جزءًا من أجزاء الجماعة، فالشاعر الروسي لرمنتوف خلق في إحدى قصصه شيطانًا لا يعدو أن يكون إنسانًا متنكرًا يزاحم الناس على العشق والشهوة، والشاعر الإنجليزي بيرون خلق شيطانًا في قصيدته «رحلة الشيطان» لا يعدو أن يكون مخبر صحيفة يروي للقراء ما يُروى في المجالس النيابية ومجالس السمر، وغيره من الشعراء قد اختار اسم الشيطان ليُجري على لسانه كلامًا يجريه بعض الشعراء الآخرين على ألسنة الطير والحيوان، أو على ألسنة الشجر والجماد.

أما الشيطان الذي نعرض هنا ذكره، فهو الشيطان الذي يحوم في النفس الإنسانية، وبين الجماعات البشرية في تقاليدها وموروثاتها ومقاييسها لخيراتها وشرورها، وهو الشيطان الذي يطيف به خيال الشاعر معبرًا عن شعوره، وإن لم يكن من عقائد دينه، كالشياطين التي سميت بأسمائها في الأدب العربي؛ هبيد ومسحل والهوجل وجهنام، أو كالشياطين التي يعتقدها المتدين، ويفتن الشاعر في تصويرها لامتيازه بملكة الخيال، وملكة الرمز والتشخيص؛ فهذه الشياطين قوى مشتركة في طبائع الناس، وقيم نفسية يقومها الناظرون في الأخلاق والطباع، ولو رفعناها منها بأسمائها لبقي مكانها متطلبًا منا أن نسميها بغير تلك الأسماء؛ لأنها لا تقبل السكوت عنها، ولا تغفلها الحياة إن أغفلها اللسان.١

في الأدب العربي

يندر في الأدب العربي تمثيل الشياطين الشعرية من قبيل تلك الشياطين التي حفلت بها ملاحم الشعراء الغربيين وقصائدهم؛ لأن شعراء العرب لم ينظموا الملاحم التي يتمثل فيها أبطالها بملامحهم الظاهرة وملامحهم الخفية، ونحسبهم لو نظموا هذه الملاحم لما كان للشيطان فيها هذا الشأن الذي أصابه في أدب الغرب شعرًا ونثرًا؛ لأن الأدب العربي لا ينسب إلى الشيطان دورًا في قصة الخليقة والخلاص كالدور الذي يُنسَب إليه في عقائد الأدباء الغربيين، فإذا نظم الشاعر العربي ملحمة عن الخليقة لم يكد يفعل فيها الشيطان فعلة غير ذلك الوسواس، الذي يطرأ على كل سريرة آدمية في ساعته، كما طرأ على سريرة آدم أو سريرة حواء.

وإذا تخيل المتخيل صفة للشيطان في كلام شاعر عربي، فلا نظنه يخرج منه بصفة غير تلك الصفة التي لخصها أبو نواس في خليط من الخبث والحماقة؛ لأنه:

تاه على آدم في سجدة
وصار قوَّادًا لذريته
إبليس أكرم من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار

وربما تكرر من الشعراء الذين يشخصونه لأنفسهم ذلك الحوار الذي دار بينه وبين أبي نواس: حوار من يستعين بإبليس على شهواته ويتوعد إبليس أن يتوب عن المعاصي إن لم ييسر له ما يشتهيه، وقد كان إبليس على هذه الصفة عند الشاعر الذي قال فيه:

النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسمو سمو النار

وذلك هو بشار بن برد الذي كان يتظرف بأمثال هذه البدوات، ولا يأتي فيها بجديد من عنده؛ لأن المفاضلة بين العنصرين أقدم من بشار، وأقدم من كل ما قاله الشعراء المسلمون عن إبليس، ولم تخطر صفة إبليس على بال أحد من المتقدمين في الإسلام إلا كان يعلم أن إبليس من عنصر النار.

على أن موضع إبليس من رسالة الغفران لأبي العلاء يشبه بعض الشبه مواضعه من ملاحم الشعراء الغربيين، فقد ذهب فيها إلى أودية ليست كأودية الجنة، فسأل صاحبه بعض الملائكة: ما هذه يا عبد الله؟ فقال له: هذه جنة العفاريت الذين آمنوا بمحمد ، وذكروا في الأحقاف وفي سورة الجن، وهم عدد كثير … ويسأل أحد العفاريت عن أشعار المردة فيقول له: لقد أصبت العالم بحقيقة الأمر، وهل يعرف الإنس من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة؟ ثم يسأله عن اسمه فيقول: إنه يدعى الخيثعور، وإنهم من غير ولد إبليس، وإنهم من الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم عليه السلام.

ويلقى في جنة العفاريت شاعرًا يسمى أبا الهدرس، فيُسمعه من نظمه قصيدة يقول فيها عن أيام طاعته لإبليس:

نحارب الله جنودًا لإبليـ
ـس أخي الرأي الغبين البخيس
نسلم الحكم إليه إذا
قاس فنرضى بالضلال المقيس
نزين للشارخ والشيخ أن
يفرغ كيسًا في الخنا بعد كيس
ونقتري جن سليمان كي
نطلق منها كل غاوٍ حبيس
ونخرج الحسناء مطرودة
من بيتها عن سوء ظن حديس
ونخدع القسيس في فصحه
من بعد ما مني بالأنقليس
ونُعجل السعلاة عن قوتها
في يدها كشح مهاة نهيس
نادمت قابيل وشيثا وها
بيل على العاتقة الخندريس

وفي أقصى الجنة يلقون الحطيئة والخنساء، ويسألون الخنساء عن شأنها فتقول: أحببت أن أنظر إلى صخر، فاطلعت فرأيته كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه فقال لي: لقد صح مزعمك في:

وإن صخرًا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار

قال أبو العلاء عن صاحبه: «فيطلع فيرى إبليس لعنه الله وهو يضطرب في الأغلال والسلاسل، ومقامع الحديد تأخذه من أيدي الزبانية، فيقول: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله وعدو أوليائه، لقد أهلكت من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلا الله، فيقول: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان بن فلان من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك، فيقول: بئس الصناعة — إنها تهب غفة — أي بلغة من العيش — لا يتسع بها العيال، وإنها لمزلة بالقدم، وكم أهلكت مثلك! فهنيئًا لك إذا نجوت، فأولى لك ثم أولى، إن لي إليك حاجة فإن قضيتها شكرتها لك يد المنون، فيقول: إني لا أقدر لك على نفع؛ فإن الآية سبقت في أهل النار، أعني قوله تعالى: وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ.

فيقول إبليس: إني لا أسألك في شيء من ذلك، ولكني أسألك عن خبر تخبرنيه؛ إن الخمر حرمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة. أمَا شغَلك ما أنت فيه؟ أما سمعت قوله تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فيقول: وإن في الجنة لأشربة كثيرة غير الخمر، فما فعل بشار بن برد؟ فإن له عندي يدًا ليست لغيره من ولد آدم؛ كان يفضلني دون الشعراء، وهو القائل:

إبليس أفضل من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسمو سمو النار

لقد قال الحق، ولم يزل قائله من الممقوتين.

فلا يسكت من كلامه إلا ورجل من أصناف العذاب يغمض عينيه حتى لا ينظر إلى ما نزل به من النقم، فيفتحهما الزبانية بكلاليب من نار، وإذا بشار بن برد قد أعطي عينين بعد الكمه لينظر إلى ما نزل به من النكال.»

وكل ما جدَّ بعد المعري من كلام يدخل في باب القصة من الأدب ويذكر فيه الشيطان، فهو تلك القصص التي جمعت باسم ألف ليلة وليلة، واقتبس رواتها ما تداولته الألسنة من أخبار السحرة، وتسخير المردة، وقيام الجان على أرصاد الطلاسم، أو حبسها في الأغوار والقماقم، وهي لا تأتي بابتداع أو اختلاف أو زيادة على ما اعتقده الناس ونظمه الشعراء.

ولم يطرأ على الأدب العربي جديد في هذا الباب حتى مطلع القرن العشرين، ثم نجمت في أوائل القرن العشرين نوازع شتى للتوسع في الاطلاع على آداب الأمم، والبحث في موضوعات الشعر وتعبيراته عند تلك الأمم، ومن موضوعاته الملاحم المطولة، ومن تعبيراته تجسيم المعاني المجردة، والعناصر الطبيعية، وأرواح الغيب وكائناته المشبهة بتماثيل الأحياء.

ونحن في هذا الباب خاصة لا نبحث بحث المؤرخين أو النقاد الأوروبيين، وإنما نراجع ما أحسسناه واختبرناه، ونفهم بواعث النظم والتأليف في هذه الأغراض مما عالجناه، وانبعثنا إليه بوحي الاطلاع وعدوى الخواطر التي يوحيها.

أول ما خطر لنا أن نقارن بين التشبيهات والمعاني المجسمة في اللغات الأوروبية واللغة العربية، وكتبنا في هذه المقارنة عن الكائنات الخفية وعن عجائب المخلوقات وعن الأساطير، مما يطلع عليه القارئ في كتاب «الفصول» ومجمع الأحياء، وأحسسنا الحاجة إلى تصوير بعض العواطف بصورتها الشعرية التمثيلية، فأخذنا في وقت واحد في نظم قصيدة عن سباق الشياطين، وتأليف كتاب نسميه «مذكرات إبليس»، ونخصص كل فصل منه لغواية من الغوايات؛ كالعشق الأثيم، والسرقة، والبغي، والطمع، وسائر هذه الآثام التي تذكر كلما ذكر الشيطان، وكان ذلك حوالي سنة (١٩١٢)، وبعد الاطلاع على طائفة من ملاحم الغرب وأساطيره.

فأما سباق الشياطين فقد تمت القصيدة التي نظمناها في موضوعه، وأما مذكرات إبليس فلم يتم منها غير فصل واحد من فصول الأعور ابن إبليس الموكل بالعشق الأثيم، ثم بقيت النية مترددة حول هذا المطلب، حتى تحولنا عنه بعد الحرب العالمية الأولى إلى موضوع القصيدة التي سميناها «ترجمة شيطان»، ونشرت في الجزء الثالث من الديوان.

وحوالي هذا الوقت ألَّف صديقنا الشاعر العبقري الأستاذ عبد الرحمن شكري كتابه النثري الذي سمَّاه «حديث إبليس»، وقال في مقدمته: «قد بدأ يكثر في آداب اللغة العربية البحث النفسي والتساؤل والتفكير والتعبير عن حركات النفس وبواعثها، ولكن كل ذلك لم يزل قطرة لا نعرف إن كان وراءها سيل أتي. وهذا الكتاب فيه شيء كثير من البحث النفسي والتساؤل والشك والسخر، الذي هو محرك يحرك النفوس ويوقظها، فهو يعبر عن تلك الدنيا التي في كل نَفْسٍ، ففي فصل نصيحة إبليس — مثلًا — ترى تحت السخر المودع في هذا الباب ما أرمي إليه من معائب النفوس الجامدة القبيحة التي تشبه مباول الطرق، وقد جعلت إبليس ينصح بما ينبغي الانتهاء عنه.»

وقد اطلعنا بعد الحرب العالمية الأولى على محاولات منوعة في هذه الأغراض، لم يكن منها ما بلغ في جودته مبلغ العمل الفني خلال ثلاثين سنة أو تزيد، ومنها ما نظم في مصر وما نظم في غيرها من البلاد العربية، حتى ظهر ديوان «عبقر» للشاعر السوري الأستاذ شفيق معلوف، من صفوة أدباء المهجر بالبرازيل، وكان ظهوره في الطبعة الأولى سنة ١٩٣٦، وأعيد طبعه في سنة ١٩٤٩، ثم ظهرت قصة «الشهيد» لزميلنا الكاتب الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم، وهي قصة صغيرة من مجموعة قصصية صدرت سنة ١٩٥٣، وتعد على صغرها من أجود ما كتب في هذا الغرض في جميع اللغات.

أما قصيدة «سباق الشياطين» فخلاصتها أن إبليس جعل لتلاميذه جائزة ينالها من يعرض أعماله، ويثبت للملأ من الشياطين قدرته على السبق في التضليل والإغواء، فانبرى سبعة من الشياطين يتنافسون عليها؛ وهم: شيطان الكبرياء، وشيطان الحسد، وشيطان اليأس، وشيطان الندم، وشيطان الحب، وشيطان الكسل، وشيطان الرياء، فاستحقها هذا الشيطان الأخير — شيطان الرياء — ولكنه جرى على عادته فأظهر الزهد فيها، وتنحى عن تناولها بعد اشتراكه في المنافسة عليها، فخاطبه إبليس:

قال تأباها ولولاك انجلى
غيهب الأرض فكانت كالنعيم
دونك الدنيا اتخذها منزلًا
وتول اليوم أبواب الجحيم

وقصيدة «ترجمة شيطان» هي قصة شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء لهوان الناس عليه، وتشابُه الصالحين والطالحين منهم عنده، فقبل الله منه هذه التوبة وأدخله الجنة، وحفَّه فيها بالحور العين والملائكة المقربين، غير أنه سئم عيشة النعيم، وملَّ العبادة والتسبيح، وتطلع إلى مقام الإلهية؛ لأنه لا يستطيع أن يرى الكمال الإلهي ولا يطلبه، ثم لا يستطيع أن يطلبه ويصبر على الحرمان منه، فجهر بالعصيان في الجنة، ومسخه الله حجرًا، فهو ما يبرح يفتن العقول بجمال التماثيل وآيات الفنون، واستضحك إبليس بين جنده يوم انتهى المطاف بتلميذه إلى هذه الخاتمة فقال:

ما أرى هذا الفتى من دمنا
ومتى استغوى الشياطين الشرك؟!
أترى شيطانة من قومنا
أغوت الأملاك فهو ابن ملك؟!
… … … …
… … … …
فتلاحى القوم ثم استضحكوا
ودعا مازحهم شر دعاء
قال: فلتسلكه فيمن سلكوا
أيها المولى سبيل الشهداء

والسمة التي يتسم بها إبليس، في رسالة الأستاذ عبد الرحمن شكري، هي سمة النقد الساخر، تسري في الحديث من أوله إلى ختامه، ويدل بعضها عليها كقول إبليس عن أخلاق الإنسان والحيوان: «إنني أرى في الحيوانات العجم خصالًا هي في الإنسان ضئيلة خافية، فللكلب من الوفاء والأمانة ما ليس للإنسان، وللخيل من الود والولاء ما لا يبلغ بعضه الإنسان، وللبغال والحمير من الصبر والحزم ما ليس له، وللقرود من الذكاء والفطنة وحب التقليد ما ليس له، ولو فطنتم يا بني آدم لرأيتم أن تزوجوا بناتكم من البغال والحمير والكلاب والقرود؛ لكي يكتسب نسلهن بالوراثة من حميد صفات هذه الحيوانات … ولا تحسب أن النساء ينزعجن من هذا الزواج؛ فإنهن قد ألهمن فضائل الحيوانات، وهذا تفسير ميلهن إلى صغار الكلاب والقرود …»

أو كقول أحد الشياطين: «… فالتفت إبليس إليَّ وقال: سمعت أحد الملائكة يقول لحافظ من الحافظين، وهو الملك الذي يحصي ذنوب الناس: ما لي أراك منتوف الجناحين؟ قال الملك: عافاك الله من الناس؛ فإني أستخدم ريش جناحي كما تعلم في كتابة ذنوبهم، وقد تكاثرت علي ذنوبهم حتى بَرَتْ ريش جناحي وأتلفته، وأنا كلما تلفت ريشة من كثرة الكتابة نتفت من جناحي ريشة أخرى حتى نفد ريشي، ولم تنفد ذنوب الناس.»

وختم الكاتب الرسالة بكلمة عن عظم الوجود وغرور الإنسان، ونصيحة من روح الأبد يقول فيها للإنسان الذي يخاطبه: «اذهب إلى مكانك من الأرض ولا تنس الوجود؛ فإن إحساسك بعظمته فيه معاني العبادة كلها.»

•••

ونظم شاعر المهجر البرازيلي الأستاذ معلوف ديوان عبقر مقسمًا إلى قصائد، يروي في كل قصيدة منها نبأ عن ولد من أولاد إبليس أو بعض الشياطين، فيقول مثلًا عن الشيطان «داسم» إبليس النقائص:

وجاءنا ثاني، أبناء عزريل
سحنة شيطان، في منكبي غول
وقال في دهاء: ويك أنا الكاسي
بالخبث والرياء، نقائص الناس

•••

لمَّا أمَمتُ الأرض في زورة
أستعرض النقائص العارية
ألفيتها والناس قد مزقوا
أجسادها في فتنة دامية
فرحت أكسو بيدي عُرْيها
بحلل برَّاقة زاهية

•••

فاندست الكبرياء، تحت حجاب الحسب
وتحت ستر الإباء، غلغل وجه الغضب
وانقلب العناد، بين الورى حزما
وصار الاستبداد، في عرفهم عزما

ويقول عن الأعور إبليس الشهوة:

وذاك أعور، أطل ينظر، من ظاهر الهوة
وقال: إني أنا، حامي ذمار الخنا، والعهر والشهوة
شرارتي في العيون، حريقة في الدم
أنا مثير الجنون، والفم لصق الفم
ما اتكأ العاشقون، إلا على معصمي
كم ذاق خمري عاشق فالتوى
معربدًا في سكرات الهوى
مهدمًا ببعضه بعضه
وهو على الأنقاض يبني السوى

وختم الديوان بقصيدة عن العبقريين قال فيها عن أهل الخلود من أبناء عبقر:

وثمة استجليت صوتًا دوى
ولم أجده لذهولي سوى
جماجم أرواحها غلغلت
تصخب فيها من خلال الكوى
فصاحت العظام: أعطى الذي أخذ
لم تظفر الأيام، منا بغير الفلذ
فكن عش الغرام، وصرن مأوى الجرذ
لكنما أحلامنا لم تزل
ترقص سكرى فوق غلف المقل
حاملة للناس خمر الهوى
مشعة خلف كئوس الأمل

والغالب على ديوان عبقر روح غنائية يسعدها خيال موفق في كثير من تشخيصاته، وما ينطبق به لسان الحال من تلك الشخوص المخيلة.

•••

وهذه الجوانب المتعددة من صور الشيطان في الأدب العربي الحديث تتم من جانبها الفني بقصة «الشهيد» للأستاذ توفيق الحكيم؛ لأنه أعطى الشيطان دوره المحتوم في مسرح الكون، وجعله كما هو في الواقع دورًا لا حيلة فيه له، ولا لأصحاب الأديان الذين يلعنونه ويستنكرونه، ولكنه يلجأ إليهم ليتوب على أيديهم فلا يدرون كيف يقبلون توبته؛ فإن الحبر المسيحي لا يملك أن يتصرف في عقيدة الخطيئة والخلاص، والرباني اليهودي لا يملك أن يتصرف في مكان شعب الله المختار بين الأمم التي أضلها الشيطان على اعتقاده، والإمام المسلم لا يملك أن يتصرف في التعوذ من الشيطان الرجيم.

ويصيح إبليس يائسًا: «وجودي ضروري لوجود الخير ذاته … نفسي المعتمة يجب أن تظل هكذا لتعكس نور الله.» ويبكي إبليس فتتساقط دموعه كالنيازك على رءوس عباد الله، فينهاه جبريل عن البكاء، ويحيق به اليأس من كل جانب، فيهبط إلى الأرض مستسلمًا، «ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره وهو يخترق الفضاء … رددت صداها النجوم والأجرام في عين الوقت؛ كأنها اجتمعت كلها معه لتلفظ تلك الصرخة الدامية: أنا الشهيد، أنا الشهيد».

ومن الحق أن نلحق بما تقدم لونًا آخر من ألوان الحديث عن الشيطان في الشعر العربي، لم نثبته مع الصور السابقة لأنه من ألوان الرأي لا من ألوان التخيل والتصوير، ولكنه لا يهمل كل الإهمال في هذا المطلب؛ لأنه رأي يُبديه صاحبه في حقيقة الشيطان.

ذلك هو رأي الأديب العراقي الكبير جميل صدقي الزهاوي، ومجمله أن الشيطان هو الإنسان الذي يخدع غيره لغاية من غاياته:

لا يخدع المرء إنسانًا لغايته
إلا إذا كان ذاك المرء شيطانا

وأما الشياطين والعفاريت فقد حدث الكتاب الكريم في ذكرها، وأخطأ المفسرون — كما قال — في حساب الملكين:

غير أني أرتاب من كل ما قد
عجز العقل عنه والتفكير
لم يكن في الكتاب من خطأ كلا
ولكن قد أخطأ التفسير

فهذا المطلب على حداثته في الأدب العربي قد أحيط من جوانب متعددة، وهو — ولا شك — لا يساوي نظائره الأوروبية في استفاضتها، ولكنه يساويها في طبقتها إذا أسقطنا من أدب الغرب ما استعاره من قصة الخليقة، وما كان لهذه القصة من القداسة الدينية التي لم يخلقها ابتكار الشعراء والأدباء.

في العصر الحاضر

إذا أخذنا بإحصاء الكلمات والتعبيرات للحكم على مقدار انتشار الأفكار والعقائد جاز لنا أن نقول: إن الحضارة العصرية أكثر الحضارات إيمانًا بوجود الشيطان، وعمله الدائم في النفس البشرية والبيئات الاجتماعية؛ فإن كلمة الشيطان والشيطانية والشيطنة من أشيع الكلمات في كتابة الأوروبيين العصريين، ومنها ما يشتق من كلمة الشيطان بنطقها الشرقي، أو يشتق من الكلمات اليونانية والسكسونية بلفظها القديم ولفظها المتداول في العصر الحاضر.

ولكننا سنرى مسألة الشيطان هذه من أقوى المكذبات لطريقة الإحصاء الآلية؛ طريقة الحكم على الأفكار والعقائد بعدد الكلمات والعبارات، فإن كلمة الشيطان كانت علمًا على «شخصية» الكائن الشرير، فأصبحت على ألسنة القوم معنًى لغويًّا لا تؤديه كلمة أخرى في مدلوله؛ لأنه يؤلف من كلمة واحدة بين الأعمال الشيطانية بجملتها؛ ويفهم منه الكيد والخبث والمهارة والنفاق وحب الأذى، وكل معنًى يناقض الاستقامة والصلاح، وأكثر ما تستخدم الكلمة ومشتقاتها فإنما تستخدم بمعناها هذا الذي انتقل من ألفاظ الأعلام إلى ألفاظ المعاني والصفات.

وقد أصبح استخدام هذه الكلمة كاستخدام السيد المسيح لكلمة «مأمون» حين عبَّر بها عن سيادة المال والجشع، فقد كانت الكلمة في اللغة السريانية علمًا على رب يزعمون أنه رب المطامع الدنيوية، فكان السيد المسيح يقول لتلاميذه: إنكم لا تستطيعون أن تخدموا سيدين، ولا تستطيعون أن تنالوا رضى الله ورضى مأمون، ولم يكن عليه السلام يصدق عقيدة السريان في مأمون، ولكنه كان يقولها ويعلم أن سامعيه يفهمون عنه ما أراد، وهو التعبير عن الجشع ومطامع الأشرار.

وبهذا المعنى المجازي تشيع كلمة «الشيطنة» فيما يكتبه أبناء الحضارة الأوروبية الحاضرة، وقد يكتبها الملحدون الذين ينكرون وجود الكائنات الغيبية، كما يكتبها المتدينون الذي يؤمنون بوجود الشيطان، ويختلفون في عمله وفي مدى قدرته، وكلهم في العصر الحاضر يسمعون باسم الشيطان، فلا يتخيلونه على الصورة التي كانت تسبق إلى خيال السامع في القرن الرابع عشر وما قبله أو بعده بقليل.

وقد ظهر في باريس عند أواخر القرن الرابع عشر كتاب عن وصايا الشيطان التي يقابل بها وصايا الله، فجمعها في ست وصايا خلاصتها: العناية بالنفس دون غيرها، وألا يعطي المرء شيئًا بغير جزاء، وأن يتناول طعامه منفردًا ولا يدعو أحدًا إليه، وأن يقتر على أهله، وأن يحتفظ بالفتات من مائدته والأسمال من كسائه، وأن يقنطر المال عنده طبقة فوق طبقة … وهذه رذائل القرن الرابع عشر كما أحصاها بنوه بين الجد والسخرية، وإنها اليوم لفضائل العصر الذي يسمى بعصر التدبير والاقتصاد والأنانية الفردية؛ ومن أجلها تسمى الحضارة العصرية بالحضارة الشيطانية!

ومن البديه أن المتحدثين عن الشيطان في حضارة العصر لا يقصدون جميعًا هذا المعنى المجازي، ولا يقصرونه جميعًا على الصفات دون الأعلام والأسماء؛ فإن أكثرهم متدينون يؤمنون بوجود الشيطان وعقيدة المسيحية فيه، ولكنهم — كما أسلفنا — يسمعون باسمه فلا يتخيلونه على الصورة التي كانت تسبق إلى خيال السامع قبل بضعة قرون.

فهم يذهبون اليوم بصرعى الجنون إلى الطبيب، ولا يعالجونهم عند الكاهن أو رجل الدين، وهم يفرقون اليوم بين وساوس نفوسهم وما ينسبونه إلى الشيطان من إيحاء وتلقين، وليس للشيطان عندهم تلك المملكة الواسعة التي كانت له في القرون الوسطى؛ فإنها انحسرت شيئًا فشيئًا حتى كادت تخرج من عالم الطبيعة إلى ما بعدها، وكادت دولة الشيطان تئول إلى حالة كالحالة التي حصره فيها الإسلام؛ قرين سوء ليس له على قرينه سلطان.

•••

ويئول الشيطان على هذا في القرن العشرين إلى مصيرين: مصيره في مجال العقيدة الدينية، وهو إلى النقصان، ومصيره في مجال العبارة المجازية، وهو إلى الزيادة، وعلى الناظر في العبارات والأساليب أن يطيل النظر في هذا المصير الأخير، أليس فيه الحجة الدامغة لبلاغة الوجدان على بلاغة العقل واللسان؟ أليست هذه اللفظة الواحدة: لفظة «الشيطان» بلاغة وجدانية تتقاصر عن مداها في التعبير كل عبارة تجريها اللغة مجرى الفكر و«اللفظ المركب المفيد».

•••

من الذين زادوا في عدد الشياطين المجازية من كتاب العصر الحاضر: تولستوي، حكيم الروس الكبير؛ فقد أضاف إلى عددهم شيطان الكبرياء العنصرية، وشيطان التعصب الديني، وشيطان الاستعمار، وشيطان الحرب والاستبداد.

ومن الذين زادوا في عددهم إلى الملايين: برتراند رسل، فيلسوف الرياضة المعروف؛ فإن شيطانه الذي أقامه في الضواحي رجل كان طفلًا يتيمًا تركه أبوه لزوجة سكيرة، تحبسه في الدار يهلك جوعًا وعريًا، وتذهب لتسكر وتعربد في الطريق، فإذا شكا إليها الطفل اليتيم إذ ترجع إلى المنزل آخر الليل ضربته حتى يصيح، ثم ضربته حتى يسكت عن الصياح، فكبر في الدنيا وهو يجهل أباه، ويحقد على أمه، أولى الناس بعطفه عليها لو استقامت الدنيا على السواء، وقل ما شئت فيمن يحقد عليهم غير أمه من خلق الله … فهم كل خلق الله! وفيهم الملايين من أمثاله الحاقدين على كل مخلوق.

ومن الذين زادوا عددهم الكاتبةُ الإنجليزية المعروفة ماري كوريللي، والشيطان عندها في قصة أحزان الشيطان يشبه أن يكون صورة الخير منظورًا من قفاه لا من وجهه، وسائرًا إلى الوراء بدلًا من مسيره إلى الأمام.

ومن الذين زادوا في عددهم سليلُ بيت العلم بين الإنجليز الدوس هكسلي، كاتب القصة والمقال، وأديب العلماء وعالم الأدباء؛ فإنه أخذ «أسيدي» شيطان القرون الأولى فنسخ منه ألوف النسخ بين الآدميين، وجعل هذا العصر أحق به من عصور النساك والرهبان الذين رهبوه في وضح النهار؛ إذ كان من بلواه أنه لا يغشاهم مع الظلام، بل يطرق عليهم قلوبهم في وهج الظهيرة، ومع شمس الصحراء التي يهرب منها الإنس والجان.

كان «أسيدي» هذا شيطان الحلم في اليقظة الذي سلطه إبليس على رهبان الصعيد في عصور المسيحية الأولى، وكان من دأبه أن يلهيهم عن العبادة بما يزخرفه لهم من الأحلام والرؤى وهم مفتوحو العيون، مستسلمون للسكون في ظلال الصوامع بين نيران القيظ في الصحراء، فإذا حلموا كسلوا، وإذا كسلوا شكُّوا، وإذا شكُّوا آل بهم الشكُّ إلى السآمة والملل وكراهة الدنيا والآخرة، واليأس من الصحيح والباطل على السواء.

وينقله الكاتب من القرون الأولى إلى القرن التاسع عشر، ثم إلى القرن العشرين، ويقول في تفسير نقلته: «إننا لا نزعم أن (أسيدي) من مخترعات القرن التاسع عشر؛ فإن السآمة والخيبة واليأس وجدت قديمًا ولم تنقطع عن الوجود، وابتلي الناس بآلامها فيما مضى كما نبتلى بها الآن … غير أنها في العصر الحديث قد طرأ عليها ما يجعلها موقرة مرعية، ولا يجعلها كما كانت خطيئة محظورة، أو يجعلها مجرد عرض من أعراض السقم …

وهذا الذي طرأ عليها إنما هو التاريخ كله منذ سنة ١٧٨٩ … إنما هو إخفاق الثورة الفرنسية، وذلك الإخفاق الذي يربي عليه في الضجيج والأبهة؛ وهو سقوط نابليون، فقد غرس كلاهما (أسيدي) في قلب كل فتًى من الفرنسيين وغير الفرنسيين صدق دعوة الحرية، وطمح إلى أحلام المجد والعبقرية، ثم جاءت الصناعة الكبرى بما تراكم معها من القذر والبؤس والمال الحرام، وكان مسخ الطبائع على يد هذه الصناعة حسب القلب الكريم من محنة الحزن والأسى.

واطلع الناس فرأوا أن الحرية الدستورية التي طالما كافحوا من أجلها عبث، لا يغني شيئًا مع طغيان الآلات واستعبادها للنفوس، فكان ذلك رعبًا آخر من ضروب الرعب التي خيبت الآمال في القرن العشرين، وزيد عليها من دواعي السآمة داعٍ أدق وأغلب مما عداه؛ وهو تعاظم المدن وراء كل مقدار معقول، فتعوَّد الناس المقام بها، وأحسوا في البعد عنها تفاهة لا تطاق، وأطبقت البلوى عليهم فأحسوا من ضوضاء المدينة حنينًا إلى سآمة الريف … وكأنما كانت هذه المضجرات في انتظار تاج يعلوها، فتوجتها الحرب العالمية الأولى.»

ويعنى بالكتابة عن شيطان العقيدة الدينية أناس من طبقة هؤلاء الكتاب الذين اتخذوا من اسم الشيطان تعبيرًا مجازيًّا عن مساوئ العصر وشروره وأدناسه، وربما كتب المؤلف الواحد عن هذا الشيطان وذاك الشيطان، كما فعل هكسلي فيما ألممنا به من كتاباته آنفًا، وفي كتابه الذي ألفه عن شياطين لودن The Devils Of Loudun … ومن قرأ هذا الكتاب علم أن هكسلي قد أراد أن يكشف عن خبيئة من السوء في هذا الإنسان الذي يلعن الشيطان، لم يهبط إلى ما دونها أخبثُ الشياطين.

فالقصة التي حققها الكاتب من مراجعها التاريخية إحدى المبكيات المضحكات من مآسي التاريخ التي حفلت بها صفحاته في القرون الوسطى، وكان فيها مظلومان مكذوب عليهما كذبًا لا يخفى على أحد في الزمن الحديث، وهما الشيطان ورجل من رجال الدين مغضوب عليه.

وقد بدأت القصة بإصابة بعض الراهبات في بلدة لودن بالصرع، واتهامهن بالتجديف والبذاء والتفوه في نوبات المرض بكلام يخجلن منه كلما أعيد عليهن بشيء من التلميح وهن مفيقات، ولو حدثت هذه الإصابة في العصر الحاضر لاستطاع رجل الدين، كما يستطيع رجل الدنيا، أن يفهم أنهن مصابات «بالهستيريا»، أو بالفصام الذي تنقسم فيه شخصية المريض، ولكن الرئيس الذي تولى البحث في أمرهن لم يستطع أن يفهم من بذائهن في خلال النوبة، وخجلهن بعد الإفاقة منها، إلا أن المتكلم بالبذاء أحد غيرهن يهمه أن يعبث ببراءة الراهبات؛ انتقامًا من الله وعابداته وعابديه، ومن يكون هذا المنتقم القادر على صرع فرائسه غير الشيطان.

وسنحت الفرصة لاتهام الرجل المظلوم مع الشيطان؛ وهو الأسقف «جرانديه» عدو الكردينال ريشتيه ذي الحول والطول في بلاط باريس، فاتهم بالفسوق وتسليط الشيطان على الراهبات للتغرير بهن، وصدقت إحداهن أنها فريسة للشيطان بإغراء الأسقف الساحر، فرمته بالتهمة كما أُوحي إليها، وقرر المحققون أنهم سمعوا اعتراف الشيطان وهو يتكلم بلسان تلك الفريسة، فتقررت إدانة الأسقف بشهادة الشيطان، وحكم عليه بالإحراق وهو بقيد الحياة.

ولما قيل لهم: إن الشيطان أبو الأكاذيب لم يعسر عليهم أن يبطلوا هذه الشبهة باضطرار الشيطان إلى الصدق بين يدي أصحاب العزيمة والبرهان من المحققين الصالحين.

وتمشي السخرية مع الفجيعة جنبًا إلى جنب في هذه المهزلة الشيطانية، فيحدث في بعض محاضر التحقيق أن يقول الشيطان: إن السيد لوبردمان، رئيس لجنة التحقيق، ديوثٌ تخونه امرأته مع الأسقف وغيره، ويكون لوبردمان غائبًا عن الجلسة، ولا يلتفت إلى قراءته عند توقيعه، فيضع عليه اسمه بعد السطر المعهود الذي يقرر فيه اعتماد الصدق في كل ما جاء فيه، ويضحك ولاة الأمر ملء أفواههم ساعة يعرض المحضر عليهم، ولكن رئيس اللجنة يعود إلى التحقيق لتسخير ذلك الشيطان نفسه في تمليق الكاردينال، ويفتتح المحضر المحفوظ بتاريخ (٢٠ مايو سنة ١٦٣٤) سائلًا: ما قولك في الكاردينال العظيم حامي حمى الديار الفرنسية؟ فيجيبه الشيطان مقسمًا باسم الله: إنه سوط عذاب على أصدقائي أجمعين، ويعود الرئيس سائلًا: ومن هم أصدقاؤك؟ فيقول له الشيطان: إنهم زمرة الهراطقة، ويسأله الرئيس: وما هي مآثره الأخرى؟ فيجيبه الشيطان: إنها هي إنقاذه للشعب، وقدرته على الحكم هبة من الله، وحرصه على سلام المسيحية، وولاؤه للملك لويس …

وبعد العناء المضني في جمع هذه الأوراق، والمضاهاة بين التحقيقات، يخرج الكاتب منها إلى سحرة العصر الحاضر الذين يسخرون أعنف شياطينه، وهو شيطان الجماعة المستفزة إلى الشر والعدوان باسم المذاهب أو الأوطان، فما تصنعه النازية حين تثور على أعداء الجنس الآري المطهر، وما تصنعه الفاشية حين تثور على أعداء المجد الروماني العريق، وما تصنعه الشيوعية حين تثور على أصحاب الأموال الأوغاد، كل أولئك ثورة لا تتورع عن اتهام الأبرياء، وإحراق الأحياء، والهبوط إلى الهاوية في أهبة الصعود إلى السماء.

•••

ومن المفكرين الذين لهم خطر في كل بحث يدور على العقيدة والتفكير العصري كاتبان عالميان؛ هما: الدكتور لويس، صاحب كتاب المعجزات، وكتاب مسألة الشر، وكتاب ما وراء الشخصية وغيرها من الكتب في موضوعات الفلسفة الدينية، ويعتبرونه فيلسوف المذهب البروتستانتي في العصر الحاضر، والكاتب الآخر: جيوفاني بابيني، صاحب كتاب حياة المسيح، وأديب المذهب الكاثوليكي المرضي عنه بين المجددين وبين فريق غير صغير من المحافظين.

ألَّف الدكتور لويس رسائل الشيطان وجعلها على لسان أستاذ من الشياطين يعلم تلميذه أساليب الفتنة والدسيسة، وإقصاء بني آدم عن حظيرة الرضوان، ومعظم هذه الأساليب نفسية يرى العلماء النفسانيون مع المؤلف أنها بواعث شر وجهل في الطبيعة الإنسانية، ويرى العلماء الدينيون معه أنها مداخل الشيطان إلى سريرة الإنسان، فيقول الشيطان الأستاذ — مثلًا — لتلميذه: إنه خليق أن يتنبه إلى خطأ جسيم يقع فيه ناشئة الشياطين، وهو اعتقادهم أن السرور حبالة الشيطان.

إذ الحقيقة أن الإنسان باقٍ في الحظيرة الإلهية ما بقي في نفسه موضع للسرور، وعلى الشيطان أن يفرق بين السرور على أنواعه، وبين السرور المصطنع الذي يلحق باللغو والتهريج. وينبه الأستاذ تلميذه إلى الإقلال من العناية بإغوائه المتدينين الذين تساورهم الشكوك من جراء الحروب والنكبات؛ فإن المتدين الذي لا تصمد عقيدته لهذه الشدائد غنيٌّ عن الإغواء، ولا حاجة بالشيطان إلى فرط العناية بإغوائه، وعلى الشيطان التلميذ ألا ييأس من أصحاب الفضائل الذين يعلمون بفضائلهم، ويفخرون بها مع أنفسهم ومع غيرهم؛ فإنها فضائل على مقربة من الرذائل الشيطانية قد تعمل على الرذيلة وهي في عنفوانها.

وليس من عمل الشيطان أن ينشر الإلحاد؛ لأن الذي ينكر وجود الله ينكر وجود الشيطان، وإنما عمله أن يصرف المؤمن بالله عن الأمل والعبادة، ورؤية المحاسن والمعجزات في خلائقه ومقاديره. وأقوى الحبائل في رأي الأستاذ الشيطان أن ينفصل الإنسان من حاضره، ويقبل على المستقبل بجملته؛ فإن المقبل على المستقبل منقطع عن الحاضر والماضي، متعلق بالأباطيل ودواعي القنوط والكراهية.

وعلى الشيطان الناشئ أن يذكر أن الكراهية هي المهمة في المذاهب «المستقبلية» دون عناوينها ودعاويها، فلا فرق بين الشيوعية والفاشية والإباحية على اختلافها ما بقيت نفس الإنسان خلوًّا من الحب، مُفْعَمة بالنقمة والبغضاء. وآفة الآفات الكبرى على الدوام أن يصبح الكون في نظر الإنسان صفرًا من العجائب، وشتيتًا متشابهًا من المألوفات والمتكررات.

ولولا ضيق نظر يساور عقل المؤلف أحيانًا كلما نظر إلى عقيدة غير عقيدته؛ لكان تفكيره في هذه الأمور مطابقًا لتفكير المتدين في كل دين.

والكاتب الكاثوليكي جيوفاني بابيني يؤلف الكتاب عن الشيطان، ويريد أن يطبق فضيلة السماحة على هذا العدو المبين في جملة الأعداء الذين تشملهم رحمة الله، ويرى أن الله لا يرضيه دوام الشر، ولا دوام السقوط على كائن من الكائنات العاقلة، فلا بد في نهاية التجربة الكونية من حياة لا شر فيها ولا شيطان، وزوال الشيطان إنما يكون بزوال شره وارتداده عنه إلى الخير والصلاح.

ورأيه هذا مخالف لآراء الأكثرين من أقطاب المذهب، ولكنه لم يبلغ من المخالفة أن يُعرِّضه للطرد والحرمان، فإن آراءه الأخرى في الكتاب تحسب له إذا حسب هذا الرأي عليه، وفيها شرح للعقائد الدينية، وتقبيح للمنازع الشيطانية يحمده له المعتقدون، ويقنعون به من الكاتب في زمن يقل فيه أمثاله من الكتاب العالميين الذين يعلنون عقائدهم في غير مبالاة بسخرية المنكرين والملحدين.

تلك زبدة مفيدة لما يسمى (بالديمنولوجي) “Demonology” أو مباحث الباحثين عن الشيطان في العقيدة الدينية، وفي التعبيرات المجازية في القرن العشرين.

فالمتدينون يؤمنون بوجود الشخصية الشيطانية فعلًا، ويحصرونها في أضيق حدودها، ولا يبوئونها من السلطان على النفس البشرية تلك المنزلة التي كانت لها في عقائد الأولين.

والمعبرون المجازيون فريقان: فريق يلغي الشخصية الشيطانية البتة، ويحل محلها عوامل الوعي الباطن التي يسميها الغريزة، أو الكبت، أو العقد النفسية، أو علل الشخصية السقيمة وما شاكل هذه الأسماء … وهذا الفريق مسبوق إلى رأيه في جملته دون تفصيله؛ فقد ذهبت هذا المذهب فئة من المعتزلة ترى أن الشيطان هو وساوس النفس، ودوافع الشهوة والطمع والغضب والخديعة، وتستند في رأيها إلى قول النبي عليه السلام: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق.» وليس هذا التأويل عند جمهرة المحدثين بالتأويل المقبول.

والفريق الآخر على رأي هكسلي الذي تقدم ذكره، وهو أن العقل والعلم لا يمنعان وجود الشيطان، كما جاء في الفصل السابع من كتابه عن شياطين لودن؛ حيث يقول: «هل توجد الشياطين؟ وإن كانت توجد؛ فهل كانت حاضرة في جسد الأخت جين وزميلاتها الراهبات؟ فأما المس الشيطاني فلست أرى في القول به سخفًا أصيلًا، ولا أجد شيئًا من التناقض في فكرة ترى إمكان وجود الأرواح غير الإنسانية؛ طيبها وخبيثها، أو لا طيبة ولا خبث فيها، وليس ثمة ما يضطرنا إلى القول بأن المَلَكة الفاهمة ممتنعة فيما عدا أجسام الإنسان والحيوان، وإذا قبلنا الشواهد على الكشف والنظر البعيد — وهي شواهد يكاد القول برفضها أن يتعذر علينا — فلا بد من الإيمان بعوامل مُفكِّرة مستقلة على الأغلب الأعم عن المكان والزمان والمادة.»

وهذه هي زبدة «الديمنولوجي» في صفحتها الأخيرة من آراء المتدينين والمفكرين في القرن العشرين.

١  أهملنا في هذا الفصل ما كتب على سبيل الهزل في قصص الفكاهة كقصة «رابيليه» الفرنسي، و«بن جونسون» الإنجليزي، فإنهما صورا الشيطان غرا مخدوعًا ليبالغا في دهاء الفلاحين أو المرابين، ولم يقصدا الجد في تصوير شيطان معلوم، أو تصوير الخلائق الشيطانية على العموم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤