رواية الأزهر وقضية حمادة باشا

الفصل الأول

(تُرفع الستار عن ساحة معهد كبير تمثِّل ساحة معهد الأزهر الشريف وبجوانبها وفي وسطها مقاعد مرتفعة وعليها حضرات بعض العلماء المدرسون ومحتاط بكل مقعد بعضًا من طلبة ذاك المعهد الشريف.)

عالم : ما بالكم أيها الطلبة مكثرين من الغوغاء في هذا اليوم خلافًا لعادتكم؟
طالب : إن الغوغاء لآتية من حلقة أخرى، أما نحن فصاغون كل الإصغاء لما تلقيه علينا من الدرس.
عالم : وما بال إخوانكم متهيجين، وأراهم ليسوا براضين عما يلقيه عليهم حضرة المدرس؟
طالب : لعلهم يفتكرون في مطالبهم التي طالما طالبوا بها من زمن بعيد ولم يُصغِ لقولهم أحد.
عالم : وأي شيء يطلبون … وهل هذا الوقت هو معدٌّ لتقديم طلبات … وهل بمثل تلك الغوغاء يؤملون الالتفات إلى مطالبهم؟
طالب : وبأي كيفية يطلبون مطالبهم الحقة إذا لم يفعلوا ما هم فاعلون الآن من الغوغاء وتهييج الافكار؟!
عالم : إذن أراك راضيًا عن أفعالهم، بل وأصبحت أكثر منهم عنادًا، وعليه فإن لم تجلس بأدب وانتظام صاغيًا لما ألقيه عليك وعلى رفقائك، ناديت على أحد مُلاحظي النظام وطلبت عقابك على هذا الفعل!
طالب : قل يا حضرة العالم ونحن صاغون بكل تأدب.
عالم : كان عمر بن عبد العزيز إذا أضاء فتيلة يحسب عليها مال المسلمين فدخل عليه داخلٌ ليكلمه في شأن خاص فأطفأها وقال: ما يكون لي أن أستضيء بنور المسلمين إلا في شئون المسلمين.
طالب : إذن فيسمح لي حضرة العالم أن أسأله سؤالًا لم أخرج به عن هذا الموضوع؟
عالم : قل ما تريد بكل اختصار فأجيبك عليه.
طالب : إذا كانت ملوك المسلمين وخلفاؤهم وأمراؤهم يحافظون هكذا على أموال المسلمين حتى من إضاءة فتيلة في غير موضعها … فلماذا أمراؤنا يستبيحون أكثر نعم المسلمين وأموالهم فيما لا فائدة منه على الإسلام ودينهم مطلقًا؟
عالم : هذا البحث ليس من شأننا فسل سؤالًا غير هذا أجيبك عليه.
طالب : عظيم. لمَ نحن معاشر الطلبة نتكبَّد هذه المشقات في تغربنا عن أهلنا وابتعادنا عن بلادنا ومكوثنا السنين الطوال بهذا المعهد؟
عالم : لتشرفكم في خدمة الدين الحنيف.
طالب : أوَليس هذا الدين هو دين الإسلام؟ فإذا كان كذلك، فكيف لا يكون لنا النصيب الأكبر من أموال المسلمين؟
عالم : هو كما تقول، فخيرات المسلمين أكثرها تُنفَق عليكم وعلى هذا المعهد وما يتبعه من معاهد الدين. وما من أحد إلا ويعرف ذلك.
طالب : ولماذا أكثرنا جائعون بائسون إذن؟
عالم : إنكم الآن تتعلمون، ومتى تعلمتم تصيرون علماء مثلنا فلا تحتاجون بعد.
طالب : ولنفرض يا حضرة الأستاذ أن العناية ساعدتنا وصرنا من أمثالك، فأين هي النتيجة الحسناء ونحن نراك أفقر منا؟!
عالم : أنا لست بفقير كما تزعم، ومع كلٍّ فقد غناني الله بإيمان وحق مبين.
طالب : وعلى هذا أيمكن لسيدي أن يخبرني عن مرتبه الذي يتقاضاه قيامًا لما يقوم به من الأعمال الجليلة؟
عالم : لندع مقدار المرتب الذي لا يُذْكر ونبشِّركم بأنه وإن كان مرتبنا قليل جدًّا فإن لنا مكافآت متوالية نأخذها عند نجاحنا في كل امتحان.
طالب : وما هي مدة كل امتحان؟ وما هو مقدار المكافأة؟
عالم : أما المدة فهي قصيرة جدًّا وهي سنتان أو ثلاثة بالأكثر، ومقدار المكافأة فعظيم جدًّا وهو جنيه واحد إنكليزي يُخْصم منه ستون غرش ثمن استمارات ورسوم للامتحان، والباقي وهو الأربعون قرش إلا قرشي ونصف لنا خاصة، بارك الله لنا فيها، وقد نصت اللايحة أن هذه المكافأة لم تعطَ إلا تشجيعًا للاجتهاد على العمل والإقدام في خدمة الدين الإسلامي.
الطلبة : ها ها ها … حقًّا! إن هذا شيء مضحك، والمضحك أكثر هي مقدار تلك المكافأة الجسيمة الهائلة.
عالم : أراكم قد خرجتم عن دائرة الاحترام بضحككم هذا.
الطلبة : نعم، فلقد خرج شيوخنا ورؤساؤنا عن دايرة الحق والعدل والإنصاف من قبلنا، فضرُّونا وضروا أنفسهم، بل ضروا الإسلام ودينه الحنيف بتصرفهم هذا.
عالم : انظروا تروا ملاحظي الجامع قد وقفوا وهم على وشك القبض عليكم من فعلكم هذا.
الطلبة : وها نحن تاركين لكم معهدكم هذا معتصبين عن سماع ما تلقونه علينا، بل ذاهبون إلى حيث نجد ضمانًا لمستقبلنا الضائع إلى أن ينتبهوا شيوخنا ويصغوا إلى مطالبنا ويهديهم الله إلى إنصافنا، وما هذا على الله بعزيز.
ملاحظ : اجلسوا أيها الطلبة في مجالسكم بكل انتظام واسمعوا دروسكم بكل آداب واحترام وإلا …
الطلبة : دعنا وشأننا وافعل ما تشاء، فلا نجلس ولا نسمع شيئًا حتى تُجاب مطالبنا.
مفتش : إن لم تجلسوا مختارين أجلسناكم مجبورين.
طلبة : أتجبروننا بالقوة على الجلوس؟ فإذا كان كذلك فنحن أقوى منكم بالنسبة لعددنا.
مفتش : في أقل من لمح البصر أحضرنا قوة الحكومة. عندها تعلموا يا ذا الهفوة أن الحق مع القوة.
طالب : كلا يا حضرة المفتش، ليس الحق مع القوة؛ فإن القوة مع الحق، ومع ذلك فها أنا أول من ينادي على إخواني بالاعتصاب والإيقاف عن العمل إن لم يجيبوا مطالبنا (يقف على مقعد عالٍ وينادى بصوت جهوري): يا إخواني الطلبة، ويا من تجمعني وإياكم أكبر كلية دينية ويضمنا أعظم معهد علمي، أشير عليكم بالاعتصاب والانقطاع عن دروسكم حتى تجاب مطالبنا الحقة، أو خير لنا ترك هذا المعهد غير آسفين ما دمنا بهذا الشكل السيئ والضنك والبؤس.
طلبة : نعم نعم، فهذا خير لنا … وها نحن يد واحدة معتصمين بحبل الله جميعًا؛ فإن القوة في الاتحاد.
(ينزل الستار.)

الفصل الأول

المنظر الثاني

(ترفع الستار عن شكل قاعة مزخرفة وبجانبها مكاتب عليها بعض مشايخ وفي صدرها مكتب حضرة شيخهم وهو يمثل فضيلة شيخ الجامع الأزهر يخاطب المشايخ.)

الشيخ : ما هذه الغوغاء يا حضرات الأفاضل؟
عالم : إنها لآتية من جهة حلقات التدريس، وما أظنها إلا تهييجًا من الطلبة الذين يرغبون المطالبة بحقوقهم المهضومة في نظرهم.
الشيخ : لقد تقدم إليَّ شكاوى كثيرة بهذا الخصوص وفاتحت بها أولي الأمر ولم أجد التفاتًا.
عالم : التفاتَ مَن ترجون فضيلتكم؟! ومن هو المسئول غيركم في هذا الأمر الخاص بوظيفتكم؟! أوَلم تكن وظيفتكم أقدر من ذلك؟
الشيخ : هو كما تقول، ولكن الأمر بخلاف ما تزعم؛ ففي الأمور أمور لا يمكن التصريح بها، وغاية ما أقوله هو أنه لا يوجد شؤم على بلد أكثر من تداخل الغريب فيها.
عالم : وأي غرباء تعني يا مولانا؟ وهل صار الأزهر كباقي مصالح الحكومة تلعب به يد الأغراض والغايات والمفاسد؟
الشيخ : وهل تستغرب من ذلك؟! أوَلم تتداخل ذوو المفاسد من قبل في القضاء الشرعي، وهو لم يقلَّ في احترامه عن معهدنا هذا؟ أما تعلم قبل الآن ما حل بمحاكمنا الشرعية، وما أنزلوه على سماحة قاضي قضاتنا، وما قاموا به في وجهه بحجة الإصلاح المقلوب الذي وضعه أذناب الاحتلال ليقطعوا الصلة التي تربط مصر بالدولة العلية، ولينزعوا القضاء الشرعي المصري من يد الخليفة الممثل في ذات سماحة القاضي؟ وهل تذكر أيضًا التهديدات التي هدد بها أولو الأمر في مصر سماحته وهو ضاحك منهم ساخر بهم لا يُرهبه في الحق مُرهب ولا يلويه عن وجه ربه وعد أو وعيد؟ ولم يقتصر الإنجليز على محاربة سماحته في مصر بل بعثوا إلى رجالهم في الآستانة ليسعوا ضده لدى أصحاب السلطة فيها لينقلوه من مصر.
عالم : نعم، نعم، قد بلغنا كل هذا، ولكن جلالة الخليفة أبى كل الإباء أن ينال الأعداء من سماحته مأربًا ورد كيد الساعين في نحورهم.
آخر : والظاهر أن أولئك الأصدقاء أرادوا أن ينتهزوا فرصة الانقلابات التي حدثت أخيرًا في مشيخة الإسلام الكبرى والوزارة العثمانية ليقدموا للإنجليز الخدمة التي يرجونهم فيها، فقدموا إلى جلالة السلطان اسم سماحته ضمن قائمة العلماء الذين عُرِضت أسماؤهم عليه ليختاره من بينهم شيخًا للإسلام.
الشيخ : نعم، ولمَّا علم جلالة السلطان ونظر بنظره الثاقب اسم سماحته علت وجهه ابتسامة ذات معاني سياسية لا يدريها إلا من خبروا دهاء جلالته، فكان جلالته يصرِّح للذين يعملون لإبعاد قاضي القضاة عن مصر:
«إني عالم يما يخفون، فلا أمكننَّكم من ضالتكم المنشودة، وإن كنت أقدِّر إخلاص نائبي قدره وأجلُّ تقواه وأحب له الرقي والفلاح، فإذا غضضت الطرف عن اسمه ولم أنتخبه لمشيخة الإسلام فإنما أفعل ذلك لأني لا أجد أكفأ منه في حراسة حقوقي الشرعية في وادي النيل.»
عالم : نعم، نعم، هذه الابتسامة السلطانية! وليعلموا أعداء سماحة القاضي أن الطود لا تزعزعه عاصفات الرياح، فليُقلعوا عن غيِّهم وليتركوا قاضي الإسلام بعيدًا عن مهبِّ السياسة، فإن ثواب الآخرة الخالد خير من متاع دنيوي مشوب بالمكر والخيانة والخداع. هو كما تقول أيها الفاضل، فلقد تركوا القاضي وشأنه ولكنهم تحوَّلوا نحو معهدنا الشريف، وما تسمعه الآن من الغوغاء والاضطراب من دسائسهم.
عالم : كنا نظن أن معاهد العلم أعز من أن تنالها يد الظلم وأرفع من أن يُهَان رجالها وطالب العلم فيها، ولكن قد رأينا ما أدهشنا وأدهش كل مسلم عند سماعه بما هو مخلٌّ بهذا المعهد.
آخر : قلت يا فضيلة الشيخ إنك كثيرًا ما عرضت أمرنا على أولي الأمر، أو بالحرى على جانب خديوينا المعظم، فما كانت النتيجة؟
الشيخ : إن مولانا المعظم ليس خاليًا لنا ولا لمصلحة معهدنا ولا لمصلحة الأزهريين التي أصبحت من خصائصه وشأنه الخاص.
عالم : وما الذي يشغله عن مصالحنا؟ فلعلها أمور سياسية لمصلحة بلاده العامة، ولقد تكون خير لنا؟
الشيخ : لا، مولانا حفظه الله لا يشغله هذا الأمر، بل تشغله أمور أخرى.
عالم : وما هي؟ أمشتغلٌ بالسعي في مطالبة الأوقاف بإبدال بعض أراضيه المجهول مكانها وقيمتها بأراضي أخرى في الجزيرة أو في وسط عاصمة البلاد؟
الشيخ : وغير ذلك، فإن ما يشغله عن مصلحة الأزهر وغيره من مصالح الأمة اشتغال سموه بالتجارة وزراعاته الخصوصية.
عالم : إن مقام سمو الأمير في مصر فوق كل مقام، فهو ملك معنًى وأمير سياسة، أو تابع للدولة العلية صورةً ومستقل مطلقًا حقيقيًّا، واشتغال سموه بالتجارة والزراعة وما يدخل في بابهما يُوجب على المخلصين لجنابه العالي تنبيهه إلى العدول عنها، وذاك أليق بالأمراء والملوك، فهكذا المتبع عند أمراء وملوك الغرب — بل العالم — جمعاء.
آخر : ولكن أيها الفاضل! هنا ظروف غير موجودة في أوروبا، فمنها أسباب هنا تبيح لسموه الاشتغال بأكثر مما هو مشتغل به الآن، وتمييزه عن سواه من الملوك بحق الاتجار والاشتغال بالزراعة وغيرها.
آخر : اعترفنا بمملكة سمو الأمير وأنه ملك بمعنى الكلمة مثل ملوك أوروبا، فلماذا يُبَاح لسموه العمل بالتجارة والزراعة والتنزه وترك مصالح الأمة تندب سوء حظها، ولا يُبَاح لسواه؟! وما هي أسباب الإباحة التي يتمتع بها سموه ولا يحوزها غيره؟
آخر : أما أسباب الإباحة فمنحصرة في الامتيازات أولًا، والاحتلال ثانيًا. ومتى أُلْغيت الامتيازات وزال الاحتلال أُلْغِي هذا الفرق بين سموه وباقي الملوك.
آخر : ما هذا الكلام؟ وما هذا الدفاع الممقوت؟ وأي علاقة بين الامتيازات والاحتلال وإدارة شئون الأمة؟! أو على الأقل إدارة مصلحة معهدنا هذا الذي قد تعهَّد سموه بإصلاحه شخصيًّا وأصبح كل فرد من أفراد الأمة يعرف هذه المسئولية؟ أو لعل سموه لا يرغب إلا في حفظ أمواله وما هو مخصص لهذا المعهد في خزينته العامرة للاستعارة منها متى شاء بلا حساب مبقى هذا ليوم الحساب؟ فإذا كان الأمر كذلك فسلام على الدين الحنيف ومعاهده، وسلام على علماء وطلاب كأمثالنا يُسْلَبون حقوقهم وهم صاغرون.
حاجب (يدخل الحاجب منحنيًا أمام الشيخ ويقول) : بالباب يا مولاي رئيس مفتشي الجامع يريد مقابلة فضيلتكم.
الشيخ : دعه يدخل.
الشيخ : ما وراءك يا حضرة المفتش؟ وماذا حصل بين الطلبة حتى أوجبوا كل هذا الغوغاء؟
المفتش : اعتصبت عموم الطلبة يا مولانا وتظاهروا أمام المدرسون، ولولا ما أتيناه من الحكمة لعظُم الأمر وكان خطيرًا. وهم الآن على وشك الشجار مع حضرات المدرسون، وقد أتيت لأخبر فضيلتكم عما نفعله مع المعتصبين بعدما تركت باقي مفتشي وملاحظي الإدارة محافظين عليهم.
الشيخ : ما رأيكم يا حضرات العلماء في هذا الأمر؟ وما هي الخطة الواجب اتخاذها لتسكين خاطر المعتصبين الآن؟
عالم : الرأي عندي يا ذا الفضيلة والمروَّة أن تأمر لتسكينهم بإحضار القوة.
آخر : وهل يصح أو يجوز شرعًا إحضار قوة عسكرية في هذا المعهد المشهور بقوته العلمية وهي فوق كل قوة؟
عالم : كل شيء يجوز إجراؤه عند الضرورة، فإن لم يسرع فضيلة شيخنا لصدور أمره بطلب قوة عسكرية لحفظ نظام المعتصبين لا تُحمد عاقبة أفعالهم.
الشيخ : يعز عليَّ كثيرًا طلب قوة لحفظ نظام أشرف معهد، ولكن للضرورة أحكام! فاذهب يا حضرة المفتش واطلب عن لساني تلفونيًّا من المحافظة إرسال قوة عسكرية لحفظ ما طرأ من التهييج في الأزهر، وها أنا ذاهب حالًا لمقابلة الجناب العالي لأخذ رأيه في هذا الأمر الخاص بشئون سموه العالي.
(تنزل الستار لختام الفصل الأول.)

الفصل الثاني

المنظر الأول

(تُرْفع الستار عن شكل ديوان فخيم يشبه ديوان عابدين وبه كراسي مزخرفة للجلوس، وعليها بعض من حضرات النظار وبعض العلماء ومعهم حضرة فضيلة شيخ الجامع.)

ناظر : أما الجناب العالي فهو متغيب الآن لتفقُّد مزارعه، وقد أرسل لسموه تلغرافًا يلتمس فيه حضوره للنظر في أمر فضيلتكم.
الشيخ : وهل تظنون سعادتكم أن مولانا الخديوي حفظه الله يأتي مسرعًا على أثر وصول تلغرافكم، ويترك أعماله الزراعية الخصوصية التي لولاها لرأينا سموه قد تفرَّغ إلى نصرة العلم وتعضيد المشروعات الدينية، بل ورأيناه نديَّ الكف مطلق اليسار بالعطا والجود للمشروعات الخيرية.
رئيس النظار : ليطمئن خاطر فضيلتكم من جهة سرعة حضور سمو الخديوي؛ فإن التلغراف أُرْسِل باسمي لاستدعاء سموه، وأنا أعرف قيمة مطالبي من الجناب الخديوي؛ نظرًا لاحترامي الشخصي عند سموه.
الشيخ : وما الذي يجب فعله الآن لتسكين خاطر المعتصبين لحين حضور جنابه.
ناظر : أخبرتنا يا فضيلة الشيخ بأنك طلبت قوةً عسكريةً لحفظ النظام، وقد حضرت تلك القوة، وهي محافظة الآن، فلتبقَ كذلك لحين حضور سموه.
الشيخ : وهل تودون سعادتكم إبقاء هذه القوة بمنظرها البشع وشكلها المرعب في ذاك المعهد لحين حضور الجناب العالي؟ أفيما بكرة وعشية تستحيل كعبة الإسلام الثانية طللًا مقفرًا ويعود أكبر معهد علمي على المسلمين في شرق الأرض وغربها موصدًا هامدًا، ويُخْلى من أساطين الدين وحماة اللسان المبين وحمَلة العلم من قديم السنين، ويُشَرَّد منه ورثة الأنبياء، فيتبدل الأنس وحشةً وتنسخ آية الخذلان آية الفتح، ويتفرق في يومٍ أو بعض يوم ما جُمِع في عشرة قرون؟! أفيما بين غدوة وأصيل يتحول المسجد الأكبر ميدانًا تُصادم فيه القوات العسكرية دعاةَ السكينة والسلم وحملة القرآن والعلم؟ أفيما بين صباح ومساء يمعنون في الأزهريين تنكيلًا وتكبيلًا، فتتفرق بتفرقهم أجزاء القوة العظمى الدينية التي كانت تعمل للخير العام، أما في قلوب الناس رحمة للناس؟ اللهم لا سبيل إلى العداء، فقد جل الخطب! فيا للرحمة بالأزهر والأزهريين!
ناظر : وماذا نفعله يا فضيلة الشيخ وليس بيدنا شيء نعمله؛ فإن إدارة الأزهر وشئونه منحصرة في خصائص سمو الأمير.
الشيخ : ما هذا الكلام يا نظار حكومتنا؟ وكيف لا تعملون وقد أُلْقِيت بيدكم مقاليد الأحكام وزمام الأنام، وعلى الخصوص حفظ أموال بيوت الإسلام؟ وكان أول واجب عليكم أن تنظروا أولًا في تحسين شئون خدَمة الدين وحمَلة كتاب رب العالمين، أوليس هذا خير لكم من تشييد عمارات، وعمار مهجورات، وشراء خرابات، وسفرياتكم إلى المنتزهات، وانتقائكم أحسن مياه الحمامات، وإصدار أوامركم بتوسيع حساب الوليمات، وإسرافكم الزائد على المراقص والباللوات و… و…
ناظر : كفى يا فضيلة الأستاذ، فهذه سنَّتنا وسنَّة آبائنا وأجدادنا، قد تعلموها من باقي الحكومات المتمدنة.
عالم : أوَلم يكن لربكم دين ولنبيكم سنة شريفة تتبعونها وتحافظوا عليها؟ وكيف بعملكم هذا وهو مخالف لسنة الدين تودون المحافظة عليه مفتخرين بمدنيتكم تاركين وراء ظهوركم حفظ سنة دينكم ونبيكم الكريم. (غوغاء من الخارج.)
آخر : اسمعوا، اسمعوا، ثم انظروا من هذه النوافذ تروا بأعينكم وتسمعوا بآذانكم صراخ هذا الجمع المحتشد الذي تجمَّع للمطالبة بحقوقه المهضومة، فها قد حضروا للمطالبة بأنفسهم بحقوقهم من سمو الأمير. (غوغاء من الخارج) فليعش الخديوي، فليحيَ العدل، فليحيَ الإنصاف، فليحيَ الدين والإسلام.
ناظر (ينظر من نافذة القصر) : يا لهذا الجمع العظيم من القوة! تعالَ وانظر يا عطوفة الرئيس هذا الجمع الهائل والقوة العظيمة!
الرئيس (ينظر من النافذة) : إنها لقوة هائلة جدًّا، واستمرارها بهذا الشكل خطر علينا وعلى البلاد، فأحسن شيء نراه الآن هو أن نبشرهم بما يُطمأن به تسكينًا لخاطرهم، ألا ترون هذا موافقًا يا حضرات النظار؟
النظار : نعم هذا الرأي وما فيه من الصواب! فليأمر عطوفتكم بإحضار رئيس التشريفات ويرسله رسولًا مبشرًا لرؤساء مجمعهم.
الرئيس : نعم، وسأفعل ما أمرتم به (ينادي أحد رجال التشريفات) اذهب وبلغ تحية الجناب العالي لرؤساء الجمع المتظاهر في هذه الساحة، وقل لهم إن مولاكم يبشركم بسعيه في تدبير حسن مستقبلكم والنظر في مطالبكم في وقت قريب.
تشريفاتي : سأبلغهم ما أمرتم به عطوفتكم ويتم ما يجول بخاطركم.
الرئيس : إذن؛ عجِّل في هذا الشأن بدون توانٍ؛ لئلا تسوء العقبى وينقلب المصير (يلتفت لفضيلة الشيخ) ألم يسرَّك ما أمرت به يا فضيلة الأستاذ؟ وهذا ما يمكن فعله لنا مؤقتًا!
غوغاء من الخارج : ليحيَ العدل، ليحيَ الخديوي، ليحيَ دين الإسلام.

المنظر الثالث

(تُرْفع الستار عن منظر ساحة جنينة وفي وسطها محل مرتفع للخطابة وعليه خطيبًا وحولها جمعًا كبيرًا بشكل وزي طلبة الأزهر الشريف ويبتدئ الخطيب بقوله):

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم، (أما بعد) … علم الناس تلك الروح العالية التي انبعثت في نفوس طلبة الأزهر الشريف في هذه الأيام، عندما أدركوا الأخطار المحدقة بهم والمهددة لمستقبلهم، فإنهم بعد أن استبشروا خيرًا بالنظام الحديث الذي اقتضت مراحم الجناب العالي منحه إياهم، تأملوا قليلًا في تطبيق بروجرامه، فأيقنوا أنهم لا يمكنهم إدراك الغاية التي رمى إليها غرض الجناب العالي من وضع هذا النظام، فوجدوا أن العلوم وُزِّعت بطريقة غير معقولة؛ فأُنِيطت الدروس بالعلوم المهمة لأساتذة غير أكفاء فيها، وزِيد في عددها عن ذي قبل حتى أصبح الطالب لا يجد لحظةً من أوقاته يصرفها في إعداد الدروس لمذاكرته وحده ليعرض بعد ذلك فكره على أستاذه حتى يتبين أصاب أم أخطأ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أكثر طلبة الأزهر — بفضل إصراف رجال الحكومة بأموال المسلمين فيما لا يعود على المسلمين ولا على الدين الحنيف بأي فائدة كانت — تراهم في فاقة وفقر شديد بحيث لا يتسنى لهم شراء الكتب التي التزموا بدرسها بمقتضى النظام الجديد، فجزموا بأنهم ولا ريب مضيعين حياتهم صارفون نفيس عمرهم بغير جدوى، فظهروا بذلك المظهر الذي برهن للعالم أجمع على أن الضغط يُحدث الانفجار، وأن النائم مهما طال نومه لا بد وأن تنبهه الأيام إلى واجبه، فقاموا وأجمعوا أمرهم فيما بينهم وتعاهدوا وعقدوا الخناصر على اعتزال الدروس أو إجابة مطالبهم و… وقد رأى الناس ما يريدون من المطالب التي نرى — كما يراه كل عاقل — أن الطلبة محقون فيها؛ لأن العاقل لا يليق به أن يضيع حياته سدًى، وهم لا يريدون من الحكومة الآن إلا أحد أمرين: إما الإجابة إلى ما طلبوا، وإما القول بصراحة أن مهمتهم الدينية ليست في نظر الحكومة ذات قيمة تستدعي إسعاف القائمين بها لمطالبهم الضرورية. ونحن الآن لا راحم لنا ولا مساعد، فأملنا من رجال الأقلام وأرباب الصحف ونواب الأمة أعضاء الجمعية العمومية ومجلس الشورى أن يطرحوا مسألتنا الحاضرة على بساط البحث والمناقشة وينبهوا الحكومة إلى أنه من الضروري المحتم عليها إجابة مطالبنا وإلا ساءت الحال وتفاقم الخطب، فإن الأمة المصرية بل وسائر الأمم الإسلامية من أسهل الأشياء عليها تضحية حياتها في الانتصار لدينها والقائمين به؛ لأن الأمة مهما كانت — كما يصفها أعداؤها — جاهلةً فإنها لا تنسى تلك الخدمات الجليلة التي قام بها ويقوم بها الأزهر الشريف والأزهريون قرونًا عديدة.

ولا نرتاب في أنه لولا وجود الأزهر والأزهريين حراسًا على الشريعة المطهرة والملة السمحاء لانمحى أثرها بالكلية. ألهم الله الأمير ورجال حكومته الصالحين لتلافي هذا الأمر قبل اشتداد أزمته واستحكام حلقاته، إنه ولي التوفيق.

(ينزل ويصعد خطيب آخر.)

إخواني الفضلاء وزملائي الأجلَّاء!

ايم الله؛ لَلحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع، ولَصدقٌ حقيق بأن يُسْتمع؛ إنه يا قوم ليسرُّني كما يسر كل محب للدين، محب للإسلام، محب للإنسانية بمعنى الكلم، محب للطريق المستقيم أن يراكم متآخين متحدين قلبًا وقالبًا، يراكم ملتئمين ناهضين، يراكم كأنكم بنيانًا يشد بعضه بعضًا.

إخواني!

اعتقدوا تمامًا أن كل ذي إنصاف وعدل لَمسرورٌ من هذه النهضة العلمية الشريفة التي قمتم بها خير قيام لإصلاح ما أفسدته يد الآثمين في هذا المعهد الديني العظيم والمسجد الإسلامي الكبير.

إخواني!

إن طلبة علم ديني كمثلنا؛ أي رجال الدين، وهم الذين يجب على الحكومة أن تحترمهم بوجه خصوصي، رجال مثلنا يرضون بالذل والاستماتة والصمت عن حقوقهم التي اغتصبتها يد الطامعين ومحبي المال وجامعيه لهم جانيين على أنفسهم أشنع جناية لا يتصورها العقل، مضيعين حقوقهم الشرعية.

إخواني!

إن كل إنسان من أمم العالم أجمع لا يكون مقيَّدًا عن النطق بما تشعر به نفسه من الظلم الخارج عن حده، والمعاملة السيئة التي يُعَامل بها إلا إذا كان جمادًا لا يحس بألم الضرب على الأرجل ولا يشعر باللطم على الوجه الذي كم سجد لله مرارًا عديدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إخواني!

كيف يسوغ لنا أن نجمد هذا الجمود المميت ونجبن هذا الجبن الفاحش الذي ألصقَنا عارًا تأبى النفوس الشريفة أن تنصب به؟ فيا للأسف، ويا لضيعة الأمل! جرت العادة أيها السادة في كل أمة متمدنة راقية العلم أو آخذة في أسبابه أن تنظر لرجال الدين؛ أئمة الأمم وقادتها نظرةً عاليةً ملؤها الاحترام والإجلال، فما بال أمتنا المصرية لا تنظر إلى رجال الأزهر هذا النظر السامي؟! أليس الأزهر هذا المعهد الديني الجليل يخرج الفطاحل من رجال الدين؟! أليس الأزهر هو الكلية الإسلامية الدينية في العالم؟! أليس هو كعبة آمال المسلمين قاطبةً في العلم، أو هو لم يماثل غيره من الكليات الأخرى نظامًا وترتيبًا وعددًا وعددًا؟

إخواني!

جرت العادة بحكم الطبيعة أنه إذا أرادت أي إدارة أن تسن قانونًا ليكون محورًا تدور عليه هذه الإدارة؛ أن تلاحظ مصلحة المسنون لهم هذا القانون ليكونوا جميعًا راضين عنها، راضخين لأوامرها، مطيعين لإشارتها. فكيف ساغ لإدارة الأزهر — والحالة هذه — أن تسن قانونًا يقضي على آمالنا ومستقبلنا كما يقضي على حياتنا؟ هذا سؤال تركت جوابه لأهل الإنصاف والعدل يجاوبون عليه كما تقضي عليهم شيمهم الكريمة.

إن الإنسان منا — يا حضرات الأفاضل — يقضي زهرة عمره وعنفوان شبابه في طلب العلم حتى إذا ما انتهى يأخذ من المرتب ما لا يسد به رمق الفؤاد، هذا إذا كان وحده، وما بالك إن كان رب عائلة وصاحب منزل! فماذا يفعل ومن أين له أن يصرف على أولاده وعائلته إذا كان هذا مرتبه وتلك حالته من التعس والشقاء؟ أيرتكب جريمة السرقة أم النهب أو ماذا يفعل وكيف يعيش؟ فيا للفضيحة! ويا للعار!

إخواني!

لقد مضى ما مضى من زمن التعس والشقاء والسخرية برجال الدين، فالآن وقد شعرتم بآلامكم وطالبتم بحقوقكم وسمع الكل بقضيتكم فاتحدوا وصابروا على المطالبة بحقوقكم، فقد آن الأوان ومضى الذل والهوان. أجل؛ وايم الله، لقد آن لكم فيما أنتم قادمون عليه، واحذروا من في الظاهر يتظاهر بالميل لكم، وفي الباطن يدس لكم الدسائس؛ ليفشل مسعاكم. ولكن لا أخشى أن أقول إنه خاب مسعاهم وساء حالهم، فنحن رجال لا تؤثر فينا الدسائس ولا نغتر بمساعد لأول وهلة.

إن طلباتكم معقولة فلا تنخدعوا بالعقول والتمويه والإطلاء.

إخواني!

اسمعوا مني الكلمة الأخيرة، وهي أنه إذا أرسلت لكم الإدارة للتفاوض مع لجنة مخصوصة فلا تفعلوا هذه اللجنة بالمرة، كما لا تفعلوا رئاسة لجنة الإصلاح الأزهري؛ إلا إذا كانت مسندةً إلى صاحب الفضيلة قاضي مصر، وأعضائه: الشيخ بخيت، وحسن مدكور باشا، وإبراهيم رفعت باشا، ومجدي بك المستشار بالاستئناف، وإبراهيم ممتاز باشا، وحسن جلال بك؛ على شرط أن تُنْشَر المناقشات على صفحات الجرائد يوميًّا، فإذا نفذت اللجنة طلباتنا كان بها وإلا فنحن باقون على ما نحن عليه من المظاهرات.

أيها السادة الأفاضل!

هذه هي المرة الثانية التي أفتخر بأني وقفت هذا الموقف في هذا المكان خطيبًا فيكم مخلصًا لكم متألمًا مما أنتم منه تتألمون؛ لأنني أزهري قديم كما أنتم أزهريون.

منذ ثماني سنوات وأنا أكتب منبهًا ولاة الأمور إلى وجوب إصلاح إدارة الأزهر حتى يسود النظام الصحيح، وطالما أرشدت بكتاباتي إلى تلاشي الخلل الذي كان يتخلل إدارة الأزهر؛ محذرًا أولي الحل والعقد من استفحال خلل الإدارة خشية غضب رجال العلم واعتصابهم.

وها هو قد وقع ما خشيته وحذرت ولاة الأمور منه مما أبهر العقول.

أيها الأفاضل؛ إنكم باستعمالكم الحكمة في مظاهرتكم السلمية، وباتخاذكم طريق السكينة في سيركم منذ اعتصبتم عن الحضور في حلقات الدروس قد برهنتم بأنكم رجال عقلاء تطالبون بحقوق شرعية؛ يجب أن تنالوها وتحصلوا عيها.

طرحتم قضيتكم أمام محكمة الرأي العام للحكم فيها فاشرأبت الأعناق إليكم.

وارتفعت أصوات الأمة كلها معكم، وحزتم استحسان العموم الذي هو صدور محكمة الرأي العام لصالحكم بأنكم قوم عقلاء، عن حقوقكم تبحثون، وللوصول إليها عاملون.

إن قضيتكم هذه أيها الأفاضل!

أصبحت الشغل الشاغل للأعيان والذوات وولاة الأمور وجميع المسلمين، حيث إنها في الحقيقة قضية دينية؛ لأن مسلمي القطر المصري يعلمون أن الأزهر الشريف هو المعهد الديني الكبير الذي يحفظ الدين، وبارتفاع شأنه وشأن رجاله يرتفع شأن الشريعة المحمدية الطاهرة.

الدين أصبح في بلاده غريبًا؛ وسبب ذلك تفريط أهله السالفين، وعدم قيامهم في وجه الذين مسُّوا حقوقه. فرط أهل الدين فيه فاستهان به وبهم أعداؤه كما لا يخفى.

والدين أضحى غريبًا في مواطنه
وما الإساءة إلا من أهاليه
قد فرطوا واستهانوا في شعائره
فجاء يضربهم ذلًّا أعاديه

فأنعم بهمتكم الشماء وأرواحكم الطاهرة وأنفسكم العالية؛ التي قامت تدافع عن الدين وتطالب بحقوقه. حيا الله نهضتكم الشريفة التي تُكَلل إن شاء الله بالنجاح والفلاح.

الجميع (يهللون بعد تصفيقٍ حادٍّ قائلين): فلتحيَ الطلبة، وليحيَ الأزهر، وليحيَ الإسلام. (ثم يصعد خطيب وينادي على إخوانه الطلبة مشيرًا برجوعهم بكل انتظام وسكينة إلى حيث جاءوا. وتنزل الستار ختامًا للفصل الثاني.)

الفصل الثالث

المنظر الأول

(تُرْفع الستار عن شارع عمومي متسع وعموم الطلبة المتظاهرين مارِّين بكل سكينة وانتظام هاتفين: فلتحيَ الطلبة، فليحيَ الأزهر، وليحيَ الإسلام.)

عامل المؤيد (يخاطب زميلًا له) : وأي شيء يستفيده الطلبة من اعتصابهم هذا؟ وإني أراهم قد اغتصبوا حق الحكومة أيضًا غير سامحين لأحد من رجالها أن يشير عليهم بسيرهم بهدوء وسكينة؟
زميله : قد اعتاد البوليس بعدم التفاته لأي شيء مخالف إذا لم ينبهه عليه منبه.
عامل : وهل يمكنك أن تنبه بعض رجال البوليس السائرين معهم إلى ما يفعلونه، وتفهمهم بأن ما يأتيه الطلبة في المناداة في الشوارع العمومية بطلبهم إحياء الإسلام والدين، والأزهر والطلبة، والخديوي واللواء أمر مخالف ويعاقب عليه قانونًا.
زميله : وإذا انتبهت لي الطلبة واعتدوا علي، فماذا أفعل؟
عامل : الأوفق أن نحرض عليهم بعض العمال ليقذفوهم بالأحجار من سطح الدار، وعندها بلا شك يحولون وجهتهم نحو إدارة المؤيد. ولربما تعدَّى علينا بعضهم بما بموجب إدخال البوليس في الأمر، وهنا ننتهي بما يرغبه سعادة مديرنا وما أشار علينا به.
إذن فهيا لنأمر بعض العمال بإجراء هذا العمل، ونحن نتدارى لنرى ما سيكون، واطلب أنت حالًا تلفونيًّا من المحافظة إرسال قوة تحفظ التعدي المنتظر حصوله من الطلبة على دار المؤبد، وقل أن حياة الباشا المدير في خطر.
الطلبة (ينادون) : فلتحيَ الطلبة، فليحيى الأزهر، فليحيَ الإسلام، فليحيَ اللواء (وهنا يتساقط عليهم الأحجار من أعلى دار المؤيد).
أحد الطلبة : انظروا يا إخواني إلى تلك الحجارة التي يرجمنا بها عمال المؤيد.
طالب (رافعًا وجهه إلى سطح الدار) : ارجعوا يا لئام عن هذه الأعمال الخسيسة، لعنة الله عليكم وعلى شيخكم اللئيم.
طالب (ملتفتًا إلى رئيس القوة العسكرية التي معهم) : ألم ترَ هذه الحجارة يا جناب المفتش؟ فلمَ أنت صامت لا تمنع أولئك اللئام عمال المؤيد الذين يرجموننا من أعلى دارهم على مشهد منك ومن الجميع؟! وما أظنهم إلا مأمورين بذلك من شيخهم المنافق.
مفتش البوليس (ملتفتًا إلى دار المؤيد) : ارجعوا يا أفندية ومرُوا عمَّالكم بعدم رمي الأحجار على الطلبة؛ إذ هذا يُعَد تعدِّيًا فاحشًا منكم، ونحن نخاف عليكم وعلى إدارة جريدتكم من أن يمسكم ضر من هؤلاء المعتصبين.
الشيخ (من داخل نافذة) : من هذا الذي يخاطبكم يا حضرات الأفندية بقوله أخشى عليكم وعلى إدارة جريدتكم من هؤلاء المعتصبين؟
سركيس : هذا يا سعادة الباشا جناب وكيل حكمدارية مصر، يأمرنا بمنع عمال لنا وقفوا على سطح الدار يقذفون الأحجار على الطلبة المارين.
الشيخ : ومن هم أولئك الطلبة الذين نخشى منهم علينا وعلى إدارة المؤيد؟ ولم نمنع أطفالًا يتسلَّون برمي الحجارة على الطلبة؟ ولأي شيء يهددنا البوليس بالتخوف من الطلبة؟ (يتزايد رمي الأحجار على الطلبة.)
طالب : انظروا يا إخواني كيف أن صاحب المؤيد يأمر عماله بأن تقذفنا بالأحجار ونحن سائرون، وقد أمرهم جناب وكيل الحكمدار بمنع ذلك ولم يمتنعوا.
الجميع (يصيحون) : فليسقط المؤيد، فليسقط المنافق، فلتسقط الخونة. (يقترب البعض منهم بالهجوم على إدارة المؤيد ليُرجعوا قاذفي الأحجار فيردهم البوليس ويغلق باب المؤيد.) الجميع يسيرون وينادون: فليسقط المؤيد.
الشيخ : اطلب يا خواجة سركيس تلفونيًّا من المحافظة إرسال قوة لحفظ الإدارة، وزد على ذلك أن حياة الشيخ في خطر، ويجب الإسراع بالقوة بكل سرعة، حيث تعدى الطلبة يزداد علينا.
سركيس : إنني يا سعادة الباشا قد أرسلت في طلب القوة من لحظة وما أظنها إلا حاضرةً الآن.
طالب (يخاطب زميله) : ألم تسمع يا أخي كلمات المؤيد لمحرره.
طالب : لندعْ يا أخي صاحب المؤيد وشأنه بعدما تحقق لنا أن هذا الرجل هو الذي قد أثار غبار مسألتنا الأزهرية بدسائسه وسوء قصده بما ألقاه من المنشورات المفسدة على مسامع سمو خديوينا المعظم.
طالب : حقيقةٌ ذلك يا أخي. ولقد تعجبت من دفاع هذا الشيخ المنافق هذا الدفاع الفظيع الذي قام يدافع به عن الأميرة نازلي هانم؛ التي أهانت المصريين بقولها لمحرر إحدى الجرائد الإفرنكية بأن المصري لا يساوي ثمن الحبل الذي يُشْنق به، بعدما أطنبت بالتبجيل والتمجيد في رجال الإنكليز.
طالب : ومتى كان هذا الحديث؟ وفي أي مكان حدَّثت تلك الأميرةُ المحرِّرَ؟
طالب : كان في سراياها وفي أفخر غرفة مزخرفة بأفخر الأثاث والرياش. وقد أتت الأميرة على ذلك المحرر وهي لابسة حلةً من أرقِّ وأنعم الحرائر مظهر الدار البيضاء، ومحلَّاة بأفخر وأثمن الحلي والحلل.
طالب : أوَلم تعلم تلك الأميرة أن سراياها الفخيمة وأودها المزخرفة بأفخر الأثاث والرياش، وملابسها الحريرية وحلاها الثمين، بل وطعامها وما تنفقه على نفسها وعلى ما يتبعها من الغرباء أهل تونس، كل ذلك من مال المصريين وما يجمعونه باجتهادهم وعرق جبينهم.
طالب : صدقت. والأدهى من ذلك ما أتته أميرة أخرى، تخرق الحجاب وتدوس الكرامة الإسلامية في حفلات الأجانب، وقد وضعت بعض الأميرات كرامة الأمة الدينية والآداب الإسلامية في مواطئ النعال، فازدرين بكل شيء، وعملن كل ما لا يُعْمل ارتكانًا على جاه عائلتهن ووفرة رزقهن، ولكونهن يُعْتَبرن من الخواص، والخواص قدوة للعوام؛ فلذلك سرت عدوى فعلهن إلى طبقات الأمة فأصابت أخلاق السيدات إصابات هيهات الشفاء منها في وقت قريب.
طالب : وماذا فعلت يا أخي تلك الأميرة الثانية من مكارم الأخلاق وحسن الآداب؟
طالب : إنه لما أقام جناب قائد جيش الاحتلال وليمته في المرة الأولى لسمو دوق أوف كنوت أراد أن يهيئ لسمو الضيف الكريم كل صنوف الإكرام، فطلب من قرين إحدى الأميرات أن يعيره الأوتومبيل خاصته ليكون ركوبه لسمو الدوق، فلبَّى الطلب، فرأى جناب قائد جيش الاحتلال من اللياقة أن يدعو صاحب الأوتومبيل إلى هذه الوليمة، فلما جاءت تذكرة الدعوة إلى سعادة الباشا أحد أصهار العائلة الخديوية أخذ يلح ويرجو في دعوة الأميرة قرينته معه إلى هذه الوليمة، فاقتضى كرم الأخلاق الإنكليزية إجابة الباشا بقطع النظر عما في ذلك من مخالفة العادات والأخلاق الإسلامية.
طالب : فلما كانت ليلة الوليمة حضرت دولة البرنسيسة وقرينها، ولم يكن فيها أحد سواهم من المصريين لأن كل المدعوين من ضباط جيش الاحتلال وكبار الإنكليز، ولما حان وقت الطعام كانت الأميرة المصرية، المسلمة، الأديبة الفاضلة لابسةً ثياب الولائم الكبرى التي تظهر الذراعين عاريين إلى قرب المنكبين وتظهر الصدر (وقسمًا) أيضًا من الظهر، وعليها من النفائس الحلى والحلل ما شاء التبرج واختار الغنى ووفرة الأموال.
طالب : كنت أفتكر في أموالنا كيف تضيع وتُصْرف، وقد عرفت الآن من هم حائزو بل مغتصبو تلك الأموال فتمِّم حديثك.
طالب : وعندما دخلوا للمائدة أخذت بذراع السير ألدن غورست الذي جاء إلى مصر ليعلِّم المصريين كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم (ومن هذا يراهم غير قادرين على حفظ …) وكانت الأميرة في زينة لم تكن بغيرها من الحاضرات الإنكليزيات لأنهم درسوا علم الاقتصاد والآداب واللياقة، ولهم دراسة خاصة بالأخلاق، وخصوصًا هذه الطبقة الراقية.
طالب : لماذا نحن نشكو من تهتك الأميرات في أروبا ذلك التهتك الذي اجتذب إليه كثيرات المصريات ذوات الغنى واليسار؟ وكم تكون شكوانا إذن لحصول مثل ذلك في بلادنا وعلى مرامنا وفي حفلات الأجانب وصادرًا من أمرائنا؟ ولماذا نكثر من اللوم على أصاغرنا والناس على دين ملوكهم سائرون؟
ألا من شفقة على الآداب العمومية؟ ألا من غيرة على الكرامة الدينية؟ ألا من رادع للأمة مزدجَر؟
طالب : ويُقَال إنه لما بلغ خبر هذه المسألة إلى علم الجناب العالي، وعرف حقيقة الأمر من جناب السير غورست؛ الذي اعتذر بإلحاح القرين الشهم بعث سموه إلى تلك الأميرة لائمًا، فأخذت سعادة الشهم الغيرة باللائم، فغضب وقال: إننا أحرار في شئوننا، فلينظر غيرنا في شئونه. وبعد أيام بعث سعادته مطالبًا بحساب الأوقاف الخاصة بجدة قرينته، وانتهى الأمر على ذلك.
طالب : أوَلم يعترض سمو خديوينا على ما فعلته نازلي هانم.
طالب : لا؛ ولكنه كلف دولة الأمير حسين باشا لعتابها فعاتبها عتابًا شديدًا، وقد اعتذرت لدولته بأنها حفظها الله كانت أكثرت من شرب الشامبانيا، فلم تراعِ الاحتياطات في كلامها، وسهى عنها وقت مقابلتها بمحرر البورجريه أنها تكلِّم صحافيًّا يقيد في ذاكرته كل كلمة يسمعها وكل حركة تبديها.
وهذا هو عذر الأميرة المصرية المسلمة التي كل ما تنفقه هو من مال المسلمين وأوقافهم الخيرية.
طالب : كل هذا حقيقي. وقد وجدت المؤيد يدافع مرارًا عن هذه الأعمال القبيحة، حيث رأيته يكذب اللواء فيما نشره من أن دولة الأمير حسين باشا تكلم مع الجناب العالي بخصوص الحديث الذي روته جريدة البورجريه عن البرنسيس نازلي هانم، وهو الحديث الذي اتهمت المصريين فيه بنكران الجميل، وقد ظُنَّ أن هذا دفاع عن الجناب العالي والحقيقة غير ذلك.
طالب : وما يرجوه صاحب المؤيد من وراء كل هذه الأعمال؟
طالب : إنه لا يطيق أن يرى الأمة ملتفةً حول أميرها لما في ذلك من القضاء على آماله ومنافعه ودسائسه، وهو يريد أن يكون سموه في برج مشيد حتى لا يقع مرةً أخرى فيما وقع فيه في قصر القبة، ولولا بعضهم لقُضي عليه القضاء الأخير.
طالب : صه يا أخي عن هذا، وانظر إلى الجنود الذين هجموا بإخواننا. (تهليل وتصفيق من العموم، وهجوم بعض من العسكر على الطلبة بشدة وحمق، وتشجيع الطلبة في مواقفهم، تعدي البوليس عليهم بالأذى، استعداد الطلبة لمقابلة العسكر بالمثل، هجوم الطلبة على العساكر، تقهقر العساكر بانتظام وتفريق شملهم، إلحاق العسكر بقوة أخرى، هجوم القوتين بشراسة على الطلبة، استعمال العسكر العصي والكرابيج في الطلبة، مقابلتهم بضرب المداسات الثقيلة بكثرة النعال، إصابة بعض رجال البوليس، تقهقرهم مرارًا، انهزامهم شر هزيمة، صدور أوامر الضباط «شتش ومدبولي» بسل السلاح، هجوم الطرفين، تهليل شديد وتصفيق الأهالي معجبين بشهامة الطلبة، تهليل وتصفيق من الأجانب المتفرجين، القبض على ثلاثة من الطلبة.)
(نزول الستارة.)

المنظر الثاني

(تُرْفع الستار عن ساحة شارع وبجواره شكل معهد الجامع الأزهر، وجملة طلبة يتمشون ذهابًا وإيابًا وعلى أبواب المعهد بعض من الجند، كل جماعة منهم يرأسهم ضابط، تعيَّنوا لمنع من ليس بيده تذكرة الدخول إلى الجامع من الطلبة.)

طالب (يخاطب زميلًا له) : وماذا تم بعد مظاهرة ليلة أمس بشارع محمد علي بعد ما تركناكم في جنينة الجيزة؟
طالب : بعد انتهاء الخطب شرعنا في الرجوع إلى هنا وبعد مرورنا على إدارة اللواء وتحيتها، وبعد أن جئنا أيضًا سراي عابدين أردنا المجيء إلى هنا من شارع الغورية، إلا أن بعضًا منا ألووا وجوههم — وربما كان ذلك بدسيسة — إلى شارع محمد علي، وعند مرورنا من أمام إدارة المؤيد صعد بعض عمالها ورجمونا بالأحجار من سطح الدار، فنادينا بإسقاط المؤيد مرارًا، وعندها حضرت فرق خيالة البوليس وهاجمونا بشراسة، وتعدوا علينا بالضرب بالعصي والكرابيج، ولما حرج علينا الموقف قابلناهم بالصُّرَم، وقد أخذنا وأخذوا في هجوم وتقهقرٍ إلى أن هزمناهم، فاستلُّوا سيوفهم وانتهت المعركة بإلقاء القبض على ثلاثة منا وذهبوا بهم إلى قسم الموسكي، وهناك عُمِل المحضر اللازم ضدهم كمتهمين لتعديهم على البوليس أثناء تأدية وظيفته وتعديه علينا لإهانتنا.
طالب : وماذا جرى بالثلاثة الذين قُبِض عليهم؟، أوَلم يقبضوا أيضًا على أحد من عمال المؤيد؟
طالب : كان قُبِض أيضًا على ثلاثة من عمال المؤيد، وقد أطلق البوليس سراحهم بعد لحظة؛ محتجًّا بأنه لم يأتِ أحد من الأزهريين فيشتكي مما أصابه منهم، فإذا قُدِّمت شكاوٍ أُعِيد التحقيق معهم، والتهمة ثابتة عليهم وعلى شيخهم بشهادة جناب مفتش البوليس ورجاله، وبالأحجار المضبوطة التي يزن وزن بعضها ثمانية أرطال وفيها ما يزن الثلاثة والأربعة أرطال، وكلها مكتوب عليها «وارد فابريقة أحجار لوندرة لإدارة المؤيد».
طالب : وقد قضينا ليلة الحادثة والأسف ملء قلوبنا على الثلاثة الأبرياء الذين قُبِض عليهم وزُجُّوا في أعماق السجون، ولم نفارق قسم الموسكي في تلك الليلة مطلقًا، وكنا نذهب جماعةً جماعةً إلى جناب مأمور ذاك القسم ملتمسين منه الإفراج عن إخواننا حتى ولو بالضمان النقدي، ومع بساطة التهمة المنسوبة إليهم لم يُجِب المأمور ما طلبناه، بل وجدناه مشددًا في الأمر كثيرًا، وله عذر في ذلك؛ لأن تليفون القسم أزعجه كثيرًا مناديًا على حضرته شخصيًّا للتكلم مع رؤساء الحكومة، وربما كان حديثهم دائرًا بخصوص تلك الحادثة وما يتبعه القسم في خطته مع الثلاثة المقبوض عليهم، وكان الغرض بلا شك استعمال كل قسوة زائدة وتشديدًا بتكسير هؤلاء المساكين، وذلك إرهابًا لباقي المعتصبين.
طالب : والآن ماذا نصنع وما الذي عزمتم عليه؟
طالب : قد اجتمعنا صباح اليوم في أحد المساجد وأبدينا أسفنا على تلك الحادثة التي شوهت مظاهرتنا السلمية، وقد اقترح أحدنا بالكف عن المظاهرات خارج الأزهر تكون بمعزل عن مثل تلك الدساسة التي دُبِّرت ضدنا من المؤيد وانقضت إلى تلك النتيجة السيئة، فقُوبِل هذا الاقتراح بالاستحسان وعزمنا على أن نظل في مسجدنا الشريف إلى أن تُجَاب مطالبنا.
طالب : أوَلم تعلموا ماذا قرر أمس ليلًا مجلس النظار؟ وكيف يمكنكم الدخول إلى هذا المعهد بعدما تقرر حرمانكم من ذلك؟
الطالب : إننا لم يبلغنا شيء عن اجتماع هذا المجلس، ولم نعرف شيئًا عن ما قرره! فأخبِرنا عن ما تعلمه في هذا الأمر.
طالب : قد اجتمع أمس ليلًا في سراي القبة مجلس النظار تحت رئاسة الجناب العالي، وبعد الأخذ والرد في المناقشة قرر أولًا العفو عن طلبة السنتين الأولى والثانية، نظرًا لبساطتهم وحسن نيتهم، وأن يرجعوا إلى دروسهم، وشطب أسماء السنتين الأخريين الثالثة والرابعة؛ أصحاب الرأي في هذا التهييج وهذه المظاهرات والاعتصابات، وأن تُشْطب صفتهم أيضًا من سلك الأزهرية لتسير عليهم لائحة القرعة العسكرية، وقد انتدب المجلس لتنفيذ هذه الأوامر سعادة خليل باشا حمادة مدير الأوقاف. وكل ما تراه من تلك القوة العسكرية المقيمة على أبواب الجامع هي قد تعينت لهذا الأمر.
طالب : إنها والله لخطَّة سخيفة اتبعتها الحكومة لإرهابنا، وما هي إلا تعدِّيًا على الحرية! إذ كيف يقرر مثل ذلك القرار ليقوموا به في وجه الأزهريين الذين قاموا يطالبون بحقوق مهضومة لهم، مستغيثين من ظلم اللايحة التي سنتها لهم بشأن الأزهر، فأصبحوا عليها بإضرابها عن الدروس إضرابًا سلميًّا عاقلًا. ولكن الحكومة التي رسخت في نفسها عقيدة أن الساكن في الأزهر يخلع إرادته ورأيه كما يخلع لقلبه قبل دخوله فيه، لم يُرضها منهم إضرابهم أو اعتصابهم، ولم تقابلهم بالإقناع والمعروف والتعقُّل، بل هددتهم بسلب امتيازاتهم إن لم يرجعوا عن مطالبهم، وهؤلاء قد تشيَّعوا بالحرية وخالفوا الذين يخلفون إرادتهم ورأيهم متى أرادت الحكومة.
طالب : لقد أخطأت الحكومة كثيرًا فيما اتخذته وتتخذه معنا، ونحن لا يمكننا التخلي عن مطالبنا وحريتنا وإرادتنا مدةً من الزمن، ولم نخشَ تهديدات الحكومة لنا. وإننا على الاعتصاب حتى ولو آل الأمر إلى أن يزجُّونا جميعًا في أعماق السجون.
طالب : اسمع قد افتكرت فكرةً في سبيل دخولنا داخل الجامع وهي أن تجيئوا بقطع من أوراق تشابه تذاكر الدخول المخصصة لإخواننا طلبة السنتين الأولى والثانية، وننقش عليها بعض علامات تشابه التذاكر الحقيقية فنستطيع بذلك الدخول إلى ساحة الجامع ومقابلة إخواننا لنتباحث معهم فيما يجب فعله.
طالب : وكيف يصرح لنا المفتش بالدخول وليس بيدنا تذاكر حقيقية؟
طالب : إنك لأبله! وهل أنت متأكد بذكاء المفتشين لمعرفة التذاكر الحقيقية من غيرها؟! أوَلم ندخل أنا وأنت مرارًا في حفلات رسمية بملاحق أفراح قديمة كانت معنا، وكان المنوط باستلام التذاكر منا يقابلنا بكل احترام غير ملتفت إلا للون تلك الورقة وحجمها الموافق لحجم ولون تذاكرهم الرسمية؟ أوَلم ندخل أنا وأنت مرارًا في قاعات السينماتوغراف بتذاكر الترامواي؟
طالب : قد فهمت مقصودك. والذي يؤكد لي نجاح ما تقصده هو علمي الأكيد بجهل كل منوط بأخذ تذاكر اليوم من إخواننا الطلبة، فهيا بنا.
(تنزل الستار لختام الفصل الثالث.)

الفصل الرابع

(تُرفع الستار عن ساحة الجامع الأزهر وبها المدرسون وأمامهم حلقات الطلبة وعموم المفتشين والملاحظين وقوفًا يتحرشون بالطلبة وبأيديهم قضب الخيزران، وفي إحدى زوايا الجامع كل من سعادة حمادة باشا ودولار بك والشيخ عاشور وبعضًا من حجاب ديوان الأوقاف ومعهم آلة التعذيب (فلقة).)

حمادة باشا (يخاطب دولار بك) : قلت لك إنه لا يمكن إلا اتباع الشدة مع هؤلاء المتمردين.
دولار بك : عظيم. ولكن هل يعلم سيدي أن هذا مخالف للقانون ومعاقب عليه؟
الباشا : ما لنا وللقانون؟! فقد أمرنا بذلك صاحبه، ولا بد من جعل هؤلاء المعتصبين أطوع من الغنم.
مفتش : كنت دائمًا أقترح باتباع تلك الخطة المفيدة لإطفاء شعور هؤلاء المتمردين، وكان فضيلة شيخنا يرفضها قائلًا لي بنص الحديث النبوي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «حاربت بالسيف وباللين، فوجدت اللين أحدَّ من السيف»، وينتهي الأمر بيننا بسحب اقتراحاتي، حتى وقعنا فيما نحن فيه الآن، وهذا كله نتيجة اتباع خطة اللين والتهاون معهم.
طالب (يخاطب طالبًا) : انظر يا أخي ترى إخواننا الذين كانوا خارجًا وليس بيدهم تذاكر للدخول قد حضروا وهاهم متوجهون لمقابلة الباشا.
طالب : وما عساهم يطلبون من الباشا؟ ولِما لم نلحق بهم لنشدد عزمهم في موقفهم ومطالبهم أمام الباشا.
طالب : والأوفق أن تعطي إشارةً لباقي إخواننا الطلبة للانضمام معنا.
طالب : لا مانع في ذلك. فأشر بيدك على إخواننا بالقيام واذهب لجهة الباشا فيتبعونك جميعهم. (فيرفع يداه على إحدى الحلقات مشيرًا على إخوانه بالقيام فيقومون جميعًا حلقةً وراء أخرى ويتوجهون إلى جهة الباشا بشكل منتظم بكل هدوء وسكينة.)
الباشا : ما بالكم قد حضرتم جميعًا وتركتم المدرسين.
الطلبة : جئنا نلتمس من سعادتكم إنصافنا وإرجاع إخواننا الذين خارج المسجد الممنوعين عن الدخول.
مفتش (ملتفتًا إلى الطلبة بغضب) : إنه لا يمكن إجابة ما تلتمسون مطلقًا؛ إذ هذا يُعَد مخالفة للقرار الصادر من مجلس الأزهر الأعلى.
الباشا : ومع ذلك مالكم وإخوانكم ما دمتم أنتم متنعمون بنعمة العفو عنكم، فتوجهوا لدروسكم حالًا ولا تسألوا إلا عن شئونكم.
طالب : لا تأتي لنا الراحة ولا التنعم إلا بضم بعضنا على البعض، وإجابة مطالبنا واتباع الخطة المعتدلة بإنصافنا، وبغير هذا لا يمكن لنا الاستمرار على ما ترغبون. فخير لكم أن تتدبروا في أمرنا وأن تتركوا ما عزمتم عليه مما هو ظاهرًا على وجوهكم.
الباشا : وما الذي تعرفه في أمرنا حتى تبادرنا بمثل هذا الكلام.
حمادة باشا : أنظرت يا دولار بك ما فعله هؤلاء المعتصبين؟ والله إنهم أرعبوا الحكومة والشعب أيضًا. أرعبوا الشعب بثورتهم. حديث عموم مجالس القاهرة وغيرها، بل القطر المصري كله مداره عن الأزهر والأزهريون، ومناداة الطلبة في الشوارع بسقوط المؤيد وإحياء اللواء. أرعبوا الحكومة، فقامت وقعدت وعُقِد مجلس النظار وعُقِد مجلس مشيخة الأزهر وانْتُدِبت لحل هذا الخلاف. ثورة كهذه الثورة ترعب الحكومة والشعب! هذا أيضًا دليل آخر على سخافة عقول أهل مصر.
صديق بك : وما معنى سخافة العقل في الثورة؟
حمادة باشا : تريد أن تفهم المعنى! فاسمع وادنُ مني قليلًا. اسمع يا دولار بك، أترى كل هؤلاء الطلبة الذين أمامك، ترى أن عددهم وافر جدًّا، بل هذا جيش برمَّته.
صديق بك : ما شاء الله، كثير!
حمادة باشا : إن هذا الجيش العظيم الذي تراه أمامك الذي قام بهذه الثورة وأقلق الحكومة والأهالي كان الأمر مدبرًا عندي بشيء بسيط للغاية ولكني لم أُسْأل عنه.
دولار بك : تفيدنا على حل هذه المشكلة، وما هي؟
حمادة باشا : إنها تتضمن كلمةً واحدةً، فأسكِّن هذه الثورة كلها وإن كانت مصر جميعها ضدي.
صديق بك : إن هذا لمستحيل يا سعادة الباشا، وأظنك مازحًا بهذا القول!
حمادة باشا : بل أسهل من السهل! ضربة عصا واحدة على ظهر أي طالب تسكِّن هذه الثورة؛ أي عصاة بيدك. اجعل هؤلاء المعتصبين الذين ينادون ويعتصبون يصيرون أذلَّاء ولا يتحركون. هذا كل الأمر وهذا هو الرأي الصحيح.
الشيخ عاشور : إني أرى يا سعادة الباشا أن الطلبة ازدادوا هرجًا ومرجًا داخل الأزهر وعددهم ازداد ثورةً هذا الصباح، وسمعت بعض المفتشين يقول أن كثيرين من الطلبة المرفوتين وصلوا الأزهر بتذاكر مرور غير حقيقية، وأخذوا يحرضون الباقين على التمرد والعصيان.
دولار بك : أرى رأيك يا حضرة الأستاذ وإنني قد لاحظت ذلك بنفسي.
صديق بك : انظر يا دولار بك إلى هذين الطالبين الذين يتكلمان.
الشيخ عاشور : وهذان الطالبان أيضًا من ضمن المرفوتين الذي دخلا الجامع بتذاكر تقليد.
طالب : هل دخل إخواننا مثلنا؟
طالب : نعم دخلوا كلهم بدون أدنى معارضة.
طالب : أرى أن الوقت قد حان لتنفيذ ما قررناه أمس.
طالب : اسكت قليلًا؛ فإني أرى أنظار الشيخ عاشور ومن معه متجهةً إلينا. (هنا يخرج أغلب الطلبة من صحن الجامع.)
طالب : أرى عموم الطلبة ذهبوا بعيدًا عن هذا المكان.
طالب : أرى أن نتبعهم لنرى ما يفعلون هناك. (يتمشيان.)
مفتش (داخلًا وقابضًا بيده على أحد الطلبة) : إن هذا الطالب كان يصفق ويصيح في إحدى الأروقة، وهو طالب مرفوت.
حمادة باشا : خذه إلى الرواق العباسي مع من يعمل عملًا كهذا لحين النظر في أمرهم.
مفتش : أمرك يا سعادة الباشا.
طالب : إنني يا سعادة الباشا.
حمادة : كفاك ثرثرةً اذهب به يا حضرة المفتش (يذهب به).
طالب : أرى أن الرواق العباسي سيصبح سجنًا للطلبة؛ فإن به كثيرين.
طالب : اصبر لنرى النهاية، فإني أرى أحد المفتشين أيضًا قابضًا على أحد الطلاب إلى الباشا.
مفتش : يا سعادة الباشا هذا الطالب لم يكتفي أنه دخل بغير تذكرة وأنه مرفوت من الجامع حتى أخذ يحرض الطلبة بصوت عالٍ جدًّا، وقد هيَّج قسمًا كبيرًا من رواق الشوام.
حمادة : كيف تجاسرت على الدخول يا هذا وليس معك تذكرة مرور؟ ولماذا أنت تحرض الطلبة؟
الطالب : إنني يا سعادة الباشا لم أرى مانعًا يمنعني من الدخول إلى معهدنا هذا الذي فيه رُبِّيت وبه تعلمت، فهو بمثابة بيتًا لي، فكيف أُمْنَع من الدخول إلى هنا؟ ومَن الذي يمنعني؟ إنني يا سعادة الباشا أزهري، فلا يستطيع أحد منعي عن الدخول إلى بيتي.
حمادة باشا : إن الذي أعلمه هو أنك خالفت الأوامر ودخلت إلى صحن الجامع وأحدثت شغبًا بين الطلبة ودخلت بدون تذكرة مرور. يجب سجنك مع رفقائك إلى حين النظر في شأنكم.
الطالب : هل صار الجامع جمركًا لأحد الموانئ لا يجوز للإنسان الدخول فيه بدون تصريح أو تذكرة مرور؟ فاسمح لي أن أسألك سؤالًا واحدًا؛ وهو: كيف جاز لسعادتكم الدخول إلى هنا؟ جوابك أنك مُنْتدب من المجلس لهذه الغاية، جوابي عليك يا سعادة الباشا، أنك غير أهل لذلك، وأن وجودك هنا هو الذي سيجعل ثورة الطلبة تزداد؛ ذلك لأنك انْتُدِبت لهذه المعهد وأنت لا تعرف من أمره شيئًا، وأنه ليس لك حق بالدخول إلى هنا؛ لأنك لا يمكنك تسكين الأفئدة بأفعالك هذه، لأنك لا تعرف قوانين الأزهر ولا قوانين الدين.
حمادة باشا : أنظرتم الآن؟ إنه لا يوجد إلا الطريقة التي قلت لكم عنها (ملتفتًا لأحد المفتشين): اطرح هذا الطالب أرضًا (لمفتش آخر): وأنت فأمسك لي قدميه (بعد أن يضربوه): سأعلمك الآن كيف أني عالم بقانون الأزهر (بعد أن يضربه): هذا هو القانون أيها البليد. (الطالب يستغيث) أرأيت كيف أني عالم بكل صفحة من صفحات قانون أزهرك.
الطالب : إليَّ! إليَّ! (هنا يجتمع الطلبة بانزعاج حول الطالب).
طالب : والله ما رأيت عملًا كهذا العمل الوحشي التي تشمئز منه الإنسانية! ويحكم يا طلبة العلم، يا خدام الدين، يا من عليكم مستقبل وفلاح الإسلام، أنتم يا من ترتجيكم الأمة، يا من تدعوكم لشبيبتها التي ترفع شرف مصر والإسلام، أيحصل هذا الأمر أمامكم وأنتم ساكتون؟ فأين العدل وأين الإسلام؟ (مخاطب الباشا): يا سعادة الباشا إني أخاطبك بصفتي أزهريًّا؛ أي خادمًا للدين؛ أي دارسًا لقانون الأزهر، أقول لك: إن هذا الفعل ممقوت من العدل والدين والإنسانية. هذا فعل الوحوش الضارية. فأنت إذن وحشًا ضاري، ولست آدميًّا، أتيت بأمن، انتدبتك مجالس حكومتنا للنظر في أمرنا تفعل هذا الفعل؟ تجعل بيت الله حجة كل مسلم في أقطاره المسكونة مَجْلَدةً ومَشَقَّة؟ إن بيت الله كان يجب عليك الصلاة في المكان الذي تجلد خدام الدين فيه. لقد أجرمت جرمًا عظيمًا يعاقبك عليه العدل. إن كنت تقول إنك باشا ولا تُحَاكم على فعلك هذا، فأقول لك يا سعادة الباشا إنك مخطئ وألف مخطئ، فقد سبقك لهذا الفعل كثيرون أعظم منك مقامًا ورفعةً بين الناس حكم عليهم القانون، ويعاقبك القانون على جلدك للطلاب خدام الدين، ويعاقبك ربي عز وجل لجعلك بيته المقدس مجلدةً لمن يخدموه.
حمادة باشا : صه أيها البليد! ما أشد وقاحتك! اطرحوه أرضًا (يطرحوه المفتشون، ثم يضربه ضربًا مبرحًا) اسجنوا هذا الغادر وحده لأني أريد معاقبته مرةً أخرى.
الطالب : ستلقى جزاءك من ربي، آه يا رجلي!

(يُسْمع صوت طالب من داخل الأودة يصيح بصوت مسموع؛ أي بصوت تحريض.)

طالب : أيها الطلبة، قوموا واعتصبوا؛ لقد آن الأوان أن نتمم أمرنا ونرفع أنفسنا. أمسكوا الصُّرَم إن لم يكن معكم عصاة (يخف الصوت قليلًا).
مفتش : يا سعادة الباشا قد هاج الأزهر كله وقام الطلبة بثورة عظيمة، ولقد اعتدوا على المفتشين وضربوهم.
مفتش آخر : إن الهياج شديد يا سعادة الباشا والخطر محدق بنا.
حمادة باشا : اذهب يا دولار بك إلى عفت بك وأخبره بإدخال فرقة من عساكره إلى هنا (يمر طالب أمام الباشا وهو يجري).
الباشا : أمسكوا هذا الطالب الذي يجري (يمسكوه)، مدُّوه لضربه. (يمدوه)، (يضربه ضربًا شديدًا والفتى يصيح من شدة التألم).
طالب : أسفي عليك يا ابن خالتي إنك ستُقْتل، إلينا! إلينا!
الباشا : وهذا أيضًا (يمسكوه ويضرب الاثنين).
دولار (داخلًا) : إني قد ذهبت إلى عفت بك وقلت له عن لسان سعادتكم بإدخال فرقة من عساكره إلى صحن الجامع فقال لي إن هذا الفعل مخالف للقانون.
حمادة باشا : أف له! اذهب حالًا واستدعي تلفونيًّا عن لساني قرعةً من قبل نظارة الداخلية رأسًا؛ إن الطلبة قد ازدادت ثورتهم.
مفتش : يا سعادة الباشا قد كسر الطلبة كراسي الجامع والأعمدة، وهاج الجامع كله.
حمادة باشا : اضربوا اثنين أيضًا وأمسكوا كل من تقدرون على مسكه واطرحوه في الرواق العباسي.
مفتش : لم يبقى مكان في الرواق؛ فقد امتلأ كله.
حمادة : إذن اضربوهم بالعصا.
مفتش : إننا نُهَان يا سعادة الباشا إذا أقدمنا على هذا الفعل.
حمادة : أف لكم من جبناء … ها قد حضر دولار بك.
دولار (ملهوفًا) : قد صرحت نظارة الداخلية بإدخال عساكر عفت بك إلى صحن الجامع.
حمادة باشا : مرهم أن يقبضوا على كل طالب مهيِّج وأن يضربوا كل عاصٍ.

(هنا تدخل شلة من العساكر ويحصل هياجًا من العسكر والطلبة وتنزل الستار.)

(تمت)

انتهت الرواية عن حادثة الأزهر، وقد عمدت لتأليفها على طريقة الروائيين العصريين. واعتاد المؤلفون أن يطالبوا الشعراء بالتقريظ، فعدَلت عن ذلك إلى إثبات قصائد السادة الشعراء بمناسبة الحادثة الأزهرية.

نظم حضرة الشاعر الشهير الكبير أحمد أفندي نسيم عقد هذا الشعر فأبدع. وقد أفرغه هذه المرة في قالب من التنكيت والتبكيت لما أنه أجذب للنفس، وأدعى إلى التفاتها. وجَّه ذلك الشاعر خطابه إلى حمادة وولاة الأمور في شأن الأزهر، فقال — وما أشد تأثير ما قال:

عرفناك والشعب الكريم شهيد
فجهدَك فيما تبتغي وتريد
«حمادة» لا تترك بقوسك منزعًا
تُشَقُّ قلوبٌ دونه وكبود
بكفِّك كم شُجَّت رءوس رفيعة
وكم لُطمت باسم الأمير خدود
وكم لُوِيت تحت الأكفِّ أخادع
وكم صُهِرت تحت العصيِّ جلود
أأنت الذي للتُّرك قدَّم نفسه
ليحيا به عهدٌ هناك جديد
لقد عرفتك الترك أنك واغل
على القوم لا تُرْعَى لديه عهود
رأوا أن وادي النيل أولى بفرده
فعدت إلى مصرٍ وأنت طريد

•••

تجرأت حتى دسْت غير معاشر
حواليك منهم أشْبُلٌ وأُسود
لهم مهجة لا تنثني عن مرادهم
وقلب على خوض الحتوف جليد
وكيف استوت رجلاك في صحن مسجد
يطيب به للمتقين سجود
مكانك يا من جاز حدَّ قصاصه
ولله في زجر الجفاة حدود
أضربٌ وجلدٌ وانتقامٌ وشدةٌ
ولَكْمٌ ووخزٌ مؤلمٌ ووعيد
مرادك لو تدري، ومثلُك عارفٌ
ضلالٌ، وربِّ العالمين، بعيد

•••

أرى القوم أَولى أن يسوس أمورَهم
أخو همَّة ذاكي الفؤاد رشيد
لقد ساءهم أن لا تُؤَدى أمانةٌ
وقد ضرَّهم أن لا تُبَرَّ وعود
وفي كل يوم للسياسة حالة
تجدِّد ماضي بؤسهم وتُعيد
إذا ذُكرت للقلب كاد لذكرها
يطير أسًى أو يعتريه جمود
حمادةُ هل أيقنت أنك سيد
وتلك الجماهير (العصاة) عبيد
حمادة هل مالت بعقلك نشوة
حسبت لها أن الهبوط صمود
لقد جئتَ إدًّا يا حمادة فاتَّئد
فإن عقاب الظالمين شديد
فلا كافرٌ جاء الذي أنت جئته
ولا جاحدٌ فضلَ الإلهِ كنود
ولا ملكٌ فظُّ الفؤاد غليظُه
ولا ظالمٌ جافي الطباع مريد
شببت لنا نارًا فصرت وقودها
ونالك سخطٌ ما عليه مزيد
تقضَّت لياليك المضيئة وانقضت
وجاءتك أيام كوجهك سود

•••

هدمتم، وربِّ البيت، أكبر معهد
بنَته غطاريفٌ خلائف صيد
خذوه لجيش الإحتلال فإنه
بناءٌ لجيش الإحتلال مشيد
فكم فيه للفوتبول ملهًى وملعب
وكم فيه بهوٌ للخمور مديد
وإن شئتمُ فابنوه خانًا تؤمُّه
رحيبًا لسيَّاح الشتاء وفود
وإن شئتمُ فابنوا عليه عمارةً
تحلُّ نصارى دورَها ويهود
وإن شئتمُ فابنوه للقوم مرقصًا
تبيت رجالٌ في ذُراه وغِيد
وإن شئتمُ فابنوه للخيل مربطًا
تُحَلُّ شكولٌ عنده وقيود
وإن شئتم فابنوه سجنًا ممنعًا
يزور به «عبد العزيز» «فريد»
وإن شئتمُ فاستبدلوا أرض صحنه
بمزرعة فيها السوام ترود
وخير لكم أن تحرقوه بجاحم
له من عظام الثائرين وقود
وأحرى بكم أن تنسفونا بصرصر
كذلك عاد أُهْلِكت وثمود

•••

هو الملك العباس من عمَّ فيضه
وهزَّت له في المشرقين بنود
فيا وزراء النيل هل فيكمُ فتًى
كريم له رأي لديه سديد
يبيِّن له أن المملَّك إن قسى
يَبِتْ وهو خصمٌ للعباد لَدود
إليكم قريضي لست أدري أبطرسٌ
أحقُّ به أم حشمةٌ وسعيد
فأدُّوا إلى القوم المظاليم حقَّهم
ورُدُّوا جيوش المفسدين وذودوا

ولحضرة الأديب الفاضل والشاعر المطبوع الشيخ إبراهيم الدباغ من خطبة ألقاها في جمعية المدرسة التحضيرية الكبرى ما قال:

يا من يلوم رجال العلم إذ نهضوا
خفِّض عليك ففعل القوم يُمْتَدح
ودع فريقًا بهذي الدار قد ألفوا
حالًا بها يتساوى الطعن والمدح
لو اطلعت على قلبي ولوعته
حسبت أن زنادًا فيه ينقدح
الأزهريون في حالٍ تُذِّكرنا
عهدًا عليه النُّهى والدين مصطلح
عهدًا يذكرنا عصرًا يسود به
هذا الوجود فلا لعب ولا مرح
عهدًا مضى ورجال الدين في دعة
والحق مستتر والبطل منفضح
أيجنحون إلى شرٍّ بهم وهمو
حين النضال لغير الحق ما جنحوا
أيمنعونهم الحق الذي اكتسبوا
ويسلبونهم الثوب الذي اتَّشحوا
مَنُّوا عليهم وجاءوا بالنظام لهم
يا ليت قومي ما منُّوا ولا منحوا
فإن همو اتحدوا شادوا بقوتهم
صرحًا على بابه العلياء تنطرح
وإن همو ابتدعوا عن زيغ ذي حيل
مفرق فاخبروهم أنهم نجحوا
وطالما وكستهم مصر وافتخرت
بذكرهم وهو عند الفقر مضطرح
أيحسب العمل المردي لهم منحًا
من حاكميهم فبئست هذه المنح
كادوا لهم واستحلُّوا ما تحرِّمه
شريعة الله بالباب الذي فتحوا
أشرعة بعد شرع الله تحكمنا
وأي صدر لغير الشرع ينشرح
الدين أعدل حكمًا من نظامكم
فعاملوهم بحكم الدين وانتصحوا
ولا تزيغوا بهم عنه وإن خضعوا
مَن عنده النخل لا يُعطى له البلح
خدعتموهم وخادعتم بهم وغفَوا
عما صنعتم ومثَّلتم بهم فَصَحُوا
وكم ضربتم بسهم من معارفهم
فما تنكَّرهم حيٌّ ولا وقح
لو لم يُسَاء لهم عمدًا لما وثبوا
إلى النضال ولا فاضت لهم قدح

حمادة باشا والشعر، لأحد الشعراء الذي لم يصرح باسمه:

النيل أولى أن يكون النيلا
لا أن يكون كما نراه ذليلًا
جعلوا بيوت الله فيه مجالدًا
فدعا السياط رنينها عزريلا
نظر الدموع تسيل في جنباته
فارتاع خيفة أن يصير قتيلًا
ترك الجسوم خضيبةً بدمائها
وغدا يقص على الملائك قيلا
فتطلعت نحو الثرى وتطلبت
من ربها أن لا يقيل خليلا
من لم يقل أهل الكتاب فلم يكن
مقيمًا في العالمين مقيلا
نزعت إلى عهد المظالم نفسه
والناس تنزع فتيةً وكهولا
هوِّن عليك فإن مصر سوى التي
أبصرتها في عهد إسماعيلا
عباس غير جدوده لا يتقي
في الحكم إلا الجلد والتكبيلا
إن النفوس إذا تمادت في الهوى
ثم اهتدت رأت الهوى تضليلا
لو كنت تهوى العدل لم تذر الألى
بعثوا إليك على السلوك رسولا
تالله لم ترأف بمصر وإنما
هي حاجة جعلتك تهوى النيلا
قد عودتك على النعيم خلالها
يأبى المنعَّم أن يعيش ذليلا
أغضبت ربك والنبيَّ وصحبه
والحاملي التوراة والإنجيلا
أهل الكتاب على هدًى من ربهم
لكنهم جعلوا الصلاة شكولا
اليوم تلهب بالسياط جلودهم
وغدًا نراك عليهم مسئولا
فيما يكون العذر يوم ترى فتًى
يشكو وآخر شاهدًا مذهولا
الله يعلم أن عهدك لم يطل
عهد المظالم لم يكن ليطولا
انظر إلى الدور التي أغلقتها
واسمع شكاة قطينها وعويلا
مال الإله وقومه ودياره
فهل اصطفاك له الإله وكيلا
أم شمت خاوية الخزائن عنده
خفَّت فكادت أن تطير قليلا
فجعلت تجمع في الركاز مشتتًا
وتميت من ظمأ الطوى معزولا
المرء إن ضعفت يداه عن الأذى
أخذ الإله له بكفٍّ طولى

•••

عباس هل جازت سماعك أحرف
يحملن من معنى الأنين حمولا
انظر إلى البلد الذي كفلت به
أبواك هل يرجو سواك كفيلا
انظر إلى البيت الذي كنا به
متفضلين على الورى تفضيلا
فهنالك الأسفار تندب قارئًا
والعلم يبكي عالمًا وجهولا
والماء كاد يجف لما لم يجد
متوضئًا أو غاسلًا معزولا
وحماك يا ابن محمد لم تُبقِ أحـ
ـداث الزمان سوى الكتاب جليلا
وقفٌ عليك دماؤنا ولو انَّها
سالت بأيدي الظالمين سيولا
إن هان دين محمد فرءوسنا
تطأ الثرى أو ترفع التنزيلا

ولحضرة الأديب الشيخ ثابت فرج الجرجاوي قصيدة منها ما يأتي:

زعم الوشاة بأننا أشرار
كذب الوشاة فإننا أحرار
نبغي الحقوق وليس ثمة قائل
طلب الحقوق مثبة وشنار
مال الحكومة لا تُعير مقالةً
إذن السماع أقصدها الإصرار
حشدت عساكرها تريد تحرُّشًا
منا ونحن أفاضل أبرار
ندري السياسة والكياسة والوفا
وجميعنا لأميرنا أنصار
الله يعلم والنبي وصحبه
والناس والأهلون والنظار
إنا عبيد مخلصون لعرشكم
وولاؤنا لمقالنا أسفار
أرضيت أن الدين تضرب أهله
وتسوسه الدخلاء والفجار
فالوالد المسكين ينظر لابنه
ينعى ودمع عيونه مدرار
بالله قل لي لو جرى في نجلكم
ما قد صنعت بنا وصنعك عار
خرجت عليك من المواطن ضجة
ذابت لهول نزولها الأحجار
مهلًا حمادة إن مصر أسيفة
لوجود مثلك حاكم أمَّار
جاوزت حد الذوق في تعذيبنا
رقَّت لحالة بؤسنا الكفار
هذي الفظائع لو تمثل صورةً
لتخوفت من شكلها الأقدار
ذكَّرتنا الظلم القديم وما جرى
في «دنشواي» وبئس ذا التذكار
قف عند حدك يا حمادة وانتظر
عدل الحكيم فإنه إنذار
الآن قد حُسِم النزاع وأقشعت
سحب القرار وزالت الأكدار
سمح المليك بعفوه مع أننا
برآء عما تفتري الفجار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤