على هامش السيرة

قصة ممتعة موحية، يتابعها القارئ بشوق، وينتهي منها إلى فائدة.

وهي ممتعة لأنها تنقل الشخوص والأسماء من عالم التاريخ والخبر، إلى عالم الحياة والشعور، فالشخوص فيها آباء وأمهات وأزواج وأحباب، وليسوا بعناوين مسطورة كعناوين المعالم المدثورة في الصحائف المهجورة، والعلاقة بينهم علاقة حب ورحمة، أو بغض ونقمة، أو إخلاص وغيرة، أو طمع وخديعة، وليست علاقة كلام بكلام أو أشياء بأشياء.

وتزيدنا البساطة فيها شغفًا بها، وعطفًا عليها، فهي قد نقلت إلينا الحياة الجاهلية والحياة في أوائل ظهور الإسلام، كما كان يألفها أصحابها لا كما نألفها نحن، أو كما فهموها بالبداهة والفطرة لا كما نفهمها نحن بالتحليل والتعليل. فأسباب انتشار اليهودية في اليمن — مثلًا — هي أسباب المعجزة والكهانة والأسرار الغيبية، وليست هي الأسباب التي نعقلها نحن بعد أن نعرضها على الفكر، ونقابل بينها وبين النظائر والأشباه، وإنكار الكاهن اليوناني لأساطير الوثنية هو إنكار الإلهام والرؤيا، وليس بإنكار التمحيص والتنفيذ، وكذلك كل ما في القصة من أسباب ومن إيمان ومن إنكار، قال قائل من اللاغطين بالنقد على غير بصيرة: ما أحسب إلا أن الدكتور طه حسين قد شبع من إغضاب الجامدين فهو يتصدى هنا لإغضاب المحدثين، وما أحسب إلا أنه يكتب ليثير ويستثير! فمرة تقع النوبة على أهل الجمود، ومرة أخرى تقع النوبة على أهل التجديد!

قلت: بل أنا أحسب غير ذلك ولا أرى في الأمر شيئًا من قصد الإثارة والإغضاب. أحسب أن الدكتور طه قد ملئ إعجابًا بالنسق الهومري في تمثيل وقائع الأبطال وأنباء العصور، فأراد أن يخرج لنا إلياذة نثرية عربية، يشترك فيها عالم الشعر البليغ، وعالم التاريخ الصادق، وتجري حوادثها في آفاق الزمان الغابر الذي لا حدود فيه بين الغيب والشهادة وأسرار الخيال والحقيقة، فنحن نفهم الإلياذة ولا نجهلها أو ننكرها لأنها قد أفرغت في ذلك القالب وانتظمت على ذلك الأسلوب، ثم نحن نفهم «هامش السيرة» ولا نجهله أو ننكره؛ لأنه نقل إلينا الجاهليين كما كانوا في حياتهم، وعقائدهم، وأفكارهم، ولم ينقلهم إلينا كما نكون نحن لو أننا انتقلنا بزماننا إلى زمانهم، فهل أصاب الدكتور أو أخطأ؟ وهل أحسن من ناحية القصص أو لم يحسن؟ أما أنا فأرى أن أسلوب التعليل والتحليل لا يزداد شيئًا كثيرًا لو أننا جعلنا الجاهليين عصريين يعيشون في القرن العشرين، ولكن أسلوب القصص يخسر كثيرًا من البساطة والتخيل، لو أننا سردنا القصة معللين محللين.

وأقل ما يقال في هذا المعرض أن شفاعة الدكتور فيما اختار من أسلوب ليست بالشفاعة الضعيفة ولا المردودة، وأن حجة الناقدين عليه ليست بأقوى من حجته عليهم. بل لا حجة عليه للناقدين ولا وجه هنا للقوة والضعف في الاحتجاج. إنما كانوا يزنون كتاب الدكتور بميزان العلم العصري لو أنه كان يقصد إلى العلم العصري فيما كتب ثم أخطأ في التطبيق أو أساء في التفسير، فأما وهو لم يقصد إلى ذلك ولم يحاوله ولم يُرنا قط أنه حاوله فأي معنى للاعتراض عليه غير حب الاعتراض؟ ذاك كمن يحمل إليك الآنية الأثرية فتقول له: إن آنيتك ليست من طراز الأواني التي نراها اليوم على الموائد. نعم، ومن قال لك إنها كذاك. إنما جمالها في وضعها الأثري ومعانيها الأثرية، فإن قبلتها فقد فهمتها، وإن لم تفهمها فليس الذنب على الأثريين!

لكننا لا نريد بما تقدم أن قارئ «الهامش» لن يفهم الوقائع الجاهلية، ولا البيئة التي ظهر فيها النبي — عليه السلام — على الوجه الصحيح والوضع المعقول المستقيم.

كلا! بل هو يفهمها صحيحة مستقيمة من موضعين اثنين بدلًا من موضع واحد.

يفهمها كما كانت في أعين الجاهليين، ثم يفهمها إذا شاء واستطاع كما تبدو في أعين المحْدَثين، فيجمع بين زمانين، ويرى الصورة المرسومة في نورين مختلفين.

ولا تظن أن قارئًا مستنيرًا يطلع على «هامش السيرة» حق الاطلاع إلا وهو مستطيع أن يعرف المقدمات والبشائر التي هيأت البيئة لظهور النبي وظهور الإسلام.

فهاهنا قبيلة نبيلة قد استأثرت بمناسك البيت الحرام، واستقلت بأعباء السدانة.

وها هنا رجل من تلك القبيلة يعرف الهواتف الغيبية، ويبلغ من تقواه أن يعرض عن كنوز الذهب والسلاح وهو فقير أعزل، وأن يَنذر ابنًا من أبنائه للآلهة فلا يعدل عن التضحية به إلا أن تحله الآلهة أو يحله الكهان.

ذلك الرجل هو عبد المطلب جد النبي عليه السلام.

ها هنا فتى وسيم وضيء محبوب، يتقدم إلى الموت راضيًا إذا دعاه إليه أبوه، وكان في الموت إيفاء بنذر البيت الحرام.

ذلك الفتى هو عبد الله أبو النبي عليه السلام.

وها هنا طفل يولد، فكأنما لم تخلق قبيلته، ولا آباؤه، إلا لتكون وسيلة إلى ظهوره.

يُحمل به فيتم أجل أبيه.

ويدرج ويترعرع فيتم أجل أمه.

ويشب قليلًا فيتم أجل جده وكفيله.

فكل شيء يهيئ له المكان ويمهد له الطريق، وكل ما عدا هذه التهيئة، وذلك التمهيد فضول.

واقرأ خلائق آبائه وآله، وتعلم كيف استحقوا أن يورثوه ما ورث من فطرة، وقنوت، وفطنة، وكيف كان أعلاهم كعبًا، وأوفاهم نصيبًا، وأعظمهم شأنًا، ولكنه كان سليل ذلك الشرف ووريث ذلك البيت لا مراء.

وفي خلال ذلك أي رحمة، وأي مروءة، وأي خليقة إنسانية أطهر وأبر وأدنى إلى القلب مما اشتملت عليه السيرة في مختلف الأعمار والأطوار؟

يتيم يعطف على اليتامى، وربيب أمة ضعيفة يحض على بر الإماء الضعاف، وفقير يوطئ أكناف العيش للفقراء، وتقي من معشر أتقياء يغض من كبرياء السروات، وهو في الذروة بين السروات، وصاحب دين لا تأخذه في الدين هوادة ولا ينحرف عنه إلى رحم أو قرابة، وكل أولئك في صورة إنسانية محببة قريبة إلى الفكر والبداهة، فهي صورة ممتعة وموحية، وهي خليقة من أجل ذلك أن تشوق وأن تفيد.

•••

قرأت «هامش السيرة» فلم أنكر سياقها في موضع من المواضع، ولم أتمن لها قط أن تكون على غير ما اختار المؤلف أن تكون.

وغاية ما عندي من النقد لها أنني وددت لو ضمت من الصور الشخصية التي لازمت طفولة النبي فوق ما ضمت؛ لأن صورة الخلق الجاهلي أو صورة البعثة النبوية لن تتم بغير مثال من جحود الجاهلية، وسودة العصبية، وهل كان تمثيل أبي لهب هنا بعيدًا من الموضع أو بعيدًا من الزمان؟ لقد كان لزامًا أن نعرف الجاهلية التي لقيت النبي بالغطرسة والعرام، وكانت صورة أبي لهب من ألزم الصور إلى جانب عبد الله في هذا المقام، ولا سيما بعد أن ساومته خديجة على شراء «ثويبة» التي أرضعت النبي لكي تعتقها، وترفه عنها بأمره، فأبى أبو لهب واستكبر، وهل يكمل تصوير الجاهلية بغير مثل جافٍ هذا الجفاء، غليظ هذه الغلظة، عتل لا يعي شيئًا غير الصلف والتجبر على الضعفاء والفخر الجهول والكبرياء بالأجداد والآباء ووفرة الثراء؟ وهل من صورة أقرب إلى هذا المقام وأشبه بتمثيل الجانب الخشن فيه من أبي لهب؟ إن مكانه لمفقود في هامش السيرة، وإن الجاهلية لن تبدو لنا في جانبها الذي استوجب ظهور الإسلام، وشقي به المسلمون أول الأمر، إلا على صورة من هذا الغرار.

•••

وبعد ففي «الهامش» عبارات يقف عندها القارئ؛ لأنه يجزم بنُبُوِّها في كلام أهل الزمان.

مثال ذلك ما أجراه المؤلف على لسان الأَمَة «ناصعة»، وهي تخاطب سيدتها فتقول: «مهلًا يا سيدتي، ارفقي بنفسك، ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب.»

ولم يكن الإماء، ولا غير الإماء، يفهمن الخيال بالمعنى الذي نفهمه الآن.

ومن أمثلته أيضًا قول فاطمة الخثعمية لعبد الله: «إن خير ما في الأمكنة والدور أنها ثابتة باقية، لا تتحول ولا تزول إلا في بطء، وإن شر ما في الزمان أنه لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار» وهذا الكلام عن الزمان والمكان أدنى إلى كلام المتفلسفة في القرن الثالث والرابع منه إلى كلام النساء فيما قبل البعثة النبوية.

وإنها لهفوات لا يُتجاوز عنها في نقد «هامش السيرة» إذ كانت شفاعته الكبرى أنه يحكي زمانه أبسط الحكاية في العقيدة، والإدراك، والتعبير.

لكنها طابع العصر أبى إلا أن يتراءى في كتاب أوشك أن ينقلها إلى عصره كل شيء، ولم يكد يذكرنا المؤلف فيه بنفسه إلا مرة أو مرتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤