صورة١

هذه الصورة أيها القارئ لا تدلك على الأصل إلا كما يدل الرسم على المرسوم والظل على ملقيه، فإذا حسبت فرق الحجم حيث تدق الملامح في الصورة الصغيرة، وتبرز للنظر على جلاء وتفصيل في الصورة الكبيرة.

وإذا حسبت الفرق بين النقل الشمسي والتصوير اليدوي في حسن الأداء ودلائل الحياة، وتفاوت ما بين الحكاية الآلية والحكاية التي تستمد من الشعور والذكاء والتخيل والإيحاء، وإذا حسبت الاختلاف بين التلوين البارع والتظليل المحكم، وبين السدف الشائع الذي لا تختلف فيه مسحة عن مسحة، ولا لون عن لون، إذا حسبت هذه الفروق بين الصورة التي تراها هنا، والصورة التي نقلت عنها، فأنت قادر على تمثل الصورة المحكية في بعض جمالها وإتقانها، وبعض ما فيها من قدرة الفن والتعبير.

على أنني بعد لا أعلم ماذا ترى أنت أيها القارئ في الصورة المحكية لو نظرت إليها كما أنظر، وسرحت فيها بصرك وخيالك، كما وقفت أنا منها بين تسريح البصر والخيال، فإنني أؤمن بالأطوار النفسية وما إليها من الأثر في إعجابنا بمنشآت الفنون والآداب، واعلم أنك تنظر إلى الصورة، وفي ضميرك خاطر يمت إليها بنسب من الإحساس والتفكير فتثير أشجانك وتستفتح مواطن التفاتك وإعجابك، وينظر إليها غيرك وليس في ضميره ذلك الخاطر فيعدوه جمالها، أو يأخذ من نظره وخياله طرف اللمحة العابرة والخيال المشغول، وقد ينظر المرء في وقتين مختلفين إلى الصورة الواحدة، فإذا هي اليوم غير ما كانت بالأمس، وإذا بها كأنها عملان اثنان عملتهما قدرتان وتمثلت فيهما نفسان وقريحتان، فإذا نظرت أنت أيها القارئ إلى الصورة المحكية فلست أعلم ما شأنها عندك وأثرها في شعورك وتفكيرك، فإنما المعول في هذا أكثر الأحيان على أطوار النفوس، وبدوات الأذواق، وسوانح الفكر، وإنما يعجبنا الفن بشيء من أنفسنا كما يعجبنا بشيء من نفسه، ويندر أن يلتقي الشيئان معًا في جميع الأحيان.

غير أني لا أرى في احتياج الآثار الفنية إلى الأطوار النفسية التي تلائمها حري أن يقدح في جمال تلك الآثار، أو يبخس قدرة الصانع الفنان، بل أقول: إن التقدير الصحيح لا يتهيأ لنا إلا مع المشابهة في النظرة والمقاربة في الإحساس، فلا نقول ثمة إن الإعجاب متهم الاستحسان ممزوج بالغرض والمحاباة بل نقول: إننا كنا أقرب إلى الفهم الصادق والتقدير الصحيح، فرأينا من الأثر الفني ما لسنا نراه في غير هذه الحال، وأدركنا من مزاج الفنان ما لسنا ندركه بغير هذا الاقتراب، وإذا ابتعدت خواطرنا من خواطر المصور، وتباين الجو الذي صنع فيه صورته والجو الذي ننظر إليها فيه، فليس هذا بحجة على أننا أصلح — من أجل هذا — للحكم عليها وأجدر بالإنصاف في عرفان مزاياها، بل هو أولى أن يكون حجة على خطأ الحكم وصعوبة الإدراك، وإننا كنا محرومين من ذلك «التهيؤ» الذي لا غنى عنه في كل تقدير يتصل بالخيال والشعور.

وكأن للنفس أبوابًا شتى تطرقها من لدنها صنوف الإحساس وفصائل الخواطر، فما يرد عليها من هذا الباب لا يرد عليها من سواء، وما يخطر لها وهي مشرفة على جانب السماحة والرضا غير ما يخطر لها وهي مشرفة على جانب التبرم والأسى، وما هو إلا أن يفتح الباب من أبواب النفس حتى يستثني كل طارق عليه إلا ذلك الطارق الذي يليق به التقدم إلى ذلك الباب، فهناك على الطريق مرحب موكل باللقاء والتمييز يأذن للخواطر المدعوة، ويصدف عن خواطر التطفل والفضول، وإنها لفاتحة تبتدئ ثم تطرق اللواحق على وتيرتها، ثم ما هو إلا أن تجوز الطارقة الأولى وتأخذ مكانها حتى تفرغ النفس لضيوفها التي تَفِدُ عليها رتلًا بعد رتل من حيث فتحت لهم هي باب القبول.

وهذه الصورة أيها القارئ هي صورة فتاة حزينة على قبر صديق فقيد. كيف أعجبتني حين نظرتها أول مرة ومن أي باب وردت على نفسي في تلك اللحظة، فخلت فيها محلها من الأنس والكرامة؟ لست أدري! ولكن لا عليك أيها القارئ أن تقول كما أقول أنا ساخر الشفتين يوم تلح بي هذه الخواطر: هي النفس مفتوحة اليوم على حي المقابر من هذه الحياة الحافلة بالأشباح والقبور، الزاخرة بالعظام والأشلاء!

كان يوم ضقت فيه بالمدينة ومن فيها، ونزعت إلى رحب الفضاء وفسحة الطلاقة والذكرى، وفي المطرية حيث تتلاقى رحاب الفضاء ساكنة خاوية، ورحاب التاريخ صامتة فانية مجال للعبرة من طريقين، ومتسع للصدر من جانبي المكان والزمان، فذهبنا مع بعض الصحاب إلى المطرية، وقصدنا إلى متحف المصور الفاضل «شعبان زكي»، فرأينا هناك هذه الصورة بين ودائع كثيرة لصاحبها الأستاذ محمد حسن الذي يتم دراسة التصوير الآن في المعاهد الإيطالية، وإنها لنظرة واحدة وقفت عليها، ثم ثبت النظر عندها لا يرام عنها، واجتمعت هواجس النفس ومطارح الفكر حولها، فرأينا ثم آية من آيات التصوير تقل مثيلاتها بين آيات الأساتذة المبرزين في ذلك الفن الجليل، وشعرنا كأن للصور هواتف وأرواحًا تجتذب إليها العاطفين والمعجبين على نأي المسافة وتفرق الهموم، وكأن هذه الصورة هي التي استدعتنا حيث كنا لنؤم مكانها ونشهد قصتها ونقضي لها حقوق تحيتها، وكأنها هي التي ألقت علينا من ظلها فشملتنا في ذلك الجو الخاشع الذي ساقنا إليها كما تتعطش الأرواح المنسية إلى نفوس أحبابها، فهي تومئ لها في رواية الأقدمين بوحي الذكرى، ودعوة الحنين إلى ارتياد مزارها وتجديد الأسف عليها.

أيها القارئ، إننا نظلم الصورة إذا حسبنا عليها فضلًا نمن به عليها من مشابهة الخواطر وتهييء الشعور، فالحق أنها هي في ذاتها وافية المعاني غنية بفضل إتقانها عن فضل تلك الصبغة التي يصبغها بها من ينظر إليها، وهي واحدة من الصور القلائل التي تجيء بها القريحة الملهمة على أتم مثال يبلغ إليه متأمل أو يطرأ على الخيال، فإن شئت دليلًا على ذك فانظر كيف كان يمكن أن يصور هذا الموقف على وجوه كثيرة يتخيلها المتخيل قبل الشروع فيها، ثم انظر كيف اهتدى مصورها البارع إلى الوجه الوحيد الذي هو أجمع لمعانيها، وأليق بموضوعها، وأشبه بحظها من الوقار والجمال.

فقد كان وشيكًا أن يخطر للمصور أن يبدي لنا الفتاة الحزينة في صورة التفجع والقنوط، ويكون ذلك في بادئ الرأي أقرب إلى المقصود، وأقمن أن يلعج الحزن ويستدر الدموع، فلو أنه فعل ذلك لأبلغ في رأي السذاجة والذوق الغرير، ولكنه يضل محجة الإلهام، ويذهب بهيبة المقام، ويحد الخيال عن الاسترسال فيما وراء ذلك المنظر الذي تناهى به الحس إلى نهايته، وانصرف فيه إلى غاية منصرفة! وكان يحرمنا جلال هذا الصبر الذي كأنما يعتب على المقدار ولا يثور عليه، وكأنما يحلم بالحزن في غفوة التسليم، ولا يعالج كربته في عالم المنظور والمسموع، وكأنما يشفق أن يتوله بالألم في حضرة ذلك المزور الذي يأبى أن يظهره على غير التجمل والسكون، فكان جهد ما يرتقي إليه المصور أن ننظر إلى الفتاة فنقول: مسكينة هذه الفتاة الجزوع! وأين هذا من نظرة نرفعها إليها الساعة فنطامن الأنظار، ونحني الرءوس، وتتراجع لديها بين يدي حرم مهيب من الصيانة والوقار.

وقد كان وشيكًا أن يخطر للمصور أن يجعل الفتاة على الضريح، أو مستندة إليه، أو جالسة إلى جواره، فلو أنه فعل ذلك لما تعدى حدود الواقع الذي نشهده في بعض هذه المواقف، ولكنه كان يقضي على الخوف الذي نراه ها هنا يحف بمدخل الفتاة إلى ضريح العزيز الفقيد، وكان يمحو عن الموقف هيبة تلك الحركة تقترب بها في حذار وشجو إلى قبلة خطواتها المثقلة ومطمح طرفها الكليل، والتي هي بحركات النفوس المعنوية أشبه منها بحركات الأقدام والأجسام، وعلى البعد السحيق الميئوس منه أدل منها على القرب الماثل الميسور، بل هو كان يطمس معالم تلك الخطوة المتروكة التي هي على قربها تمثل لك بعد الهاوية المستحيلة بين الحياة والموت وبين الحزين القائم على الثرى والفقيد المغيب تحت التراب.

وقد كان وشيكًا أن يخطر للمصور أن يضع المنديل على عيني الفتاة فذلك هو موضع المنديل في حيث يكون البكاء، ولو أنه فعل ذلك لما لامه أحد من الذين يطالبونه بحرف التصوير ولفظه، ويغفلون عن غرضه ومعناه، ولكنه كان يحجب عنا وجهًا حزينًا ليرينا قطعة من القماش المبلول، وكان يرينا البكاء عملًا ماديًّا قوامه الجفون والأهداب وقطرات الدموع، ولا يرينا إياه حالة في النفس يستحضرها الخيال بما يقارنها من الأشجان والحسرات والإجهاش والانتظار، أي حالة لا يكون المنديل والدموع معها إلا علامة تشير إليها كعلامات النقوش الفرعونية تلوح أو لا تلوح على حد سواء، وفي مثل هذا البكاء يقول أبو الطيب:

ورُبَّ كئيب ليس تندى جفونه
ورب نديِّ الجفن غير كئيب
وللواجد المكروب من زفراته
سكون عزاء أو سكون لغوب

هذا هو البكاء الذي رسمه لنا صاحب الصورة بغير دموع ولا زفرات، وهذا هو السكون الذي تراه على تلك الطلعة الباكية فلا تدري أسكون عزاء هو أم سكون لغوب.

بل لقد كان يسع المصور أن يبدي لنا الفتاة في شارة غير هذه الشارة، وإطراقة غير هذه الإطراقة، ونظرة غير هذه النظرة، ووقفة غير هذه الوقفة، فلا يطالب بنقص ولا يحتج عليه بخلاف، ولكنه اختار في كل شيء فأحسن الاختيار، وقاس المناظر والضمائر فاهتدى إلى أتم قياس، ومثل لنا الشخوص البادية، ومثل لنا ما وراء الشخوص من قصة محجوبة، وتاريخ مجهول، فأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم علمًا لا شك فيه أن الفتاة لم تقف على ذلك القبر موقف البنت على قبر الوالد، أو الأخت على قبر الشقيق، وإنما هي وقفة حليلة على قبر حليل تذكر له عشرة الروح، ومودة القلب، وتفي له وفاء من فقد الأليف والزميل، وأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم علمًا لا شك فيه أن الحزن فيها حزن قديم، والرقدة في ذلك القبر المستور رقدة من مضت عليه أيام وأيام وشهور وشهور، وأن حنينًا يدوم بعد فقيده هذا الدوام لهو الحنين الشريف الذي لا تعفي عليه دواعي الحس ولا تنسيه غواية الأجساد، ولا تمليه إلا ذكرى تعلق بالقلب الكسير والروح المشطور، وماذا نريد من مصور يعرض لك صورة فتاة حيال ضريح فإذا أنت أمام قصة وأمام تاريخ، وأمام وصف لا يعرفه العارفون إلا بالخبرة والسؤال؟ بل ماذا نريد من مصور يعرض لك رقعة صامتة، فإذا هو يقول لك فيها كل ما يمكن أن يقال في موضوعها بالريشة والألوان، وإذا هو يعرض لك في مساحة تلك الرقعة أقوى جبارين يجدون ويلعبون في رقعة الحياة، وأقدر ممثلين يتناوبون بيننا مصارع الغابرين والحاضرين، يعرض لك الجمال والشباب، والحزن والموت، يحدثك كل منها حديثه، ويفضي إليك كل منها بنجواه، ويقف من الرقعة موقفه الذي لا عي فيه ولا إسراف، تلك هي الغاية من التصوير، بل هي الغاية من كل فن جميل، وتلك هي الغاية التي اهتدى إليها مصورنا الألمعي القدير.

ولقد أطلنا النظرة في الصورة، وأطلنا الحديث فيها، ونسينا يومها الفضاء وما جاء بنا إلى الفضاء، واستعرتها من صديقنا الأديب فأقمتها على مكتبي بحيث ألقاها في الصباح والمساء وأستقبلها كلما أخذت في القراءة والتفكير، ولو تألف الأشباح عينًا تدمن النظر إليها قد بات يألفني هذا الشبح الشاخص عند ذلك الراحل الدفين، ولقد بات يصغي إلى مناجاة تهم بها شفتاي وفيها كل إعجاب، وليس فيها أثر مما يلوح عليها من ملام، وكأنه يسمعني في تلك المناجاة أسائله مساءلة المشفقين: أيتها الفتاة إلى أين! إلى القبر في هذه المسوح وفي هذه الكآبة وفي هذا المحيا الوضيء؟ عليك يا بنية سمة الملاحة وفيك مرتغب يا بنية للراغبين، ووراءك الدنيا يا بنية تفيض بالأفراح والأطماع، ويتسابق فيها المتسابقون على إرضاء الجميل، وتضحك لها الرياض عن نضرة الريحان، وتطلع عليها الكواكب باللمح والابتسام، وتنشدها الصوادح أناشيد الحب والرجاء، وأنت زينة من زينتها تهجرينها كلها، وتدبرين عنها كلها، وتقبلين على هذه الحجارة المركومة فوق ذلك الجسد المحطوم؟

نعم لو تصغي الأشباح إلى الناظرين، لقد كان يسبق إلى ذلك الشبح أنني أعجب له هذا العجب، وأناجيه هذه المناجاة، ولقد كان لعله يقول وهو يجيب جواب الأشباح:

إن من يذكر لينسى، وأي ذاكر لم ينس الدنيا وما فيها حين يقبل على الذكرى؟ وأي ذاكر لا ينسى الدنيا حين يرجع عما حوله إلى غابر كان حوله يومًا، ثم طواه الزمان طي الفناء. ألا إنها هي الذكرى، ألا وإنها هي أعلى من الدنيا، وهي أعلى من الرياض والكواكب والأناشيد، وهي أعلى من الإنسان! بل هي أعلى من صاحب الذكرى، لو عاد من غابره المطوي إلى جوار الحياة!

١  ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤