في الماضي١

إلى الأمس في هذا الأسبوع! فقد مضى لنا أسبوعان في مجاهل الغد بين مستقبل المرأة ومستقبل الشعر، وما أظننا اقتربنا خطوة إلى ذلك الغد، ولا أظن أحدًا ممن يشدون الرحال إليه يقترب من حدوده أو يبرح مكانه!

ومن البداهة أنني لم أذهب إلى الماضي على طريقة أينشتين وأتباعه، فأركب مطية الفرض إلى كوكب من هاتيك الكواكب التي تبعد عن الأرض بملايين الدهور والأحقاب، وأظل هناك في انتظار الأشعة القديمة التي خرجت من الأرض تحمل مناظر رمسيس وما قبل رمسيس، ولا تزال سابحة بها في الفضاء إلى ذلك الكوكب المجهول ليراها بعد حين من ينتظرها هنالك من ركاب مطايا الفرض، وأصحاب ذلك البراق الذي يذهب إلى كل مكان ولا يذهب إلى مكان. كلا لم أذهب إلى الماضي على هذه الطريقة، فإن ركوب الفرض مزلة، والمرانة على هذه الفروسية رياضة لا تخف إليها النفوس في كثير من الأحوال، وإنما ركبت إلى الماضي طريقة السكة الحديدية، وذهبت بها إلى حيث يذهب أناس كل يوم ويعودون.

ذهبت بها إلى أُسْوان لأدرك بقية الشتاء، وآخذ لي من هوائه بنصيب، ولو شئت لقلت لأتفرج على الشتاء في أسوان، فإن جوه فيها ليجمل ويشف ويظرف حتى لتخاله طرفة فنية خلقت في نطاق من الهضاب والجبال للفرجة واللهو لا للانتفاع و«الاستعمال»، أو تخاله جوًّا صنعته الطبيعة أول مرة، ثم جرى المقلدون لها في صناعة الأجواء على سنة المبتدئين في التفاوت والاجتهاد، فمن لم ير السماء في أُسْوان لم يعرف ماذا تعني كلمة «الأزرق» في معجمات اللغة، ومن لم ير الشمس في أُسْوان لم يعرف كيف يجري الضياء دمًا في العروق، وكيف تسري الحرارة نشوة في الأرواح، ومن لم ير النيل في أُسْوان لم يعرف ماذا به من سر الآلهة، وماذا كان الأقدمون يعبدون فيه ويخافون منه، ومن لم ير العزلة في أُسْوان لم يعرف كيف تكون عزلة الخالدين في أمان واكتفاء وترفع عن صغائر العيش وأباطيل النفوس.

ذهبت إلى أُسْوان أو ذهبت إلى الأمس، سيان عندي في القول، وسيان في التصور والخيال، ذهبت إليها فإذا أنا فيها كمن جنحت به سفينة عند بادية، أو حمله الرخ إلى جزيرة مسحورة بينها وبين موطنه في الحياة مسير الشهور والأعوام، وإذا أنا أنظر حولي فلا أرى إلا ماضيًا أثر ماض تنقطع فيه الصلة بيني وبين حاضري في المعيشة والشعور، ولست أدري كيف رحلت أنا إلى تلك الشقة البعيدة، أو كيف رحلت تلك الشقة البعيدة إلي؟ أفكان ذلك لأنني نقلت نفسي فجأة من حيث يشغلني حاضر الحياة بهمومه وأشجانه ومناظره وألوانه، إلى حيث كانت مآلف طفولة وأحلام غرارة بعد بها العهد، وضربت بيننا وبينها عوالم أفراح وأتراح، وآفاق آمال وأعمال، وآماد إذا كر فيها الفكر راجعًا خيل إليه أنه يتعثر منها في الآباد بعد الآباد ويخطو بها على الأكوان فوق الأكوان؟ أم لأنني نزلت في مكان يعمره القدم الماثل للعيان، وتسكنه أطياف الغابرين هائمة حول آثارها وبقاياها كما تحوم الأرواح حول الأبدان؟ أم لأنني شهدت لديه المناظر التي شهدها قبلنا السابقون، وسيشهدها بعدنا اللاحقون، وسيكون من شأنه بعد الدهور المغيبة في ضمير الزمن ما كان من شأنها قبل دهور ودهور؟ كل أولئك قد يكون له أثره في خلق ذلك الأمس الذي ألفيتني منه في جزيرة مسحورة يعبرها الرخ في لمحة عين ولا يعبرها الإنسان — إن عبرها — إلا في مئات السنين! فأنا ثمة أنظر إلى نفسي، وأنظر إلى الآثار حولي، وأنظر إلى الأرض والسماء، فإذا الماضي العريق يحيط بي من حيثما نظرت ويفصل بيني وبين اليوم أينما أقبلت وأدبرت، وإذا بهذه النفس التي أحتويها أو تحتويني قد لبست لها شبحًا من الأشباح الغابرة، إن يعجب لشيء في هذه الدنيا فهو عاجب أن يكون خلقًا لا يزال بقيد الحياة.

•••

إن الزمن هو التغير، وما الإحساس بالزمان إذا لم يكن إحساس بالتغير من حال إلى حال؟ فأنت إذا وقفت على مشهد لا ينال منه التبديل بين حين وحين، ولا يبرح يوم تراه كما كانت تراه القرون الأولى، ولا يذهب بك الخيال إلى صورة له تتمثلها غير هذه الصورة التي تقع عليها عيناك سكن الزمن عندك، وبطلت دورة الأيام في روعك، ووقف دولاب الحوادث وقفة المنزه عن طوارئ الغِيَرِ وعوارض الزوال، فأنت قائم من ذلك المشهد حيث تركه الزمان منذ أحقاب وأحقاب، وأنت مستقر لديه في أعماق الماضي الذي لا مستقبل بعده ولا صفة له غير صفة العصمة والدوام، وهذه هي صورة ذلك المشهد الصامد الذي يقابلك إذا أويت من أُسْوان إلى جبال فيها، وأودية تحف بها وصحاري تدور عليها، وشارة تختم على ذلك كله بخاتم أقدم من القدم، وأعرق من مجاهل التاريخ، وفي ضمان هذا الدوام الشاخص في ذلك الجثمان العزوف العابس، أودع الأقدمون هياكلهم وبنوا على الخلود آمالهم، واطمأنوا إلى سكون حزين وقرار أمين. فليست الآثار هي التي تخلع على أُسْوان ثوب الأمس، وتسبل عليها ستار الماضي وعنوان البقاء، ولكنما الآثار وديعة هناك في أحضان ذلك الدوام الذي لا يقاس إليه دوام الإنسان ولا ما يصنع الإنسان، وهي هناك كالطفل المهجور في كفالة الشيخ الوقور: تراها بين الصخور النابية التي تشرف عليها، وهي تتداعى تارة وتتماسك تارة أخرى، فترثي لتلك الشيخوخة الباكرة في جانب ذلك الهرم الذي لا تغض منه السنون، وترغمها مدبرة قبل الأوان هاوية إلى الموت في إبان الشبيبة والعنفوان، وتستصغر الألف والألفين والألوف من السنين وما هي بالشيء الصغير في حساب الإنسان.

كذلك رأيت أنس الوجود حين رأيته للمرة الأخيرة منذ أيام: شيخًا يهبط إلى قرارة الماء يثقله اليأس، ويمسكه الصبر، وتعزيه حكمة الدهور، شيخًا كسقراط في مجلس الموت يلقي بالعبرة ويشرب الكأس الوبيلة، ولا يجزع من المصير، فقلت في نفسي: ماذا يبقى من هذه الأعظم النخرات بعد ألف عام بل بعد مائة عام؟ لعله لا يبقى بعد ذلك شيء ولعل هذه المشاهد الأبدية التي تشرف على القصر خاسرة يومئذ حين تفقده مقياسًا فاخرًا يذكر الناظرين بدوامها القانع القرير وعكوفها الشامس الوحيد.

•••

كذلك رأيت القصر في احتضاره المحتوم، ولكم رأيته قبل ذلك في صور شتى تختلف الصورة منها بعد الصورة، كأنما هو عدة قصور تبنى وتهدم في زاوية الحدس والتخييل، فلهذه البقايا الماضوية ماضها بل مواضها في ذاكرة كل طفل درج بأسوان، ونشأ بين آثارها يسأل عنها فيجاب حينًا بالأساطير وحينًا بالحقائق والأسانيد، وهذا القصر الذي يودع اليوم بقاءه الطويل كم كان له من نبأ بيننا نصغي إليه حول النار في ليالي الشتاء، وليس في قلوبنا الصغيرة إلا آذان مفغورة تلتهم الحديث التهام الجائع المنهوم، فيومًا كان هذا القصر بيتًا للأصنام يؤمه الكفرة المشركون يعبدون فيه الشياطين، ويعصون الله ورسوله عامدين مستهزئين، ويومًا كان القصر خزانة للذهب تقوم على حراستها المردة، ويحتال عليها السارقون بالطلاسم والتعاويذ، ويهلك منهم في طلابها من سبق عليه قضاء الموت، ويظفر بالقليل أو بالكثير من كتبت له النجاة! ويومًا كان القصر سجن غرام ومنفى شقية برح بها الحب وأتلفها السقام، نعم كان هذا القصر في بعض أيامه عندنا سجنًا بناه الوزير إبراهيم لابنته الورد في الأكمام، وكانت الفتاة تحب الفتى «أنس الوجود» وتبثه الوجد بالشعر المنظوم، والزفير المكتوم، وكان أبوها يخشى فضيحة هذا الهوى الحرام فيضرب كفًا بكف، وينحى على أمها باللوم، أو ينحى على الزمان الخئون إذا أعياه من يلوم، ثم بدا له فبنى لها قصرًا لا يصل إليه الطيف، ولا يعرف طريقه الجان، ثم حملها إليه خفية وأغلق عليها أبوابه، وتركها بين الماء والسماء لا تزار فيه إلا عامًا بعد عام، حين يؤتى إليها بالمئونة والطعام، لكن ما يهابها الطيف ويجهله الجن يعرفه الحب ويجسر عليه المحبون! فخرج أنس الوجود يجوب القفار، ويتلمس الآثار، وتلتهب حوله الجبال، وتصطلح عليه الأهوال، ويشتد به الغليل، وتشتبه عليه السبيل! ويلقى في بعض طريقه أسدًا في خيسه فيناديه بمثل هذا التسجيع: «يا أبا الفتيان، ويا سلطان الآجام والغيران: إنني عاشق مشتاق أتلفني العشق والفراق، فارقت الأحباب، وغبت عن الصواب، فاسمع لكلامي وارحم لوعتي وغرامي» فيقبل عليه الأسد كئيب المحيا، مغرورق العينين، ويمشي بين يديه ويومئ إليه، فيسير به ساعة من الزمان يصعد إلى جبل ويهبط من جبل، حتى يقف به على آثار قوم يعلم أنها آثار الركب الذين تحملوا بالورد في الأكمام، ثم يرجع الأسد ولا طاقة له بالمزيد على ما فعل، بعد أن أقام الفتى على نهجه، ولبث وراءه ينظر إليه وهو يتبع الأثر ويستسلم للقدر، ثم يغشى على أنس الوجود في تلك القفار، ثم يأخذ في البكاء وينشد الأشعار، ثم يستمع له عابد في الغار، فيبكي لبكائه، ويعجز عن دوائه، ويدله السبيل ويزوده بالدعاء والتقبيل، وكنا نسمع هذه القصة التي تبكي الأسود والعباد، فنعجب لبكاء العابد ودعائه للعاشق أشد من عجبنا لبكاء الأسد الذي ما يزال على جهالة الوثنية وضلالة الحيوانية! ونحسن الظن بهذه العجماوات التي ترق للشعر السري، وتشفق على العاشق الشجي، ونؤمن بالقصيدة ونمني النفس بالعدد العديد من قراء في المدن الواسعة، وقراء في الفقر المديد.

كذلك كان القصر في يوم من أيامه الغابرات، ثم كان ما هو كائن اليوم وما سيكون إلى أن لا يكون: دارًا لإيزيس وأوزيريس، ومصلى لربة الحب والوفاء، ورب الأقمار والشموس، ثم ها هو اليوم غريق في لجة ماء، وضحية يفتدى بها بعد أن كانت تتلقى الفداء، وبقية من تلك الأجيال تغوص في خضم هذه الماضوية التي ترفعها حوله الصخور والجبال، وتعززها ذواهب الأعمار والآجال، والتي يتلبس بها مكان لو فارقه العبوس لحظة لضحك من الإنسان، ومما يصنع الإنسان، وعجب لهذه الحشرة ما لها وللخلود، وما حق لها تدعيه على المكان والزمان!

•••

على ساحل ذلك الخضم كنت أقف بأمسي ويومي منذ أمد وجيز، وعلى ساحله ذاك وقفت طفلًا مبهم الآمال والأشواق، أرقب على كثب مني أحدث ما تحدث أوربا، وآخر ما أنجبت ظواهر الحضارة وبدائع القرائح والأفكار، ومنه نظرت إلى المدينة الأوربية تلوذ به وتحج إليه في آثار أرباب لها هجروا عروشهم في الشمال كما زعم الأقدمون، وصمدوا يستطلعون طلع الجنوب، ولشد ما توزعني تلك الرحلة الشاسعة بين أقدم قديم وأحدث حديث، وأشد ما أشعر الساعة بالبعد السحيق يفصل ماضي الذي كنت فيه، وبين حاضر لي وددت لو أنني تركته غريقًا هناك في عدوة الخضم العميق.

١  ١١ مارس سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤