الصحيح والزائف من الشعر١

كيف نعرف الشعر الزائف من الشعر الصحيح؟ سؤال جوابه عندي كجواب من يسأل: كيف نميز بين ضروب الإحساس؟ فالإحساس القويم الصالح موجود ينعم به أو يشقى به أناس كثيرون، والشعر الجيد الصحيح موجود كذلك يقوله الشعراء ويقرؤه القارئون، ولكن التمييز بين إحساسين كالتمييز بين شعرين أمر يرجع إلى شخص المميز وملكاته وأطواره ومطالعاته، وليس إلى قاعدة مرسومة ومعرفة كالمعرفة الرياضية التي لا تختلف بين عارف وعارف، وللتعليم في هذا الأمر حظه الذي لا ينكر، وأثره الذي لا يذهب سدى، فأنت تستطيع أن تضرب الأمثال وتبين للمتعلم المثل الجيد والمثل الرديء فيفهم عنك ما يفهم، ويستعين بالأمثال على القياس والمقابلة، ولكنك لا بد منته معه إلى حد يختلف فيه نظره ونظرك، ويتباعد فيه حكمه وحكمك، ولن تستطيع أن تعطيه كل وسائل نقدك للشعر إلا إذا استطعت أن تعطيه كل وسائل إحساسك بالحياة. فإن هذا يحتاج إلى خلق جديد، وذاك كهذا يحتاج أيضًا إلى خلق جديد.

أسمعنا بعض المتعلمين قصيدة يصف فيها الحرب ويستهلها بالغزل، وأظنه استطرد من الغزل إلى وصف الحرب بجامعة المشابهة بين الدماء التي سفكتها الحسناء، والدماء التي تسيل في ميادين القتال! وكان بعض السامعين يعجب ويستحسن، ويشتد إعجابه ويعظم استحسانه لهذه المشابهة الظريفة وهذا الانتقال البارع! وكل أولئك السامعين ممن يقرءون الشعر ويتصفحون كتب الأدب ويعرفون أن هناك شعر صناعة، وشعر سليقة، وإن من الكلام ما يتكلف، ومنه ما يرسل عن وحي البديهة الصادقة والذوق السليم! فعجبت لإعجابهم، ودهشت لاستحسانهم، ورأيت أن المسافة بينهم وبيني في النظر إلى ذلك الشعر كالمسافة بين من يقبل على المائدة متشهيًا ملتذًا وبين من تغثى نفسه من الخلط والغثاثة. نعم! فإن للنفس لغثيانًا كغثيان المعدات، وإن للمعاني لخلطًا كخلط الطعام، وإن رجلًا لا ترفض نفسه إحساس الغزل ممزوجًا بإحساس النكبات والكوارث لأعجب عندي من رجل لا ترفض معدته العسل ممزوجًا بالخل والتوابل، وذوب السكر ممزوجًا بذوب الملح وما إليه!

وكنا منذ أيام نتطارح قصيدة ابن الرومي في رثاء ولده «محمد» وهي القصيدة التي يقول فيها:

طواه الردى عني فأضحى مزاره
بعيدًا على قرب، قريبًا على بعد
لقد أنجزتْ فيه المنايا وعيدها
وأخلفتِ الآمال ما كان من وعد
ألحَّ عليه النزف حتى أحاله
إلى صفرة الجاديِّ عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند

إلى أن يقول:

وأولادنا مثل الجوارح أيُّها
فقدناه كان الفاجع البيِّن الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله
مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه
أو السمع بعد العين يهدي كما تهدي
لعمري لقد حالت بي الحال بعده
فياليت شعري كيف حالت به بعدي
ثكلت سروري كله إذ ثكلته
وأصبحت في لذات عيشي أخا زهد

إلى أن يقول:

محمدُ! ما شيء تُوُهِّمَ سلوة
لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما
يكونان للأحزان أورى من الزَّنْدِ
إذا لعبا في ملعب لك لذَّعا
فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوة بل حزازة
يُهِيجَانها دوني وأشقى بها وحدي

فكنا نجمع على أنها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد. إلا رجلًا لا بأس باطلاعه كان يقول: ولكن أحسن من هذا قول ابن نباتة في رثاء ابنه:

قولوا فلان قد جفَت أفكاره
نظم القريض فما يكاد يجيبه
هيهات نظم الشعر منه بعدما
سكن التراب «وليده وحبيبه»٢

وقوله فيه:

يا راحلًا من بعد ما أقبلتْ
مخايل للخير مرجوة
لم تكتمل حولًا وأورثتني
ضعفًا، فلا حول ولا قوة

وجعل يعجب من «وليده وحبيبه» التي فيها تورية بالبحتري وأبي تمام! ويستظرف قوله: «فلا حول ولا قوة» ويقول إن في هذا لمعنًى، وإن فيه لحسنًا، فسألته مستغربًا: أوَتمزح؟ فكان استغرابه لسؤالي أشد من استغرابي لإعجابه وتفضيله. وسألني وهو لا يشك في صدق رأيه: وما الذي تنكره من هذه الأبيات؟ قلت: أنكر منها ما أنكره من شراب كريه يمزج بين ألم الثكل وعبث التورية والتنميق، وأنكر منها ما أنكره من رجل أذهب إليه لأعزيه في ولده فألفيه يستقبل المعزين بأكل النار واللعب بالبيض والحجر وغير ذلك من ألاعيب الحواة! وأنكر منها ما أكره من رجل يزوق رسائل النعي أو يكتبها على دعوات الأفراح، ويخيل إلى أن ابن نباتة هذا كان يتربص بابنه الموت ليلعب في مأتمه هذا اللعب الصبياني العقيم، أما ابن الرومي فلا يلعب ولا يهزل ولا هو ينظم الشعر إلا لتفريج كربه والتنفيس عن صدره، وهو بعدُ والد مقروح نشعر معه بألمه المضيض كلما رأى ولديه يلعبان لاهيين عنه ولم ير بينهما أخاهما المفقود، ثم هو لا يحس إلا ما أحسه كل والد فقد ولده وأصيب بمثل مصابه، وشهد بعينيه صغيره المريض يذوي على الأيدي، ويموت نفسًا بعد نفس، وهو لا يدفع عنه أجلًا ولا حيلة له فيه، ولكنه يقول ما ليس يقوله كل والد إذا نظم في رثاء ولده؛ لأنه يضع الإحساس البسيط في اللفظ البسيط، وليس هذا الذي يفعله كل ناظم يحاول أن يحصر إحساسه، ويعرف منه مكمن الداء ومبعث الألم والشكاة.

•••

ومن التزييف في الشعر ما هو أخفى من هذا على النقد، وما يكاد يشتبه على البصير في بعض الأغراض. مثال ذلك في هذه الأبيات:

وقانا لفحة الرمضاء وادٍ
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حُنُوَّ المرضعات على الفطيم
وأشربَنَا على ظمأ زلالًا
ألذَّ من المُدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا
فيحجبها ويأذن للنسيم
يرُوع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم

فهذه أبيات من الشعر الرائق البليغ يتسق لها حسن الصياغة وجودة الوصف و«بساطة» الأداء. إلا بيتًا واحدًا منها يتطرق إليه اللعب العابث والتزييف المكشوف، فسل أي الأبيات الخمسة هذا البيت المعيب لا نجد إلا القليل يوافقونك على أنه هو البيت الأخير، بل سل من شئت أي الأبيات الخمسة هو أبلغها في الوصف والأداء لا تجد إلا القليل يذكرون لك منه بيتًا غير البيت الأخير، فهو بيت القصيد وواسطة العقد كما يقولون! ولم ذاك؟ لأن القارئ تبادره منه صورة العذراء الحالية، وهي في جمال الذعر والدلال فيسري إلى نفسه سرور هذا المنظر الجميل، ويخلط بين هذا السرور وبين سرور الوصف والمعنى الأصيل، وإنما مثله في هذه الخديعة مثل من يشتري الجوهر المزيف بثمن الجوهر الصحيح؛ لأنه ينظر على العلبة صورة عذراء فاتنة! فجمال العذراء الذي تعرضه عليه العلبة شيء حسن، ولكنه إذا حمله على أن يقبل الجوهر المزيف بثمن أعلى من ثمنه المعروف فهو مخدوع فيه ومأخوذ بحيلة لا يؤخذ بها لو أنه فرق بين اللباب والغشاء، والشاعر هنا يحتال مثل هذه الحيلة في تزييف معناه ويشغلنا بصورة العذراء الحالية عن حقيقة الوصف الذي يراد في هذا المقام، فهو يصف واديًا رويًّا يقي من الرمضاء بنسيمه البليل، ومائه العذب، ودوحه الظليل، فلا يكفيه هذا الوصف الذي هو حسب كل محب للطبيعة مشغوف بجمالها الساذج الغني عن التزويق والتزوير حتى يجعل حصباء الوادي كاللؤلؤ والمرجان ساقطًا من عقد منظم، ولا يكفيه هذا حتى يكون العقد في جيد حسناء وتكون هذه الحسناء عذراء، ولا يكفيه هذا حتى يلعب أمامنا لعبته التي تعوزها الأناقة والكياسة، ويغشنا بها غشًّا محرومًا من لباقة الحركة وخفة المداراة، فنحن أولًا لا نعجب بالحصى في الوادي الظليل لأنه كاللؤلؤ أو كالمعادن النفيسة، ولكننا نعجب به إذا استحق الإعجاب لأنه «الحصى» الذي يحسن في موضعه، ولو كان أبعد الأشياء عن مشاكلة اللآلئ والمعدن النفيس، ومع هذا لا نرى ضيرًا في تشبيه الحصى بالدر المنثور، ولا نريد أن نقول إن الشاعر إنما التفت إلى الحصى هنا ليذكر الدر والعقود، لا لأنه أعجب به وتنبه لحسنه ورآه وسمًا متممًا لمياسم ذلك الوادي الذي وصف أدواحه، وظلاله، ونعم بمائه وهوائه، ولا نريد أن نقول: إن بعض الشعراء قد جروا على أن يكون كل منظر من المناظر التي يصفونها مشاكلًا لشيء من النفائس القيمة والأعلاق الغالية، فالأرض مسك وعنبر، والحصباء در وجوهر، والشجر زبرجد، والماء بلور، إلى آخر هذه الأوصاف المحفوظة والأمثال السائرة، لا نريد أن نقول هذا ولا نأبى أن يكون الشاعر صادقًا في التفاته إلى الحصى مريدًا لذكره متعمدًا لوصفه، ولكننا إذا لم نقل هذا فأي ذوق سليم تغيب عنه الشعوذة في حكاية العذارى يمثلهن لنا الشاعر مروعات؛ لأنهن ينظرن إلى الأرض فيسرعن إلى لمس جوانب العقود مخافة أن تكون الحصباء من سمطها المبدد وجوهرها المنثور؟ وأي شعوذة لأننا أغمضنا أعيننا وأوصدنا آذاننا وأنكرنا الحس والعقل، لا لأنه بهر الأعين وضلل الآذان، وخلب الحواس والعقول؟ فالصورة التي عرضها علينا الشاعر غريبة عن أصل المعنى كاذبة كل الكذب، ولا فضل للبراعة والطلاوة، وقبولها على أنها معنى صحيح كقبول الجوهر الكاذب إكرامًا لصور العذارى الحاليات على العلبة المزخرفة! أما الحقيقة فهي أن أولئك العذارى الحاليات، وتلك العقود النظيمة إن هي إلا تحلية بضاعة كتحلية القصب الذي يبيعونه باسم «خد البنت» لا دخل لها في تركيب السكر، ولا قيمة لها في المعصرة، ودفاتر البائعين والشراة!

ولنذكر هنا أبيات المتنبي في وصف وادي بوان، فإنها بسبيل من هذا الغرض، وإن كانت تختلف عن البيت الذي تكلمنا عنه بالصدق والتحلية التي لا تكلف فيها. يقول في وصف ذلك الوادي:

ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت — وإنْ كَرُمْنَ — من الحران
غدونا تنفض الأغصان فيها
على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الحَرَّ عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرًا تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه
بأشربة وقفن بلا أوان
وأمواه يَصِلُّ بها حصاها
صليل الحلْي في أيدي الغواني

إلى أن يقول:

يقول بِشِعْبِ بَوَّانٍ حصاني
أعن هذا يُسار إلى الطعان
أبوكم آدمٌ سَنَّ المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان!

فصليل الحلي في أيدي الغواني هنا تحلية صحيحة تضاف إلى قيمة المعنى ولا توضع على غلافه؛ لأنها تشبيه صادق ليس فيه عبث مزيف ولا شعوذة محتال، والدنانير التي ألقاها الشرق في ثياب المتنبي دنانير يقبلها صارف الشعر، وإن كانت لتفر من بنان صيارف المال! والخاطر الذي أورد على قريحة المتنبي أن يضع على لسان حصانه ذلك التهكم الحيواني خاطر قد يلوح لأول نظره كأنه اللعب والمجانة، ولكنه في هذا الموقع أصدق خاطر يرد على خيال شاعر، وأخلق تعبير أن يبين لنا الفارق بين هموم الحيوان في الحياة وهموم الإنسان. إذ من الذي يعير ابن آدم بسابقة أبيه في مفارقة الجنان غير الحيوان البعيد عن هذه القرابة؟ ومن الذي يؤثر وداعة الطبيعة وراحة الجسم على دواعي المجد ومغريات الكفاح غير الحيوان الآكل العشب، العائش على الفطرة الخلي من هذه الدواعي والمغريات؟ ومن الذي يعلم كراهة الحيوان للنقلة من مثل ذلك الوادي الرغيد فلا يرى أنه قائل بلسان حاله ما ترجمه المتنبي في ذينك البيتين اللذين جمعا الصدق إلى الفكاهة، والشعر إلى الفلسفة، والوصف إلى حسن الأداء؟ ضع هذا المعنى على لسان خادم المتنبي مثلًا، أو على لسان فارس من فرسانه، وأنت تزداد علمًا بمكان الصدق في هذا الخاطر البعيد الذي قربه المتنبي إلينا أجل تقريب.

•••

هذه أمثلة من الفروق بين الصحيح والزيف في الشعر والبلاغة، أمثلة نعود إليها كرة بعد أخرى؛ لتوضيح مذهبنا في النقد، ونظرتنا إلى المعاني، وتقديرنا للشعراء، وقد تغنينا الأمثلة كما قلنا في فاتحة هذا المقال عن تقرير القواعد وشرح المقاييس.

١  ١٨ مارس سنة ١٩٢٧.
٢  الوليد لقب «البحتري» وحبيب لقب «أبي تمام».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤