بيتهوفن١

تحتفل الدنيا اليوم بمائة عام خلت من اليوم الذي مات فيه هذا البائس العظيم، ولو أنه عاد إلى قيد الحياة لشارك الدنيا احتفاءها بتلك الذكرى الخالدة؛ لأنه يعلم أن يوم مماته هو أسعد ذكريات حياته، وإن الحياة مهزلة مملولة تشيع بالتصفيق والابتسام!

كان بيتهوفن فنانًا عظيمًا ونفسًا عظيمة، فأما الفنان فجملة ما يقال فيه إنه شكسبير الموسيقى كما قال فاجنر يوم ذكرى مولده، وليس من شأننا أن نخوض في الكلام عليه من هذه الناحية؛ لأنها الناحية التي نجهل دقائقها وأوجه الحكم فيها، وإنما نتكلم عليه من ناحية نفسه التي علم الناس عنها بعد موته، وكتبوا في أطوارها وبداوتها فوق ما علموا وكتبوا عن جميع عظماء عصره، فكان خلاصة ما قيل في هذه النفس الطيبة الشقية إنها نفس بائس عظيم.

يرى القراء اليوم صورًا كثيرة لبيتهوفن يعجبون بسمتها وطلعتها، ويستملحون قسامتها وجمالها. هذه صور عمل فيها الصقل والإعجاب فوق عمل الطبيعة والمحاكاة، أما صورة بيتهوفن كما كان يراها أبناء عصره فهي صورة رجل نافر النفس، نافذ النظرة، متهجم الجبين، نضح على وجهه الألم والنقمة، وطبعه الإهمال وازدراء العرف بطابع يهاب ولا يستملح، ويروع الناظر ولا يعطفه عليه، وكان منظره أشبه شيء بمنظر أنبياء بني إسرائيل الذين يرسلون على الدنيا بريق السخط والزراية من أعينهم، ونذير الموت والعذاب من أفواههم، ويخيل إلى من يراهم أنهم خلقوا وحدهم في مفازة مجهولة، لا سبيل بينها وبين الحياة، أو بينها وبين الحياة سبيل تحف به المخاوف والعراقيل.

وكان الرجل عامر البنية عريض الألواح، يبلغ في الطول خمسة أمتار وخمسة قراريط وتبدو عليه سيماء أهل الصراع والجلاد، ولكن كان قليل العناية بطعامه مشغولًا بفنه، وكانت تمضي عليه الأيام لا يتبلغ إلا بما يقيم أوده على عجل وقلة صبر، وربما دخل المطعم ليأكل فينسى نفسه وينهض للحساب وما أكل شيئًا! فأورثه هذا التهاون بضرورات الجسد داء في الأحشاء كان أقوى الأدواء التي عملت بالخراب السريع في تلك البنية العامرة، وذلك الجسد المتين، وزادت عليه عادة تعودها في استنزال وحيه واستجاشة نفسه تدل على طبيعة الرجل وغرابة منهجه في فنه، فقد كان بعض الموسيقيين يستوحون الأنغام بالخمر، وبعضهم يستوحونها بالرياضة واللعب، وآخرون يستحثون قرائحهم بمنادمة النساء أو بالحركة في الخلاء، أو بالجلوس في الرياض، أما بيتهوفن فقد كانت أحفل أوقاته بالإجادة والارتفاع والتحليق هي تلك التي يبرز فيها للعاصفة تضرب رأسه المكشوف، وللرعد يدوي على سمعه، والبرق يخطف بصره بوميضه، فإذا أعوزته هذه الغضبة التي لا تغضبها الطبيعة كل يوم خرج إلى الغابات والجبال يطوي فيها الساعات هائمًا صاعدًا منقطعًا عن الناس، كأنه عابد في محراب ليس له من الحياة إلا أذن تنصت، وقريحة تتوخى مهابط الإلهام، فأصابه طول التعرض لهذه العوارض في بنيته وكان له أثر على ما نظن في الصمم الذي ابتلي به، فنغص عليه عيشه وحجبه عن عالم النغام الذي خلق له، ولا حياة له في غيره، وما ظنك برجل تلقي عليه ألحانه فلا يسمعها! وما ظنك بنفس حية يقضى عليها بالعزلة عن كل مناجاة رقيقة وكل مجلس أنيس! وما ظنك بإنسان منفرد أحوج ما يكون إلى العطف والسلوى، ينقطع بينه وبين الدنيا وينزوي في ذلك المنفى البعيد القريب لا يخرج منه إلا إلى مرقده الأخير، لقد وقعت الضربة من الرجل في مقتله فملأت نفسه النقمة وضاق صدره بما كان يسع من أقدار الفاقة والمنافسة، وهم أن يقتل نفسه مرات لولا قوة إيمانه بفنه وصدق اعتماده على الله، ولقد كان كلما أطبق عليه الصمت المخيف وأحس بالثقل يتغلغل في تلك الحاسة اللطيفة التي ما خلق الله أدق منها ولا أكمل ولا أقدر على تمييز الهمسات والأصداء جن جنونه، وأنحى على معازفه يجمع قواه عسى أن يصل إليه ضجيجها، وينفذ إليه بلاغ من أصواتها. فيضيق به سكان الدار ذرعًا ويودون المهرب منه إذ كان لا يعنيهم الشأن الذي يعنيه، ولا يبالون شيئًا بعذره وصممه وموسيقاه! فقصاراهم إذا عظم عليهم الخطب أن يذهبوا إلى المالك يقولون له: إما نحن وإما «المجنون» في الدار.

وكان بيتهوفن مطبوعًا على التهكم والمداعبة يرمي بهما عفو البديهة بلا حفيظة ولا قصد مساءة، فلما نَكب في سمعه شيبت هذه السخرية فيه بمرارة النقمة، ونزلت على المرائين حوله سياطًا لاذعات لا يطيقونها، ولا يغتفرون ذنب صاحبها، فظنوا به الحقد والضغينة ورموه بالمقت وسوء الطوية، وبيتهوفن أبعد الناس عند حقد حاقد، وأبرأهم من نية سيئة، بل ربما كان الأحجى أن يقال: إن خلق الطيبة فيه قد كان إحدى مصائبه في الحياة، وكان علة شقاء كبير له بين الناس، ولعل القصة التالية تدل بعض الدلالة على طيبة الرجل، وطفولة تلك النفس النابية الطهور: كان «لدفج لوفي» الممثل يلقى بيتهوفن في مطعم «النجمة الزرقاء» في بلدة توبلتز. وكان «لوف» يغازل بنت صاحب المطعم، ويغتنم الفرصة للقائها على انفراد، فقالت له يومًا: تعال بعد انصراف القوم إذ لا يكون في المطعم إلا بيتهوفن وهو لا يسمع حديثنا فلا ضير علينا منه، وجرت الأمور بينهما على هذا المنوال فترة حتى تنبه أبو الفتاة وأمها لهذه العلاقة، فطردا الممثل وأنذراه ألا يعود. قال «لوفي»: فبرح بنا اليأس ورغبنا في المراسلة، ولكن من يا ترى ينقل الرسائل بيننا؟ أيرضى أن ينقلها ذلك الرجل النافر العَصِيُّ الذي يجلس على تلك المائدة، إن ظاهره لعسير ولكني لا أحسبه غير صديق، ولقد أذكر إني لمحت نظرات العطف والمودة على ذلك الطرف الأشوس العبوس، فلنجرب، وقد كان! جرب «لوفي» تجربته ولقي بيتهوفن حيث كان يراه أحيانًا في حدائق البلدة، فعرفه الموسيقي العظيم وسأله:

ما بالك لا تتغذى الآن في النجمة الزرقاء؟ فقص عليه «لوفي» قصته ثم قال له في وجل وتردد: هل لك يا مولاي أن تتولى تسليم رسالة للفتاة؟ فأجابه الرجل المخيف: ولم لا؟ إنك لا تعني إلا خيرًا، وتناول منه الرسالة فوضعها في جيبه وهم أن يمضي في سبيله فاجترأ «لوفي» واستوقفه قائلًا: ولكن عفوًا يا مولاي! ليس هذا كل ما في الأمر. فالتفت بيتهوفن يسأله! أكذلك؟ قال «لوفي» نعم! عليك أن تحضر الجواب، وما حان الموعد في اليوم التالي حتى كان بيتهوفن ينتظره بالجواب المأمول، وظل ينقل الرسائل منه وإليه خمسة أو ستة أسابيع أي طوال الوقت الذي قضاه في البلدة.

وقد يخطر لمن يقرأ هذه القصة أن بيتهوفن كان من المتسامحين في الأخلاق الذين يهزءون بالتنطس ويستبيحون غوايات الغرام، لا! لم يكن بيتهوفن ذلك الرجل، بل كان على نقيض ذلك رجلًا يؤمن بالمثل الأعلى في عفاف النساء وأمانة الرجال، وكان يأبى أن يلحن الروايات التي تعرض عليه كراهة لما فيها من مواقف الرذيلة والمجون، وكان يتقي أن تكون له صلة أقرب من الصداقة مع ذات حليل، وكانت صلاته التي يصلي بها إلى الله كلما ظمئت نفسه إلى العشير الودود «رب هبني تلك المرأة التي خلقتها من نصيبي، والتي تشد من عزمي وتعزز فضيلة نفسي» وكانت فضيلته هذه سخرية «فينا» وفكاهة النبلاء والنبيلات في زمانه، وما يدريك ما فينا في القرن التاسع عشر؟ هي مدينة الإباحة و«كرسي» الخطيئة، ومرتع اللهو الذي لا يعرف الدين ولا الحياء.

وأعجب بيتهوفن بنابليون الأول إعجاب غيره من النابغين والأدباء، ووضع في تمجيده لحن «البطل» من ألحانه التسعة الخالدات، وبدأ اللحن في السنة الثانية لمطلع القرن الثامن عشر، ثم ما زال ينقحه ويهذبه حتى أتمه بعد سنتين، ولعله كان مصيبًا به خيرًا كثيرًا من نابليون لو تقدم به إليه، ولكن نابليون قبل تاج الإمبراطورية في هذه الأثناء! وجاء النبأ الخطير إلى بيتهوفن بلسان تلميذه «ريس» فاحتدم صاحبنا غيظًا، وصاح في غضب «إذن ما كان هذا الرجل إلا واحدًا كغيره من أبناء الفناء، وليدوسن هذا الرجل بقدميه على حقوق بني الإنسان»، وتناول صفحة العنوان في الكراسة فمزقها، وعدل عن إهداء اللحن إلى البطل الذي أوحاه إليه.

تلك نوبة أخرى من نوبات المثل الأعلى في قلب هذا العظيم المسكين، بل لقد كان إيمانه بالمثل الأعلى يرتفع بالعبقرية إلى مقام دنيوي فوق مقام الملوك والأمراء، وكان يأنف أن ينازل هؤلاء منزلة دون منزلة المثيل مع المثيل، فإذا دعي إلى وليمة ففهم أنهم يدعونه إليها للتلحين لا للمؤانسة والاجتماع ثارت ثائرته، واستكبر ألا يكون له شأن مع هؤلاء غير شأن الأعجوبة التي يتفرج بها المتفرجون، وإذا قضى العرف في إمارات ألمانيا المستبدة أن تطأطئ الرءوس لأصحاب التيجان ضرب هو بالعرف جانبًا، وحياهم تحية الصديق للصديق، ومن نوادره في ذلك أنه كان يمشي مع جيتي الشاعر الألماني الكبير في بعض منازه توبلتز فبصرا بالأسرة المالكة قادمة في الطريق، فانحرف جيتي ناحية ولبث يتهيأ للتحية في مكانه، وألح عليه بيتهوفن أن يتقدم فما أصغى إليه، فتقدم هو في طريقه إلى الرهط الملكي غير منحرف عن سوائه، فلما بصر به الأمراء تنحوا له ورفع الأرشيدوق قبعته، وبدأته الإمبراطورة بالتحية، وانتظر هو بعد ذلك جيتي ليسخر منه ويداعبه، ثم كتب إلى «بتينا» صديقته وصديقة جيتي يقول في كلام يروي به القصة: «إن الملوك والأمراء يستطيعون أن يخلقوا الأساتذة والوزراء وأن يمنحوا الرتب والألقاب، ولكنهم لا يخلقون العظماء ولا العقول التي تعلو على السواد، فإذا التقى رجل مثلي ورجل مثل جيتي فخليق بالمالكين وذوي السلطان أن يعرفوا موضع العظمة هناك.»

•••

بهذه العقيدة في الحياة ما كان يرجى لرجل سعادة، وبتلك الطيبة الساذجة ما كان يرجى لأحد فلاح، وما كان أحوج بيتهوفن مع هذا الخلق إلى بيت يسكن إليه، ويسعد فيه بعطف الزوجة الصالحة، وقلب المرأة الشفيق، ولو وجد هذا البيت وأتيحت لمثله سعادة الأزواج والآباء لطابت نفسه، وخف عليه وقر أحزانه، وعذاب حرمانه، وسطوة العرف والعادات عليه، ولكنه فقد هذا مع ما فقد من حظوظ الحياة، وتعوض منه بيتًا يركن فيه الخدم إلى الكسل والتبطل؛ لأنهم لا يجدون من يلاحقهم ويراقبهم و«المجنون الأصم» مشغول بكتبه وألحانه! وكانوا يأخذون الأوراق التي يدون فيها النوتة حيثما وجدوها ليمسحوا بها الآنية والأحذية، ويزيلوا بها وضر الدهن والتراب، وفي بعض مذكراته تقرأ عن هؤلاء الخدم: «نانسي أجهل من أن تصلح لتدبير منزل. إنها بهيمة!» … «خدمي الموقرون جادون من الساعة السابعة إلى العاشرة في إشعال النار» … «خرجت الطباخة! لقد رميتها بنصف دستة من كتب» … «لا حساء اليوم ولا لحم ولا بيض. تبلغت أخيرًا بلقمة من الخان» وهكذا وهكذا مما يصور لك الجحيم الذي كان يعده طريد الناس والقدر ساحته ومأواه!

إن بيتهوفن ولا شك قد ورث صعوبة الخلق عن أبيه، الذي أتلفته الفاقة والسكر، ووباء في طفولة قاسية شحيحة لا تنبض بفرح ولا رجاء، وربما كان جده على شيء من تلك الصعوبة إذا صح ما روته الأحاديث من أنه غاضب أهله وهجر «أنتويرب» حيث كانوا يعيشون ليقيم في «بون»، ولكنها بعد صعوبة خير من النذالة التي يغتفرها المجتمع، ويرضاها الأصحاب والعشراء، ولو كان الناس يقبلون النية الحسنة يغشاها الظاهر العسير، كما يقبلون الظاهر الأملس يغشى نية الكيد والجفاء، أو لو كانوا يغلون الذهب عليه الغبار كما يغلون القشرة المذهبة في باطنها التراب وما هو أقذر من التراب، لوجد بينهم بيتهوفن غير ما كان يجد وعرفوا منه غير ما كانوا يعرفون، ولكن الناس يشترون الرجال بسعر السوق الجارية، ولا يحسبون في الميزان حسابًا للعبقرية منذ كانوا يأخذونها بغير ثمن فتسقط في الحساب! ولو أن النابغين استطاعوا أن يحسبوا على أبناء عصرهم، وعلى من يخلفهم ويتلو خلفاءهم إلى آخر الزمان ثمنًا لعبقريتهم يتقاضونه من عواطفهم وعقولهم وما ملكت أيديهم، لضمن أجفاهم وأعنفهم سعادة لسعادة العمر آلافًا مؤلفة، ولما مات بيتهوفن في سبع وخمسين وهو يرى كما يرى عارفوه أنه أشقى خلائق الله.

١  ٢٥ مارس سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤