أزياء القدر١

ما أشد سخرية «القدر» بالناس! إن من سخريته بهم أن يضربهم بأيديهم، وأن يجعلهم سخرية لأنفسهم، فلا يخرج الحي من الحياة حتى يكون قد سخر بأعز ما كان يعز فيها، وأجمل ما كان يستجمل منها، وحتى يكون أضحوكة لنفسه، يضحك منها مرحلة بعد مرحلة وهو كاره لهذا الضحك الأليم.

يسخر الفتى الناشئ من جهالته وهو طفل صغير، ويسخر الكهل الناضج من لهفته وهو ناشئ في جن الشباب، ويسخر الشيخ الحكيم من كبريائه وهو كهل مصر على الأطماع والأضغان، ويسخر الهم المضعضع من الشيخوخة والكهولة والشباب والطفولة فإذا هو يتمنى ما كان يضحك منه ويضحك مما كان يتمناه، وإذا الحياة كلها «باطل الأباطيل» لا يدري ما يراد بها ولا ما يريد، وكأن ذلك «القدر» لا يكفيه وهو يسخر منا ويستخف بأفراحنا وآلامنا أن نذعن لقضائه ونصبر على بلائه، فلا يزال بنا يشهدنا بطلان ما نحن فيه صفحة بعد صفحة وخطوة بعد خطوة، قبل أن يطوي الكتاب ويبلغ بالرحلة إلى القرار، ولا يزال يستنكر منا الضحك بأنفسنا ويؤكلنا من لحمنا ودمنا حتى يميتنا ذلك الضحك الذي لا يسر الضاحكين.

وللقدر تقول أزياء!؟ ماذا عنيت؟ أهي بعض النقمة من ذلك القدر الساخر أن نتخيله في جلاله ورهبته جلس أندية وقعيدة محافل يخلع فيها زيًّا بعد زي، ويتأنق في لباس بعد لباس؟ أهي بعض سخريته بنا نردها إليه ونقتص بها منه، إن كان ذلك فأهون بها من نقمة وأهزل به من قصاص، وأحر بهذا الانتقام من القدر الجائر أن يكون بعض جوره وإحدى رزاياه!

ولكن القدر مع هذا يتغير في أزيائه، ويتبدل في ثيابه. نقولها نحن ونستعرض أطواره من يوم أن تربع على عروش الأوليمب في سماء اليونان إلى هذا اليوم الذي يلبس فيه ألوانًا من أزياء الوجود، وأشكالًا من ثياب العدم، فما أعظم التغير بين الطيلسان القديم والطيلسان الحديث! وما أكبر الفارق بين ذلك السمت الغابر وهذا السمت المقيم! كان القدر يومذاك في زي الإنسان يضرب صرعاه فلا يخطئ الصريع أن يلمح على وجهه ابتسامة الظفر، أو نظرة الازدراء، وكانت للذي يناضله نخوة المقاتل الجسور وبطولة المغلوب المعذور، ثم كان القدر بعد ذلك في زي الذي يأمر وينهى ويأخذ الناس بالجزاء والعقاب غير مسئول ولا ملوم، ثم كان في زي من قصاصات الأزياء البالية وطراز ملفق من القديم والجديد، كان أبًا وحاكمًا وإنسانًا ينتقم ويراجع نفسه في الانتقام، ويضرب ضربته ويريد الخير بالمضروب، ويرمي باليأس ويفتح باب الأمل على مصراع واحد أو على مصراعين أو على عدة مصاريع! وإذا ضاق بالنقمة ذرع المبتلى بها ففي التجديف سلوى ولو قليلة وجزاء ولو يسير. أقل ما في الأمر أنه يسب أذنًا تسمع ويخرج على سلطان يناله الشكران والكفران. ثم كان للقدر زيه الأخير وما يدريك ما زيه الأخير؟ آلة تدار بالبخار أو بالكهرباء لا ترضى ولا تغضب، ولا تستمع إلى أحد ولا تند عن سبيلها إذا استمعت إليه. آلة على قواعد العلم الحديث، قد دارت دواليبها على مواعيد وأقدار لن تختل قيد شعرة، ولن تصغي إلى صلاة ولا تجديف.

•••

ذكرني بهذا الزي الجديد من أزياء القدر مجموعة وصلت إلي حديثًا من شعر «توماس هاردي» ونثره، قرأتها فجعلت أسأل نفسي: لماذا كتب الأديب الكبير هذه الكتابة، ونظم هذا القصيد؟ أليقول لنا ألا فائدة من الكتابة ولا فائدة في أن نقول لا فائدة! إن كان ذاك فتلك حكاية صادقة للحياة كلها في رأي توماس هاردي! وذلك وصف محكم للكون في نفس هذا السائم الذي يبسط السآمة على كل شيء. أولًا يسأل الشجر في شعر هاردي سؤال الطفل المكتوف: لماذا نحن في هذا الوجود، فإذا جاز أن تخلق الحياة التي لا نهاية لها لكي تعلم الخلائق «ألا فائدة»، فأقرب من ذلك إلى القصد وأبعد عن الإسراف أن ننظم قصيدة أو قصائد لتنتهي بنا إلى هذه النتيجة، وماذا يصنع العالم الصغير إلا أن يعيد رواية العالم الكبير، وكيف يراد الإنسان إلا أن يكون نسخة موجزة من ذلك الإسهاب والإطناب؟

تبتدئ هذه المجموعة بقصيدة عنوانها «سؤال الطبيعة» وفيها يقول الشاعر:

إذا طلع الفجر ونظرت إلى الطبيعة المصبحة جدولًا وحقلًا وقطيعًا وشجرًا موحشًا، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إلي، وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه فبردت حرارته، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعًا ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاه: عجبًا! عجبًا لا انقضاء له أبد الزمان! ما بالنا نحن قائمين حيث نقوم في هذا المكان، أتراها حماقة جليلة — قادرة على التكوين، ولكنها غير قادرة على القصد والترسم — خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافًا لما تجري به الصروف، أم تراها بقية من حياة إلهية تموت فقد ذهب منها البصر والضمير، أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول نحن فيه فرقة الفداء والغلبة المقدورة للخير على الشر هي مقصدها الأخير، كذلك يسألني ما حولي وما أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة.

هذه فاتحة المجموعة! وقد أحسن صاحبها في الاختيار والابتداء، فالفاتحة هي الألف والياء في فلسفة هاردي وفي كل ما نظم وصنف من قصيدة ورواية، والحق أن سآمة الرجل في هذه الأبيات قد نفذت إلى لب الحياة، وجلت لنا روح السآمة أكأب جلاء، فقد كنا نحسب السآمة فترى في النفس المتعبة فترة فإذا شجر هاردي يسأم ويتبرم ويسأل: ما بالنا نحن مقيمين حيث نقوم في هذا المكان، وإذا به يسأم في طلعة الصبح حين ينشط الفاتر، ويتبدد النعاس، ويستأنف الفرح بالوجود.

وفي المجموعة قصيدة أخرى إلى القمر، على صيغة السؤال والجواب بين الشاعر وجوالة السماء يقول في تلك القصيدة:

ماذا رأيت أيها القمر في زمانك، وقد عدوت الآن طور الشباب.

آه. لقد رأيت ويا طالما رأيت، رأيت المليح والجليل، ورأيت الحزين والأليم، ورأيت الليل والنهار، فيما غبر بي من الزمان، وماذا سلاك في زمانك أيها القمر، وأنت في عزلتك تلك وفي ذلك البعد السحيق.

آه، لقد تسليت، ويا طالما تسليت! تسليت بالنماء والذبول. بالأمم تحيا وتموت وتجن ويعروها الدوار. تسليت بكل ذاك فيما غبر بي من زمان.

وهل عجبت أيها القمر لشيء في ذلك التجوال حيث أنت في نجوة من الأرض ومما تصل إليه؟

أي، لقد عجبت ويا طالما عجبت، عجبت لتك الأصداء تتوارد إلي من جانب الناس في ذلك التجوال.

وماذا ترى أيها القمر في الطريق. أشيء هذه الحياة يذكر أم ليست هي بذاك.

آه لقد أرى ويا طالما أرى، أرى أنها معرض كان أولى به أن يقفل أسرع ما يكون أما قصص هاردي، فالمأساة فيها مأساة الصراع بين الناس وبين قدر — كما علمت من هذا الشعر — لا يقسو ولا يستخف ولا يأمرك ولا ينهاك، ليس بالقاسي؛ لأن القسوة أن تعلم بشكوى المصاب، وتزيده مما يشكيه، وليس بالآمر والناهي؛ لأنه يدعك في حيرتك لا تدري ما يغضبه وما يرضيه، وما يقبح عنده وما يحسن لديه، ولو كان قاسيًا لأثارك، فأنت تشعر بقوتك وعزمك، ولو كان آمرًا ناهيًا لأطعته فأيقنت سلامة العقبى أو عصيته وتحديته، فقد يريحك أن تغضبه كما يغضبك، وتعرض عنه كما يعرض عنك، ولكنه لا يباليك ماذا أنت ولا أين أنت، وهذا شر من القسوة والاعتساف، فاشكر أو فاصبر، واكفر أو أسلم، وتمرد أو تقبل، وتفهم أو تعجب، فسواء كل ذلك لديه، وجهد أمرك أن تسأم ثم أن تسأم السآمة فتعمل، ثم أن تعود إلى السآمة من جديد!

وهذا هو القدر في زيه الأخير.

ألا إن الحياة لتثور على السآمة كيفما كانت العاقبة، وكيفما كان القضاء، وإن لها لحكمها الذي يخيل إليك أنه يعلو على الغير، ويعبث بالفناء، وماذا تبالي الحياة حين يستفزها الطرب أكانت تباليها المقادير، أم لا تباليها شروى نقير؛ إنها لتطرب طربها وتختال خيلاءها، وإنها لن تعدم يومئذ تحية يحييها بها «هاردي» الأسيف القابع في غيابة السآمة والقنوط، ولقد سمعت شجرة اليائس فاسمع منه صلاة التمجيد والتبريك تحت قدمي عصفور يغني غناء المرح والرجاء، وهو سليب النظر مطرود من عالم الضياء:

أيها العصفور! أبهذه النشوة تغني وهذا سخط الله عليك برضًى من الله؟ لقد ذهبت بعينيك الإبرة الحمراء قبل أن يخفق لك جناح، فواعجبًا لك تغني وتهتف بهذه النشوة أيها العصفور!

نسيت بلاءك ولم تنقم على تلك النقمة أيها العصفور. نصيبك ظلام الأبد وحياتك تتلمس السبيل في جنح الليل البهيم، وأنت في سجنك الذي لا يرحم، وبعد طعنتك الكاوية لا تنقم على تلك النقمة أيها العصفور؟

من لديه الخير؟ هذا العصفور.

من ذا يلازمه البلاء الواصب وهو كريم البلاء؟ ومن ذا تطيب نفسه ويهنأ عيشه وإن أحاقت به ظلمة العماء؟ ومن ذا يمتد به الرجاء ويصبر على كل شقاء؟ ومن ومن ذا يتنزه عن الظن السيئ ولا يلقى الشقاء بغير الغناء؟ من ذا الإلهي المقدس المبرور؟

هذا العصفور.

تلك تحية من السآمة إلى فرح الحياة، وتحية أخرى من «فكرة الفيلسوف» يتوجه بها هاردي إلى ذلك الفرح الإلهي الذي لا يفارق الحي قبل فراق الحياة: «ألا فلنتمل هذه الأرض فلا يقدح في نصيب السرور بها أن خلقتها القدرة العظيمة لحكمة غير ما أصيبه أنا من سرور، ألا ولندع هذه النفس تسعد بمرأى ذلك الجميل يعبر بها غير نابس لها بحرف ولا مشير بإيماء، ولأثن على تلك الشفة لغير شفتي تتهيأ للتقبيل، ولأنشد أناشيد غيري كأنها غناء قلبي، ولأهتف بألحان توحيها وجوه لم تدر بخلدي، ولأتوجه إلى الفردوس الموعود حين يصدق حلمه، ويجيء يومه فأرفع إليه نظرة الرضا والشكران وليس لي في رِحَابه مكان!»

ذلك خير ما يستقبل به الإنسان قضاء القدر في «زيه الأخير».

١  ٨ إبريل سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤