حرية الفكر١

مصر بلد المحافظة والتخليد. كل ما فيها باق على وتيرته، متصل بين ماضيه وحاضره، وكأنما كانت آلهتها في رأي أهل الأقدمين تأبى التجديد، أو تعجز عنه، فهي لهذا توصي القوم أن يحفظوا أجسادهم ألوف السنين؛ لتعود إليها الحياة بعد حين بلا تجديد ولا تبديل! فروح الحياة فيها لا تعرف إلا جسدًا واحدًا تلبسه وتستبقيه إلى يوم الرجعة إليه، ولا يخطر للقوم أنها قادرة على إنشاء جسد سواه، وابتداع لباس غيره! وهذا مثال المحافظة في تصور الحياة وتقييد القوة المنشئة في الوجود «بشكل» لا تتعداه، وما الآطام المخلدة، ولا القبور المصونة، ولا الوراثة المفروضة في العادات والأعمال والعبادات، إلا أمثلة أخرى لطبيعة المحافظة التي غبرت عليها بلاد النيل الذي يعود كما بدأ في كل عام، والرمال التي تحتفظ بكل وديعة تلقى إليها، والسماء التي تحول الأزمنة والفصول، وهي على عهدها لا تتبدل ولا تتحول.

بهذا الخلق في المصريين دامت المسيحية ودام الإسلام، فلولا صلابة في العقيدة، وصبر على العذاب، لعفى الرومان على المسيحية في مصر ثم في البلدان كافة، ولولا وقفة مصر في وجه الصليبيين لذهب الإسلام أو لانزوى بأهله في ركن من الأركان الآسيوية التي يجهلها العمران، بل لولا مصر في القدم لما كانت الموسوية — ولا كانت المسيحية والمحمدية بعد ذلك — ما هي اليوم وما شهدها عليه آباؤنا الأولون. فلمصر أثر خالد في كل دين خالد، وحصة باقية في كل ما تخيل الناس به معنى البقاء.

وأنت تذهب الآن إلى قرى الصعيد الأعلى، فإذا أنت في مصر الآثار والموميات التي غبرت عليها أدهار وأدهار، وإذا عادات القوم في الأفراح والجنازات وفي الزراعة والري والإنارة هي عادات مصر الفراعنة بلا اختلاف قط أو باختلاف جد يسير، وإذا المصريون اليوم يتوسلون بما كان يتوسل به أجدادهم الأسبقون في استعطاف الآلهة، واستجلاب الخير والنسل واستدفاع القحط والبلاء، وإذا اختلاف اللغة، والعقيدة، والحضارة، واختلاف في الطلاء لا ينفذ إلى ما وراء القشور، ولا يحجب ما وراءه من ذلك المعدن القديم.

مصر الخلود هذه ما أحوجها إلى شيء من روح التجديد، وما أفقرها إلى عقيدة الخلق والاقتحام! فإن من الحسن المرغوب فيه أن يكون المرء ذا عقيدة يسكن إليها ويغار عليها، ولكن ليس من الحسن أن تكون العقيدة غلًّا في عنق «القوة الخالقة» تصورها لنا عاجزة عن إنشاء جسد جديد، أو يعز عليها أن تتصور الحياة بغير هذا الجسد المحسوس! إن أظهر مظاهر الخلق هو الإنشاء والتجديد وليس هو المحافظة والجمود، وما الحياة نفسها إلا ثورة على «المحافظة والجمود» ونصر للحرية على التقييد.

فليس أصلح للعقل المصري في هذه اليقظة التي يتيقظها الآن من الجرأة على التفكير الحر، والقدرة على انتزاع المنازع المستقلة في الرأي والإحساس، وليس أحق بالترحيب من الكتب التي تفك العقول من أسر قديم لا فضل له غير القدم، أو نخرج بها عن سنة موروث لا تحفظه إلا سهولة العادة، وصعوبة الحرية والابتداع.

من هذه الكتب التي أرحب بها كتاب «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» الذي أصدرته مجلة الهلال للأديب سلامة موسى، فقد جمع فيه المؤلف أشتاتًا متفرقة من تراجم أبطال الحرية، وحوادث الصراع بين الجمود والاستقلال، فقرب هذه التراجم والحوادث إلى الذين لا يعثرون بها في المطولات، وأكثر القراء الآن لا يرجعون إلى المطولات، ولا يألفون من الكتب المقروءة إلا ما يحمل في اليد أو يوضع في الجيب.

وجاءت هذه المجموعة الوجيزة في أوانها؛ لأننا نطلب اليوم الحرية، ونحب أن نكون «أحرارًا» في طلبها والشغف بها، ولا نكون كأولئك الذين يطلبونها تقليدًا لمن سبقوا بالطلب، فلا يحيدون عن سنتهم، ولا يعد غرامهم الذي يغرمونه بالحرية إلا نوعًا رفيعًا من الذل والعبودية، فكل نزعة إلى التحرير لا تأتي من داخل النفس ولا يشارك فيها الفكر والإحساس والجسد، إن هي إلا فورة تغلو ثم تهبط ولون من ألوان السكون، يبدو في زي الحركة ولا بركة فيه.

•••

وليس كل استشهاد في سبيل رأي دليلًا على طلب الحرية والتطور، ولا كل مجاملة دليلًا على الحجر والتقية، فقد يكون المستشهد في سبيل رأيه أكثر مبالاة بالجماهير من المجامل الذي لا يرى في مطاوعة الجماهير، أو معاندتها ما يستحق التعرض للمشقة والمجازفة بالحياة، فالمعول في الاستشهاد أو المجاملة إنما يكون على طبيعة الفكرة لا على المسلك الذي يسلكه صاحبها في مناقشته المنكرين والمنافسين، ولهذا نخالف المؤلف فيما كتب في «شهوة التطور» إذ يقول: «لم نسمع قط أن إنسانًا تقدم للقتل راضيًا أوكد نفسه حتى مات في سبيل أكلة شهية يشتهيها أو عقار يقتنيه، وإنما سمعنا أن أناسًا عديدين تقدموا للقتل؛ من أجل عقيدة جديدة آمنوا بها ولم يقرهم عليها الجمهور أو الحكومة، وسمعنا أيضًا بأناس ضحوا بأنفسهم في سبيل اكتشاف أو اختراع، فما معنى ذلك؟ معناه أن شهوة التطور في نفوسنا أقوى جدًّا من شهوة الطعام أو اقتناء المال، وأن هذه الشهوة تبلغ من نفوسنا أننا نرضى بالقتل في سبيل إرضائها وأننا لا نقوى على إنكارها وضبطها.»

فصحيح أن «الفكرة» أقوى من المال والحطام، بل صحيح أننا نطلب الفكرة حتى حين نطلب المال؛ لأننا نتوهم السعادة في اقتنائه، ثم يأتي المال ولا نزال نطلب ما وراءه ولا نكتفي بتحصيله، ولكن ليس بصحيح أن التضحية بالنفس في سبيل الفكرة، وعدم التضحية بها في سبيل الثروة والطعام دليل على شهوة التطور، وتغليب الإبداع على الجمود؛ لأن الشهداء من المحافظين على القديم أكثر عددًا وأعظم بطولة في بعض الأحوال من شهداء التطور والتجديد، ولأن المرء يستشهد لأسباب كثيرة غير حب الحرية لنفسه أو للآخرين، ولا شك في أن «التضحية» بطولة تكبرها النفس أيًّا كان الدافع إليها والقصد منها، ولكننا نرى أن الحرية شيء والبطولة شيء آخر، وأن الشهيد قد يكون مستعبدًا في بطولته والمجامل المتسامح قد يكون حرًّا مترفعًا في مجاملته، بل ربما كان جاليل أعظم نفسًا وأقل مبالاة من برونو الذي يضرب به المثل للجرأة وقلة المبالاة، فقد تقدم برونو إلى النار عنادًا للجماهير، ولم ير جاليل للجماهير هذا الخطر الذي تستحق به كل هذا العناد: فكأنه يقول: من هؤلاء الذين أجبن عن مسالمتهم وأستقبل النار مخافة رأي من آرائهم؟ ليكن لهم ما يريدون، ولتظهرن الحقيقة التي أطيعهم اليوم في مداراتها، وهم صاغرون.

وقد يظن أن القوانين والعقوبات هي التي تحجر على الفكر، وتجبر المفكرين على السكوت. كلا! فلا يحجر على الفكر غير الفكر، ولا قوة تصد العقيدة غير العقيدة. ففي الزمن الذي كان البابوات فيه والملوك يحرقون من يقول بدوران الأرض، من ذا الذي كان يساعدهم على ذلك الطغيان ويمد لهم في تلك الجهالة؟ ليست هي الجيوش ولا السجون؛ لأن الجيوش اليوم والسجون أكبر وأضخم مما كانت في كل زمان، ولكنها عقيدة الناس أن القول بدوران الأرض بلاء يجر عليهم غضب الله، ويحرمهم رحمة السماء، فهذه العقيدة هي التي حجرت على العقائد التي كانت تخالفها وتشذ عنها، فلما بطلت لم يقدر كل بابوات الأرض وملوكها على أن يهدروا في سبيلها شعرة واحدة من تلك الرءوس التي كانت تطيح في كل مكان بغير حساب، وليس في قوانين العالم اليوم نص يلزمك أن تلف رقبتك برباط لا فائدة له، وليس هو بأجمل ما تزان به الرقاب؛ ولكن هب رجلًا عزم على أن يخلعه ولا يعود إليه، فماذا تظن هذا الرجل ملاقيًا من الناس؟ الفاقة والازدراء، فهو لا يقبل في الوظائف، ولا ينال رتب الدولة، ولا يدعى إلى البيوت، ولا يقابله الناس مقابلة الجد والاعتناء، وإذا لج في أمره نسبوه إلى الجنون، وعاملوه معاملة المخلوعين المهدرين، وقد يكون به شيء من الجنون أو لوثة من الشذوذ، ولكن ليس لأنه خلع رباط الرقبة الذي يفيده، ولا يجمل في عينه، بل لأنه استهدف لتلك المحنة، وصبر عليها من أجل شيء لا يضير.

قلنا إننا نريد أن نكون أحرارًا في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد المسخرون فمن تلك الحرية التي نريدها، أن نعرف حدود «حرية الفكر» نفسها، وأن نفهم أنها ضرورة عجز لا تستحب لو كان الناس قادرين على الإنصاف في منع الأفكار السخيفة الشائهة، وإطلاق الأفكار الصائبة الجميلة، فليست إباحة الحرية الفكرية لكل إنسان إلا ضرورة ألجأنا إليها علمنا بعجزنا عن التمييز، وقلة إنصافنا للمعارضين، وإلا فلو فرضنا أن اختراعًا ظهر اليوم فعرفنا به كل فكرة تستحق أن تذاع، وكل فكرة تستحق أن تمنع لا خوف من الغلو والتفريط، أو من الإجحاف والمحاباة؛ فمن ذا الذي يدعو إلى إطلاق الحرية الفكرية لكل من أرادها، إلا أن يكون متهوسًا أو جاهلًا بمعنى ما يقول؟ فنحن حين نأذن لكل فكرة بالظهور كمن يقبل جبلا من التراب لئلا يخسر جوهرًا قد يكون مخبوءًا فيه، أو كمن يغربل آكامًا من الهشيم؛ طمعًا في كيلة من الحبوب، وفي ذلك إسراف لا يسوغه إلا العلم بأن الحجر المطلق على الأفكار إسراف شر منه وأقرب إلى المجازفة والفقدان.

ومن الناس من ينصرون كل حديث على كل قديم؛ مخافة الاتهام بالرجعة والجمود، ومن تسألهم ما رأيكم في الديمقراطية، أو في محاكاة الأوربيين، أو في المساواة بين الرجال والنساء في جميع الحقوق، أو في وصف الصحراء والإبل في الشعر الحديث، أو في غير ذلك من الأمور التي يكثر فيها الجدل بين الجامدين والمجددين، فتلفيهم من أنصار كل جديد وأعداء كل قديم، وما كان عن علم ذلك الانتصار أو ذلك العداء، ولكنه عن مجاراة كمجاراة الجامدين لحكم العادة وآراء الشواذ، فهذه الحرية ضرب آخر من الجمود، ولا نريدها لمصر ولا نفضلها على عبادة القديم الذي ننعاه على المقلدين، ولسنا أحرارًا حين ندور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع كل عارضة تروج، وكل خاطرة تعن في الأذهان، فلنكن جريئين على الجديد جرأتنا على القديم، ولنتعود أن تنقد الحضارة الأوربية كما ننقد ما سلف من حضارات طويت الآن بالحسن فيها والقبيح، والمرضي فيها والمغضوب عليه، ونرجو أن تكون رسالة الأديب سلامة موسى خطوة من خطوات هذه الحرية التي لا تتقيد بقديم أو حديث، ثم نلاحظ عليه أنه يفرط أحيانًا في مطالبة الحرية بما لا طاقة لها به، وذلك حيث يقول:

إن العلوم والفنون التي تملصت من قيود الحرية — كذا — تقدمت وأثمرت كما نرى الآن في الكيمياء والطبيعة والطب والميكانيكيات، فإن تقدم الصناعة إنما يعزى إلى تقدم هذه العلوم، كما أن رقي الحضارة نفسها يرجع إليها، وقد يكون هناك مجال للشكوى من سرعة تقدم هذه لا من تأخرها، ولكن العلوم العمرانية والأخلاقية والشرعية والدينية كلها لا تزال متأخرة؛ لأن الناس ليسوا أحرارًا في الكلام عنها ومناقشتها، فنحن إذا قابلنا علم الكيمياء اليوم بما كان عليه أيام سليمان الحكيم لوجدنا فرقًا هائلًا يكاد يكون كالفرق بين الطفل الذي يلعب بالنار وبين معارف مهندس يدير قاطرة، ولكن الفرق بيننا وبين سليمان الحكيم في الآراء الدينية أو الأخلاقية أو حتى العمرانية لا يزال صغيرًا جدًّا، وقد لا يكون هناك فرق أصلًا.

فسلامة أفندي يطلب هنا من الحرية الفكرية ما لا طاقة لها به، ولو أنه قال: إن الطب لم يتقدم قط عما كان عليه قبل عشرة آلاف عام؛ لأن أجسامنا لا تزال تشبه أجسام الأقدمين لما كان قوله هنا أغرب من القول بأن طبائعنا وأخلاقنا باقية على ما كانت عليه في عهد سليمان الحكيم؛ لأننا لا نتكلم في الطبائع والأخلاق بحرية العالم في الكلام عن العلم، والصانع في الكلام عن الصناعة! أفكان سلامة أفندي يرجو أن تكون النسبة بين نفوسنا ونفوس آبائنا كالنسبة بين الطيارة المحلقة والمركبة التي تجرها الخيول؟ أم كان يرجو أن ترتقي الأخلاق كما ارتقت الكتابة من النسخ إلى الطباعة؟ إن حرية الفكر لن تصنع هذه المعجزات، وإنما نحن نحكي الذين عاصروا سليمان في الآداب والأخلاق؛ لأن طبائع النفوس لا تتحول في أيدي الزمن كما تتحول الآلات في أيدي الصناع والمخترعين، ولو انطلقنا في الكلام على العقائد إلى النهاية من الطلاقة لماء جاء اليوم الذي يتحول فيه الأدب النفسي كما تتحول المخترعات التي يخلقها الإنسان.

١  ١٥ إبريل سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤