فلسفة الملابس (٢)١

ما من إنسان إلا يضع شيئًا من نفسه في ملابسه، فإن كان ممن يعنون بها ففي تلك العناية دليل على ذوقه، وخلقه، وتفكيره، وفي بزته الظاهرة عنوان لما يخفي عنك من نفسه وقلبه، وإن كان ممن يهملونها، فأنت تعرف من قلة عنايته شيئًا يطلعك على أسبابها الدخيلة، ويكشف لك عن شواغل فكره، وهموم فؤاده، فكأنما تنطق ملابسه في صمت وبداهة بما ليس تنطق به الملابس التي يطول فيها التحضير والانتقاء، ويكثر فيها التدبير والاحتفاء، وربما كان سر انصرافه عن تجميل نفسه أنه مشغول بالجمال في كل ما عداه من الأناسي والأشياء، وربما كان جميل النفس، ولكنه غير بصير بصناعة التزيين والتحسين، إذ البون بعيد بين أن يكون المرء جميلًا في الخلق والخليقة، وأن يكون هو مخترعًا للجمال.

ويقول خائط مشهور في لندن: «إن أكثر من يتعبني من الناس في تفصيل ملابسهم أولئك الذين لا يبدو عليهم أنهم يحفلون بما يلبسون» وهذه ملاحظة يعرفها كل خائط، ويؤخذ منها أن الذين يهملون ملابسهم أقل عددًا ممن تدل عليه الظواهر، وأنهم قد يضطرون إلى ذلك الإهمال مكرهين، فلا تسعفهم الملابس في الترجمة عن رغباتهم الخفية وأذواقهم المنوعة على أن هذه الحقيقة لا تلبث أن تظهر لك من شارة صغيرة، أو هيئة منزوية، فينقلب العي في ترجمة الملابس إفصاحًا، والخفاء ظهورًا وإيضاحًا، وتسمع من جلباب هذا الذي «لا يبدو عليه أنه يحفل بما يلبس» كلامًا يقوله ككل كلام تقوله الملابس الثرثارة والأزياء البليغة، فأنت إذا استعرضت مائة بذلة «خالية» في مخزن المخلوعات فقد استعرضت مائة نفس، وعرفت من تلك الأشباح الميتة أرواحها التي كانت تعمرها بكل ما فيها من فضل وغرور، ورصانة وطيش، وقبح وجمال، وجد وهزل، ولاح لك كأنك في حضرة حاشدة حية وكأن تلك الأرواح التي فارقت هذه الأشباح اللبيسة قد تركت عليها نضحًا من حياتها، وأثارة من سرائرها، فمنها ما ينعت بالعقل والكياسة، وما ينعت بالخرق والبلاهة، ومنها ما يحيي تحية الإكبار وما يعرض عنه إعراض الزراية، ومنها ما يدخل الجنة التي وعد المتقون، وما يذهب إلى النار التي يصلاها الكافرون! فهي أشباح وأطياف وأجسام وأفكار، وليست بالخيوط البالية والنسيج الرديد!

إنك إذا حادثت إنسانًا في الفن الجميل فإنما تحادثه في الأشكال والألوان، وإذا حادثته في شئون الاجتماع، فإنما تحادثه في النظام والشريعة، وإذا حادثته في الأدب والتاريخ فإنما تحادثه في الشعور والخبرة، وإذا حادثته في الدين والفلسفة فإنما تحادثه في آماله البعيدة وأشواق النفوس الرفيعة، ولكنك إذا درست كساء يعنى ذلك الإنسان باختياره وتنسيقه، فقد درست في حين واحد جماع رأيه في الأشكال والألوان، والنظام والشريعة، والشعور والخبرة، والآمال والأشواق، وكنت كأنما قد عاشرته دهرًا تسمع له في الفنون والاجتماع، والآداب والتواريخ، والدين والفلسفة، وكأنما قد لخصت معارفه التي يشعر بها، والتي لا يشعر بها في صفحة من القطن، أو من الصوف، أو من الحرير، بل كأنما قد عرفت منه ما يريد هو أن يعرفك إياه وما لا يريد، فالذي قال: إن عشير المرء دليله قد أصاب وأجاد، ولكن أصوب منه وأجود من يرجع إلى العشير الذي يلابس ويلامس، ويطابق الأعضاء والأفكار، ويأخذ من أذواق صاحبه وأهوائه ما ليس يأخذه العشير من العشير، ولئن كان جمادًا لا حياة له، ليكونن ذلك أبلغ في الدلالة على صاحبه؛ لأنه يستعير إذن من حياته، ولا يستقل بوصف عنه، خلافًا للصديق الحي الذي يشابه صديقه ما يشابه، ثم يحور إلى طبع لا سلطان عليه للأصدقاء.

وإذا جلست على مجاز الناس لم يكن شيء — بعد تصفح الوجوه — أمتع لك وأدل عليهم من تنوع الثياب والبزات، وتقيد المتقيدين بالأزياء، وتصرف المتصرفين في تلك الأزياء، فمن هذا الذي يلقاك بلون في كل ملبوس إلى ذاك الذي يتحرى الوحدة في جميع الألوان درجات كثيرة بعضها إلى العلو، وبعضها إلى النزول، ولكنهما طرفان متقاربان في هذا الجيش المديد الذي نستعرضه على قارعة الطريق، فكلاهما يطلب الجمال وكلاهما بين الكلفة والادعاء، ويجتمع في اثنيهما صنفًا الغرور اللذان يتعاوران الناس ويظهر من أثرهما ما يظهر على النفوس والأذهان، والأقوال والأفعال: صنف الغرور الواثق بنفسه الجاهل بكل قدره، وصنف الغرور الذي يتوارى عن النظرة الأولى، ولا يريد أن يحشره الناس في زمرة المغرورين، فأما الأول فمتظاهر يحب أن يظهر بكل ما يروقه، ويجهل أن كثرة الألوان ليست من كثرة الجمال، وأما الثاني فمتظاهر يحب أن يظهر على غير هذه الصفة، ويجهل أن الذوق إنما يعرف بالتآلف بين الألوان المتعددة، ولا يعرف بالوحدة في اللون، والتقارب في الصبغة، فكل عين تعرف أن هذا اللون يشبه ذاك، ولكن ليست كل عين بقادرة على أن تجمع بين الألوان الكثيرة في تناسب مقبول، وبين هذين الطرفين طرف الغرور البسيط، والغرور المرطب تتمشى أخلاط شتى من الصنفين، وتتمثل للناظر ضروب شتى من الادعاء والتكلف، وحب الاستقلال وحب الطاعة والإرضاء.

وقلما اختلفت الأمم قديمًا في شيء اختلافها في الثياب والأزياء، فإنه ما من شيء تختلف به أمة إلا وله أثره في لباس أبنائها، وأسلوب تفصيلهم لذلك اللباس، فتباين الزي ينطوي فيه تباين الإقليم والصناعة، والمعيشة والعادة، والحكم والدين والتفكير، وما من خطوة يخطوها الثوب من لدن يكون زرعًا في الأرض، أو شعرًا على جلد حيوان، إلى أن يصبح لباسًا للعظيم والحقير والكبير والصغير، إلا ويتراءى فيها علم الأمة وقدرتها وذوقها وخبرتها، ودستور حكمها ونظام المعيشة فيها، وقد كتب أناس من الأوربيين في فلسفة اللباس، وكتب آخرون في فلسفة العمائر وجرت بينهما العصبية لما يكتبون فيه، كما تجري العصبية بين من يدرسون النحل ومن يدرسون النمل من علماء الحشرات! ففريق اللباسيين يقول: إن الثياب أبين عن العقول والآداب، وفريق البنائين يقول: بل العمائر ألصق بالنفوس، وأنم عن حضارات الأمم، وطبائع الأفراد، والسيد كرستيان باردي صاحب كتاب مستقبل العمارة يقول: «إن نطاق الباحث في فلسفة الثياب علي سعته لا يذكر إلى جانب النطاق الذي ينفرج أمام الباحث في تاريخ العمائر، وتنوع الأساليب البنائية، إذ إن أساس الهيئة الثيابية إنما ينجم عن هيئة الجسم الإنساني التي لا تتغير، في حين أن أساس الهيئة البنائية يقوم على النظام الاجتماعي، وما يعتور ذلك النظام من تبديل متجدد، واختلاف ليس له من نهاية» والسيد جيرالد هيرد صاحب كتاب «تحليل الثياب» يرينا من اختلاف «نظريات» اللبس بين الأمم ما تقل في جانبه نظريات البناء القديم والحديث، ويصل بين التاريخ وفلسفة «ما وراء الطبيعة»، ولسنا نحن من هذه العصبية ولا من تلك ولا ثأر لنا عند الحجارة ولا عند الخيوط، ولكننا نقول — ونتوخى الإنصاف فيما نقول — إن تغير الثياب أكثر وأعجب من تغير البيوت، وإن ذخيرة الإنسانية من أزياء الحلي والحلل تربى على ذخيرتها من أساليب العمارة في كل جيل، وإن ما يضعه الناس من أنفسهم في كسائهم أظهر وأجلى مما يضعونه في مساكنهم وأثاثهم، ولو كان الجسم الإنساني يتغير كل يوم لما كانت ذخيرته من السرابيل أكثر عددًا ولا أعجب تنوعًا من هذه الذخيرة التي افتن في تفصيلها وتجميلها هذا الجسم المتشابه المحدود.

أما الأخلاق فعلاقتها بالكساء علاقة لزام، لا يخفيها تبدل الشارة، ولا تجدد الزي والجديلة، فلباس الأمم المجبولة على العزم والشجاعة والحرية غير لباس الأمم المجبولة على الكسل والجبن والهوان، والجزء الذي يوكل إلى اختيار الفرد من ملابسه كفيل بالإبانة عن شخصه ومزاجه، وخليقة نفسه، ودخيلة طبعه، وقد تشف الثياب عن الجسم أو لا تشفُّ، وقد تثقل عليه أوتخفُّ، ولكنها على جميع حالاتها تشفُّ عن النفس في الجماعة أو الفرد أيما شفوف، وتمثلها أدق تمثل، ولسنا نحصر الأمر في العفاف والصيانة، ولا فيما يظنه الناس من نفع الثياب في زجر الشهوات وستر المغريات، فإن الأخلاق كلها على صلة مكينة بما يلبسه الرجال والنساء للزينة أو للوقاية، وعلى مثال واحد في الإبانة، وإن اختلفت لغاتها ولهجاتها في التعبير، وقد نرى فضلًا عن هذا أن الثياب زادت عوامل الإغراء ولم تنقصها وأضعفت الصيانة ولم تحصنها؛ لأن المرء يزيد بها جماله ويستر قبحه، ويفسح للخيال مجال التصور والفتنة، وهما أغرى من الواقع والحقيقة، فإذا قلنا: إن للأخلاق علاقة بالثياب فليس الذي نريده أنها تصون العفاف، وتقمع الشهوات، ولكنا نريد الأخلاق بمعناها الواسع الكبير.

في قصة أناتول فرانس عن «جزيرة البنجوين» يروي لنا الكاتب حوارًا بين القديس الذي استجيبت دعوته في الطير، فتمثلت بشرًا سويًّا، ودانت بالمسيحية والفداء وبين كاهن عليم بالأمور خبير بغواية الشيطان، فيأبى القديس أن يظل الطير الآدميون عراة الأجسام ويقول الكاهن: «ألا ترى يا أبتاه أن الخير في عري هذه الطير، وما لنا ندثرهم؟ إنهم إذا لبسوا الثياب وقبلوا شريعة الأخلاق داخلتهم الكبرياء، وخامرهم الرياء، وغلبت عليهم القسوة والجفاء.» ويصر القديس على رأيه فيقول له الكاهن وقد أشار إلى واحدة من إناث الطير: «هذه واحدة مقبلة علينا ليست بأوسم ولا بأقبح من سائرهم، وإنها لفتية ولا أحد يرمقها بنظرة، فهي تتلكأ على الشاطئ وتحك ظهرها بأظافرها ولا تزال تمشي وإصبعها في أنفها، ولا يسعك يا أبتاه وأنت تتلمحها إلا أن ترى ضيق كتفيها، ودمامة ثدييها، وسمنة أعضائها، وقصر ساقيها، وإلا أن ترى ركبتيها المحمارتين تصطكان في كل خطوة تخطوها، ومفاصل جسمها وكأنما ركب في كل منها رأس قرد صغير، وانظر إلى قدميها العريضتين تتشعب فيهما العروق وتتشبث أصابعهما الصغيرة العوجاء بالصخر، وتعلق به الإبهامان كأنهما رأسا ثعبان، ها هي تمشي فتختلج كل عضلاتها في الحركة، وننظر نحن إلى تلك العضلات فلا يخطر لنا إلا أنها آلة صنعت للمشي، وليست بالآلة التي صنعت للحب والغرام، وإن كانت لهي آلة لهذا وذاك وفي جسمها أدوات شتى غير ما ذكرناه. فتعال يا سيدي الرسول الجليل ننظر ماذا أنا جاعل منها الساعة.»

ويقبض عليها الكاهن ويلقي بها وهي ترجف من الذعر على قدمي القديس الجليل، وتتضرع إليه ألا يؤذيها ولا يمسها بسوء، ثم يأخذ في إلباسها فيعجبها ما تراه من هذه الزينة المفرغة على جسدها، وتنطلق وقد لفت ذيل إزارها على كفلها، ووزنت خطوتها وهزت ردفيها، فما هو إلا أن يراها واحد من ذكران الطير حتى يتبعها، ثم يقفوه ثان، وثالث، ويلحق بهم كل من كانوا على الشاطئ يضطجعون، ويشهد القديس والكاهن هذه الفتنة المخلوقة من الثياب فيقول الكاهن: «الحق أن في الحياة لسرًّا يجذب الأنظار إلى النساء، وأن وسواس نفسي لأعظم من أن تجدي فيه المداراة» ثم يهجم على الطائرة الآدمية، ويدفع عنها من حولها، ويعدو بها إلى كهف قريب، فيحوقل القديس ويعلم أنه الشيطان تلبس بجثمان الكاهن؛ ليخلع فتنة اللباس عن الإناث.

•••

هذه قصة فيلسوف أبيقوري يعيش في باريس، ويرى ما تصنع الثياب بالنساء والرجال ويؤمن بعقيدة السرور، ولو شاء كل ملاحظ لرأى ما رآه أناتول فرانس، وعلم من القديس أن للشيطان يدًا طائلة في صنع الثياب وإبداع الأزياء.

١  ٢٩ يوليو سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤