أبيات من الشعر١

هل كان البارودي شاعرًا؟ بلا ريب! كان شاعرًا له طلاوة وفيه حياة، ولبعض أشعاره نغمة وإيقاع لا نجدهما إلا في القليل من شعر القدماء والمعاصرين، وإنما شكك بعض الناس في شاعريته حذلقة التمييز التي أولع بها من يدعون التفريق بين الكلام ووضع القائلين كل قائل في مقام، فإذا بدت على كلام الشاعر طلاوة الصناعة، قالوا هذا صانع وليس بمطبوع وعز عليهم أن يجعلوه شاعرَا حسن الصناعة أو شاعرًا مطبوعًا على الصناعة الحسنة والرصف المنغوم، وإذا بدت عليه الحكمة قالوا هذه فلسفة وليست بشعر، كأنما الشعر والفلسفة لا يلتقيان أو كأن تصوير بعض الإحساس لا يحتاج إلى فلسفة، وتفهيم بعض الفلسفة لا يحتاج إلى إحساس، وإذا بدت عليه الركة في اللفظ مالوا إلى التسليم له في المعنى ليقولوا هو شاعر التدبيج والتحبير، وليس بشاعر التوليد والتفكير. ليعطوا كلامهم صبغة التمييز، وينزلوا أنفسهم منزلة الحكم والانتقاد، وكثيرًا ما قابلوا بين شاعرين فحكموا لأخسهما شعرًا، وأضعفها ملكة بالسبق والترجيح؛ لأن المرجوح في نظرهم صاحب فكر وصناعة، فيقولون عنه: إنه صانع ومفكر وليس بشاعر، ولأن الراجح في نظرهم لا فكر له ولا صناعة فهو إذن شاعر؛ لأنه ليس بمفكر ولا بصناع! وهكذا كانت تجني الحذلقة على الأدباء والكتاب والشعراء، وكادت تجني على البارودي فتخرجه من عداد الشعراء، وإنه مع هذا لشاعر له من حسنات التذوق والتصوير، وإلهام الحس ولطف الشعور، وعذوبة الروح ما ليس للكثيرين، وليس المقام هنا مقام إفاضة في نقد البارودي فنورد لقرائنا محاسن نظمه، ودلائل وحيه، وإنما ألممنا بشاعريته في الطريق لنتكلم في أبيات له تذاكرناها منذ أيام أثناء حديث عن هذا الشاعر الفارس السياسي الأديب.

•••

لقيني أديب فاضل، وفي يديه كتاب وسألني: أي هذين البيتين أبلغ معنى وأجمل صياغة قول البارودي:

أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم
ملول من الأيام شيمته الغدر

أو قوله:

أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم
أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر

قلت: الأول أبلغ وأجمل في رأيي. قال: وفي رأيي أيضًا، ولكن إليك رأيًا آخر يقول بخلاف ذاك، وفتح الكتاب — وهو كتاب أدب وتاريخ للأستاذ محمد صبري معلم التاريخ الحديث بدار العلوم — فإذا به يقول: «من العجب حقًّا أن ينشر المرصفي للبارودي، وهو حي في ريعان الشباب نصًّا لقصائده أصح بكثير من النص الذي نشر بعد وفاته. على أننا من جهة أخرى قد أسعدنا الحظ بالوقوع على نصين مختلفين لقصائد أو أبيات معدودة، لا نشك أن الثاني منها الذي ظهر في ديوانه هو في الحقيقة النص الأول الذي أصلحه البارودي وصقله بعد إعمال الروية فيه، ونقده نقد الصيرفي الحاذق … جاء في القصيدة التي يجاري بها أبا فراس:

أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم
ملول من الأيام شيمته الغدر

وقد روى صاحب الوسيلة البيت على الصورة الآتية:

أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم
أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر

فانظر إلى الفرق بين الصياغتين، وتأمل كيف كان البيت في أول الأمر كالطائر الذي كسر أحد جناحيه فتعسر عليه النهوض، حتى جاء الشاعر وبدل الشطر الثاني بشطر آخر يتلاءم مع الأول معنى ومبنى، فإن قوله ملول من الأيام بعد «ثم بدد شملهم» من أضعف التراكيب وأخسها بخلاف «أخو فتكات بالكرام» فإن هذا التركيب جمع بين الجزالة والرقة اللتين بلغتا منتهاهما في آخر البيت حين فسر شاعرنا الكناية بقوله اسمه الدهر. أضف إلى ذلك أن حزن الشاعر يتجلى في الشطر الأخير على أولئك النفر الغر الذين بدد الزمان شملهم، وهذا أتم للمعنى وأوفى وأكثر اتصالًا بما جاء بعد ذلك.»

وألاحظ أولًا أن قافية «الدهر» وردت في هذه القصيدة قبل خمسة أبيات حيث يقول البارودي في بيته المشهور:

إذا استل منهم سيد غرب سيفه
تفزعت الأفلاك والتفت الدهر

وهذا مما يرجح أن البارودي عدل عن المصراع الذي تكررت فيه القافية إلى مصراع غيره، ثم أقول: إلى هذا الحد تختلف الآراء في بيت واحد بين المشتركين في القراءة الإفرنجية، ولم أكن لأعرض لهذا الخلاف، لولا أنني أردت أن أتخذ منه مثالًا للأسباب التي نفضل من أجلها بيتًا على بيت وأسلوبًا على أسلوب، والأمثال كما قلنا في فصل تقدم خير معين على توضيح الآراء ووضع المقاييس.

فنحن نرجح أولًا أن البيت الذي نشره المرصفي هو البيت كما صاغه البارودي للمرة الأولى؛ لأنه أشبه بالضجيج الذي كان مغرمًا به في صباه، وأقرب إلى أن يروع القارئ بتهويله لا بمدلوله، ثم عدل عنه إلى الصيغة التي نشرت في الديوان، وهي أشبه برصانة السن وتجارب الشيخوخة التي طال بها عهد التأمل في غير الأيام وتقلبات الصروف، ولولا ذلك لما رجع طابع الديوان إلى الصيغة الأولى التي مضت عليها عشرات السنين، وترك الصيغة التي استقر عليها رأي البارودي الأخير.

ونرى بعد أن البارودي يكون مخطئًا لو أنه قال أولًا: «ملول من الأيام شيمته الغدر» ثم عدل عنها إلى قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» لأن الصيغة الأولى أصدق في وصف الأيام وأدل على سآمة الناظم وضجره من الحوادث، وأقرب إلى التشخيص والتصوير من الصيغة الثانية.

فإن قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» يصور لنا الحوادث التي تبدد الشمل كأنها لا تكون أبدًا إلا كحوادث السكك الحديدية، ونكبات الزلازل، وانقضاض الصواعق، وهي ليست كذلك فيما نعلم ويعلم الناس، فإن التغير من حال إلى حال طبيعة الدنيا التي تبدد الشمل وتبلي النعمة وتفني الحياة، ولو لم تقع المفاجآت الدواهم، ولم تنقض الرزايا الخواطف على غير موعد، ونحن نفهم أن شيخًا مثقلًا بأعباء السنين يقول «ملول من الأيام» بعد أن قال في الشباب «أخو فتكات» ولكننا لا نفهم أن يعكس الأمر، فيذكر الفتك في الشيخوخة، ولا يروقه أن يصف الأيام بالملالة في سن الضجر والسآمة، والحقيقة أن الشيخوخة التي طالت بها مشاهدة الغِيَرِ وتعقب الناس والزمان هي أولى بأن تتمثل الأيام في صورة الملول الذي يتقلب ويتبدل ويغدر عن شيمة وديدن لا عن سورة عارمة وهياج فاتك، وقد يعطيك البيت على هذه الصيغة صورة القدر في أبديته الطويلة يلعب بالخلائق لعب السائح الضجر في غير اكتراث ولا تعمد، ولكنك لا تلمح من الصيغة الأخرى للقدر إلا صورة عنترية تصول وتجول وتنادي المبارزين والمناجزين، وليست هذه بالصورة الصادقة، وإن كان فيها من الضجة ما يباغت الأسماع ويشده الحواس؟

وفي قول البارودي «ملول من الأيام» لمحة من الشعور الإنساني؛ لأنها تشعرك مرارة نفس القائل وطول تأمله في مصائب الأعزاء وتقلبات الحدود، وليس في قوله «أخو فتكات» لمحة من ذلك الشعور؛ لأنها أشبه بالآليات منها بالحسيات، فلا يخطر لك حين تسمعها إلا أنها صدمة أصابت جدارًا أو ضربة وقعت على حجر، ولا يمنعك أن تظنها من نظم آلة صماء إلا أن الآلات الصماوات لا تنظم الأشعار، وفضلًا عن هذا ألا يفتك الدهر باللئام كما يفتك بالكرام؟ ألا يتقلب القدر بمن تبغض كما يتقلب بمن تحب؟ فقوله: «أخو فتكات بالكرام» ناقص في هذا المعنى فوق ما فيه من خطأ الوصف وقعقعة التهويل المكذوب، وأنت إذا سمعته بدهك بما يشغلك عن لطف الكناية فلا تعود تبالي أكان اسم صاحب هذه الفتكات الدهر أم غير الدهر، ولكنك إذا سمعت «ملول من الأيام» انسرحت أمامك ساحة الحوادث فرأيت أطوارها طورًا بعد طور ولمحت صورة الزمن القديم يشرف على كل هذا إشراف اللاعب الملول، ويجيء ذلك بعد قوله «أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم» فيكون أنسب للتراخي في التقلب، وأقرب إلى ما جرت به العادة من غير الصروف.

لا يخطر لك هذا كله حين تفضل أحد البيتين على الآخر، ولكن الناس يستحسنون أو يستهجنون ثم يرجعون إلى التعليل والتفسير، وفي هذا دليل آخر على أن التذوق هو تعليل موجز سريع، وأنه قد يغني عن المنطق، ولكن المنطق لا يغني عنه بحال.

•••

وكان بعض الأدباء يقرأ أبياتًا لحافظ إبراهيم من قصيدته في زلزال مسينا حيث يقول:

رُبَّ طفلٍ قد ساخ في باطن الأر
ض ينادي أمي! أبي! أدركاني
وفتاة هيفاء تُشوى على الجمر
تعاني من حره ما تعاني
وأب ذاهل إلى النار يمشي
مستميتًا تمد منه اليدان
تأكل النار منه لا هو ناج
من لظاها ولا اللظى عنه وان

قرأ الأديب هذه الأبيات ثم قال: حبذا هي لولا «تمد منه اليدان»، فهذه شهد الله من ضرورات النظم لم يكن للشاعر بها يدان!

قلت: حبذا إذن هذه الضرورة التي وفقت حافظًا لخير ما يقال في هذا الموقف، فلو أنه استطاع أن يقول يمد اليدين لما أتى بشيء ولهمد في البيت معنى الهول الذي يطالعك من قوله: «تمد منه اليدان» فإن بناءها على المجهول هنا يريك أن الأب المروع لم يكن يدري ما يصنع، وأنه ذهل عن وعيه فيداه تمتدان من غير شعور ولا فهم لمعنى حركاته ووجهة خطواته، وعندي أن كلمة «تمد أو تمتد» في مكانها هذا أبين عن هول الزلزال من الأبيات الأربعة، وما فيها من نار تأكل، وأرض تنفغر، وأصوات تصيح، وهذا توفيق إذا جاء به الشاعر عن قصد فهو براعة وإذا جاء به عن غير قصد فهو إلهام.

إن كان في هذه الأبيات ما يؤخذ على حافظ فليس هو تلك الضرورة السعيدة، وإنما هو اتهام للرحمة الإنسانية قد تنطوي عليه أبياته، وقد يبدر من بعض الشعراء والكتاب على غير نية، فقد أراد الشاعر أن يمس فينا كوامن الإشفاق، فوهم أننا لا نرثي للمنكوبين إلا إذا كانوا طفلًا صغيرًا يشفق عليه كل مشفق، أو فتاة هيفاء يحزن الناس عليها للجمال لا للرحمة، أو أبًّا ينظر الناس بعينيه إلى أطفاله المفقودين ويحسون معه بحنانه المستطار، وليس يحتاج المرء إلى كبير حظ من «الإنسانية» ليأخذ بيد الطفل الصغير، ويتفجع للفتاة الهيفاء، ويأسى لمصاب الأب الثاكل، فلئن كان حافظ قد صدق الوصف، وأبلغ في الصدق، وأفلح في تنبيه الشفقة وبسط الأيدي بالمعونة لقد كان يبلغ المدى في الإحسان لو أنه استمد الوصف من حاسة غزيرة وقدرة فنية تنتزعان من الزلزال صورة منكوب غير عزيز على النفوس، لا بل صورة حيوان هائم في هول تلك القيامة، فتهبانه من الشعر ما لم يوهبه من عفو الرحمة، وتفيضان عليه من الجمال والمودة مثل ما أفاضته الطبيعة على الطفل المهجور، والفتاة الهيفاء، والوالد المرعوب، ونشعر حين نقرأ الوصف أن جمالًا أعلى من جمال الطفولة والملاحة والأبوة، يرتقي بنا إلى ذلك الأوج الرفيع، وذاك هو جمال العبقرية التي تعرف العطف حيث لا يعرفه سائر العاطفين.

١  ٥ أغسطس سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤