جورج رومني١

أيهما خلد الآخر: رومني الذي حفظ لنا جمال السيدة الإلهية، أو السيدة الإلهية التي ألهمت المصور فنه، وملأت عينيه ببهجة الحسن، وأجرت يده بالخلق والإحسان؟ لقد وعدها هو أن يخلدها في صوره، ولم تعده هي شيئًا، ولكنها خلدته على غير موعد، فلا نخشى هنا أن نقع في «مسألة الدور» أو نتهم «بعدل سليمان» إذا قسمنا الحق بينهما نصفين فقلنا: إنه هو خلدها بفنه وإنها هي خلدته بوحيها، فكان جزاؤهما من معدن واحد وعملة واحدة، فلولا صور رومني لفني الروح من جمال «أما» وبقي الشبح الذي تحفظه الصور الشمسية، أو ما يشاكلها من نقش أناس لم ينظروا إلى طلعتها باللحظ المسحور، والقلب المأخوذ، ولولا «أما» لما توفر صاحبها على رسم الملامح والوجوه، وهو الذي كان يزدري هذه الصنعة ولا يصبر على مزاولتها إلا ليعش ويدخر الثروة، ثم يتفرغ لهواه من الفن وهو تصوير البطولة وإحياء الشخوص الخيالية من قصائد الشعراء ونوادر التاريخ.

فقد كان رومني — كما كان كثير من العبقريين — يجهل أحسن ملكاته، بل يجهل أحسن مبدعاته، وطالما تردد بين الموسيقى والتصوير في مبدأ نشأته، فلم يثبت على نية التصوير بعد طول التردد إلا منقادًا لقضاء الظروف غير عامد ولا متخير، ثم كان يرسم الصور الشخصية لطلابها ليعيش بأجرها وهو كاره لهذا العمل معول على تركه حين يغنيه الثراء عن أجره، ولم يدر أنه سيعيش بهذه الصور في عالم الذكرى كما عاش بها في عالم الخبز والماء! وكثيرًا ما كانوا يسألونه عن أحسن صوره وأعزها عليه، فكان يذكر لهم نقوشًا لا تخطر على بال ناقد ولا يذكره الآن ذاكر، وليس رومني ببدع في هذا الجهل، فإن الإنشاء الفني أبوة نفسية ولا يندر أن نرى الأب يحب من أبنائه من هو أقلهم جدارة بالحب، وأشدهم عقوقًا للوالدين، فقد يعز الرجل من أبنائه من أنصبه وأحزنه وكلفه المشقة والخسارة، وقد يحسب هذه الكلفة من قيمته ويحرص عليه بقدر ما تكلف في حبه، ويصنع الفنان مثل ذلك فيحب الأثر الذي أجهده وأضناه ولا يذكر الأثر الذي جاءه عفوًا بغير مجهدة، وأكثر ما يكون إحسان العبقريين فيما سهل مورده وقل عناؤه، وتأتى لهم بغير كلفة، فهو لهذا رخيص في حسابهم وهم لهذا أبعد الناس عن إنصاف ما يبدعون وتصحيح الرأي فيما يؤثرون وما يهملون.

figure
جورج رومني.

والناس يتغالون اليوم في اقتناء آثار رومني، ويشترونها حيثما عثروا بها، وبالثمن الذي يقدره لها مالكوها، فلا تكمل مجموعة أو متحفة بغير صورة أو اثنتين من مخلفاته الكثيرة، ولا يستكبرون ثمنًا — مهما كبر — على النادر النفيس منها، وقد بيعت إحداهن في السنة الماضية بسبعين ألف جنيه، ولا تبرح الصحف تروي لنا أسعار قطع له تباع بالألوف في بلاده وغير بلاده، أما القطعة التي بلغت السبعين ألفًا فهي صورة السيدة دافنبورت التي رسمها المصور بواحد وعشرين جنيهًا، ولعله لم يكن في ذلك التقدير بالرجل القنوع.

إن القارئ لا يسعه إلا أن يخطر الغبن على باله كلما سمع بالحظ الذي فات رومني من أثمان صوره بعد مماته، فأين العشرات من الألوف؟ وأين أرباح المالكين من أرباح الذي لولاه لما كانت الصور ولا تغالى بأثمانها المالكون؟ على أن رومني لم يكن مغبونًا في حياته ولم يسمع عن مصور في عصره نال من إقبال الجد، وبعد الصوت، وحسن التقدير فوق ما ناله، ويؤخذ من مذكراته أنه رسم تسعة آلاف من علية القوم وأوساطهم في أقل من عشرين سنة، وأن دخله كان يبلغ أربعة آلاف جنيه في العام، وأجرة الصورة كانت تتراوح بين الثمانين والمائة وهي قيمة قلما يزداد عليها في عصره، وقد حسده منافسوه وقدحوا في فنه واشتدت غيرة السير جوشيا رينولد منه فكان لا يطيق اسمه ولا يسميه إذا ذكروه إلا «بالرجل الذي في شارع كافندش»، والعجيب هنا أن ينسى السير جوشيا أدب اللياقة في حق زميله الحيي الوديع وهو الرجل الحليم المصقول الذي لا تبدر منه بادرة ولا تجمح به نزوة، وأعجب منه أن يعرف له رومني حقه، ويكبر قدره، وينكر على الذين يفضلونه عليه، وهو الرجل المعتزل النابي بنفسه الذي لا يغشى مجالس اللياقة ولا يفقه «قوانين» المجاملة، وما كان ذلك عن دهاء منه ولا عن رياء، فإن رومني لا يعرف الدهاء ولا الرياء، ولا يداري شيئًا بين صدره ولسانه، ولكنها طبيعة فيه جنبته هموم المنافسة، ونأت به عن عراكها، فبلغ الشهرة التي بلغها بغير سعي ولا حيلة، وكره لصوره أن يعرضها في «الأكاديمي الملكية» ترفعًا لا ندري أو تنائيًا عن زحام المنافسين وخصومة القادحين، فلم يخسر بهذه العزلة شيئًا ولم يزد إلا اشتهارًا وشيوعًا على قلة الكاتبين عنه والمشيدين بذكره، وكان فيما قاله خصومه عنه: إنه كان يستجلب الحسان إليه بتمويه صورهن وإيداعها المحاسن الكاذبة التي يتخيلنها لأنفسهن! وليس هذا بصحيح إلا بمعنى واحد لا مطعن فيه على مصور قدير، فقد كان الرجل يلمح الشبه بين حسانه وبين من يقاربهن من حور الأساطير وربات الأقدمين، فيعكس عليهن ذلك الشبه ويجلوهن في فتنة «أسطورية» تكسوهن سحرًا وخيالًا على حقيقة، ولكنه كان يقصر هذا المزيج الأسطوري على من يحبها ويستوحي ملامحها، ويصورها ظاهرًا وفي باطن نفسه أن يصور «شخوص» البطولة التي يحن إليها، وينتهز كل فرصة لتمثيلها والانقطاع لها، فهو في هذه الحالة كالذي يتعمد تمثيل ربة شعرية فيتخذ لها نموذجًا من أحب النساء إليه، وأحظاهن في عينه، وليس في ذلك تمويه ولا مبالغة، وإنما هو التمثيل الذي تجتمع فيه أحلام المصور، ومناظر العيان، وأخيلة القدم في نظرة واحدة.

•••

ولد جورج رومني في شمال لانكشير سنة ١٧٣٤ وتعلم التصوير على فنان قرية كندال، ثم أصيب فيها بالحمة فسهرت عليه فتاة طيبة على شيء من الملاحة ولزمته في مرضه حتى أبل فشكر لها صنيعها، وتزوج بها ولكنه فارقها حين ضاقت به القرية ليلتمس مستقبله في لندن، وقسم ثروته التي كان يملكها في ذلك الوقت بينه وبينها، فأعطاها خمسين جنيهًا وأخذ الخمسين الأخرى معه يستعد بها لما هو قادم عليه. ونزل لندن سنة ١٧٦٢ فلم يطل مقامه بها حتى اشتهر وتدفق عليه طلاب الصور، وأمن على مستقبله فتاقت نفسه إلى زيارة إيطاليا لاستتمام علمه ودرس البقايا الفنية في معاهدها، فقضى في روما سنتين، وقفل إلى لندن وقد تزود علمًا وخبرة ولم يفته أن يأخذ من فن فرنسا خير ما تعطيه يومئذ، وهي منجبة «جروز»، ومخرجة المدرسة التي تجمعت مزاياها العالية في ذلك المصور النابه، فسرت إلى «رومني» نزعة جروز إلى تحضير طائفة من العواطف المحببة من ملامح معهودة يعجب بها ويتعلق بأصحابها. ثم جاءته «أما» في سنة ١٧٨٢ حين كان في الثامنة والأربعين فهام بها، ورأى نور الحياة من عينيها ولبث زهاء عشر سنين يتلقاها في مصنعه أكثر الأيام، وتجلس له جلساتها الأسطورية التي لا عداد لها، وما كانت إلا بضع جلسات حتى تفاهم المنفيان من وطن السواد، وانعقدت بينهما الصداقة الحميمة، فكانت ترفو له ثيابه، وتطهو له طعامه، وتبثه ما في نفسها ويبثها ما في نفسه، وباتت هي إلهة وحيه وبات هو كهف عزائها الوحيد بين حبيب فاتر القلب، ودنيا لا تسمع الأعذار، ولما جاءت تنبئه بسفرها إلى نابولي دارت به الأرض، وأظلمت فوقه السماء، وظل بعدها عازب الفكر مشلول المواهب، لا تغنيه عنها الحسان اللواتي يجلس إليه «لأنها شمس سمائه وهن النجوم الوامضات» ولا يستريح إلى عمل يوليه بعض السلوان.

أما زوجه التي فارقها في كندال على موعد اللقاء في لندن عندما يدير عليه الرزق وتغدق عليه الثروة، فقد بقيت حيث هي حتى عاد إليها لقي محطوم الجسم والعقل في الخامسة والستين، يتعثر إلى القبر ويمل أنفاس الحياة، فغفرت له هجرانه، وخيانته، وتكنفته بحنوها ومؤاساتها حتى قضى نحبه بين ألم الداء، وتبكيت الضمير. وكان قد زارها مرتين أو ثلاثًا في تلك الفترة الطويلة، ورتب لها معاشًا يكفيها، ولكنه لم يستقدمها إلى لندن، ولم يعلم أحد ما سر ذلك إلا ما يقوله الشفعاء له، وليس هو بالعذر الوجيه، وإن كان عذرًا يرضاه الذين يعرفون طبع الرجل البريء من الشر واللؤم، ويحسبون زوجه عقبة في طريق فنه، واتصاله بطلابه وطالباته، وهم غير كثيرين، قال فتزجيرالد صاحب الذخيرة الذهبية المشهورة: «لقد عاد إليها وهو شيخ طليح أسقام، يوشك أن يجن وليس له من ولي ولا رفيق، فقبلته وواسته إلى يوم وفاته. إن هذه المأثرة الصامتة لخير من صور رومني كلها، ولو نظر إليها من وجهة الفن دون الأخلاق، وإني من ذلك لعلى أتم يقين» وقال تنيسون في قصيدته ندم رومني «لقد أيم زوجه في حياته، وباع الرحمة بنقشة على القرطاس.»

وقال في تلك القصيدة بلسانه: «أحبك فوق حبي إياك يوم الزفاف، وأرجو — ولعلني أتوهم — أن غفران الإنسان يمس السماء، فتغفر لي لأنك أنت غافرة ذنبي، وترسل من رحمتها شعاع ضياء إلى الراحمة الرءوم.»

•••

أما فن رومني فجملة ما يقال فيه: إنه كان أقدر مصور في زمانه على اختطاف اللمحة البارقة على الوجوه، وتقييدها بالريشة والطلاء، أو أنه كان قديرًا على إخفاء قدرته العظيمة وراء الملاحة المحببة التي يسبغها على وجوهه وشخوصه، ولكن تلوينه لا يجاري تلك القدرة في البراعة والإتقان، ولا ينم على الذوق اللطيف الذي تنم عليه دقته في أداء الملامح، وتسجيل خفقات الشعور على صفحات الوجوه.

١  ١٩ أغسطس سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤