النثر والشعر١

كتب الأستاذان هيكل وطه حسين في النثر والشعر العربيين، فاتفقا على أن الكتابة النثرية في هذا العصر متقدمة، آخذة بأسباب النضج والتوسع، وأن الشعر متخلف مقصر عن مجاراة العصر، وتلبية دواعي العلم والحضارة الحديثة، وعلل الأستاذ طه هذا التخلف بكسل الأكثرين من الشعراء، وقلة إقبالهم على القراءة الصالحة، وحرصهم الشديد على مرضاة الجمهور، وأراد الأستاذ هيكل أن يجيء بأسباب أخرى لهذه العلة المتفق عليها فأتى بكلام لا نخلص منه إلى نتيجة محدودة، أو رأي ممهد للنقد والمناقشة، وقد كتب بعض الأدباء في هذا المبحث فاتفقوا أو كادوا يتفقون على سبق النثر وجمود الشعر، إلا قليلًا مما استثنوه من هذه القضية العامة، وتفاوتوا في إنصاف الشعراء الذين شذوا عن ربقة الجمود، تفاوتًا يرجعون فيه إلى اختلاف في الميول، واختلاف في الاطلاع، واختلاف في الفهم والأخلاق.

والحقيقة التي لا نقبل النزاع بين العارفين المنصفين، أن الكتابة النثرية في هذا العصر تخطو خطاها الواسعة إلى مدى لم يسبق للعربية به عهد على إطلاق العهود من قديم وحديث، وستبلغ هذا المدى فتمشي جنبًا إلى جنب مع الآداب المنثورة في الأمم الغربية المتقدمة وتشترك بنصيبها في الثقافة الإنسانية التي يحمل أمانتها المتمدنون، وهي قد بلغت إلى اليوم في بعض الأبواب منزلة تضارع ما عند الغربيين من أمثالها، وتدخل في مضمارها برأس مرفوع وأمل وثيق، ولم تتوان في الأبواب الأخرى عن شأو الغربيين إلا في انتظار العوامل الاجتماعية التي أنشأت بيننا وبينهم فروقًا تتناول الآداب والمعيشة والعرف، وسائر ما يختلف به الغرب من الشرق ولا يقتصر على الكتابة والكتاب.

هذا بالقياس إلى الآداب الحديثة في أوربا أما إذا قسنا الكتابة العربية في عهدنا هذا إلى أدوارها السالفة فهي اليوم في مكان أعلى من أن يقابل بأرفع مكان بلغته في الزمن القديم، وهي سواء نظرنا إلى عدد الكتاب، أو إلى موضوعاتها الكثيرة، أو إلى سعة المفردات أو إلى صحة التعبير، قد أدركت حظًّا من كل هذا لم تدركه في زمن الجاهلية، ولا في زمن المخضرمين ولا في زمن المحدثين، ومن شاء أن يتثبت من ذلك فله أن يختار خمسين سنة تبتدئ بأي عهد يختاره في تاريخ الآداب العربية، ثم يحصي من فيها من الكتاب عددًا وقدرًا ويقابلهم بكتاب العربية في نصف القرن الذي ينتهي بسنتنا هذه، ونحن زعيمون له أن يجد إلى جانب كل أديب في العهد السالف خمسة من أمثاله، أو أكثر بين كتاب العهد الحديث، وأن يجد إلى جانب كل صفحة ينتخبها للأولين صفحات تضارعها وترجح عليها في كتابات الآخرين، وأن يجد بعد هذا وذاك فنونًا من القول لم يطرقها كتاب العربية السابقون، ومناهج من البلاغة لم تتفتح لإمام منهم ولا مأموم، وهذه مقابلة عملية لا تكثر فيهل اللجاجة، ولا تتشعب فيها الظنون، فمن شاءها فليحاولها ونحن على اليقين الأيقن أنه لا يبدأ المحاولة إلا انتهى إلى حيث نحن منتهون.

ولقد كان من دأب العرب أن يتعلقوا بالقديم ويفضلوا كل ميت على كل حي؛ لأنهم قبائل بادية والقبائل من دأبها أن تعتز بالنسب، وتدل بالعصبية، وتجعل قبلتها إلى الماضي الذي يجيئها منه الفخر والتراث المذخور، ثم نزلت بالأمم العربية آفة الشيخوخة وهي — أي الشيخوخة — موكلة أيضًا بما سبق لا تزال تحن إلى ما كان، وتنفر مما يكون، وتذكر ما حولها بالتنقص والزراية، وتذكر ما غبر عليها بالعجب الأسف، فاجتمع هذان السببان على إخفاء تلك الحقيقة التي نقررها وهي ارتقاء اللغة بيننا وعلوها على ما بلغت إليه في جميع أدوارها البائدة، وشاعت سخافة التقديس والتطويب للماضي حتى رأينا من نقاد العرب المعول عليهم من يقول عن هذا الشاعر أو ذاك: لو تقدم في الجاهلية يومًا واحدًا لفضلته على جميع الشعراء! وظهر في أيامنا من ينوح على العرب ويندب لغة العرب، ولو رفعت طباق الموت والجهل عن أولئك العرب لرقصوا في أجداثهم فرحًا، وحمدوا الله على أن قيض للغتهم التي نشأت على موات الصحراء ميادين تحسب فيها من لغات الحضارة والحياة، ويكتب فيها ما يكتب اليوم من ضروب المعرفة وفنون التعبير، فليس يليق بنا في القرن العشرين وفي دور النهضة والرجاء أن نعبد الماضي وندين بالشيخوخة، ونستدبر الدنيا الشاخصة إلى الأمام لننظر إلى الوراء ونتمرغ بين القبور، وإنما يليق بنا أن نؤم المستقبل، وندين بالفتوة، ونفني القرون الخيالية فينا فلا نفنى نحن في غبار تلك القرون.

بقي أن نعرف لماذا تقدم النثر وتخلف الشعر، أو حيل ما بين الناهض منه وبين حقه من الفهم والذيوع؟ والأستاذ طه حسين يعلل ذلك بأن الكتاب يطلعون ويجدون فيما يكتبون، وأن الأكثرين من الشعراء يقنعون بجهلهم، ويعطلون عقولهم لقلة من يتقاضاهم الدرس والتفكير، وأنا ممن يفرضون القراءة والتفكير على الشعراء، ولا يؤمنون بشاعر عظيم لا تستخرج من شعره فلسفة جامعة للحياة، فليس الشعر خيالًا محضًا كما يزعمون، ولا هو بطلاء مزركش لا عمق له من البديهة والفهم الأصيل، وإنما الشعر إحساس وبداهة وفطنة و«إن الفكر والخيال والعاطفة ضرورية كلها للفلسفة، والشعر مع اختلاف في النسب وتغاير في المقادير، فلا بد للفيلسوف الحق من نصيب من الفكر ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف، فلا نعلم فيلسوفًا واحدًا حقيقًا بهذا الاسم كان خلوًّا من السليقة الشعرية، ولا شاعرًا يوصف بالعظمة كان خلوًّا من الفكر الفلسفي، وكيف يتأتى أن تعطل وظيفة الفكر في نفس إنسان كبير القلب متيقظ الخاطر مكتظ الجوانح بالإحساس كالشاعر العظيم؟ إنما المفهوم المعهود أن شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية، ورسل الحقائق والمذاهب في كل عصر نبغوا فيه، فمكانهم في تاريخ تقدم المعارف والآراء لا يعفيه ولا يغض منه مكانهم في تواريخ الآداب والفنون، ودعوتهم المقصودة أو اللدنية إلى تصحيح الأذواق، وتقويم الأخلاق، لا تضيع سدى في جانب أناشيدهم الشجية ومعانيهم الخيالية» وهذا ما كتبته في صدر الكلام عن فلسفة المتنبي وما أود أن يتقرر بالشرح والتكرير.

ولكننا لا بد أن نسأل بعد هذا التفريق: لماذا يطلع الكتَّاب ولا يطلع الشعراء؟ لماذا يكسل الناظم ولا يكسل الناثر؟ أو لماذا يقنع القراء بالسفساف من شعرائهم، ولا يزالون يطمعون في الكمال من كتَّابهم؟ نظن نحن أن هذا الفارق بين النثر والشعر راجع إلى عوامل كثيرة بعضها عالمي تشترك فيه جميع الأمم، وبعضها مصري يخصنا نحن المصريين دون عامة الأمم الغربية والشرقية، وبعضها شخصي مقصور على أشخاص الشعراء الذين يجمدون على القديم ويعجزون عن التجديد.

فأما العوامل العالمية التي تشترك فيها جميع الأمم فذلك أن الشعر تطلبه العاطفة، وأكثر ما تدور العاطفة على الحب أو النخوة، وقد شغلت هذه العاطفة في العصور الحديثة بشيء غير الشعر يشبهه في إثارة الإحساس، ولا يشبهه في التهذيب وتغذية الوجدان، شغلت العاطفة الشعرية بالصور المتحركة، والروايات المجونية، وأخبار الصحف، ومناوشات السياسة، فجارت هذه البدع كلها على جمهور الشاعر الذي كان يصغي إليه وحده ليستمع منه نغمات الحب، وخفقات القلوب، وسورات النخوة والحمية، وأصبحت البطولة اليوم للصوص والعمالقة الذين يظهرون على لوحات الصور المتحركة، بعد أن كانت لأبطال القصائد وفرسان الأناشيد، وانتقلت المساجلات الغرامية اليوم من عرائس الغزل وشهداء الأغاني إلى فلان وفلانة من رجال الروايات ونسائها، وعارضي أنفسهم وأنفسهن على مسارح اللهو في كل مساء وكل بلدة، وفشت مع هذه البدع روح الفردية التي قطعت أرحام المودة، وروح الاستخفاف التي كشفت الإنسان فحرمته من رهبة الأسرار، وهيبة القداسة، وروح المال التي حصرت علاقات الناس في الأرقام الحسابية، والمنافع القريبة، فكان من ذلك كله جنايات متلاحقات على الشعر، وعلى موضوع الشعر لم يسلم منها بلد، ولم يفلت منها لسان.

وأما العوالم المصرية فجميعها مما ينزل بقدر الشاعر، ولا يطمع الناس في الشيء الكثير منه، حسبه أن يهذر ليعجب، أو يجتنب الجد ليكون في ميدانه؛ لأن الشاعر كما عرفناه في الجيل الماضي نديم مجالس وطالب قوت يلتسمه بالمدح والهجاء، والتزلف والرياء، ولم يكن لنا تراث قديم من القصائد المقدسة ورثناه عن عهد الفراعنة، فكنا نقرن الشعر بذكريات ذلك المجد التليد، ونرفع الشاعر إلى مكان الوحي والكهانة، وسبب ذلك كما ذكرناه ببعض التفصيل في مقالاتنا عن «الشعر في مصر» أن الكهانة الفرعونية استأثرت بالوحي وتقديس البطولة؛ لأنها نشأت في ظل دولة قوية عريقة فلم تترك معها متنفسًا لوحي الشعر، ومناجاة البطولة الشعبية، وانحصر النظم في أغراض صغيرة قلما ترتفع إلى سمائه العالية الرحيبة، فلا تاريخنا القديم ولا تاريخنا الحديث يرفعان الشعر إلى المقام الذي نريده له اليوم، وهو مقام الإلهام والإلهية ومقام الرسول الذي يفضي إلى الناس بأسرار الحياة وعجائب الطبيعة، وإذا أنت هبطت بموضع إنسان ولم تنتظر عنده الشيء الكثير فقد أعفيته من الكلفة، وأرحته من كل عناء، ناهيك بعناء الدرس والثقافة! وهذه هي الآفة المصرية الخاصة التي نرجو أن ننجو منها؛ لنعلم أننا نجد ونعلو إلى مقام الصلاة حين نقرأ الشعر، ونستطلع إلهامه، ولسنا نلهو أو نعبث بنديم مجلس لا شأن له ولا وقار.

وأما العوامل الشخصية فيعرفها الذين يعرفون أشخاص شعرائنا الجامدين ووسائلهم التي يتوسلون بها إلى خداع الجمهور القارئ، وإسكات الناقدين! فلولا الرشوة والدسائس الخبيثة لما انساقت الصحافة في تيار الخداع والتستر، ولا ضربت الغفلة المدبرة على أنظار سواد القراء، ولولا أن أناسًا قليلين استطاعوا أن يفكوا عنهم قيود الرشوة فحطموا هذا الرصد الكاذب القائم على الكهف الأجوف من ورائه لبقي الناس مخدوعين فيه إلى أن يشاء الله.

هذه عوامل شتى من شئون العالم وشئون مصر وشئون الجامدين المدلسين تصطف كلها في وجه كل شاعر مصري يسمو بالشعر إلى مكانه، ويُبْرِئُ الأدب عما يشينه، فهو يأتي حين يفلح بالمعجزة القاهرة، ويولي حين يخفق بعذر لا يجهله من يريد أن يعرفه، ولا نظن شاعرًا في أمم الأرض تجرد لعمل أصعب مراسًا، وأقل فائدة من عمل الشاعر المصري المجدد في هذا الزمن النثري في كل شيء.

١  ٩ سبتمبر سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤