البطولة١

على ذكر سعد

من هو البطل؟! لا نريد أن نستوحي جواب هذا السؤال من أقوال المؤرخين وعلماء النفس ورجال المعرفة والأدب، وإنما نريد أن نستمع إلى أقوال العامة الذين يحسون البطولة، ويؤمنون بها ولا يقرءون الكتب أو يبحثون في موضوعاتها، فإذا سألت هؤلاء من هو البطل؟! فيغلب أن تسمع منهم جوابًا واحدًا هو أشبع الأجوبة وأخطؤها، أو هو خطأ لأنه يصف لك البطولة من ناحية بارزة فيها كدأب العامة ومن لا يتكلفون النقد والمقابلة، ثم هو يدع نواحيها الأخرى ومراميها فلا يبقي لها بالًا ولا يظن أن لها شأنًا في تقدير البطولة و«تكوين» الأبطال، ذلك الجواب الشائع الخاطئ هو أن البطل من لا يخاف، وفلان بطل عندهم؛ أي إنه مقتحم هجام لا يبالي العواقب، ولا يرتدع عند خطر، وتلك الصفة الغالبة للبطولة في رأي الأكثرين.

أما أن البطل شجاع فهذا صحيح لا غبار عليه، وأما أنه لا يخاف فهنا موضع النظر والتأمل؛ لأن الشجاعة ليست هي عدم الخوف وإنما هي التغلب على الخوف، وليست هي نقيض العقل والحكمة وإنما هي نقيض الجبن والضعف، فرب رجل لا يبالي الخطر يكون اقتحامه جهلًا بالخطر وغفلة عن العواقب، ويشبه في هجومه على الأمور حيوانًا يثب على فريسته كما يندفع الحجر ألقت به يد قوية فهو لا يملك الجمود في مكانه، وإنما الشجاعة الإنسانية التي تشرف هذا الإنسان وترفعه إلى مقام البطولة هي أن تعرف الخوف ثم تكون أنت أكبر منه وأقوى من أن تستكين له وتنكل عن قصدك لأجله، فالبطل يخاف ولكنه لا يستسلم لخوفه، وربما كان في إقدامه ضرب من الخوف أعلى من هذا الذي يفهمه السواد، كخوف الضمير أو خوف الصغر في نظر نفسه، أو خوف العار على الأقل وهو ضرب نبيل شائع بين الناس أكثر من شيوع خوف الضمير، أو خوف حساب الإنسان لنفسه.

قد تسمع جوابًا آخر على سؤالك من سواد الناس وأشباه السواد، فيقولون لك: إن البطل هو من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، ويكونون أيضًا على صواب في هذا الجواب من ناحية واحدة وعلى خطأ كثير من نواحي عدة. إذ البطل قد ينهزم كثيرًا في ميدان جهاده بل هو قد يؤثر الهزيمة أحيانًا على الظفر؛ لأنه لا يحارب بكل سلاح ولا ينشد كل غاية، وليس من النادر بين الأبطال من ماتوا مهزومين في عصرهم وغالبهم أناس دونهم في العظمة والبطولة أو ليسوا من العظمة والبطولة على شيء؛ وكأي من هزيمة هي أشرف من نصر يجيء بذميم الوسائل وحقيرها، ويكون محصورًا موقوتًا لا نفع فيه لأحد ولا أثر له بعد حينه، ولعل الأصح هنا أن يقال: إن البطل من يغلب نفسه ويقوى على شهواته، لا من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، فإذا وقف البطل بين فتنة الطمع والغواية، وفتنة الحرب والسطوة، فخطر الأولى عليه أكبر من خطر الثانية، وحاجته إلى البطولة التي يقمع بها قسوة نفسه أعظم من حاجته إلى البطولة التي يصرع بها قوة خصمه، فليست الغلبة في كل حال هي شأن البطل، وإنما تطلب منه الغلبة على النفس أحيانًا، كما تطلب منه الغلبة على الخصوم.

أوسع من هؤلاء نظرًا وأرفع نفوسًا من يصفون البطولة بصفة غير الاقتحام والغلبة، وهي صفة الإيثار وقلة الحرص والأنانية، ولكننا نحب أن نقول هنا: إن الأثرة والإيثار خلتان تلتقيان كثيرًا في أجواء العظمة وميادين «المصالح الكبيرة»، فمن الإيثار في هذه الأجواء والميادين ما هو أثرة بارزة، ومن الأثرة ما هو إيثار محمود. وصاحب الشريعة الذي يفرض على الإنسان أن يؤمن بشرعه أو لا يرى له حقًّا في الحياة ماذا تسمى فريضته تلك إلا أنانية لا أنانية بعدها، وأثرة تفوق كل أثرة؟ تسميها أنانية وأثرة بلا مراء، ولكنك لا يسعك أن تفرق بينها وبين الإيثار في سبيلها، ولا تدري كيف يكون هذا الرجل مؤثرًا أو غير مستأثر إذا هو أراد أن يكون، والعظيم — مذ كان عمله يتناول الأمة بأسرها أو يتناول الدنيا بجملتها — يخدم الناس ويبرهم ويؤثرهم على نفسه حين يخدم وطره، ويحرص على إنجاز عمله، فالأنانية هنا قوة تلهب الغيرة في قلب العظيم لمنفعة الناس لا لمنفعته، وهي خديعة طبيعية تخدعه بها الفطرة كما تخدع الأحياء باللذة التي يجدونها في تخليد النوع وحفظه من الفناء، ولو أنك فرضت على العظيم الذي هذا خلته أن يصبح أنانيًّا بغير هذه الأنانية النافعة، لما استطاع ولا قدر على أن ينصف نفسه من تلك القوة التي تسخره وتوهمه أنها تأجره على ما يعمل ولا أجر له على هذا العناء، ولو جردته من هذا الخلق لجردته من شيء يتعبه هو وينفع الآخرين وبلغته الراحة التي كانت تعز عليه وحرمت الناس جهده ونصبه الذي كانوا ينعمون به؛ ولسنا نقول: إن الفرق معدوم بين الأنانية والإيثار في الأبطال والعظماء، فإن من هؤلاء أناسًا يوصفون بهذه الخلة وأناسًا يوصفون بتلك، ومنهم أناس إذا تعارضت الدوافع الذاتية والدوافع الغيرية اختلف المسلك بينهما على حسب اختلافهم في الطبائع والميول، ولكنا نقول: إن الأنانية لا تحرم البطل بطولته إذا نزل بها في ميدان العمل الكبير ومستبق الهمم الجسام.

وربما قيل بعد هذا: إن البطولة إذن هي العمل الكبير الذي يغير صفحة التاريخ ويحول مجرى الحوادث، ويكون له دوي على رأي أبي الطيب كتداول الأنامل العشر في الآذان، نقول «لا» مرة أخرى؛ لأن هذا الخلط بين العظمة والبطولة وهما غير سواء في العالم والسمات، فقد يكون الرجل عظيمًا وليس هو ببطل، وقد يكون بطلًا صغيرًا لا ينعت بالعظيم، وتيمورلنك قد غير صفحة التاريخ، وحول مجرى الحوادث، بل نعتقد نحن أن له فضلًا على حضارة اليوم لعلنا كنا فاقديه لو لم يظهر لغاراته أثر في الوجود، فهو الذي أجلى الترك عن بلادهم وهو الذي جر بذلك إلى فتح القسطنطينية، فانتشار النهضة، فالتماس المسالك إلى الهند حول إفريقية فتسابق الأمم في العلم والسياحة، وفنون الحرب والسلام، فهو ذو حصة في حضارة اليوم ترجح على حصص الكثيرين من ذوي الشهرة بالخير والسمعة بالتعمير، ولكن هل ننظم تيمور لنك في أبطال الإنسانية لأنه عظيم الجهود أو عظيم الأثر في الدنيا؟ كلا، فقد يعد الرجل في العظماء ولكنه لا يعد في الأبطال، ولا خطر لأحد أن يعده في هؤلاء.

وها نحن قد رأينا أن الشجاعة وحدها لا تهم في تكميل البطولة، وإنما الذي يهم هو غرض الشجاعة، وأن الغلبة كذلك لا تشهد بالبطولة، وإنما الذي يشهد لها الميدان الذي يحرز فيه الغلبة، وأن الأنانية لا تنقض البطولة؛ لأنك قد تجعل الخير مطلبًا أنانيًّا فأنت إذن خادم نفسك وخادم الناس من طريق نفسك، وأن العظمة ليست هي البطولة؛ لأن العظمة صفة مشاعة بين الخير والشر والنفع والإيذاء، فخلاصة ما تقدم أن للبطولة سبيلًا هو ذاك الذي يعنينا منها وذاك الذي يميزها من العظمة والإيثار والغلبة والشجاعة، وكأننا نقول بعد هذا: إن البطولة هي التضحية ثم إنها هي التضحية في سبيل الآخرين.

إن البطولة والاستشهاد بمعنى واحد، فإذا قيل لك: إن فلانًا بطل فاسأل هل هو شهيد؟ فإذا سمعت نعم فهو البطل عظم أو صغر، وإلا فاختر له صفة غيرها؛ لأن الشهادة عنصر لا تقوم بطولة بغيره، وليست البطولة على هذا بالشيء النادر بين الناس، فإن كل إنسان بطل في صفة من صفاته وفي ساعة من ساعاته، فالأم التي تسهر الليل وتضني وتهلك وتصبر على الشظف والهوان؛ من أجل ذلك المخلوق الضعيف الذي تسميه ابنها، والذي يجهلها ولا يجزيها ولا يدفع عنها ولا عن نفسه هي آية بطولة كريمة، ومثل تخر له الجباه وتسخو له النفوس بالعطف والتنزيه، ولكنه بعد مثل قديم مشترك بين جميع الناس، بل مشترك بين جميع الأحياء لا فضل فيه لمخلوق على مخلوق، ولا لامرأة على امرأة إلا في العوارض والنوافل، والمحب الذي يشقى ليسعد حبيبه وينصب ليعلم أن في النصب راحة لمعشوقه، ويستطيب العذاب في عاطفته والشدة في خلوص طويته هو آية أخرى، ولكنه كذلك آية مشتركة لا يندر مثلها ولا تخشى الإنسانية من نفادها، والحارس الذي يستهدف للموت لينقذ قطارًا يوشك أن يتردى في العطب أو مدينة يوشك أن يدهمها العدو، أو غريقًا يوشك أن يلتهمه الماء هو آية أخرى أندر من ذينك المثلين، ولكنها لا يندر أن تشاهد في بعض الحيوانات الوفية، أو بعض النفوس التي لا يرجى منها خير كبير للإنسانية، والطيار الذي يغامر بالحياة في الجو العصي يذلل صعابه ويفتح فجاجه بطل يجور على نفسه ويوسع للناس آفاق الحياة، ولكنه لا يسمو إلى أفق عال من البطولة؛ لأنه إنما يغلب خوفًا مألوفًا في قلبه، وليس هذا الخوف بأغرب ما يتقى، ولا بأهول ما يخاف على الأبطال، فأنت ترى أن البطولة على هذا ليست من الندرة بحيث يظنها السواد، ولكنما البطولة العظيمة هي تلك المنحة النادرة بين هذه الخلائق، كندرة كل شيء عظيم، ولو لم يكن في الدنيا إلا الأبطال العظماء، لما أوجدوا عليها شيئًا، وليس من حولهم من يلبي بطولتهم، ويجاوب أريحيتهم، وينجذب إلى ذلك العنصر فيهم، كما ينجذب الجرم الصغير إلى الجرم الكبير، فهذه البطولة في كل إنسان هي التي تستجيب الدعوة إذا أهيب بها وتنهض للفداء إذا أصابت من ينسيها صغائرها، ومن ثم تلك الفورات العجيبة في الشعوب تثور في أيام وتخمد في أيام أخرى، فلا يثيرها الخطر ولا المبدأ ولا الحض ولا التأنيب؛ لأنهما إنما تنتظر البطولة التي تخاطبها بلسانها فتهب من قرارات الصدور.

فالأبطال درجات والأبطال ضروب وشكول، وكما يوجد البطل الصغير والبطل الكبير، يوجد كذلك البطل الوطني والبطل الديني والبطل العالم والبطل المستكشف، وهذا الذي يعيش بين الجماهير وذاك الذي يعكف على العزلة، وذلك الذي يجوب الأرض ولا يستقر له قرار وأولئك الذين يتباينون في خصال شتى، ويختلفون بينهم اختلاف النقيض من النقيض ولا تجمعهم كلهم إلا جامعة البطولة، فلا تصدق من يقول لك: إن البطل لن يكون إلا جهمًا عسوفًا ولا من يقول لك: إنه لن يكون إلا بشوشًا صبورًا، أو جادًّا صعيبًا، أو فكهًا مداعبًا، أو غازيًا، أو مؤاسيًا، أو غرًّا، أو داهيًا، أو غير ذلك من الشرائط التي يتمحلها بعض وصاف البطولة وحاصري حدودها ومزاياها، فالحق من كل هذا أن البطولة هي الفداء، وأن البطولة العظيمة هي الفداء العظيم، وأن عنصر التضحية هو أن يكون الإنسان منظورًا في خلائقه وسجاياه إلى غيره فكلما كان ذلك الغير أكبر عددًا، وأشرف قدرًا، وأبقى أثرًا، كان عنصر التضحية أجل وأكرم وأغلى وأقوم، وكان هذا هو مناط التفاضل بين الأبطال من جميع الدرجات والشكول.

وللتضحية مقاييس أخرى في باطن النفس غير ذلك المقياس الذي يظهر في خارجها، ويرجع فيه إلى الناس وما يصيبون من بطول البطل وجهاد الشهيد، ذلك المقياس نعرفه حين نعرف التضحية ونتفق على معناها، فهي كما نفهمها نحن الغلبة على الخوف، أو الغلبة على الأمل، والمقياس الذي يفرق بين درجاتها وشكولها هو — على هذا — المقياس الذي يفرق بين ضروب المخاوف وضروب الآمال، فمن الخوف ما يغلبه المرء ببادرة واحدة، تثب إلى رأسه فإذا ذلك الخوف صارع أو صريع، وانتهت الوقعة بهذه الوثبة الواحدة، فليس لها عليه كرة تعود، وأن الذي يبخع نفسه ليستطيع أن يثب هذه الوثبة فلا يدل على كبير شيء، ولا يكون له قسط من دعوى البطولة، وإن شبيهًا بهذا لمن يغلب خوف الموت مرة واحدة أو مرات بوثبة من تلكم الوثبات الفجائية أيًّا كان باعثها والأمل الذي وراءها، فتلك هي بطولة النوبات أو بطولة الفداء الطارئ يساور القلب في الفينة بعد الفينة، ولا يشف عن قدرة دائمة وخلق أصيل، ومن الخوف ما يطول أمده ولكنه لا يحتاج إلى قدرة عظيمة لجهاده، فهذا الخوف أو ذاك دليل على عنصر البطولة التي تغلبه، أو تروضه على الطاعة والسكوت.

وقد يعرض على الإنسان مبلغ من المال ليبيع وطنًا أو عرضًا أو حقًّا، فيجمع قوة نفسه ويقهر غواية المال وفتنة السرور واللذة، ويقول كلمته الرافضة وكأنه مغمض العينين أو في غيبوبة السكر والحمية، فضيلة هذه القوة لا تنكر ولكنها مع هذا فضيلة لها حدها وقيمتها وتعلوها ولا شك درجات كثيرة من الفضائل وقوى النفوس تعلوها مثلًا تلك القوة التي تصر على الإباء، والإغواء ملح عليها والحوادث تتقلب حولها، والفاقة والغنى يتعاورانها واللين والشدة يتناوبانها، وتعلوها كل قوة مطمئنة تقهر التجارب والغوايات التي تطيف بها أبدًا علها تجد عندها غرة للتطلع، أو موطنًا ضعيفًا للتسليم.

إن الرجال الذين يخافون على أممهم الذل ويرجون لها العزة، أو الذين يخافون على العالم قاطبة أن يرين عليه الرجس، ويرجون له الخلاص والرفعة، أو يخافون عليه الظلام والجهالة، ويرجون له النور والمعرفة، إن هؤلاء الذين يخافون ذلك الخوف، ويرجون ذلك الرجاء ثم يثبتون على محنة المطامع والآلام أعوامًا طوالًا لا يلوي بهم جاه، ولا تقعد بهم رهبة، ولا ينسون الأمة والعالم في مآزق الهول ومدارج الغواية، أولئك هم عظماء الأبطال في تاريخ بني الإنسان وأولئك هم شرف الآدمية وعزاء الحياة، والمعنى الذي تطيب من أجله الأرض وتنظر من صوبه السماء.

ومن هؤلاء كان سعد زغلول.

١  ٢٣ سبتمبر سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤