الوطنية (١)١

الوطن موجود لا شك فيه، وفي العالم أوطان كثيرة وشعور حق بالوطنية لا يتوقف الاعتراف به على النفاذ إلى كنهه واستقصاء منشأه والبحث في فائدته وضرره، فمن الآن إلى أن يتفق الساسة والباحثون على معنى الوطن وحدوده، لا حاجة بنا إلى إلغاء الوطنية أو الإغضاء عن وجودها، ولا موجب لإرجاء حركة من حركاتها في انتظار تلك النتيجة التي سيتفق عليها فلاسفة السياسة والاجتماع أو لا يتفقون!

الوطن موجود الآن لا شك فيه، ولكنهم يقولون: إنه لم يكن موجودًا من قديم الزمان، بل لم يكن موجودًا قبل نصف قرن من الزمان، فالحقوق الوطنية وحرية الأوطان والمطالب القومية وحرمات الأقوام كل هذه وما إليها ألفاظ حديثة في معاجم المؤلفين، لا تعثر بها في كتاب قبل الثورة الفرنسية، وإذا عثرت بها في كتاب سابق للثورة، فهي كلمات عندهم لا تفيد معناها الذي اصطلحنا عليه الآن، يقولون هذا ولكنهم لا ينفون به كثيرًا؛ لأن الوطنية إن هي إلا نوع من «العصبية» عرفناه بهذا الاسم في العصر الحديث، وما كانت الإنسانية قط في عصورها الماضية خلوًّا من بعض أنواعها بأسماء تختلف في ظواهرها، ولا تختلف في جواهرها إلا قليل اختلاف، فعصبية القبلية، وعصبية الجنس، وعصبية اللغة، وعصبية الدين، كلها دليل على أن الوطنية — من ناحية العصبية فيها — ليست بالابتكار الذي لفقه الخياليون أتباع الثورات ودعاة النهضات، ولو كان الناس يعرفون أسماء عواطفهم وغرائزهم قبل المضي فيها والانقياد لها لقلنا: إن الوطنية ينبغي أن تكون حدثًا طارئًا؛ لأنهم لم يسمعوا بها إلا في هذه السنين ولم يتفقوا بعد على ما تعنيه وما لا تعنيه؛ ولكن الناس لم يتفقوا قط على جامعة من الجامعات الأولى التي سيرت حشودهم، وأقامت دولهم، وقلبت أطوارهم، ولم يتعودوا أن يفرزوا وشائج العصبيات ليعرفوا منابتها وطرائقها، قبل أن يكونوا أبناء قبيلة أو أبناء لغة أو أبناء دين أو أبناء وطن، فالأمر الذي لا شبهة فيه هو أن العصبية قديمة، وأنها لم تغب من تاريخ الإنسانية، ولم تزل هي المحور الذي تدور عليه علاقات الدول والشعوب.

كثرت بعد الحرب العظمى دعوات الوطنية، وكثرت بعدها كذلك دعوة أخرى تشكك في الوطنية وتنزع إلى توهينها وإضعاف شأنها، ولا سيما في نفوس الشعوب الطامحة إلى الحرية، هذه «الدعوة الأخرى» هي دعوة «الدولية» أو الأممية، أو هي الدعوة إلى أن تكون كل أمة وحدة في أمم كثيرة تتكافل معًا في الصالح والآمال، وتنزل كل منها عن جزء من حريتها لضمان التعاون والاتفاق، والمشاهد في أمر هذه الدعوة أنها لا تروج ولا تشتد إلا من جانب الأمم التي استوفت جميع معالم الوطنية وصنوفها، ولا ينتظر من دخولها في الاتفاق إلا أن تجور على الوطنيات الأخرى، وتحد من حريتها ومطامحها، فدعاة الأممية اليوم هم أبناء الأمم الغالبة التي تستفيد كل شيء من هذه الدعوة، ولا تخسر شيئًا في سبيلها، وهذه ظاهرة لا تزكي الدعوة ولا تستميل إليها المدعوين.

ومن كتاب الأمم المقتدرين في هذا العهد رامزي موير، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر، هذا الأستاذ عالم مؤرخ، ولكنه مبشر إنجليزي يسخر العلم والتاريخ في خدمة الدولة البريطانية، فأنت تقرأ كتابه عن «الوطنية والأممية»، فتحار أين هي الضحية التي تجرد بها إنجلترا على مذبح «الخلاص» المنتظر والوفاق السعيد الرشيد، فكأن بني الإنسان لم يمنحوا قسطهم من الرشاد، ولم يلهموا نزعتهم إلى الأممية إلا لتكون إنجلترا هي رأس الأمم، وهي جابية الأرض إلى موعد لا نعلم منتهاه، وقد يكون هذا هو رأي العالم الإنجليزي، ولكنه لن يكون رأي العلم ولا رأي وطنية أخرى غير وطنية الإنجليز.

يتكلم الأستاذ رامزي كلام العالم المحقق، حين يبحث في معاني الوطنية وتعريفاتها، لولا أنه اتخذ له وجهة غير وجهة العالم من مبدأ الأمر، فلم يتأد به البحث إلى النتيجة البريئة من الأهواء، ونحن نعيد استعراضه لهذه المعاني والتعريفات؛ لأنه استعراض واف لم نقرأ خيرًا منه في سياقه، ولكننا لا نتخذ معه تلك الوجهة التي أملتها عليه «الوطنية» وهو يعالج أن يهون من شأنها ما استطاع! فهو يسأل: «ماذا نعني بكلمة الأمة!» ثم يجيب: «أنها كما هو ظاهر ليست الشيء الذي نعنيه بكلمة الجنس، ولا الشيء الذي نعنيه بكلمة الدولة، وقد نعرفها الآن بأنها بنية من أناس يحسون أنهم مترابطون بالطبع فيما بينهم بروابط من القوة والصدق، بحيث يعيشون معًا سعداء، ويسخطون إذا فرق بينهم، ولا يطيقون الإذعان لأناس لا يشركونهم في هذه الروابط.

ولكن ما هي روابط الألفة التي لا بد منها لتكوين أمة! إن الإقامة في بقعة جغرافية ذات معالم مقصورة عليها، هي في الغالب معدودة بين تلك الروابط، ولا ريب في أن أوضح الأمم سمات ومعالم كانت لها فيما بينها وحدة جغرافية، وكان الفضل في قوميتها أكثر الأحوال لتلك الوحدة ولذلك الحب الذي يشعرون به للتربة التي درجوا عليها، ولمشاهد الطبيعة التي ألفوها. على أن الوحدة الجغرافية ليست على كل حال بالشرط الجوهري للقومية، ومن السهل أن نرى أمة مبعثرة الموطن في بقاع تختلف أشد الاختلاف كالأمة الإغريقية، وهي مع هذا على شعور قوي بالوطنية، كما أن حدود بعض الأمم ذوات النزعة الوطنية البارزة ليست بالحدود التي تميزها المعالم الأرضية، فالبولونيون مثلًا، وهم أبناء أمة من أشد الأمم الأوربية غيرة على الوطن وإصرارًا على الحمية الوطنية، يقيمون في أرض ليس لها معالم واضحة من أية جهة من جهاتها، والفاصل بين الأرض الفرنسية والأرض الجرمانية فاصل اتفاقي من معظم نواحيه، في حين أن الوحدة الجغرافية الحقيقية على السهل المجرى الذي تحدق به مناطق الجبال، ويتخلله نظام نهري واحد لم تفلح في إنشاء وحدة قومية، فالوحدة الجغرافية ربما ساعدت على تكوين أمة، ولكنها ليست بالضرورة ولا هي بألزم عناصر القومية.

ندع هذا، ونلتفت إلى الوحدة الجنسية، فقد طالما حسبوها لازمة بل حسبوها أنها هي العنصر اللازم للقومية، ومع هذا لا نرى أمة على الأرض تخلو من مزيج الأجناس، ولم يسبق قط أن كان في الدنيا جنس — تيوتون أو سلافًا أو قلتا — أفلح في ضم أفراده جميعًا إلى آصرة قومية واحدة. إنما يكفي أن تنسى العناصر التي تتألف منها الأمة أصولها المختلفة، وألا يفصلهم فيما بينهم فاصل ظاهر الرسوم والسمات، أو لنا أن نقول: إن امتزاج الأجناس لا يمنع الأمة أن تنمو فيها روح قومية ما دامت أجناسها مدمجة فيها مشتركة بروابط الزواج والروابط الأخرى، وإنما يعوق الروح القومية أن يكون بين أجناس الأمة جنس يتعالى على سائرها، ويعتقد لنفسه التفوق والسيادة عليها، وأن يتمثل هذا الاعتقاد في أحكام الشريعة أو العادة. وربما كانت أجناس المجر خليقة أن تنطوي في قومية واحدة، لو لم يعتزلها المجريون من مبدأ الأمر، ويترفعوا عن رعاياهم السلافيين والرومانيين، ولقد كانت العقبة الكبرى في طريق القومية الهندية قانون الطبقات الصارم الذي أقامه الآريون حائلًا بينهم وبين الاختلاط بجمهور رعاياهم، وهناك عنصر ثالث للوطنية أخطر كثيرًا من عنصر الجنس وهو الوحدة اللغوية، فمما لا جدال فيه أن وحدة اللغة رابطة من أهم الروابط ولا سيما من حيث إن ملامح اللغة وشياتها لها سلطان كبير في ملامح الأفكار وشيات الميول بين الذين يتكلمون بها، فإن اللغة المشتركة معناها أيضًا الآداب المشتركة، والمطامح الفكرية المشتركة، وميراث مشترك من الأغاني والقصص يتضمن الروح القومية وينفثها في كل جيل، على أن وحدة اللغة لا يلزم أن تجب الوحدة القومية، واختلاف اللغة لا يلزم أن يمنع تلك الوحدة، فاللغة الإسبانية فاشية في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، ولكن هذه البلاد قد فقدت منذ عهد طويل كل شعور يجنح بها إلى الدخول في طي القومية الإسبانية، وكذلك الأمريكيون الشماليون يتكلمون الإنجليزية وهم قومية مستقلة كل الاستقلال، وينحو الأستراليون والكنديون هذا النحو في الشعور بالقومية المستقلة، وإلى جانب هذا نرى الأيقوسيين أمة، وإن كان بعضهم يتكلم الإنجليزية، ونرى السويسريين أمة، وإن لم تكن لهم لغة خاصة ولم يزالوا موزعين بين الفرنسية والجرمانية والإيطالية، ونرى البلجيك أمة وإن كانوا يتكلمون الفلمنكية والفرنسية والجرمانية، فوحدة اللغة بهذه المثابة ليست بالضرورة لنمو القومية المحتومة، ولا هي كافية وحدها لإتمامها على كل ما لها من القوة البنائية في إنشاء الأقوام.

ولقد عُدَّت وحدة الدين أحيانًا عاملًا من عوامل القومية، ورأينا أحوالًا لا شك أن الدين كان فيها أحد العوامل القومية القوية، ومن هذا أن النزعة القومية في إسكتلاندة قد تُعزى إلى جون نوكس أكثر من أي عامل آخر على انفراد، إلا أن الدين وحده يندر أن يخلق أمة إن لم نقل إنه لم يكن قط كافيًا لخلقها، وما برح الإخفاق يصيب كل محاولة ترمي إلى بناء الوحدة السياسية على أساس الوحدة الدينية، فربما كان الأقرب أن يقال إن الشقاق الديني يعوق الألفة القومية كما حدث بين الهولنديين والبلجيكيين، إذ استحال عليهما الانضواء إلى دولة واحدة لما بينهما من اختلاف العقيدة الدينية، وإلا فإن البلجيكيين يختلفون فيما بينهم لغة وجنسًا أشد من مخالفة بعضهم للهولنديين في هذه الأمور، وقد كان تفرق المذهب هو العقبة الكبرى في طريق الحركة الوطنية في أيرلندة كما كان تفرق المذهب بين الكاثوليك والمنشقين في الأمة البولونية أحد الأسباب التي هوت بتلك الأمة، بيد أن هناك أحوالًا أخرى لا تقل عن هذه لم تمنع فيها الخلافات الدينية العميقة وحدة القومية، فألمانيا نصفها بروتستانتي ونصفها كاثوليكي، وإنجلترا لم تعرف وحدة الدين بعد عهد الإصلاح، وها هي الحرية الدينية الكاملة في جميع أمم الغرب تحسب اليوم من علامات الدولة المتمدنة. غير أننا لا ننسى أن الوحدة الدينية في بعض الحالات تصبح عاملًا لا غنى عنه في إنشاء القومية، إذ إن المدارك الأدبية والعقيدة الأساسية عن مكان الإنسان في هذا العالم وواجباته لجيرانه، يجب أن لا تكون من التفرق بحيث يستحيل معها أو يصعب التفاهم جدًّا بين أبناء الأمة الواحدة، ولهذا كان الخلاف الجوهري بين نظر المسلم ونظر المسيحي في الدولة العثمانية حائلًا، جعل نمو الروح القومي بين أبنائها من الأمور التي لا تحتمل الحصول.

… وكثيرًا ما نجم عن طول الخضوع لحكومة وطيدة النظام — بل الخضوع حتى للحكومة لطاغية — أن تتولد الحاسة القومية، وبخاصة إذا استطاعت الحكومة أن تبني بين رعاياها نظام عدل ومساواة، يقبلونه ويدخلونه في شئونهم المعيشية، ولا نزاع في أن سيطرة الملوك النورمانيين والإنجيليين ونظام العدل العجيب الذي بسطوه بين رعاياهم كان عاملًا رئيسيًّا في ضم الشعوب الإنجليزية، واندماجها في أمة شاعرة بالحساسة القومية، وكذلك القومية الفرنسية مدينة بمثل هذا الفضل لحكومة ملوكها المستبدين، من عهد فيليب أغسطوس فنازلًا، ولم تتألف الوحدة الإسبانية إلا بفضل الملكين المستبدين شارل الخامس وفيليب الثاني، ومما يستحق التنويه أن فكرة القومية لم تسنح قط لأهل الهند، إلا بعد أن دانوا جميعًا للحكومة الراسخة والإدارة القانونية المنظمة، التي جاءت مع السيطرة البريطانية، على أن مجرد الاشتراك في الحكومة بالغًا ما بلغ من النظام لن يأتي بوحدة القومية، ولا بد أن يسبق ذلك عناصر أخرى وروابط طبيعية من هذا النوع أو ذاك؛ لكي تخلق مؤهلات الأمة قبل أن يتسنى للقوانين المنظمة أن تخلق فيها الوحدة.

والآن في هذه الأيام — حيث لا يزال الزي الغالب على التفكير أن نرد جميع حركات النفوس الآدمية إلى أسباب اقتصادية — نسمع أحيانًا من يقول إن الاشتراك في المصالح والشواغل وما يحدثانه من تشابه النظر إلى الحياة، هو على الأقل عامل فعال في إنشاء القومية إن لم يكن هو العامل الأول والأخير فيها، ولا ننكر أن بعض الأمثلة قد يؤيد هذا الرأي في أمم صغيرة كالدنمرك وهولندا، ولكن هذا الرأي لا يثبت على الامتحان؛ لأنه لا اشتراك في المصالح الاقتصادية بين فلاح دورست والعامل في لانكشير، أو بين زارع الخمر في بروفنس والعامل في ليل. على نقيض ذلك تتصل مصلحة العامل في ليل بالألماني أكثر من اتصالها بابن بروفنس، والزارع في روسيا الشرقية هو من الوجهة الاقتصادية، أقرب إلى قريبه المنكور في بولونيا منه إلى العامل السكسوني، ولا يخفى أن سياسة الحكومة المالية ربما ساعدت على تمكين الوطنية، إلا أنها لا تنجح في ذلك إلا حيث تجري في أمة لها عهد بالوطنية المسكينة.

والمرجح عندنا أن أقوى عوامل القومية طرًّا — أي العامل الضروري الذي لا مناص من وجوده إذا غاب كل عامل سواه — هو الاشتراك في التراث التاريخي بين طائفة من الناس، أو الاشتراك في ذكريات آلام صبروا عليها، ومفاخر ظفروا بها ومثلوها في القصص والأناشيد، وفي الأسماء الغالية أسماء شخوص أعزاء كأنما جمعوا في أنفسهم خصال الأمة ومطامحها وما كانت وطنية الجبليين الجفاة في الصرب — وهي تلك التي لا تهدم — مدينة لشيء من الجنس واللغة والدين كما هي مدينة لذكرى استيفان دوشان المجيدة، ولذكرى كوسوفو الفاجعة والقرون الأربعة التي انقضت بعدها في رق العبودية، ولكن يحسن بنا أن نذكر هنا أن صلات كثيرة حديثة تدخل فيها الأمم بمحض اختيارنا للتعاون على غاية جليلة، ولا تقل عن تلك الصلات في التوحيد والتأليف، فإذا دخلت فيها الأمم ظهرت لها قومية كأنها فوق القومية تضمهن جميعًا، ولا تمحو القوميات الأولى، ومن هذا القبيل قومية بريطانيا التي تشمل قوميات إنجلترا وويلس وإسكتلاندة وأيرلندة، ومن هذا القبيل أيضًا قد تنمو — بل هي تنمو الآن — تلك القومية الأعظم الأوسع بين جميع الداخلين في الإمبراطورية البريطانية، تلفهم معًا ضحاياهم المشتركة في جهادهم الأخير في سبيل الحرية.

ومن ثم؛ نرى أن الوطنية فكرة مراوغة، لا يسهل تحديدها، ولا يستطاع حصرها أو تحليلها بالصيغ التي يحبها أساتذة الألمان.»

١  ٣٠ سبتمبر سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤