شكسبير (٢)١

رواياته التمثيلية

كان من المستحيل على عبقرية شكسبير أن تستكمل ظهورها في أي فرع من فروع الشعر والأدب غير الرواية المسرحية، فهذه المعرفة الملهمة بالطبيعة الإنسانية، وهذه القدرة على تصوير الشخوص والمواقف، وهذه السليقة الجياشة بالعواطف والسرائر، وهذا الذهن الحي الذي يهتدي عفو البديهة إلى أخفى الخفايا وأصدق الحقائق، وهذا النظم الساحر الذي يبدع إبداعه في أرق الغزل، كما يبدعه في أهول الهول وأضخم المشاهد، كل هذه الملكات الكاملة في تلك القريحة النادرة ما كان لها من مجال تبرز فيه على أحسنها، وتستتم فيه قواها أفسح وأصلح من مجال الرواية المسرحية. ولو كانت الرواية القصصية قد راجت في عصر شكسبير رواجها في القرن الثامن عشر وما بعده، لكان محتملًا أن ينصرف إليها وأن يميل به ازدحام سابقته بالشخوص وحوادث الحياة إلى تأليف القصص واختراع الأبطال من الخيال أو من محفوظات التاريخ ونوادر أهل زمانه، ولكننا فيما نظن كنا نخسر «بداهة» شكسبير ووحي قريحته لو أنه اتجه هذا المتجه، وأخذ في تأليف قصصه على أساليب الروائيين الذين نعرفهم في الآداب الحديثة، فإن «الروائي» يشرح ويحلل وينظر نظرة المتفرج أو يدرس شخوصه دروس العالم المتفقه، أما شكسبير فلم يكن هذا ميدانه في رواياته المسرحية، وإنما كان يخلق الشخوص ويحيا حياتها من الداخل، ويجيئنا بها لنراها كما نرى الأحياء في هذه الدنيا، ونأخذ أخبارها من أقوالها وأفعالها كما نأخذها من وقائع الأيام وامتزاج الناس بالناس، فهو لا يقول لنا انظروا إلى «هاملت» كيف تضطرب عزيمته، ويختل صوابه، ويثقل رياء الناس على طبعه، وكيف يقول لكم هذا القول ليطابق ما صورته لكم من ذكائه، وطيب طويته، وتذبذب عزمه، بل يقول لنا هاكم «هاملت» فانظروا كيف هو واحكموا عليه كما تحكمون، وهو لا يشرح لنا «الشخوص» التي يمثلها، وإنما يضعها في مواضعها، ويمزج بين حياتنا وحياتها ثم يتركها لمن شاء أن يشرحها ويدرسها ويفهمها كما نفهم الرجال والنساء في مواقف الحياة، وهو لا يقص علينا ما صنعه أبطاله وما هم خليقون أن يصنعوه، وإنما يرينا إياهم وهم يصنعون ما يليق بهم ويصفون أنفسهم بألسنتهم وأعمالهم، وليس هذا مجال الدرس والتحليل، ولكنه مجال الخلق والإنشاء، أو ليس هو مجال القصة ولكنه مجال التمثيل.

كذلك لو انصرف شكسبير إلى نظم الشعر في الغزل والوصف والمغازي والوقائع لما ظهر لنا كاملًا ولا نصف كامل؛ لأن ملكات الذهن الإنساني ليست مما يشبه بالمصابيح الكهربائية التي يضيء سائرها إذا تعطل بعضها، ولكنها في هذا المعنى أشبه بخلايا الجسم الحي إذا سرت إلى بعضها جراثيم الفساد، أو علل الجمود، فقلما تسلم بقيتها من خطر العدوى أو خطر الإجهاد والإرهاق، فإذا طبع الذهن على أن يكون شاعرًا وناقدًا ومفكرًا معًا، فهو يكون مفكرًا ناقصًا إذا سدت عليه منافذ الشعر والنقد، وناقدًا ناقصًا إذا سدت عليه منافذ الشعر والتفكير، وشاعرًا ناقصًا إذا هو لم يستوف حظه من الملكتين الناقدة والمفكرة، فلو انقطع شكسبير للغزل مثلًا لأفسده عليه الفكر المعطل والطبيعة الواسعة حين تهم أن تظهر في الغزل ولا يتسع لها فيه سبيل الظهور، ولو انقطع للملاحم لجار فيه جانب القاص الراوية على جانب الخالق المصور على البداهة، ولو انقطع للتأمل لاختلط عليه الأمر بين الخلق والابتكار وبين النظر في أسبابه وأساليبه، فالمصادفة التي ساقت شكسبير إلى الكتابة المسرحية هي المصادفة التي أهدت شكسبير إلى العالم، وحفظت شكسبير من الضياع.

ومع هذا نحن لا نعلم كيف التفت الفلاح القروي إلى التمثيل، ولا كيف اتفقت هذه المصادفة التي أهدت إلى العالم أكبر شعرائه أجمعين، وكل ما نعلمه أن أباه كان يحب التمثيل ويعضده في بلده، وأنه هو كان ممثلًا ثم خطر له أن يؤلف للمسرح، فبدأ بمحاكاة بعض الشعراء المعاصرين ثم نبذ المحاكاة ورجع إلى سليقته فبلغ هذا الشأو الذي لم يبلغه سواه، أما كيف سيق إلى التمثيل فذلك سر مجهول لا ينكشف لنا من آثاره ولا كلام معاصريه، فقد قيل إنه اتهم في بلده بسرقة الغزلان وعاقبه على ذلك النبيل صاحب الحديقة التي سرق منها فهجاه ونجا بنفسه إلى لندن، ثم عمل هناك على أبواب المسارح يمسك الجياد للسادة والسيدات، ويعيش بين الممثلين ويتطلع إلى اليوم الذي يقف فيه على خشبة التمثيل، فإن كان هذا صحيحًا فقد كان وشيكًا أن يظل شكسبير سارق غزال وشاعر الناس أجمعين، فلم تكن سرقته بفعلة النذل الجبان يقعد به الكسل عن العمل الشريف فيستحل لنفسه متاع الآخرين، ولكنه اصطاد الغزال لأنه كان يحب الصيد، وينشط نشاط الفتوة في زمن كان الصيد فيه حرامًا على غير النبلاء، وأصحاب الضياع والآجام.

إن شكسبير لم يكن مفطورًا على التمثيل، ولا كان المسرح له إلا معرضًا للشخوص وكتابة الروايات، ولقد كان له نظر صائب في هذا الفن، وعلم بتقسيم الروايات كما كانوا يقسمونها في عصره، ولكنه لم يثق بتمثيله قط ولم تمنعه قدرته على اختيار الأدوار أن ينزل عن الدور الكبير في كل رواية لمن هو أقدر على الإجادة فيه. فكان وهو مالك المسرح ومؤلف «هاملت» وواضع ذلك الدور الذي يخيل إلى النقاد أنه كان أحب الأدوار إلى نفسه، يرضى أن يقوم في الرواية بدور «روسنكرانز»، ويدع تمثيل «هاملت» لبرباج ممثل المأساة المشهور في تلك الأيام، وذلك تواضع لا يدل إلا على إنصاف للنفس وللآخرين، أو على حكمة بصيرة بوجوه المصلحة والتدبير. أو على سأم من صناعة التمثيل، وكراهة لما كان يحيط بها من الهوان ويصيبه في جرائرها من عنت تأباه تلك النفس الكاملة وذلك الشعور الكريم.

ولا يعلم ناقد هل كان شكسبير يفضل الكتابة في المآسي، أو الكتابة في المهازل٢ وأشباهها من الروايات المحببة إلى الجماهير، ولكنك تقرأ قوله عن بولونيوس: «إنه لا يلذ إلا بحديث فجور أو مجون.» وشكواه من الجمهور الذي لا يفقه إلا الصراخ والجلبة ولا يعجب إلا بالتخايل والادعاء، ولا يحب إلا أن يضحك على السماع، فتفهم من هذه الشكوى التي أجراها على لسان هاملت أنه لم يكن يرضى عن الملاهي والمضحكات، ولم يكن ليكتب المهازل لولا رغبة النظارة في اللغط والترويح، ويرى الدكتور جونسون أن مهازل شكسبير تفوق مآسيه؛ لأنه يتهم شكسبير بالتهاون وقلة العناية، وهما بالهزل أنسب وإلى المواقف الخفيفة أقرب، ولكن جونسون أبعد الناس عن إنصاف الشاعر العظيم، وأدنى الناقدين إلى الخطأ في فهم ملكاته والفطنة إلى آياته، ومن الذي يقرأ قوله: «إن مهازله — مهازل شكسبير — تعجب بالفكرة واللغة ولكن مآسيه لا تعجب في أكثر الأحيان إلا بالحادثة والحركة. وإن مآسيه يلوح عليها الفطرة والإلهام» ثم لا يسرع إليه الريب في سداد هذا النظر الزائغ، وصحة هذا النقد الجزاف؟ فالحق أن مهازل شكسبير تدل على إجادة الرجل تمييز المضحكات، ومداعبة الطبائع الإنسانية، والعطف على ما فيها من مواطن الضعف والغرور، بل هي متحف لكثير من الشخوص العزيزة على القراء، المحببة إلى النظارة، الملطفة لقسوة الجد ومرارة الآثام، وكل هذه الشخوص لها نصيبها من الفطرة والإلهام كما يقول الدكتور جونسون، ولكنها لا تفوق في شيء من ذلك نصيب هاملت ولير وعطيل وياجو وريتشارد الثالث وأوفيليا وكليوبترة وجولييت وغيرهم وغيرهن من أبطال المآسي والتاريخيات، فإن البداهة التي ظهرت في تصوير هاته الشخوص الجدية لا تُفَاقُ في موقف آخر من مواقف شكسبير، ولسنا نقول كما قال هازلت إن الأستاذية التي أظهرها شكسبير في مهازله لا تقل عن أستاذيته في المآسي والتاريخيات، فإن رعاية الجمهور في هذه الروايات قد جنت عليها أحيانًا ما لم تجنه رعاية الجمهور على المآسي والتاريخيات، ولكنا نقول: إن في مهازل شكسبير مزية واحدة لا تكثر في مآسيه وتاريخياته، وهي قوة البطلات وبروزهن على الأبطال. فإذا استثنيا كليوبترة ولادي مكبث — ولا حيلة لشكسبير في هذا الاستثناء — فالنساء في الروايات الخفيفة أقوى وأقدر على الجملة من نساء «الجديات»، وهن كذلك محور تلك الروايات وذوات النصيب البارز من الأدوار، وتلك آية أخرى من آيات الإلهام في شاعر البداهة والنظر السليم؛ لأن نكبة المرأة الناعمة البريئة هي جوهر المأساة فلا بد من إظهار المرأة فيها على جانب من الخفض والرقة والعطف المرحوم لا يناسب القدرة والدهاء والادعاء، ولا حاجة إلى ذلك في الروايات الخفيفة أو المضحكة، بل ربما كان ظهور المرأة في هذه المواقف بالعلم والصلابة أدعى إلى التفكه والابتسام.
وليست مهازل شكسبير بالمهازل التي تقوم على نقد العادات الطارئة والمظاهر الاجتماعية الزائلة، فإن بداهة هذا الرجل تأبى أن تتعلق بشيء يزول، أو يقف على حواشي النفوس. إنما هي مهازل الطبائع التي لا تتغير، والعيوب التي تشاهد في كل أمة وفي كل زمان، والنظرة التي ينظر بها الشاعر إلى تلك الطبائع والعيوب نظرة الفطرة الرءوم، والنحيزة الكريمة، والعاطفة الحنون، فسخريته كما قال هازلت سيد النقاد الإنجليز: «تنقصها لذعة النكاية، ويندر أن تجد فيها إثارة من الضغن والحفيظة، حتى فلستاف تتجلى لنا أضحوكته العظيمة من جانب المرح العابث لا من جانب السخف المطبق.» ولعل هازلت على صواب حين يقول: «إن النقص في موحية muse تلك الروايات أنها هي طيبة كريمة، وأنها تعلو على اللاعب من الشكول، ولكنها لا تجد سرورها الأكبر في إنزال الطبيعة الإنسانية بأقصى ما يستطاع من منازل الخسة والسخف والزراية، وهذا هو الموضع الذي يعرض منه الخلاف بينها وبين مهازل العصور التالية، التي يقال إنها أظرف وأكيس، فهذه المهازل «الكيسة» إن هي إلا مهازل أبناء الزي والجديلة والشمائل المصطنعة.» وشكسبير لم تكن تعنيه هذه المضحكات الزائفة؛ لأنه أكرم من أن يعبث بالعبث الذي لا يحتاج إلى من يضحك منه، وأكبر من أن يغمره عصر ضائع في غمار العصور.
١  ١١ نوفمبر سنة ١٩٢٧.
٢  المهزلة لا تطابق معناها المقصود تمام المطابقة ولكنها أصح من الكوميديا التي معناها في الأصل «أنشودة عربدة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤