شكسبير وهاملت (٣)١

في شخصية «هاملت» دلالات كثيرة على شكسبير. بل لم يضع شكسبير على لسان أحد من أبطاله بقدر ما وضع من كلامه هو على لسان هاملت، فشكوى هاملت هي شكوى شكسبير نفسه من الناس والحياة ومن أبناء وطنه، ولهاملت في غضون بثه ونجواه كلام هو أخلق أن يجري على لسان الشاعر الممثل المتبرم، من أن يجري على لسان الأمير ولي عهد المملكة، فنجواه في مطلع الفصل الثالث إذ يقول: «نحيا أو نموت؟ تلك هي الحيرة. لا ندري أهو أنبل لنا وأكرم أن نحمل الضيم من دهر عسوف نصبر على رجومه وسهامه، أم نهيب بأنفسنا إلى الثورة على ذلك الخضم الموار بالمتاعب والآلام فنستريح منها؟ وما الموت؟ أهو نوم ولا زيادة؟ لئن كان الموت نومًا يريحنا من أوجاع الفؤاد الضمين ومن ألف نزعة يبتلى بها هذا اللحم والدم لهو إذن ختام تتلهف عليه النفوس، ولقد يكون الموت نومًا ويكون في النوم حلم يغشاه، وتلك هي العثرة! إذ من يعلم ما تلك الأحلام التي تطيف بالنائم في ضجعة الموت بعد أن ينفض عنه وعثاء حياته؟ هنا العقبة، وهذا السر الذي تطول فيه شقوة الحياة. إذ من الذي يطيق الصبر على سياط الزمان ولذعاته، وعلى ظلم الظالم، وصلف المتجبر، وآلام الحب المزدري، ومطال القضاء، وعجرفة المناصب، وسخرية العاجزين بالقادرين حين يكون في يديه أن يفصل في هذه القضية بطعنة واحدة من مدية وحية؟ لم هذا الضجر المرهق من أعباء الحياة الثقيلة لولا خوف ما بعد الموت وخشية تلك الدار التي لم يكتشفها رائد ولم يرجع منها قاصد؟ فهذا الذي يشل العزيمة ويخلد بنا إلى شر نعلمه مخافة شر لا نعلمه، وكذلك تفت الضمائر في أعضادنا ويغشي شحوب الحذر على سمات عزائمنا، فتصدف عما همت به من جليل الأمر، ويلتوي عليها سبيل الإنجاز.»

فهذه المناجاة أشبه بشكسبير منها بولي العهد اليائس. إذ ربما ضجر الأمير الكريم من الحب المزدري، وصلف الأغرار، وكبرياء ذوي المناصب، وسخرية العاجزين بالقادرين، ولكنك لا تخطئ هنا أن تسمع صوت شكسبير يعاف الحياة، ويحدث نفسه بالموت من أجل هذه الأمور، ومن تحصيل الحاصل أن نقول: إنه هو الذي جعل الأمير الفتى يعلل سآمته من الدنيا بهذه العلل، ويوسوس له بإيثار الفناء على الحياة. فشكسبير هو الذي امتحن في حياته ازدراء حبه، وكبرياء ذوي المناصب عليه، ومطال القضاء، وسخرية الأغرار والأدعياء، وهو الذي يفكر ذلك التفكير ويجريه على لسان أميره الحزين.

ولقد سرت خرافة بين بعض الناقدين فحواها أن شكسبير كان من رجال الكسب الذين أشرجوا على طبائع العمل والتدبير فلا يشغلهم من الدنيا شاغل بعد أن تمتلئ الجيوب وتعمر البيوت، ولا ندري كيف سرت هذه الخرافة بين الناقدين فقبلوها وركنوا إليها، وليس في حياة الرجل ولا في رواياته وأشعاره ما يشف عن هذا المزاج، أو يرجح فيه هذه الخلة، فشكسبير لم يكن إلا شاعرًا ولم تكن همومه إلا هموم شاعر، ولا مزاجه إلا مزاج أبناء الفنون والخيال، ولم يكسب من رواياته إلا ما يكسبه كل ناظم راج عمله ولقي الإقبال على تمثيله، ولم يكن كسبه عزاء له عن هواجس الأديب ومطالب الإنسان، ولا مطمعًا يغنيه عن مطالع القلب المتفتح والنفس الجياشة والعقل الكبير.

نشأ شكسبير في عصر السياحات والمغامرات، والهجوم على العالم الجديد الذي يمني الناس بالفراديس والكنوز، فما استخفته هذه الآمال كما استخفت سواه، ولا خطر له أن يطلب الذهب حيث يطلبه رواد الغنائم والكشوف، وإنما أحب أن يربح كما يربح الشعراء في زمانه، وعاش للأدب والحياة النفسية، كما يعيش كل أديب يصغي إلى هواتف وحيه، ويتبع هداية قريحته وكان يتجرع الغصة بعد الغصة في حياته، ويصبر على المحنة بعد المحنة من أبناء عصره، ويستقبل الدنيا بنفس الشاعر، فلا ينسيه المال أشواق فؤاده وأحلام خياله، فلم يكن في مزاجه من طبيعة «الكسب والعمل» إلا ما يكون في مزاج كل شاعر غير مأفون ولا متلاف، ولو كسب أضعاف ما كسبه لما أنساه ذلك نفسه المغبونة، وأحلامه الذاهبة، وقلبه الجريح.

وإنما ورد ذلك الوهم على بعض النقاد؛ لأنهم رأوه يعتزل التمثيل ويأوى إلى بلدته ليزرع الأرض، ويثمر المال، بعدما حفل وطابه بثروة المسارح، وأرباح الروايات، ولكنهم لو تريثوا قليلًا لرأوا في ذلك دليل المزاج الشاعر لا دليل التجارة والشعف بالكسب والمال حيث كان، فقد كان يقيم في لندن على مضض، ويتوق إلى ساعة يفارقها فيها غير آسف عليها؛ لأن نفسه لم تكن تقنع بما يصيب من خير ينغصه عليه الهوان واليأس من الحب والكرامة، وكانت صناعة التمثيل لهوًا زريًّا، لا تقبل معاهدها في الأحياء الشريفة المستورة، ولا تزورها العامة إلا على غضاضة، بل لقد كان الممثلون عرضة لزرايتين كلتاهما مؤلمة، وكلتاهما تفدح النفس وتغض من عزتها: إحداهما الزراية التي لم يسلم منها تمثيل صحيح ولا غير صحيح، والأخرى الزراية التي يتلقاها صاحب التمثيل القيم من جمهور يجهل فنه، ويؤثر التهريج والمجون، ومن ثم وصاية هاملت أن تكرم وفادة الممثلين في قصر الملك، ولا يستصغر شأنهم في الضيافة، من ثم تعريض هاملت «بفرقة الغلمان» في المدينة، أو قل تعريض شكسبير بتلك الفرقة التي ألفها «الأرل أوف أسكس» فصرفت النظارة عن رواياته، ودلت شكسبير على قيمة شعره عند الناس بعد عمله الطويل في التأليف والتمثيل.

فالرجل قد أفرغ كثيرًا مما في نفسه في هذه الرواية، وظهر فيها هازئًا بالناس متبرمًا بالمقادير، مترددًا بين الموت والحياة، وكان ذلك قبل مفارقته لندن بعشر سنوات أو قراب ذلك، فأي عجب في أن يهجر لندن إلى قريته الجميلة ليعيش بين مروجها وبساتينها، معتزلًا هذه المعيشة بعيدًا عن هذه القصص، مستريحًا من هذه الجهالات؟ وأي «طبيعة عملية» تغري مثل هذا الرجل بالهجرة من العاصمة — حين يتاح له المزيد من الربح والشهرة — لولا نفس يعنيها شعورها فوق عنايتها برزقها، وتسرها الكرامة فوق سرورها بالسمعة الداوية والصيت البعيد!

وفي روايات شكسبير الأخرى — مآسيها ومضحكاتها — غمزات أخرى من هذا القبيل تشف عن ألم الرجل لحاله، وسخطه على نصيبه وخيبته في حبه، ولكنه كتب هاملت في فترة من فترات السوداء والقنوط وفي أيام تداولته فيها آلام «الحب المزدري» والوشاية التي نمت عليها أغانيه ولم يفصح التاريخ عن حقيقتها، فاصطفى هاملت للبوح بنجواه، ورمى أبناء وطنه كلهم بالجنون حين قال على لسان حفار القبور: إنهم أرسلوا هاملت إلى إنجلترا ليتداوى بالسياحة من المس الذي اعتراه «وإنه إذا لم يشف من ذلك المس فلا ضير. إذ لا أحد في إنجلترا يفطن إلى جنونه؛ لأنهم كلهم هناك مجانين.» وساعده جنون هاملت على أن يقول بحكمة الموسوسين ما لا يقال في حكمة العقلاء، فصب غضبه على المرأة، وقرف النساء كلهن بالخنا، وأنذر كل زوج بالخيانة، وسخر تلك السخرية البائسة من العفة والصيانة، والحب والوفاء؛ لأن عجائب الطبيعة الإنسانية التي لا حد لها قضت على هذا الساحر العليم بسرائر النفس ألا يعصمه سحره ولا علمه من أشراك غاوية لعوب من بنات البلاط، كانت تعاهده على الوفاء وتخونه مع أصدقائه فتفجعه في الحب والصداقة، وتلهب غيرته وأسفه بنارين لا بنار واحدة، تقول له بعد ذلك ما يحلو لها فيصدق تصديق البلهاء «إذ الحب مجنون صادق الجنون، فأنت تعملين ما تشائين وهو لا يسيء الظنون.»

•••

على أننا إذا رجعنا إلى ما قاله شكسبير بلسانه لا بلسان أبطاله في رواياته لم يخف علينا الشجن الذي كان يعتلج بقلبه، والحسرة التي كانت تحز في صدره، فهو يقول في أغانيه: «دع أولئك الذين أسعدتهم طوالعهم بما لم تسعدني يزهون بالمراتب والألقاب، إنني أنا المحروم من ذلك الفخار لا أجد السرور عند أغلى ما أعز في الحياة.» ويحدثنا عن نفسه وهو «مخذول من الجد والناس يبكي وحده نصيبه المنبوذ، ويزعج السماء بصراخه العقيم، وينظر إلى نفسه فيلعن قسمته، ويود لو رزقه الحظ قسمة غيره من الرجاء والوسامة والأصدقاء.»

فالذين يمثلون لنا شكسبير رجلًا راضيًا عن الدنيا لما أصابه من عروضها وحطامها يجهلون الرجل، ولا يفهمون لحنه من مضامين رواياته، وإنما شكسبير «هاملت» عاقل بل هو كتب هاملت ليقول بلسانه «المجنون» ما لا يقوله لسان الحكمة، أو ليأخذ «الحكمة من أفواه المجانين» كما يقول العرب في الأمثال، وقد أراده في خاتمة الرواية خلافًا لما جاء في القصة القديمة؛ لأنه أسكن للطبيعة الإنسانية من أن يحسب البقاء وارتقاء العرش نصرًا نختم به حياة رجل في مزاج هاملت المحزون، وفي تلك البيئة التي فقد فيها أباه، وشهد خيانة عمه وأمه وأضاع حبيبته، واقترف جريمة القتل على غير قصد منه، وعز عليه أن يجد الفرد الواحد الأمين في عشرة آلاف من الخائنين، ومثل شكسبير لا يحفل بالأسطورة القديمة إذا هو حيي في نفسه حياة هاملت، فأوحت إليه سليقته أن الموت هو خير ما تستريح إليه وتظفر به، بعد ذلك السأم القائم، واليأس الدفين.

لقد ثقلت قيود الرشد على رأس شكسبير فخلعه برهة؛ لينعم بطلاقة الجنون، وليقول كل ما يعلم؛ لأنه «ليس كل ما يعلم يقال.»

١  ١٨ نوفمبر سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤