الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون١

للدكتور جوستاف لوبون توفيق في اللغة العربية لم ينله كاتب من كتاب الغرب الاجتماعيين في أيامنا، فقد ترجمت له كتب عدة، أذكر منها الآن روح الاجتماع، وسر تطور الأمم، وروح الاشتراكية، وروح الثورات، والآراء والمعتقدات، وهو الذي بين أيدينا الآن، ولا شك في أن هذه الكتب كلها لها قيمتها التي تستحق من أجلها النقل إلى لغتنا وإلى اللغات الأخرى، ولكننا لا نظن قيمتها هذه هي سر ذيوعها بيننا، وإقبال أدباء العربية على ترجمتها، فإن للكتب أسبابًا تمهد لها الرواج والنجاح في كل موطن غير ما تحويه من الموضوعات وتحمله من الفوائد، وهذه ملاحظة لا يفوتنا أن ننبه إليها في صدد الكلام على هذا الكتاب؛ لأن مصنفات جوستاف لوبون مثل ظاهر للمصنفات القيمة في بابها التي استمدت معظم رواجها عندنا من أسباب أخرى طارئة غير أسبابها العالقة بها على اختلاف المواطن والبيئات.

ولعل أدعى هذه الأسباب إلى الرواج أن الكتاب الأول لجوستاف لوبون ظهر في اللغة العربية بقلم عالم قانوني له مكانة موقرة بين الفضلاء والأدباء ورجال الصحف والمجلات هو المرحوم «أحمد فتحي زغلول»، ثم نذكر من هذه الأسباب أن آراء المؤلف فاجأت الناس بخلاف ما اتفقوا عليه وأخذوه مأخذ الحقائق المقررة المفروغ من بحثها والإيمان بها، فلا هي تعرض بعد ذاك على النقد، ولا هي تقبل الجدال، فقد خلفت لنا الثورة الفرنسية مبادئ عن المساواة والحرية وعصمة الإجماع، وقداسة آراء الشعوب نجم أكثرها من وحي الخيال والعاطفة، وقبلها الناس قبول التسليم الأعمى؛ لأنهم حسبوا أن المبادئ التي قتل في سبيلها من قتل واشترتها الأمم بما اشترتها به من الشدائد والمحن والأهوال يستحيل أن يطرقها الزيف أو تعتريها عوارض الضعف كما تعتري المبادئ التي لم تسفك في سبيلها قطرة غير قطرات المداد، ولم يبذل الناس في شرائها أكثر من ورقة تكتب عليها وقلم يجري بتسطيرها، فلما فوجئ قراء العربية بآراء الدكتور الغريبة، وشهدوا أول مرة طريقة في التدليل تخالف طريقة الجمع والاستشهاد، والذهاب مع الظواهر السطحية وقواعد العرف المصطلح عليها فُتنوا بهذا النمط الحديث، واشتاقوا إلى التوسع فيه، واتفق ذلك في أوائل العهد الذي كثر فيه تجاذب الكلام على الحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب وما إلى ذلك، فكان هذا باعثًا جديدًا على الالتفات إلى كتب لوبون وآرائه والعناية بقراءتها ومناقشتها، والعجيب أن هذه الكتب لا تشجع الديمقراطية وهي مع هذا ظهرت في إبان حركتها عندنا فلم تثبطها، ولم يكن اعتلاج البحث في نظرياتها إلا كاعتلاج كل عاطفة جامحة يخالطها الرأي الزاجر من قبل العقل فيزيدها مضاء واحتدامًا، ويكون الزجر الذي يصدها عن طريقها كأنه حافز يقذف بها في ذلك الطريق ويعصف بالموانع والعراقيل، فهل يعد هذا مصداقًا غير مقصود لتلك النظريات التي بشر بها لوبون ولا يزال يبشر بها في كل كتاب!

والواقع أن لوبون مبشر علمي ينحو في تقرير آرائه منحى الواعظ ورجال الدعايات، وأن كتبه هي نظريات وتطبيق لتلك النظريات في وقت واحد، فهي تقرر أن العقائد تثبت بالتوكيد والتكرير، وهي في الوقت نفسه تؤكد وتكرر فكرة واحدة لا يفتأ الرجل يدور عليها ويبديها ويعيدها؛ ليجعلها في حكم العقائد الثابتة والبدائه اليقينية، ولقد أفلح في شطر من دعايته ولكنه لم يفلح في الشطر الآخر. أفلح في تبيينه أن البرهان لا ينقض العقائد التي توارثتها الشعوب وأشربتها أرواح الجماعات، ولم يفلح في إنشاء عقيدة واحدة بذلك التوكيد الذي يتكلفه، وذلك التكرير الذي لا يمله. بيد أننا نظلمه إذا أخذناه بهذه الخيبة؛ لأنه يشترط للنجاح والتوكيد شروطًا لم يحاول استيفاءها، ولا هو يستوفيها إذا أقدم على هذه المحاولة!

•••

وكتاب الآراء والمعتقدات الذي ترجمه الأديب الفلسطيني محمد عادل زعيتر، وطبعته المطبعة العصرية بمصر هو تبشير جديد بدين الدكتور لوبون العقلي، ودعايته المنطقية، وهو توكيد جديد للأصول التي تقوم عليها عقائد الجماعات، وتبني عليها أطوارها وتقلباتها، وهو تفصيل بعضه مسبوق وبعضه غير مسبوق لآرائه التي أجملها في مصنفاته الأخرى، وتكملة يحتاج إليها كل من يحب استقصاء آراء الدكتور، والتزود من شروحه وبيناته.

ولسنا نريد أن نطيل في سرد النظريات القديمة أو الطريفة التي أودعها المؤلف كتابه هذا، فإن قواعد هذه النظريات غنية عن الإجمال، وإنما نريد هنا أن نعرض لمسألتين اثنتين إحداهما تتعلق بأساس الموضوع الذي سمي الكتاب باسمه، والثانية تتعلق بشعور اللذة والألم الذي جعله المؤلف مصدر الحركة وقال: «إن اللذة والألم هما لسان الحياة المادية والمعنوية وعنوان الكدر والصفاء في الأعضاء، وبهما ترغم الطبيعة الحيوان على الإتيان بأعمال يستحيل الوجود بدونها.»

فأما المسألة الأولى فهي التفريق بين الآراء والمعتقدات، أو هو موضوع الكتاب نفسه وعنوان مباحثه، فالعقيدة والرأي معدنان مختلفان في نظر المؤلف من المبدأ إلى النهاية والعوامل التي تنشئ أحدهما غير العوامل التي تنشئ الآخر، كما هي الحقيقة من أكثر الوجوه، ولكن المؤلف يغلو في التفريق إلى حد بعيد، ويريد أن يفهمنا أن الاعتقاد ملكة في النفس غير ملكة الارتياء في الأساس، فهل هو على صواب؟ وهل الاعتقاد والارتياء جوهران متناقضان أو مختلفان!

الذي نقرره أن الرأي والعقيدة في أساسهما يرجعان إلى معدن واحد؛ لأن رأيك في شيء واعتقادك إياه كلاهما هو أثر ذلك الشيء الذي يلقيه في روعك من طريق واحدة بوسيلة واحدة هي وسيلة المعرفة الفذة المتاحة للإنسان، وإنما يبدأ الفرق بين الرأي والعقيدة عند «التمحيص والامتحان» إذ تكون وسائل «التمحيص والامتحان» ميسورة في الآراء فتتوقف عليها وغير ميسورة في العقائد فتقوى على مكافحة النقد وتستعصي على التجربة والبرهان. مثال ذلك أن ملاحظة الأشياء قد هدت بعض الناس إلى أن النار تنطفئ في الماء، وهدت الآخرين إلى أن الحياة الدنيا تتبعها حياة أخرى فيها الثواب للمؤمنين والعقاب للمنكرين، فما الفرق بين ما اهتدى إليه هؤلاء وما اهتدى إليه هؤلاء؟ الفرق بينهما أن وسائل التمحيص والامتحان في الدعوى الأولى محصورة يمكن التيقن منها بالحس والمشاهدة، وأن الدعوى الثانية وسائل تمحيصها وامتحانها غير محصورة ولا هي مما يخضع لحكم الحس واليقين، فإذا قيل: إن موضوع العقيدة يتصل بالشعور والرغبة، وأن موضوع الرأي يتصل بالحس والتجربة قلنا: إن كل شيء في هذه الدنيا يمكن أن يكون موضوع رأي وموضوع عقيدة في وقت واحد؛ فهذه التميمة التي يلبسها المؤمن بالتمائم هي موضوع يصلح للتجربة ويصلح للإيمان معًا، وينظر إليها رجل فيخرج منها برأي وينظر إليها غيره فيخرج منها بعقيدة، ولا فرق في الحالتين غير الفرق في وسائل التمحيص والامتحان عند هذا وذاك، وليس منا إلا من كان يؤمن بشيء ثم عدل عنه إلى رأي يقبل النقد والمناقشة، وما تحول الشيء ولا تحولت ملكات المؤمن به، ولكنها هي وسائل النقد تيسره له بعد أن كانت متعذرة عليه، فعلى هذا يصح أن يقال: إن العقيدة أثر نفسي أو مجموعة آثار يصعب على صاحبها حصر المواد اللازمة لتحليل جميع عناصرها وحد جميع جوانبها، وأن الرأي عقيدة محدودة العناصر والجوانب يرجع فيها إلى مقياس مطرد متواضع عليه، ولزيادة التوضيح نسأل: هل يمكنك الإيمان بالشيء الذي ثبت بطلانه من طريق الرأي كل البطلان؟ نعم إن العقائد لا تثبت بالبرهان، ولكن هل هي تقوم على الشيء الذي أثبت البرهان بطلانه؟! لا ولا ريب، فهي إذن معدن لا ينفصل عن معدن المعرفة كل الانفصال، وكونها لا تقوم على البرهان لا يدل إلا على أمر واحد، وهو أن البرهان ليس بعنصرها الوحيد.

وقد يقال: إن العقائد ترمز وتُورِّى وإن الآراء تتناول الأشياء مباشرة بغير رمز ولا تورية، وهذا إنما يكون صحيحًا لو كنا نعرف شيئًا واحدًا في هذا الكون معرفة مباشرة بغير رموز ولا توريات، ولكن الحقيقة أن المعرفة المباشرة مستحيلة، وأن كل منظر نراه، أو نغمة نسمعها، أو خاطر نحس به إن هو إلا رمز ظاهر لحالة باطنة لا يستطاع استكناهها والنفاذ إلى حقيقتها، فما اللون وما الصوت وما الفكر بل ما المادة نفسها التي نعيش فيها ومنها وبها إلا رموز لحركات يخفى علينا كنهها، ويستحيل علينا كل الاستحالة أن نباشرها في ذواتها، ولك أن تقول: إن النظر إلى اللون الأحمر مثلًا هو نوع من الإيمان الرمزي يريك الصورة ولا يريك الحقيقة، وأن العقيدة في آلهة الماء والبراكين عند قدماء الأمم هي نظر رمزي كذلك كان يعوزه سداد التحقيق، ودقة الرمز والتعبير.

•••

أما المسألة الأخرى وهي مسألة اللذة والألم، فقد أصاب الدكتور لوبون حين سماها عنوانين للكدر والصفاء دليلين على معنوية باطنية؛ أي معلومات لعلل كما أن الأعراض نتيجة لمرض، إلا أنه هدم كل ما أراد أن يبنيه عليهما بهذا التعريف الذي جعل اللذة والألم نتيجة لحالة سابقة في الجسم قبل الشعور بهما، وقبل أن ينطبعا في صفحة الإحساس على صورة محبوبة أو مكروهة، فإننا متى علمنا أن اللذة والألم محكومان بعوامل أخرى نجهلها ولا نحس بها فالخطب إذن هو خطب تلك العوامل، والمهم لدينا أن نعرف ما تريده تلك العوامل وما تأباه وما تدفع الإنسان إليه، فيكون لذيذًا لديه أو تدفعه إليه أيضًا فيكون مؤلمًا في حسه، فالإنسان مدفوع على الحالتين قبل أن يذوق اللذة، أو يذوق الألم، واللذة والألم هما كما قال الدكتور عنوانان أو عرضان لتلك الحركات الخفية التي تختلج في الجسم ولا سلطان عليها للإرادة ولا للإحساس، وماذا أوضحنا وماذا فسرنا إذا قلنا: إن الإنسان يعمل ما يلذه، ويجتنب ما يؤلمه، إذا كان من الثابت المحقق أن الإنسان مكره على اللذة التي يطلبها كما هو مكره على الألم الذي يجتنبه! ثم ماذا أوضحنا وماذا فسرنا إذا قلنا: إن اللذة والألم هما أكبر عوامل الحركة، وها نحن أولاء نرى إنسانًا يكرم؛ لأن الكرم لذيذ عنده ونرى إنسانًا غيره يبخل؛ لأن الكرم يؤلمه ويكدره. فلا توضيح هنا ولا تفسير، بل هو تحصيل حاصل وحكم ظاهر من قبيل الحكم على تركيب الساعة بأرقامها وإشاراتها، ثم صرف النظر عن عددها، ولوالبها، وعن اليد التي تحرك تلك العدد واللوالب، والفكر الذي يحرك اليد، والعوامل التي تحرك الفكر، والقوانين التي تحرك الجميع.

ولسنا ننكر أن الإنسان يحب ما يلذه ويكره ما يؤلمه، وأنه يود ألا يفعل فعلًا إلا أصابته منه لذة ولم يصبه ألم. إلا أن الإنسان يألم مع هذا ولا يجد اللذة حيث يطلبها، ولا يفلت من الألم حيث يهرب منه، فهو يعمل العمل قبل أن يتذوق لذته وألمه، ثم تأتي بعد ذلك كيفية شعوره بذلك العمل، وهو ابن طبيعة الحياة، لا لأنها لذيذة أو مؤلمة، بل لأنها هي طبيعة الحياة التي لا يد له في خلقها ولا في خلق ظرف واحد من ظروفها، وإلا فلماذا تختلف الطبائع حتى يلذ هذا الإنسان ما يؤلم سواه ويؤلمه ما يلذه! ولماذا تكون اللذة في هذا الجسد عنوانًا لحالة، وتكون في جسد غيره عنوانًا لحالة تختلف عنها أو تناقضها! إنما ينبغي أن نبحث هنا عن الإرادة الخفية التي تهيمن على عوامل الجسد، وتكيف الحس نفسه حتى يعود قابلًا للشعور باللذائذ والآلام، أما الوقوف عند العناوين فقد يرضينا بالأسماء والأصداء، ولكنه لا يرضينا بحقائق الأشياء.

•••

وصفوة القول: إن الرأي والعقيدة لا يختلفان في الأساس، وإنما يظهر اختلافهما عند العرض على وسائل التمحيص والامتحان، وأن الحياة لا تبحث عن اللذة أكثر مما تبحث عن الألم، وإنما تفعل فعلها ثم يجيء كل من اللذة والألم غير مطلوب ولا مدفوع، وعبرة هذا الرأي أن للإنسان غاية في الحياة فوق لذاته وآلامه، وأنه ربما كان طالبو اللذة القانعون بها هم أقل الناس نصيبًا من دوافع الحياة.

١  ٢٤ ديسمبر سنة ١٩٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤