توماس هاردي (٢)١

شهرته وتشاؤمه

الشهرة والتقدير شيئان قلما يتفقان، فالشهرة هي ضوضاء وأصداء، تتساوى فيها أعلام الأماكن والأناسي وأسماء الجديرين بالتنويه والإعجاب، الجديرين بالمقت والنسيان، وكأنها بهذه المثابة أصوات آلية لا قصد لها ولا تفكير فيها، ولا تدل إلا على وجود كائن من الأحياء — أو غير الأحياء — له اسم يعرفه الألوف بدلًا من الآحاد، كما يعرفون أن في بلاد الهند جبلًا يسمى الهملايا، وفي عالم الخرافة جبلًا يسمى «قاف».

أما التقدير فهو وزن وقياس، ومعرفة وعاطفة، ولا يكون إلا عن علم وفهم وشعور، فهو لباب الشهرة وجوهرها، والمعنى الذي به تكون الشهرة فضلًا ونعمة، يغتبط بها من ينالها، وبغيره تكون الشهرة أصواتًا يتشابه فيها دعاء الناس وعواء الكلاب، بل يتشابه فيها كلام السامعين بها ودوي الطبول وأزيز الآلات.

لم يظهر الفرق بين الشهرة والتقدير في إنسان، كما ظهر في توماس هاردي الذي بلغ من تقدير قومه وغير قومه غاية ما يصبو إليه الأديب، ولم يبلغ من الشهرة «الآلية» بعض ما بلغه أدعياء الأدب وثراثرة الصحافة، فقد مضى عليه جيل كامل وهو مجهول في أهل بلده وبين عشيرته وجيرانه، لا يخطر لأحد ممن يرونه في قريته أن هذا الرجل الحزين الدلف بين المروج، أو الراكب على الدراجة هو أعظم من كتب الإنجليزية ناثرًا وشاعرًا في زمانه، وربما لم يعرفوا اسمه على حقيقته إلا إذا كانوا من أهله الأقربين، أو على اتصال به جد حميم. اتفق لمعجب به أن ذهب يزوره أو يحج إليه، كما يقول فنزل بفندق صغير في قرية معزولة من قرى «وسكس» التي خلد مناظرها بشعره ونثره، فجلس في انتظار الغداء يحادث فلاحًا مفراحًا من تلك القرية، وخطر له أن يسأل عن بطله المحبوب وهو لا يشك في معرفته إياه، واحتفاله بشأنه فسأله: هل يجيئكم توماس هاردي هنا؟ فجعل الرجل يتمتم: توماس هاردي! توماس هاردي! ولاحت عليه حيرة البحث والمجاهدة في الاستحضار، وبعد هنيهة أشرق وجهه، كمن قد ظفر بفكرة مهجورة، طال عليها أمد النسيان، وقال للحاج المشدوه: «لعلك تعني بل هاردي ذلك الرجل الضئيل صاحب الشوارب المدلاة؟ نعم هو يجيء هذه القرية كل يوم سوق!»

وهكذا آثر هو لنفسه أن يعتزل لندن وباريس، بعد أن عاش فيهما ما عاش، حيث تتدافع المناكب على الشهرة، وتحتال الأسماء على الظهور، وأوى إلى قريته — غير بعيد من البيت الذي ولد فيه — يعاشر الفلاحين ويحادثهم وهم يجهلون من شأنه، ما يعلمه في أقصى الأرض قارئه العارف بمقام أديب القرية العظيم، ولبث حياته كلها بعيدًا عن المجامع متحاشيًا مواطئ الأقدام، لا يستريح إلى زيارة الغرباء، ولا يأنس إلى أحد غير أصحابه السذج الذين يعرفون «بل هاردي» الفلاح، ولا يعرفون توماس هاردي الشاعر القاص الفيلسوف، وكان أبغض شيء إليه وسائل الشهرة الحديثة من نشر وتصدية، وعرض في الصور المتحركة، فلما مثلت رواية «تس» في السينما، وابتذلت مواقفها لإرضاء النظارة للصبيان والجهلاء، أسف لذلك أشد الأسف، وأبى أن يحضرها في معرض الصور، وقال في شيء من الغم والتأسي: «إن الرواية ستعيش على الرغم من ذلك.»

وعرف عنه أنه لم يكن يطيق الملاحظات على رواياته وإنما يحتملها احتمالًا، ولا يبالي أن يناقش فيها أو يصحح أخطاءها. كان بعض الناس يلومه مرة على مصير «تس» البريئة المسكينة التي أسلمها إلى الشنق، وختمها بكلمته الساخرة «لقد نفذ العدل! لقد فرغ رئيس الخالدين من عبثه بتس دربر فيل» وكانت في المجلس سيدة سليطة، فقالت: «أما أنا فأسفي أن المستر هاردي لم يشنق أبطال روايته جميعًا» كأنها تقول: إنه كان خيرًا له ألا يكتب الرواية أو أن يكون قد قضى على أبطالها قبل أن يخلقوا، وكانوا على المائدة، فانحنى الشاعر قليلًا، ومضغ لقمة ومضى في طعامه.

وهو على قلة مبالاته بآراء الناس في رواياته كان يألم للجهل والرياء، ويسخط سخطه الوديع إذا ابتلي بنوبة عارضة من حماقة الجماهير، فلما أخرج روايته «هود» وانحنى عليها الناقدون بالتشهير والتجريس، وحرمت بعض المكاتب بيعها لما فيها من صراحة، لم يتعودها الإنجليز في الكتابة عن علاقات الرجال والنساء، أنفت نفسه أن يكتب رواية بعد ذلك، وآلى أن تكون «هود» خاتمة حياته الروائية، وقد بر بعهده فلم ينشر بعدها إلا رواية واحدة قديمة، كانت مهيأة للطبع والتنقيح قبل أن يبغت بتلك الحملة الهوجاء، ثم أقبل على الشعر فكان ذلك خير عوض له وللقراء ولوطنه الذي لم يكف عن توقيره وتقديره، وإن خالفه بعض ناقديه في تناول الحقائق وصراحة التصوير.

فلك أن تقول: إن «توماس هاردي» كان مشهورًا خاملًا إذا أردت بالشهرة تلك الأصداء التي تتجاوب بها طبول الجماهير، أما نصيبه من تقدير العارفين فلا مطمع بعده لطامع، ولا مثيل لما ناله منه بين أبناء قومه وقارئي شعره ونثره في الأمم كافة. كان كبلنج يلقبه ﺑ «الملك»، وكان الملك جورج يتتبع كتبه واحدًا بعد واحد، ويسأل عنه ويعنى بأخباره، ولما مرض منذ شهر ولزم فراشه أبرق إليه يواسيه ويرجو شفاءه، واحتفل الأدباء بسنته الأولى بعد الثمانين فكتب إليه أكثر من مائة أديب شاب يحيونه ويعجبون بروح الصبر والأنفة التي بثها في تآليفه وأشعاره، وزاره ولي العهد في بيته الريفي منذ خمس سنوات ليبلغه بلسانه حبه، وحب أبيه وأهل بيته، وهذا مع أنه لم يكن شاعر التاج، ولا كان يخدم الملوك بقول صريح، أو بتضمين ملموح، وبيعت نسخة خطية ناقصة من قصته «عينان زرقاوان» بألف وخمسمائة جنيه منذ سنتين، ومنحته الحكومة وسام الاستحقاق وهو في السبعين، وأهدته الجامعات الكبرى أفخر ألقابها غير مطلوبة ولا ممنونة، وزاره نوابغ الممثلين يعرضون له في بيته فصولًا من قصائده الكبيرة، ورواياته التي أفرغت في قالب التمثيل ولم يشهدها هو في مسارح العواصم، وحفه عالم الأدب الرفيع بعطف وتقديس كذلك الذي يُحف به الأحبار المباركون والأولياء الصالحون، فلو دعاه كبلنج «القديس» لكان أليق به من لقب «الملك»، وأشبه بتقواه وإجلال الناس إياه، ومقامه حيث تحج إليه الشهرة ساعية على القدم، مطهرة من لوثة الصغائر والأحابيل.

ويخطئ الذين يحسبون هذه العزلة، وهذا الانزواء كراهة للناس، أو فاقة في العطف والإحساس. إذ ليس أوسع عطفًا وأكرم حسًّا من رجل يجد في حياة الفلاح الساذج، وفي حبه وبغضه، وفرحه وحزنه، وفي هموم عيشه، وحظوظ ماشيته وأرضه، مواطن للعطف يشغل بها نفسه، ويقصر عليها قلمه، ويستوعب كل صغيرة منها في روايته وشعره، فهذا لا يكون إلا من نفس طهور جبلت على محبة الناس، وطويت على البر بهم والحنان عليهم. نعم كان الرجل متشائمًا من تصويره الأسود للحياة، ولكنه لم يكن تشاؤم النفس الغاضبة لا يتصل بينها وبين الدنيا سبب من الفهم والشعور، ولم يكن تشاؤم النفس الوضيعة لا تطلع على نبيل في الدنيا ولا تود أن تطلع فيها على نبيل، ولم يكن تشاؤم الأنانية التي تريد احتجان الخير كله، وتتهم الناس بالكنود؛ لأنها هي لا تنطوي على غير الكنود، ولكنه كان تشاؤم العاطف الذي يرثي للناس من عسف المقادير؛ لأنه يحس تلك المقادير في ذات نفسه، ويحيط ميدانها بعطفه، وينفذ إلى دخائلها نفاذ الوالد المشفق إلى دخائل قلب وليده، ثم يتمنى لو لم تكن الحياة ولم يكن الأحياء، لا لأنه يحب لهم الموت ولكن لأنه يحب لهم حياة خيرًا من هذه الحياة وأسلم من الوهم والشقاء.

ويغلب أن يكون ذلك شأن فلاسفة التشاؤم الأقوياء بأفكارهم وقلوبهم، إذا اعتزلوا الناس وسخطوا على مقادير الحياة، وآية ذلك ما اتفق من عطفهم جميعًا على الطير والبهائم، وبرهم بهذه الخلائق التي يعذبها الناس، وهم يتعاطون فيما بينهم ما يسمونه الرحمة والحنان! فشوبنهور كان له كلب يألفه ويناجيه، ويغرم به حتى لقبه صبيان الحارة: «شوبنهور الصغير»، نسبوه إليه لأنهم لم يروا بينهم ولدًا ينسبونه لذلك الشيخ ويعرفونه باسم ذلك الفيلسوف العقيم، وكان ألذ شيء لديه أن يعاشر الحيوانات ويرقبها، ويأنس بها وتأنس به، فهو يقول: «أي لذة تداخلنا عندما نرى حيوانًا مطلقًا يدبر شئونه بنفسه غير معترض ولا مسوق. تراه إما يتلمس طعامه، أو يتعهد صغاره، أو يخالط الحيوانات من جنسه إلى نحو ذلك، وأن هذا لهو الذي ينبغي أن يكون، وهو الذي لا يمكن أن يكون سواه، فإن كان ذلك الحيوان طائرًا متعت نفسي بالنظر إليه برهة من الزمن. لا بل فليكن فأرًا مائيًّا، أو ضفدعًا، فذلك لا ينقص من سروري بالنظر إليه، ويعظم سروري به إن كان قنفذًا، أو عظاة، أو أيلًا، أو غزالًا، وما كان التأمل في أحوال الحيوانات ليسرنا لولا أننا نأنس فيها حياتنا مصغرة بسيطة.»

وكان ليو باردي يحب الطير، وقد كتب فيها مقالًا ليس أبلغ منه، ولا أمتع بين ما كتب في معناه، وكان المعري يأبى أن يأكل حيوانًا، ولو كان فيه دواؤه، بل كان يوصي بتسريح البرغوث، ويعتده أفضل من التصديق بالمال على المحتاج.

تسريح كفك برغوثًا ظفرت به
أبر من درهم توليه محتاجا

وكان ينكر على الناس أن يأكلوا الشهد؛ لأنه للنحل قد جمع لا لآكله المشتار:

اتق الله حتى في جني النحل شرته
فما جمعت إلا لأنفسها النحل

وربما تناول عطفه الضاريات، فيعرف لها عذرها فيما تجنيه على الفرائس الضعاف:

ولولا حاجة بالذئب تدعو
لصيد الوحش ما اقتنص الغزال

أما توماس هاردي فكلبه مشهور ككلب شوبنهور، ورفقه بالطير والأوابد يعرفه الذين عرفوا جهوده في تحريم الصيد والرأفة بالحيوان، وعرفوا المقبرة التي أعدها في حديقة بيته للطير والحيوانات الأليفة التي ماتت لديه، وكان أصبر من زملائه، وآلف الناس، وألين جانبًا للحب والزواج، فقد تزوج مرتين، وكان زواجه الثاني وهو في الرابعة والسبعين، بعد وفاة زوجته الأولى بعامين، ثم كانت آخر حركة له في الحياة هزة ضعيفة من رأسه إلى ناحية امرأته التي كانت تقوم على سريره.

وقد يكون أغرب ما في عطف هؤلاء المتشائمين، أنهم اشتهروا جميعًا بحبهم لآبائهم وهم يحسبون الحياة شرًّا، ويعدون الولادة جناية، فأما المعري وشوبنهور فأولهما قد رثى أباه رثاء اللهفة والوفاء، وثانيهما قد أهدى إلى ذكرى أبيه كتابه الذي يثبت فيه عقم الحياة! وأما توماس هاردي فقد كانت وصيته أن يدفن مع أبيه وأمه؛ حتى حارت الأمة الراغبة في تقديره كيف تجمع بين رعاية هذه الوصاة وبين القيام بحق ذكراه ودفنه في مدفن العظماء؟! فالمتشائمون الذين من هذا الطراز يجتنبون الناس؛ لأنهم أكبر منهم عطفًا، لا لأنهم أقل عطفًا من أحلاس المجامع ورواد الزحام، وهم يرفضون الود الرخيص، والود المزيف؛ لأنهم أشوق إلى الود النفيس وأعرف بالود الصحيح.

١  ٢٧ يناير سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤