توماس هاردي (٣)١

آراء في شعره ومناقشة لهذه الآراء

ورد إلينا البريد الإنجليزي، وفيه مقالات كثيرة عن توماس هاردي وشعره ورواياته ومكانه في عالم الأدب، وأقوال شتى هي ولا ريب خلاصة الأقوال المختلفة في هذا الأديب الذي اتفقت الآراء على أنه كان أديب إنجلترا الفرد في زمانه، وقل بين كتاب الصحف من وافق رأيه رأي توماس هاردي في نفسه، واعتقاده في منزلته من الشعر ومنزلته من الرواية، فقد كان شغف هاردي بشعره أكبر من شغفه برواياته، وكان اعتقاده أن محصوله في عالم الشعر أجود وأجدى من محصوله في عالم الرواية، وذلك ظاهر من اشتغاله بالنظم طول حياته، وعكوفه عليه في أيامه الأخيرة وابتدائه سيرته الأدبية، واختتامه إياها بالنظم لا بالكتابة، ولكن المرء لا يحب أفضل أولاده، والأديب لا يحب أفضل ملكاته في كل حين، فأسباب الحب والإعجاب في النفس قد ترتبط بالآمال، كما ترتبط بالحقائق، وقد تقام على مواطن الضعف كما تقام على مواطن الحزم والحصافة، وربما كان شعر هاردي أثبت مكانًا في عالم الخلود من رواياته؛ لأن تخليد الكلام المنظور أيسر وأشيع من تخليد الكتب المطولة المنثورة، ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أن هاردي حري أن يعد بين النخبة الممتازة من القصاص في جميع لغات العالم، وأن يسمو بينهم إلى منزلة قل أن يتجاوزها منهم متجاوز، ولكنه غير حري أن يعد بين النخبة الممتازة من الشعراء الذين أنجبتهم جميع الأمم في جميع العصور؛ لأن شعره على جماله وصدقه لم يتسع حتى يشمل آفاق الشعر البعيدة، ولم يعذب حتى يبلغ أحلى ما يبلغه الشاعر من العذوبة؛ فهو في بابه حسن معجب، بل هو في بابه فرد لا نظير له في شعر أحد غيره. وقد يلزمك أن تمزج بين هيني وجيتي الألمانيين، أو بين شلي وورد زورث الإنجليزيين؛ لتخلص إلى روح يتفق لها ما اتفق لهاردي وحده من السخر والحكمة واليأس والسلوى في بعض أشعاره. إلا أن انفراده بمزاج خاص لا يشبهه فيه شاعر، أو وفاؤه لمزاجه الذي جبل عليه، وصدقه لشعوره الذي أحس به، لا يستلزم أن يكون فردًا في علوه وفي محاسن الشعر كله، فهو فرد مقدم في بابه، ولكنه ليس بالفرد المقدم في كل باب.

يختلف معنا في هذا الرأي الكاتب الروائي دافيت جارنت، الذي يقول في إحدى الصحف الأسبوعية: «إننا فقدنا أعظم شعرائنا بفقد هاردي، ولكننا لم نفقد أعظم قصاصنا، وإن الفلاحين في رواياته لا يمكن أن يشبهوا الحقيقة حتى في «دورستشير» التي كانت قبل سبعين سنة، دع عنك فلاحي اليوم الذين لا يشبهونهم في شيء، فإذا كانوا مع ذلك يهزون نفوسنا فذلك لأنهم خلائق شاعر.» وقد يكون هذا رأي الكثيرين من قراء هاردي، ولا سيما بين الروائيين الذين يحكمون عليه بما يضعونه لأنفسهم من المقاييس، وما يتخيلونه للرواية من الكمالات وما يطبقونه على أعمالهم من الآراء، بل نحن نقول: إننا لنؤثر قراءة شعره على قراءة رواياته؛ لأن شعره إنساني عام، ورواياته إقليمية محصورة، تصف الإنسان من خلال مناظر الريف ومآلف القطان في مكان معلوم. إلا أن هذا لا يغير الرأي الذي قدمناه؛ لأن اختيارنا ما يوائمنا من عمل أديب لا يدل على أن هذا الذي يوائمنا هو خير ما يمتاز به ذلك الأديب، فقد يبيع التاجر صنفًا هو أنفس الأصناف عنده، أو هو صنفه الذي اشتهر به، ثم لا يشتريه كل إنسان؛ لأنه لا يحتاج إليه، وقد يكون الأديب شاعرًا وروائيًّا فيقرأ القارئ رواياته، ولا يطلع على شيء من شعره؛ لأنه من قراء الروايات وليس من قراء الأشعار.

كذلك لا ينبغي أن نأخذ من قول الروائي جارنت: «إننا فقدنا أعظم شعرائنا ولم نفقد أعظم قصاصنا»، إن هذا المقياس هو أصدق المقاييس لتقدير ملكات الأدباء، فقد يكون هذا العصر ضعيفًا في الشعر قويًّا في الرواية، فيكون الأديب عالي المكانة في الرواية، وهو دون القمة العليا بين القصاص، ثم يكون أرفع الشعراء قدرًا في زمانه، وليس هو من الشعر في المكان المعدود، فإذا فقدناه قلنا: إننا فقدنا أعظم الشعراء، ولم نفقد أعظم القصاص، ولم يكن في ذلك دلالة على أنه شاعر كبير وليس بقصاص كبير، وإنما المقياس الصحيح أن نذكر الشعراء الكبار والقصاص الكبار في جميع الأزمان ثم نسأل: هل مكان هاردي أثبت وأرفع بين هؤلاء أو بين هؤلاء؟ هل هو أقرب إلى ديكنز وثاكري وترجنيف ودستوفسكي وأبانيز وبورجيه أو هو أقرب إلى شكسبير وملتون وهومر وسفكليس وأندادهم من الأقدمين والمحدثين؟ والواقع أن روايات هاردي على ما فيها من المآخذ أقرب إلى أعلى الروايات وأبلغها من سائر روايات عصره في بلاده، وأنه هو الآن أصدق القصاص، وأبلغهم بين الإنجليز خاصة، وإن كان للشعر فضل في إجادته الرواية وإسباغه العطف والمحبة على خلائقها، وإذا عاش غدا بالشعر ولم يعش بالرواية، فإنما يكون ذلك لأن الرواية أثقل جناحًا في مطار الشهرة من القصيد المطول، ومقاطيع الشعر القصيرة على السواء.

ويقول ناقد اﻟ «مورننج بوست» في تقديره لشعر هاردي: «إن فنه في أشعار شبابه جدير بالعناية الكبرى من دارسي الصناعة الشعرية، فليس في شعره تلك الصيحة الدافقة الطيعة التي تسمعها من البلبل والقبرة، وإنما تلمح فيه على نقيض ذلك أثر الجهد والمعالجة، فالقصيدة من قصائده لا تنجم لأنها ينبغي أن تنجم، بل هي منظومة لأن الشاعر قد جمع لها عزيمته وأبى عليها إلا أن تكون، فهو يتخذ لنفسه عند البداية خاطرة مرسومة وصيغة معلومة يلتقيان في أنشودة منظومة، فإذا تعذر عليهما ذلك أو أبت اللغة أن تسلس له مقادها، عمد الشاعر إلى سلطانه وألجأها كرهًا إلى الوفاق في عبارة منظومة، وهذه طريقة في النظم لا بد منتهية بالفشل في الأيدي التي هي أضعف من يديه، فيستعصي الوزن واللغة على الشاعر، ويشمسان على قياده أشد شماس، ولكن العجيب في هاردي أنه يفلح فيما يريد، نعم إن شعره لا يفيض فيضًا، ولكنك تراه مطرقًا مسبوكًا في قالب جميل، كأنما استوى فيه على الكره منه، والنهاية في هذه الحالة كما في تلك جديرة بالإعجاب.»

وكلام هذا الناقد صحيح، فأنت يخيل إليك حين تقرأ شعرًا لهاردي أن الكلام فيه مطرق تطريقًا، كما يسبك الحديد المذاب في الأتون الموقد، وليس بمرسل إرسالًا، كما يفيض الماء من الينبوع الجياش، ولكن الذي نريد أن نقوله هنا هو أن شعورنا هذا حين نقرأ كلام هاردي وأمثاله إنما هو من الوهم لا من الحقيقة، أو هو راجع إلى سبب يتصل بطبيعة المعنى لا إلى سبب يتصل بأسلوب الصياغة، فليس الشعراء الذين نتلقى غناءهم كما نتلقى غناء البلبل فياضًا مرتجلًا لا حبسة فيه ولا جهد ولا علاج، هم الشعراء الذين تسهل عليهم الصياغة، ويلين لهم مقاد الكلام، فقد كان البحتري أسلس من المتنبي نظمًا، وأسرى إلى النفس نغمًا، وأعذبه في الذوق مسًّا، وكان مع هذا يعاني في النظم ما لم يكن يعانيه المتنبي الذي لا تسمع منه تلك الصيحة البلبلية الدافقة الطيعة، ولا تتوسم على قصائده ذلك السخاء الفياض بالخواطر والعبارات، وربما حذف البحتري نصف القصيدة لتسلم له السلاسة في بقيتها، ولم يكن المتنبي يفرط في بيت مما يقصد معناه، ولقد كان زهير أسلس من طرفة، وكان طرفة أسخى بالشعر وأسرع في صياغته من صاحب الحوليات الذي قيل: إنه كان ينظم كل قصيدة في عام، وقد عرف عن أناتول فرانس أنه كان يعيد كتابة الجملة الواحدة خمس مرات وستًّا وثمانيًا في بعض الأحيان، وهو ذلك الكاتب الذي يخيل إليك وأنت تقرؤه أنه يرسل القلم يكتب وحده بغير تردد ولا تنقيح، وكان فلوبير يعيد كتابة الصفحة حتى تكاد لا تبقى كلمة من كتابتها الأولى، وهو أعذب من كتب في عصره لفظًا، وأقلهم جهدًا، فيما يبدو على ظاهر الكلام، وربما كان هاردي أقدر على النظم السريع من ملتون الذي تضرب بجزالته وحلاوة موسيقاه الأمثال، ولكنك لا تشعر حين تقرؤه بذلك الانطلاق الذي يستخفك حين تقرأ صاحب الفردوس المفقود، وشمشون الجبار، فنحن واهمون حين نعزو خفتنا في قراءة بعض الأناشيد إلى خفة الشاعر في نظم تلك الأناشيد. إنما هي طبيعة المعنى التي تخيل إليها ما نتخيل من خفة وطلاقة، لا علاقة لهما بعمل الشاعر في صياغته واختبار ألفاظه، فالشك والوجوم والوقار، لا تسلس كما يسلس الغزل الواثق، والحزن الساذج، والأمل الطليق، والشاعر الذي ينظم هذا غير الشاعر الذي ينظم ذاك، فلو أسلمنا شلي أو ملتون قطعة من قطع هاردي لرأينا المطرقة والأتون تظهران في موضع الينبوع والماء السلسبيل، ولو استطاع هاردي أن يحس بالحياة كما أحس بها ذانك الشاعران لسمعنا الصيحة البلبلية، ولم نتخيل الدمية المسبوكة كما نتخيلها الآن، وكل شعر في الدنيا إنما نجم؛ لأن قائله أراد أن ينجمه لا لأنه هكذا يجب أن يقال، وقد يريده الشاعر ويشقى به أشد الشقاء، ثم يجيئنا بالقصيد فنقول أجل هذا كلام يوشك أن يقال بغير قائل! وصاحب الكلام يعلم أنه لو لم يرده ويقتسره على ما أراد، ويسهر الليل في تطويع معناه لنغمته ولفظه، لما صاح البلبل، ولا تدفق الينبوع.

وصفوة القول في هذا الموضوع أن هناك ضروبًا من الإحساس لا يتأتى أن تصاغ إلا في قالب يوهمك الصعوبة والعلاج، ولا يخف بالقارئ خفة السهولة والطواعية، وأن هذه الضروب من الإحساس لهي خليقة، على الرغم من ذاك، أن تصاغ شعرًا، وأن يكون صائغها عريقًا مطبوعًا على سليقة الشعراء، ففي الدنيا أنواع من الشعر بقدر ما فيها من أشخاص، وليس يوقع في روع القارئ أن الشعر هكذا في صورة واحدة ليس غيرها إلا القدامة، وقلة الاطلاع، وضيق نطاق الحياة، والأخذ بأطراف التعريفات التي لا تحصر شيئًا، فضلًا عن أن تحصر حدود الشعر، وهي رحيبة مجهولة كحدود الكون التي لا تعرف الانتهاء.

•••

ويقول جيمس دوجلاس في «الدايلي إكسبرس»: إن هاردي سيطر على فن المنثور، ولكنه لم يسيطر على فن المنظوم، ويقول في الوقت نفسه: إنه كان من عظماء شعراء المآسي في الدنيا، يحسب مع هومر وفرجيل ودانتي وملتون، في سعة الخيال، وجبروت العبقرية، ولا عيب في شعره إلا أنه يعوزه الشكل والأسلوب «ففي شعره كله جبار يئن وينصب أنين المارد المقيد في الأغلال.»

والذي نراه نحن أن المارد المقيد في الأغلال هو عصر الشك والحيرة والاضطراب، لا أسلوب هاردي وطريقته في التعبير، فإذا سألنا هل كان هاردي أصدق شعراء عصره في الترجمة عن روح الزمن الذي عاش فيه أو هو لم يكن كذلك؟ فنحن لا نستطيع إلا أن نعترف له بالتفرد في هذه الترجمة الأمينة الوافية، والتفوق على جميع الشعراء في أداء الرسالة التي توحيها طبيعة القلق ووساوس الارتياب، فكيف يكون مقيد الفن إذن وهذه عبقريته حرة لم تحجب من صورة الزمن كثيرًا ولا قليلًا، ولم يعقها عائق أن تنطق بأسلوبها الذي لا ينطق الوحي العصري بأسلوب سواه؟ إن الريشة هنا حرة مرسلة، وإنما القيد والأنين في شبح المارد الذي نقشته الريشة على الصفحة السوداء، فهناك التململ والاضطراب، وللريشة الثناء والإعجاب، ولا يخلو القارئ من ذنب يلام عليه؛ لأنه صفر للمثل المجيد من حيث كان أحق بالتهنئة والتصفيق.

ولسنا نعني أن توماس هاردي كان مبرءًا من كل مأخذ في النظم والصياغة، فقد قلنا في ذلك ما يدفع هذا الالتباس، ويدل على رأينا في شاعريته، وأسلوبه، ومنحاه، ولكننا نريد أن نقول: إنه ما كل قيد تحسه في الشعر يكون قيدًا في الشاعر، فإن للموضوع قيوده، وللزمان قيوده، والشاعر الطليق القدير هو الذي يريك القيود حين لا تكون حرية ولا انطلاق.

١  ٣ فبراير سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤