إبلاسكو أبانيز١

كان في بداية هذه السنة أربعة من أعلام الرواية المشهورين في العالم لا تخرج إمامة هذا الفن من بينهم، ولا يكون إمام القاصين في الدنيا إلا واحدًا منه، وهم مرجكفسكي الروسي وهاردي الإنجليزي، وبورجيه الفرنسي وأبانيز الإسباني.

فأما مرجكفسكي فمزيته أنه يمزج الفن والعبادة والتاريخ مزجًا ينبض بدم الحياة، ويتخايل في ثوب الجمال، فلا تخلو رواية له من صراع بين العبادات، أو من وثنية الفنان الذي يقدس الصور والأجسام، أو من تصوير لعوامل التواريخ كأنها أدوار يمليها مؤلف عظيم على مسرح رحيب، أو كأن الناس فيها تماثيل تخلق للزينة والنظر، وتمشي من هذه الدنيا في متحف زاخر بالنماذج والأنماط.

وأما هاردي فمزيته الشغف ببساطة الريف، والإيمان بالجبرية، وتحكيم القدر في كبائر الحياة وصغائرها، وإظهار الناس كأنهم ألاعيب في أيدي الطبيعة تهشمهم وتعبث بهم لغير حكمة معروفة ولا دلالة مستبينة، وإدماج ذلك كله في قالب من الشعر تلتقي فيه عزلة الآلهة المنزهين عن عواطف الإنسان، وإنسانية الشاعر الذي نزفت دموعه الأحزان.

وأما بورجيه فمزيته البراعة في حبك فصول الرواية والدقة الصادقة في تحليل النفوس، وتوضيح خفايا الشعور حتى لقد يسهب في ذلك إلى حد ينسيه نفس القارئ، وما قد يعتريها من الملل ويتحول بها من أبطال الرواية إلى المؤلف ودروسه ونظراته في الحياة والناس.

وأما أبانيز فمزيته كل ذلك وأكثر من ذلك، فهو في بعض رواياته ﮐ «سونيكا» مثلًا يضارع مرجكفسكي في إحياء التاريخ، وإلباسه ثوب الفن، ونفاذه إلى لباب العبادة الوثنية، وتقديس الصور والأجسام، وهو في رواياته «الموتى يحكمون» و«زهرة الربيع» و«الغوغاء» و«العرينة الحمراء» و«الفيضان» و«البوديجا» على الخصوص، بل في رواياته كافة على العموم، يضارع هاردي في وصف معيشة الأقاليم، وهموم الزراع والعمال، ومناظر الخلاء كما يضارعه في تحكيم القدر وسخرية الأيام لولا أنه يشوب ذلك برفق لا تراه في «قدر» هاردي المعتزل الأعمى عن كل ما يحيط به من الأوجاع والآمال، وهو في دقة التمثيل ضريب بورجيه في غير تعمل ولا تعمد، ولا شيء من ذلك الأسلوب التعليمي الذي يذكرك بالمشرحة والكتاب، فأنت لا تحس والرواية بين يديك أنك تقرأ كتابة رجل يعنى بتحليل النفوس وتجزئة أنواع الشعور، ولكنك إذا أردت أن تحس ذلك وجدته على مقربة منك في كل رواية، وفي كل بطل وفي كل موقف، كأنه مقصود في غير كلفة ومحلل في غير تجزئة ولا تمزيق، فلو حاولت أن تستخرج من جميع رواياته بطلًا واحدًا كان نصيبه من الشرح الصادق المفصل أقل من نصيب الأبطال في روايات بورجيه، لعز عليك أن تجد ذلك البطل، ولعرفت حينئذ أن التحليل النفسي قد يبلغ تمامه حين يأتي عرضًا ولا يظهر عليه التعمد والالتفات الدائم.

وربما أسهب أبانيز في الوصف واستطرد إلى العلم والدرس ونسي الحادثة والأبطال، ولكنه يستجيز ذلك لنفسه كما يستجيز المحدث المسموع أن يلتفت بسامعيه إلى موضوع له ارتباط بالقصة وللسامعين شوق إلى استطلاعه فيه؛ لثقتهم بخبرته الواسعة، وإمتاعه في كل حديث واستطراد، وإنك لتعجب لما تراه في روايات هذا الكاتب القدير من دلائل الاطلاع الواسع، والخبرة الوافية بشئون هذا العالم، فمن علم بالبحر وأحيائه واصطلاحات رجاله، إلى علم بالتاريخ الغابر والحاضر، إلى علم بالموسيقى والفلسفة والفنون، إلى علم بالحرب والتعبئة، إلى علم بسير العظماء والأدباء، إلى علم لا يباريه فيه أحد بحياة الأندلس في جميع عصورها، وفي جميع الأصقاع التي نزح إليها أهلها؛ وهذا كله إلى تنويع سهل غير متكلف في تصوير الرجال والنساء من جميع الطبقات والأمزجة والأخلاق، ويغلب أن يجعل ديدنه في تصوير النساء خاصة أن يكفر عنهن أو يستجلب لهن العطف بما يقاسينه من الحب والعذاب، إلا إذا كانت المرأة من طبقة الأشراف الماجنة التي يزدريها في بلاده، ويستفز أبناء وطنه إلى احتقارها والثورة عليها، فهو لا يبالي أن يحرمهن شرف الحب ويجعلهن فرائس الشهوات؛ لأنه يرى كما يقول في رواية «الموتى يحكمون»: أن الحب عبقرية كعبقرية الفن والشعر، لا تسمو إليها كل طبيعة ولا يستمتع بجمالها كل من يتحدث بها «فكل إنسان يحسب أن له حقًّا في أن يحب، والحب في الحقيقة كالمواهب والجمال والحظ نعمة نادرة لا يستمتع بها غير نخبة قليلة ممتازة من الناس، إلا أن الوهم — لحسن حظ المحرومين — يتسلل هنا لمداراة هذا التفاوت الظالم، فلا يختم إنسان حياته إلا وهو يحلم بشبابه ويحن له الحنين والأسى، ويزعم لنفسه أنه قد عرف الحب حق عرفانه وما كان الذي عرفه إلا بحرانًا من سورة الشباب»، وهو يعطي المرأة حقها من الدنيا، ويعرفها لها قدرتها في تصريف شئون الحياة وأعمال الرجال، كما يتبين ذلك جليًّا في روايته «أعداء النساء».

وفي قصته الصغيرة «أبناء حواء الأربعة» يقول الراوي: إن حواء لما زارها الإله بعد طردها من الجنة كانت في شغل بتجميل نفسها لاستقباله وإرضائه، واسترجاع النعيم الذي فارقته في السماء، فما هو إلا أن همت بتنظيف أبنائها حتى أقبلت طلائع الموكب الإلهي وهي لم تكد تفرغ من تنظيف الرابع من أولئك الأبناء الكثيرين، فشاء الله أن يهب لأحدهم الملك، ووهب للثاني الفصاحة، ووهب للثالث القضاء، ووهب للرابع المال، وقضى على البقية حين أخرجتهم له عند منصرفه باكين قذرين أن يظلوا في خدمة إخوتهم الأربعة أبد الآبدين، فكان هؤلاء هم طوائف العمال والأجراء الذين قضى عليهم الإهمال بالشقاء الدائم في خدمة الآخرين، وهنا يعترض على الراوي معترض من السامعين فيقول له: ولكنك نسيت أن لحواء بنات كما كان لها بنون، فماذا قسم الله لهن من حظوظ الحياة؟ فيجيبه الراوي: يا بني! إنك لصغير لم تنضجك الأيام كما ينبئني عنك سؤالك. إن الله قد قسم لبنات حواء كل ما يعمل له الملوك، والفصحاء، والقضاء، والأغنياء، والعمال، فهؤلاء لا يتعبون ولا يجمعون لأنفسهم، وإنما يتعبون ويجمعون لينتهي التعب والجمع كله إلى بنت من بنات حواء! وفي هذه القصة الصغيرة يتلخص رأي أبانيز في العلاقات الطبيعية بين الإناث والذكور من ذوي المتربة وذوي اليسار.

ولقد كانت قدرة أبانيز في القصص الصغيرة كقدرته في الروايات الكبيرة على خلاف القاصين الذين يجيدون أحسن الإجادة في إحداهما دون الأخرى، فهو يتناول الحالة النفسية فيفرغها في أقصوصة بارعة، يعنى فيها بالوصف والتمثيل أكثر من عنايته بالواقعة والمواقف، ولست أنسى ما حييت وصفه للعجوز التي فقدت ولدها في الحرب، ثم رأت صورته في عرض عسكري مرسوم على لوحة السينما، ولا وصفه لجلال الأمومة في قصة «المشوه» ولا وصفه لموقف الرجل الملقب بالحمامة في قصة «طلقة الظلام» ولا وصفه للعالم الذي شق الصحراء ليفي بنذره للأيم المقدسة، ولا وصفه لليلة الصربية، أو لخادم القطار، أو للعذراء المجنونة، أو لشخص من الشخوص الكثيرة التي وصفها أبسط وصف وأجمله وأصدقه في أقاصيصه الصغيرة، فتلك صور تنطبع على صفحة الذاكرة فلا تمحوها قراءة الكتب، ولا تجارب الأيام.

ولم يكن يخطر لي وأنا أعد اسم أبانيز بين الأسماء التي يقارن بها هاردي، أنني سأرثي هذا الأديب العظيم عقيب رثائي لذلك الشاعر العظيم، فقد شاء القدر أن يذهب كلاهما في شهر واحد وهما أكبر من نكبر من أدباء هذا الزمان، وكانت خسارة الأدب العالمي بموتها خسارة لا تعوضها الشهور والسنون.

كان مولد أبانيز في سنة ١٨٦٧ بمدينة بلنسية، وكانت صناعته التي تعلم لها المحاماة، وصناعته التي بدأ فيها عمله الصحافة، وليس أبانيز اسمه ولا اسم أبيه، ولكنه اسم أمه عرف به مع اسم أبيه «بلاسكو» على سنة متبعة في بلاد الإسبان، أما اسمه فهو «فيشنت»، ولكنه لم يشتهر به كما اشتهر باسمي أبيه وأمه، وقد نشأ على حب الحرية والجمهورية، فكان من أنصار الكوبيين على دولته حين نهض هؤلاء للمطالبة بالاستقلال، ولاذ بإيطاليا متخفيًا على ظهر باخرة؛ فرارًا بحياته من الموت في إبان الشغب الذي أثاره لنصرة الكوبيين، وقد سجن مرارًا وذاق العذاب أمرَّ العذاب في سجنه، فلم يتحول عن رأيه ولم يعدل عن معاداة الحكومة الملكية؛ لأنه رأى كما قال بلسان الخطيب النائب في رواية الفيضان «إن المال الذي يُنفق على البيت المالك أكثر من المال الذي ينفق على التعليم، وأن تزويد أسرة واحدة بما يملي لها في عيشة الكسل والبطالة يكلف الإسبان ما لا يكلفهم إياه إيقاظ جيل كامل لحياة العصر الحديث، وأن المدارس في فلب العاصمة الإسبانية باقية في كهوفها القذرة، بينما ترتفع الكنائس والأديرة في أكبر الطرق والميادين كأنها قصور السحر التي يتحدثون بها في الأساطير؛ وأن خمسين بيعة جديدة قد أقيمت في خلال عشرين سنة؛ لتحيط بنطاق العاصمة ولم يبن فيها غير مدرسة واحدة تقارن أية مقارنة بالمدارس التي غصت بها كل مدينة في إنجلترا وسويسرة» فهذه الحقائق وأمثالها مما ألقاه على لسان خطيب الأحرار في مجلس النواب، هي التي بغضته في نظام الملكية والكنيسة، ودفعت به إلى محاربة هاتين القوتين حربًا لا مهادنة فيها ولا سلام، وهو نفسه كان نائبًا يلقي مثل هذا الكلام في مجلس النواب، حيث انتخب سبع مرات للنيابة عن مكان مولده بلنسية، وربما كانت كراهته للألمان ومناصرته للحلفاء بكتاباته ورواياته في أثناء الحرب العالمية أثرًا من آثار سخطه على الملوك الجرمان، الذين وطدوا في بلاده نظام الاستبداد والكنيسة، وملكوا الرهبان نصف الأرض يستغلونها، ولا ينفقون منها في غير المظاهر والشهوات. وقد نعى على هؤلاء الملوك أشد النعي في رواية «ظل الكنيسة» وألقى عليها تبعة الضعف والفاقة التي أصيب بها شبه الجزيرة، بعد أن أزهر وأثرى في عهد المغاربة المسلمين.

وعرف أبناء قومه إخلاصه وصدق بلائه، فأحبوه حب العبادة واستدعوه إلى أمريكا الجنوبية ليحاضرهم في الأدب والاجتماع، فاستقبله على الشاطئ ثمانون ألفًا من سكان «بونس إيرس» يحفونه بإجلال كإجلال الأرباب وحب كحب الآباء، وطاف تلك الأرجاء جنوبًا وشمالًا فحث أبناءها على تعمير ما لم يزل من أرضها صالحًا للتعمير، فاستجابوا له وأسرعوا إلى تلبية نصحه، وكان له بذلك فتح في عالم الزراعة والصناعة كفتحه في عالم الأدب والسياسة، إلا أن الرجل ما لبث أن كابد السياسة وبلا من دسائسها وألاعيبها ما يبلوه منها المصلح الحر النزيه حتى عافها وتزعزعت ثقته بجدواها في الإصلاح والتجديد، فدان بالعلم والفن وحدهما وصرف لهما كل سعيه وجاهه واقتداره، وآمن بشيء واحد هو الإشفاق على أهل وطنه الجهلاء الفقراء، والنقمة على طغاته الظلمة الجبناء، وقد عاش مغضوبًا عليه من هؤلاء منفيًّا على تخوم بلاده حيث أقام على رابية جميلة يكتب الرسائل والروايات، ويستأجر الطيارات لإلقاء النشرات على الجماهير في المدن والقرى التي حرمت فيها كتبه ورسائله ورواياته، ومات ولما يزل في منفاه.

ولا نظنه احتفظ بعقيدة ثابتة تطمئن إليها نفسه، كما يطمئن المؤمن إلى عقيدة دينه. إلا أنه كان يعتقد كما قال في رواية «بحرنا»: «إن جميع الأديان تفقد بعض جمالها حين تعرض للنقد والامتحان، ولكنها على الرغم من هذا ما فتئت تنجب القديسين والشهداء وجبابرة الأخلاق، وقد عرفنا من شتى التجارب أن كل ثورة محصها العلم تنكشف عن عوار لا يقره الباحثون، ولكن هذه الثورات ما برحت تخرج للعالم خيرة أفراده، وأعجب أعمال جماعاته، وغير كاف أن نولد ونلد لأن الحيوانات جميعها تعمل في هذا ما يعمله الإنسان، وإنما على الإنسان أن يضيف إلى ذلك شيئًا لا يملكه سواه وهو ملكة النظر إلى المستقبل، ملكة الأحلام، فلا غنى لنا عن مثل أعلى نضيفه إلى تراث الآباء، أو عن قدرة تتكفل لنا ابتداع ذلك المثل المأمول.»

فعقيدة أبانيز هي العقيدة في تلك القدرة، وإصلاح وطنه هو القطب الذي دارت عليه تلك العقيدة، ولما نشبت الحرب العظمى كان رجاؤه أن ينجلي نصر الحلفاء من تمكين الحرية، وإسقاط الملكيات البالية، فأكب بجملته على تأييد قضية الحلفاء، وزار الميدان مرات وألف رواية «فرسان الرؤيا» التي أطارت شهرته في الخافقين، وقيل فيها إنها أروج كتاب بعد التوراة، ولم يكرثه أن يكسب منها فقد باعها بستين جنيهًا لصحفي أمريكي، وهي تلك الرواية التي أدرت على ناشرها ألوف الجنيهات، ولكنه نظر إلى قضية العدل والحرية، حيث آمن بها فما وني ولا أحجم عن نصرتها بما استطاع وما ملك من هبة ومال.

لقد كان الرجل فخر وطنه في هذا العصر، ومات منفيًّا عن وطنه! إن في ذلك لعبرة بالغة، وإن الغد ليرينا من بقية هذه العبرة، ما يؤكد يقين القائلين بأن العاقبة للمصلحين.

١  ١٠ فبراير سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤