الشعر والنثر١

… يرى الأستاذ أن النثر الآن بلغ مبلغًا لم يبلغه في أي عصر من عصور اللغة، ويظهر أثر ذلك في وفرة عدد الكتاب، وتنوع موضوعات الكتابة، ثم في سعة المفردات، فأنا وإحكام الأسلوب، وفي نفسي من الأمرين الأخيرين شيء، أما سعة المفردات فأنا أعتقد أن اللغة كائن حي يقوم بعض ألفاظها على أنقاض بعض، وأن بجانب هذه الألفاظ التي استحدثت في اللغة العربية — وقليل ما هي — ألفاظًا أخرى أوفر منها عددًا كانت تستعمل في بعض العصور، وقد أميتت عندنا الآن تمامًا، فكما أن الحاجة تحفزنا الآن إلى استحداث ألفاظ لمعان حديثة كذلك كانت حاجة الجاهلية مثلًا تمس إلى استعمال ألفاظ كثيرة، قضي علينا بتركها تغير وجه الحياة.

وكذلك القول في إحكام الأسلوب، فإنني في حاجة إلى من يثبت أن أساليب كتابنا اليوم في المواضيع التي يطرقونها أحكم من أساليب الجاحظ، وابن المقفع، والصولي، وابن مسعدة، ومن إليهم في المواضيع التي طرقها هؤلاء. على أن وفرة عدد الكتاب في العصور الحالية وقلته في العصور الخالية يرجع إلى عدم وجود المطبعة، أو عدم انتشارها في تلك العصور.

بقي أمر أكاد أعتقده دليلًا على عدم نضج النثر، وقد وجدت الأستاذ الزيات أشار إليه في العدد الثاني من «الجديد» بقوله: «لا نزال نعرف النثر في نسج الفصول وإنشاء الرسائل، والغرب يمطرنا كل يوم فنونًا شتى من القصص الرفيع يعالج فيه كتابه مشاكل الحياة ومسائل اليوم.» والحق أن اختفاء القصة من عالم النثر أمر يدعو إلى القلق لا سيما وهم يعدون ذلك عيبًا في الشعر الذي يرسف في أغلال الوزن والقافية، أما جمود الشعر فيرى الأستاذ أن من أسباب ذلك أسبابًا عالمية ترجع إلى أن الحب والنخوة اللذين يدور عليهما الشعر قد أصبحت تحركهما في العصور الحالية الصور المتحركة ومسارح التمثيل، ثم إلى انصراف الناس عن الشعر بالمناوشات السياسية، ولا أدري هل كان لهذه الأسباب أثرها في الشعر الغربي أم لا؟ ثم لا أدري كيف أوفق بين ذلك وبين تقدم الشعر الإغريقي القديم في العصور التي انتشر فيها عندهم التمثيل، ثم قد يكون من المشكل علي في رأي الأستاذ أيضًا أن يأخذ على شعرائنا اقتناعهم بالفكر السطحي، ويحتم على الشاعر أن يكون فيلسوفًا، وهو بجانب ذلك يقول: إن الشعر خلق لتغذية العواطف، وأكاد أعتقد أن تغذية العواطف تتناقض مع الفلسفة التي تستلزم توغلًا في التفكير وتعمقًا في البحث واستكناه الحقائق، وبعد فقد أدليت إلى الأستاذ الجليل بتلك الكلمة الجريئة البريئة آملًا أن يغتفر لي ما فيها من الجرأة على مقامه الرفيع لبراءتها من كل شيء إلا بغية الوقوف على تلك المواضع التي أشكل علي أثرها. فحبذا لو تفضل بذلك ثم ذكر لنا في شيء من التفصيل بعض الأبواب التي كان ينبغي أن يطرقها الشعر الحديث ولم يفعل أو طرقها وقصر فيها …

محمود غنيم
بدار العلوم

جاءتني هذه الرسالة وفي بعض أسئلتها منادح لتفصيل رأي، أو تصحيح فهم، أو توكيد حقيقة مما أسلفته في كلامي عن الشعر، والنثر ونقدي لبعض الشعراء، فرأيت أن أجيب على تلك الأسئلة بل لعله يزيل لبسًا عرض من مفاجأة الرأي، ويصحح فهمًا مستعدًا للتصحيح.

إن قولنا: إن اللغة كائن حين لا يناقض القول بأن اللغة العربية قد اتسعت للتعبير عن المعاني المختلفة اتساعًا لم يسبق لها عهد بمثله في عصر من العصور، وإلا استحال علينا أن نزعم أن لغة ما على الإطلاق تتسع وتزداد صلاحًا للتعبير؛ لأن كل لغة كائن حي فكل لغة إذن تنبذ بعض مفرداتها، وتستحدث غيرها ولا زيادة هناك ولا اتساع، وهذا خلاف الواقع المشاهد في تطور جميع اللغات التي يقال فيها إنها تزداد وتنمو؛ لأنها كائن حي يقبل الزيادة والنماء، وإلا كان مصيره إلى الهرم والفناء، وإنما المقياس الذي نفضل به عصرًا على عصر في أطوار اللغات هو أن نعلم أي هذه العصور يحتاج أبناؤه إلى مادة من اللغة أوسع وأغزر، وهل هو يفي بتلك الحاجة ويقوم بها أو يكون أوفى بها وأقوم عليها من سواه؟ ولا شبهة في أن عصرنا الحاضر هو أحوج العصور إلى المادة اللغوية؛ لأن نصيبه من العلوم والمطالب الفكرية والاجتماعية أعظم من نصيب الجاهلية، وصدر الإسلام، وما بعد هذين العصرين إلى أوائل القرن الثامن عشر للميلاد، ولا شبهة كذلك في أننا لم نكن أعجز عن الوفاء بتلك الحاجة من أي عصر عربي أحس خلة في اللغة وتصدى لسدها، وإن شئت فتخيل أديبًا عباسيًّا ينتقل إلى عصرنا وأديبًا عصريًّا ينتقل إلى عصر العباسيين، وقل لنفسك أيهما يحس بالحرج حين يتصدى للكتابة في موضوعات زمانه؟ إن أشد الجامدين عنتًا ليؤمن بأن الحرج على الأديب العصري المنتقل إلى زمان العباسيين أهون من الحرج على الأديب العباسي المنتقل إلى هذا الزمان.

ونريد أن نقول هنا: إن مادة المعجمات العربية ليست بمادة لغة واحدة مقدرة على حسب الأشياء، وإنما هي في حقيقتها مادة عشرين لغة أو تزيد؛ لأنها تورد لنا المفردات التي استعملت في لهجات قبائل شتى ولغاتها لا في لغة واحدة وضعت فيها الكلمات على قدر المعاني، فاقسم العدد على عشرين أو أكثر تنقص معك مادة المعجمات إلى ثروتها التي لا تمويه فيها ولا مبالغة، أما اليوم فنحن نمشي في طريق التخصيص فننبذ التكرار الذي لا فائدة له، ونكتفي بكلمة لكل معنى لا تشاركها كلمة غيرها في أدائه، وشتان بين لغة تعطيك خمسمائة كلمة لشيء واحد وتضن عليك بكلمة واحدة لمئات الأشياء، ولغة أخرى تعطيك كلمة لكل شيء وتبلغ مفرداتها مبلغ تلك في الكثرة والاتساع، فلغة الجاهلية أضيق اللغات إذا قيست بما نطلبه نحن من مفردات المعاني ومصطلحات الفنون والعلم الحديث.

أما الأسلوب إن كنت تعني الأسلوب المرسل في مثل كتابي كليلة ودمنة والحيوان، فعلم الحساب يثبت لك أن هذين الكتابين أقل في عدة المفردات، وتنوع التركيب، ووضوح الأداء، والقصد في العبارة، من كتب المعاصرين التي يحتفلون لها بالتجويد والانتقاء، وإن كنت تعني أسلوب المقامات والأسجاع والفواصل، فهذه ما تركها أدباء العصر تهيبًا لها ولا جهلًا بها؛ لأن سخفاءه يجيدونها كما أجادها نبغاء المتقدمين، ولكنهم تركوها ازورارًا عنها، وعرفانًا بفضل البساطة والترسل في الإفصاح عن طوايا الأفكار والنفوس، وإنك لتجد في كتابات الجاحظ، وابن المقفع، والجرجاني، من الفهاهة والغموض كلما اعتمدوا التفكير ما يقل مثله في كتابات المعاصرين النابهين، وليست كثرة هؤلاء الكتاب راجعة إلى المطبعة كما قلت؛ لأن المطبعة أداة للنشر وليست أداة لخلق الكتاب، ويصح أن يقال إنها سبب من أسباب تصعيب الشهرة، وقلة التبريز لكثرة المتسابقين في الميدان، وشدة الزحام على النبوغ، فما يهمل من الكتابة في عهد المطبعة أضعاف أضعاف ما يهمل في عهد المخطوطات، ومجال الكاتب في القرون الوسطى أسهل وأرحب من مجال الكاتب في القرن العشرين.

وليس من الصواب أن نقول: إن النثر لم ينضج عندنا؛ لأننا لا نكتب القصص كما يكتبها الغربيون، فإن القصة أقل أبواب النثر حاجة إلى غزارة المادة وبلاغة الأسلوب؛ لأنها تبلغ بالإسهاب والحوار وإلقاء الكلام على ألسنة العدد الكثير من الناس ما يبلغه كاتب الرسائل بالقول الصادع، و«جوامع الكلم»، ووضع الحصر في موضع التوزيع، ولكننا لا نرى بيننا القصاص المنقطعين لكتابة الروايات والقصص؛ لأن الترجمة أسهل من التأليف، ولأن الأوربيين سبقونا إلى باب الرواية فاشتهروا بها وأخذوا سبيل المزاحمة على مريدي التخصص في هذا الباب، ولا يقال: إن النثر عاجز في أسلوب القصة؛ لأن النثر العربي في عصرنا لا يعجز عن استيعاب قصة من أجود القصص التي كتبها الغربيون، فإن أردت الملكات فلك أن تحكم بأنها معدومة أو قاصرة؛ لأن القارئ العربي يجد الميدان مكتظًّا بالقصص الغربية الشائعة فيميل إلى المترجم دون المؤلف، ولا يطول صبره على المبتدئين حتى يضارعوا أساتذة هذا الفن من الغربيين.

•••

ونقول: إنك لا تدري كيف توفق بين جور التثميل والصور المتحركة على الشعر في العصر الحديث، وبين تقدم الشعر الإغريقي القديم في العصور التي انتشر فيها عندهم التمثيل، فاعلم أنك تدري كيف توفق بين الأمرين حين تعلم أن الشعر كان مستأثرًا بجميع فنون الكلام في عصر الإغريق، ثم شاركه النثر وظهر التخصص في الموضوعات، وما زال يظهر حتى انقسمت الروايات إلى تمثيلية وغير تمثيلية، وانقسمت التمثيلية إلى أقسام معروفة بأسمائها وعلاماتها، وغير التمثيلية إلى أقسام معروفة كذلك بأبحاثها ومطالبها، وكل هذه وما يضاف إليها من الصور المتحركة، والمشاهد المنوعة، والملاهي الطريفة، والصحف والمجلات، قد انتزعت من دولة الشاعر ما كان له وحده بغير منازع، فمكان الخيال والعاطفة يشغله الآن عشرات من أنواع الكتابة واللهو، ولم يكن يشغله في الزمن القديم غير نوع واحد، وهذا فضلًا عما أشرنا إليه في مقالاتنا من شيوع التعليم بين العامة، ووفرة أرباح الذين يكتبون لهم، وانصراف الأدباء إلى هذا المورد السهل القريب عن موارد للأدب الرفيع تجشمهم أضعاف العناء ولا تبض لهم إلا بالربح القليل، أما أثر السياسة في الشعر فإن المنازعات السياسية تقوم اليوم على برامج الأحزاب، وتفاصيل الخطط، وبراهين الوقائع والأرقام، بعد أن كانت تقوم في العصور الغابرة على التنافس بين الملوك، والتفاخر بالفضائل الشعرية، فلا محل فيها اليوم للشعر كذلك المحل الذي كان له في دولات الملوك السابقين، فإذا ظهرت العاطفة في السياسة فهناك يظهر الشعر على قدر، وهناك نرجع إلى حال يشبه ما كان من أحوال الشعراء في العصر القديم.

•••

وما حتمت أنا على الشاعر أن يكون فيلسوفًا، بل أنا لم أكد أفرغ من مناقشة الأستاذ الزهاوي في التفريق بين الشاعر، والعالم، والفيلسوف، وإنما قلت: إن الشاعر الكبير هو من يشعر بجوانب الحياة فتستخرج من شعره صورة جامعة لكل شيء فيها، وفلسفة خاصة أو نظرة خاصة إلى العالم كما يدركه هو ويراه، فمثل هذا الشاعر إذا سألت عن صورة الحياة عنده أو عن فلسفته هو في الحياة أمكنك أن تجدها مفرقة في شعره، ناطقة بسعة نفسه، واشتمال قريحته على كل ما حوله، أما الشاعر الذي تحاول أن تعرف كيف أحس بالحياة في جملتها فلا نعرف لها صورة جامعة في شعره، ففيم تسميه شاعرًا كبيرًا وكيف نفرق إذن بين الشاعرية وصياغة الألفاظ واللعب بالأوزان.

وكأني بالأديب كاتب الرسالة يحسب أنني أقيد الشاعرية بأبواب دون أبواب، فهو يسألني أن أذكر له في شيء من التفصيل بعض الأبواب التي كان ينبغي أن يطرقها الشعر الحديث ولم يفعل، أو طرقها وقصر فيها، فليعلم أن أبواب الشعر عندي هي أبواب الحياة على اتساعها فمن دل على حياة شاعرة في نظمه فهو شاعر، ومن لم يدل على ذلك فما هو بشاعر، ولو نظم في جميع الأبواب التي عرفها الشرقيون، والغربيون، والقدماء، والمعاصرون، وإن ما آخذه على الشعراء الذين أنقدهم وأستصغر شأنهم هو أنهم لا يحسون، لا أنهم ينظمون في هذا الباب ويدعون بابًا غيره أولى بالنظم فيه، فإليك الغزل مثلًا وهو أقدم الأبواب في الشعر كله، هل تستطيع أن تعثر في نظم شعراء الجمهور بقصيدة — نعم بقصيدة واحدة ليس إلا — تدلك على أنهم أحسوا حقًّا إحساس العاشق، ووصفوه في بعض أطواره وخطراته وصف العارف الخبير لا وصف المقلد لمطالع الأولين، واللاعب بالكلمات ونكات الألفاظ؟ فإن لم يكن فيهم دليل على الإحساس في هذا الباب؛ فليست الأبواب هي التي تعوزهم، وإنما الذي يعوزهم هو الحياة أو الإدراك والشعور، وليس يغنيهم عنهما أنهم مرنوا على الوزن عشرات السنين، فإننا لا حاجة لنا بهذه ولا من أجلها كان وجود الشعر في لغات الناس.

١  ١٧ فبراير سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤