الغيرة

عطيل والزنبقة الحمراء! ما أعجب المصادفة التي جمعت بين هذين الأخوين المتباعدين في رف واحد! وما أجدرنا أن نؤمن بأرواح الكتب لحظة لنصدق أن هذين الكتابين إنما تصافيا وتوافيا لاتفاق بينهما في الروح، وتشابه في الهوى والمزاج، ومحنة واحدة ألفت بين عطيل المغربي وجاك الفرنسي، وبين شكسبير في الأقدمين وأناتول فرانس في المحدثين، فسعى كلا الكتابين إلى الآخر بين الرفوف، وغنما ثمة هنيهة يتناجيان فيها على غرة من الكتب المتطلعة وغفلة من اللجاجة والفضول!

ولكن حسب الدنيا ما فيها من المراء والنزاع على أرواح الناس فلا نزيد عليها أرواح الكتب، ولا تدخل الخصومة والصداقة بين الرفوف والأدراج فيعز عليها القرار ويعود حفظ الكتاب عملًا أشق على أصحابه من عمل المروض الذي انقطعت عنده السلاسل وتكسرت القضبان! فلا مصافاة هناك ولا موافاة بين عطيل والزنبقة الحمراء، ولا بين روح شكسبير وروح أناتول، وإنما هي كتب ضاق بها المكان على الرفوف المرتبة فلقيت مكانها على الرف المعزول في انتظار الترتيب والتجليد، وهذا هو السر كله في تلك الصداقة التي جمعت عطيلًا الأسود والزنبقة الحمراء، وألقت بهما معًا في ذلك الجوار السعيد! ولعله ليس أضعف من السر الذي يؤلف جميع الصداقات بين الناس ويلقي بهم في كل جوار.

فيم يشترك هذان الكتابان على ما بينهما من البعد في الجنس واللغة العبقرية والزمان! يشتركان في حكاية الغيرة العمياء التي تقوم على أوهن الأسباب، وأسخف القرائن، فتُودي بحياة طيبة أو تقضي على سعادة راضية. يشتركان في هذا السُّم الذي تكفي قطرة منه لتكدير «أوقيانوس» من الهناءة والثقة والراحة والصفاء، يشتركان في تمثيل ضعف هذا الإنسان الذي تعصف بسعادته في الحياة همسة شاردة، أو شية باطلة، والذي ترتبط سعادته كلها بسبب ما أهونه! وما أقرب امتحانه بالنكث والانحلال!

عطيل قتل صاحبته ولم يرحم شبابها وجمالها، ولا أصغى إلى ضراعتها وابتهالها، لِمَ؟ أكان يبغضها؟ أكان في نفسه شبع من متعتها ونعيمها وبرد ظلالها وطراوة عطفها؟ كلا! بل لقد كان يهم بقتلها وإنه لأشغف ما يكون بها، وأشوق ما يكون إلى قربها، وكان يصر على إهلاكها وإن رحمته بها لتأبى عليه أن يرسل نفسها إلى السماء خاطئة، أو يُصعدها إلى ربها منقوصة الغفران، فيقف عندها في صلابة الصخر، ورقة الماء يقول لها: هل صليت الليلة يا ديدمونة؟

فتقول: نعم يا سيدي.

فيقول: إذا كنت تتذكرين لك ذنبًا يُبقي بينك وبين رحمة الله فرجة فاستغفري حالًا.

ثم يظهر لها نية القتل فتسأله في لهفة. أتذكر القتل؟ فيجيب: إياه أذكر، فتهتف خائفة؟ إذن لترحمني السماء! فيقول وقلبه يقطر دمًا: آمين، بكل جوارحي.

ثم يعلنها بالشبهة ويدور بينهما هذا الحوار.

عطيل : احذري يا حبيبتي! احذري من الحنث وأنت على سرير الموت.
ديدمونة : نعم ولكن لا. لا أموت الآن.
عطيل : بل الآن، وأن تعترفي خير لك لأنك لو أنكرت كل جزء من أجزاء ذنبك، وشفعت كل إنكار بقسم لما بددت قوة العقيدة التي أتألم منها، ستموتين.
ديدمونة : إذن ليرحمني الله.
عطيل : آمين.

وهكذا يقتلها وهو يرحمها، ويقصيها عن الدنيا وهو يتمنى اقترابها، ويريد هلاكها لا لأنه يكرهها، ولكن لأنه كان في نوبة من القلق اللاذع يريد معها هلاك نفسه.

وجاك — في رواية الزنبقة الحمراء — يعرض عن حبيبته، ويصم أذنيه عن ندائها وإلحافها، ويعمي عن البينة الناطقة ليستسلم للوهم الخادع، ويعصي كل دعوة تهيب به إلى المودة والاتصال ليطيع كل نبأة تميل به إلى الهجر والقطيعة، لم؟ ألعداوة ونفور؟ ألزهد في ذلك النعيم الذي راح يحتويه، وذلك الحب الذي يشيح عنه؟ كلا! بل لفرط رغبة وشدة غرام، ولو أنه كان أقل رغبة وأضعف غرامًا لما أمعن في طلب الهجر ذلك الإمعان، ولا حنقت نفسه على صاحبته ذلك الحنق، وإنما هو يدفعها عنه؛ لأنه يريد أن يضمها إليه فلا يستطيع، ويأبى أن يراها لأنه يحب أن يراها لنفسه فلا يطيق.

يقول سليمان الحكيم: «إن الغيرة قاسية كالقبر.» وهي مقالة رجل ملك مئات النساء، وحق له أن يكون أزهد الناس في العشيقات، وأقلهم غيرة على الجواري والزوجات. ولكن الغيرة لا تعنيها الكثرة والقلة ولا تعرف الزهد والقناعة، وقد يغار صاحب الألف على واحدة توشك أن تفلت منه، كما يغار صاحب الواحدة التي لم يكن له سواها من قبل ولن يتعلق له رجاء بسواها بقية حياته، فحيثما تتحرك الأثرة فهناك تتحرك الغيرة، وقد تكون الأثرة مع الغنى كما تكون مع الفقر، بل لعلها في نفس الغني المجدود أقوى منها في نفس الفقير المحروم.

والمنافسة أقوى بواعث الأثرة، فحيثما تشتد المنافسة ويكثر الزحام تظهر الأثرة وتظهر معها الغيرة وإن لم يكن في الأمر حب ولا وفاء، ولهذا تكثر الغيرة حول النسوة اللواتي يبرزن للجماهير؛ لأنهن معروضات للمنافسة والسباق بين الطلاب، فيكون لهن شأن أكبر من شأنهن في الجمال أو الرشاقة أو الذكاء، ويبدون من هذه الوجهة كأنهن القصبة التي يتهافت عليها المتسابقون ولا قيمة لها في نفسها، وإنما القيمة للسبق لا للغاية، واللذة للظفر لا للشيء المظفور به، ولو كانت الخيبة في رهان الخيل مثلًا أو في أي رهان من قبيله تمس عطف الإنسان وغروره كما تمسهما الخيبة في طلب المرأة، لرأيت في ميدان السباق من التنافر والبغضاء مثلما تراه في ميدان الغرام.

يقول روشفكول وهو حكيم خبير بهذه الشئون: «تولد الغيرة مع الحب، ولكنهما لا يموتان معًا في كل حين»، وكان الأصدق أن يقول: إن الغيرة تولد مع الاهتمام أيًّا كان سببه وكيفهما كان الباعث إليه؛ فقد لا يكون الاهتمام عن حب الإنسان الذي أنت مهتم به، ولكنما هو اهتمام للمنافسة في ذاتها كما تقدم، أو للشخص المنافس أو لإرضاء شعور في النفس لا علاقة له بهذا ولا بذاك. إلا أن أقتل الغيرة وأمضها وأقساها، ما كان عن حب صحيح، وثقة مكينة، ورجاء غير مشكوك فيه. فإذا أحب العاشق واطمأن إلى حبه، وبسط الرجاء في مستقبله لا يرى له نهاية ولا يقف فيه عند أمد، ثم أفاق فجأة على شبهة تنغص حبه وتزلزل مكان الثقة من عطفه، وتقتضب عليه أحلامه وآماله وتحد من سعة ذلك الرجاء الذي كان يبسطه على الحياة وما فيها بغير حد ولا نهاية، فذلك هو الجحيم الموبوء الذي لا فرار فيه ولا ملاذ منه، وذلك هو العذاب الذي لا طاقة للجسم والدم بمثله، ولا تُمنى الطبائع الآدمية بما هو أنكأ منه وأمر مذاقًا؛ فإن كانت الغيرة من شك، فهناك الحيرة الكاظمة، والقلق المُلِحُّ المسموم، وأي عذاب أقسى من قلق يثير الوساوس ثم يطلق زمامها، فلا هو يردها بعد ذلك؛ ولا هو قادر على أن يميل بوسواس واحد منها إلى الراحة؟! وإن كانت الغيرة عن يقين فهناك الصدمة القاتلة كأنما هي صدمة المقبل بكل قوته إلى حيث يهدأ ويستريح، فإذا هو يستقبل الضربة المصمية في المقتل الأمين، ولقد قيل: إن الحب بغير عيون؛ لأنه ينخدع عن الحقيقة الواضحة، ويماري في الواقع المحسوس، فإن كان لذلك سبب فليس هو الغفلة كما قد يظن لأول وهلة، ولكنه هو هول العذاب الذي يخافه المحب ويتهيبه فيسهل عليه في سبيل الهرب منه أن ينكر الشمس ويصدق المستحيل.

ولكن إذا صح أن الحب بغير عيون فالغيرة لها عيون مفتوحة لا تحصى، وإن كانت لتضل عمدًا عن الرؤية في معظم الأحايين! وبين عمى الحب ويقظة الغيرة ألم جهنمي كألم الجسم المشدود بين قوتين تعدو كل منها في طريق!

الغيرة جنون يشترك فيه الإنسان، والحيوان، والرجال، والنساء، وربما تواتر بين الناس أن المرأة أشد غيرة من الرجل؛ لأنها تستغرق شعورها في الحب، ولا تستبقي لنفسها بقية تعوذ بها عند الخيبة فيه، وأنها تفتأ حياتها بين غيرة تضاعفها الشبيبة والسذاجة، وبين غيرة تضاعفها الكهولة والعلم بطبائع الرجال، فهي إذا كانت فتية جاهلة بالحياة كان ألم الغيرة عندها شديدًا قاسيًا على قدر الفتوة العارمة والثقة المخدوعة، وهي إذا كانت كهلة محنكة السن أشفقت من إدبار العمر؛ واشتدت غيرتها على قدر اشتداد الشك والحذر من تقلب الرجال، وهي في الشباب والكهولة أميل إلى الاستسلام وأسرع إلى الإدبار والهرب، فهي لهذا أغير من الرجل وأعنف في هذه الخالجة العتية الهوجاء. بيد أن صاحبنا أناتول فرانس — مؤلف الزنبقة الحمراء — يزعم غير ما يقول الأكثرون ويبني روايته هذه على ذلك الاعتقاد المخالف لآراء الكثيرين، فهو يقول: «إن الرجل الغيور يغار حقًّا، ويتهم المرأة لكونها تحيا وتتنفس؛ وهو يخشى خطرات السريرة، ونزعات الجسد، والفكر التي تجعل من المرأة مخلوقًا آخر منفصلًا عنه مستقلًّا بنفسه مدفوعًا بغريزته، متناقضًا في طبيعته، ممتنعًا على الفهم والإدراك في بعض الأحيان، وهو يتعذب؛ لأنه يراها تتفتح عن طبيعته الحلوة كما تتفتح الزهرة، ثم لا يأمل أن يحتجن الحب — بالغة ما بلغت قوة أسره وصلابة قيده — كل ما يتضوع من شذاها في تلك الآونة المهتاجة التي تسمى الشباب والحياة، والسيئة الفذة التي يحاسبها عليها في أعماق قلبه هي «أنها هي» أي أنها كائنة، وأنها جميلة وأنها تحلم الأحلام! وكم ذا من قلق المعنت في هذه الفكرة؟!»

ثم يقول: «أما المرأة فلا تحس في نفسها شيئًا من هذه الخواطر الجامحة، وأكثر ما تظنه غيرة منها إن هو إلا شعور المزاحمة.

فأما هذا العذاب الواصب في كل جارحة وهذه الوساوس الشيطانية التي تتحكم في الخيال، وهذه اللواعج الطاغية المحزنة، وهذا الهياج الجسدي الثائر فلا شيء من ذلك عندها، أو أن ما عندها يقرب من لا شيء.

فشعورها في الغيرة يخالف شعورنا في وضوحه واستقامته وطبيعتها يعوزها ضرب واحد من الخيال، لا ينمو فيها على أتمه حتى في شئون الحب والحواس، ونعني به الخيال التصويري المحسوس، والقدرة على استكناه الرسوم المحدودة، وإنما يشتمل على جميع شواعرها غموض شامل وتتحفز قواها كلها للصراع في لحظة واحدة، فإذا سارت غيرتها مرة وثبت للكفاح في عناد جامح بين العنف والحيلة لا طاقة به للرجل، وشحذ عزيمتها للكفاح نفس ذلك المهماز الذي يمزق أوصالنا ويضعضع قلوبنا، فإذا هوت من عرشها فالهزيمة تزيدها مضاء وتهالكًا على الغلبة والسيادة، والخيبة توليها ثقة جريئة مكابرة ترجح على ما يصيبها من خذلان الأسف والكآبة.»

قال: «وانظر إلى هرميون في رواية راسين، فإن غيرتها لا تستنفد نفسها بخارًا أسود يتصاعد من سورة عاجزة، وهي لا تبدي لك إلا قليلًا من الخيال، ولا تنسج من آلامها مأساة من الهواجس المبرحة القاتمة، أو تنفق الوقت في الوجوم والندم، وما الغيرة بغير الوجوم والندم؟ ما الغيرة بغير الوسواس الشيطاني والهوس الملازم؟ إن هرميون ليست بغيرى. إنما هي قد عقدت نيتها على اعتياق زواج تأباه، وصممت على أن تمنعه بكل وسيلة لتسترد إليها العاشق المغصوب، وهذا كل ما في الأمر.»

ولما أن قتل «نيوبتلمس» لأجلها وفي جرائر تدبيرها فزعت وارتاعت. هذا صحيح! ولكن الشعور الغالب عليها كان شعور الأسف والخيبة؛ لأن «مشروع زواجها قد أخفق، ولو أن رجلًا كان في موضعها لقال: حسن! ذلك خير. إن المرأة التي أحببتها لن تزف إلى غيري الآن.»

فأناتول فرنس يجعل الغيرة من خصائص الرجل، ولا يرى أن يسمي هذا الشعور الذي وضعه في المرأة باسم الغيرة كما يسميه جميع الناس، ولسنا نعرف الحكمة في إنكار هذه التسمية، ولكننا نعتقد أن المرأة أشقى بغيرتها؛ لأنها أحوج إلى الحب، وأعظم استغراقًا فيه وأخوف من الفقد والهجران، ويجوز أن تختلف التصورات التي تلهب هواجس الغيرة بين الجنسين، ولكن أليس للرجل منادح من العزاء عن خيبة الحب لا تجدها المرأة؟ أليس يخزيه في نظره ونظر إخوانه أن يفني صوابه في الهوى، وينسى المجد والصراع والمعارف والأمثلة العليا ليشغل قلبه وعقله بامرأة خائنة أو توشك أن تخونه؟ ففي ذلك ولا ريب حافز لهمته وموقظ لنخوته لا تتعزى المرأة بمثله؛ لأنها لا تخجل من الاستغراق في الحب، ولا تحس في طبيعتها ما ينبو بها عن هذا النصيب.

إن الغيرة ثمرة الحب والأثرة والخوف، وهذه العناصر الثلاثة تثمر في طبائع النساء ما ليست تثمره في طبائع الرجال، فهؤلاء وهؤلاء يغارون، ولكن أحرى الفريقين بالزيادة من هو أحرى بالإشفاق، وأخسر صفقة في الضياع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤