الإحساسية في التصوير١

يذكرني مقالك عن «فن التصوير بين القديم والحديث» بذلك المقال الذي أودعت فيه «إحساسيتك» بأول عدد من «البلاغ الأسبوعي» وكنت قد عرضت فيه بالإحساسيين من المصورين تعريضًا أخطر من تعريضك الجديد. على أني أبادر إلى القول بأن اللوحات المشوهة التي لحظتها في الدور الأعلى من المعرض الفرنسي، الذي لا يزال قائمًا إن هي إلا نماذج للفن المصري الذي أبدعت كل الإبداع في تحقيره، والتنفير منه باسم الإحساسية وهو لم يكن ولن يكون من الإحساسية في كثير ولا قليل.

إنما هي بدعة لجأ إليها بعد الحرب الكبرى فئة من المصورين المعاصرين ﻟ «نزوة الإعلان» التي اعتبرتها بحق آفة هذا الجيل، والتي أحسنت بها تعليلك أمرهم وتكييفك إياهم بذلك الذي اصطلحوا على تسميته الفن المصري أو الفن الحديث.

أما الإحساسية الصحيحة — وعام ١٨٦٥ بدء ظهورها — فهي التي لمست أثرها فيما أبدعت إطراءه باسم الفن القديم، وما هو بقديم إلا فن روفائيل ومن نحا نحوه ممن سبقوا الإحساسيين بأجيال.

لقد أخطأ مترجم السياسة الأسبوعية ترجمة «الإمبرشنزم» بالفن العصري في مقال المستر ستيوارت الإنجليزي، وأراه لهذا قد أخطأ تكييف المقال في مجموعه، وإن يكن قد أجاد التعبير في مواضع أخرى كثيرة، وهنا يتجسم لنا الخطر من بقائنا بغير موسوعة عربية تثبت المصطلحات الغربية على حقيقتها الفنية أو العلمية، وتعرف فيها الإمبرشنزم إحساسية لا فنًّا عصريًّا أو حديثًا ويقرأ فيها أيضًا: «إن الذي سيهبط بالفن إلى حيث يكثر فيها الادعاء ويضعف المرجع المصطلح عليه، ويصبح الشذوذ هو القاعدة والقاعدة هي الشذوذ» إنما هو الفن العصري وليست الإحساسية تلك التي أتذوقها في نثرك وشعرك، كما أتذوقها في طريق أهل الفن العالي أمثال من أكبرتهم بحق في مقالك الأخير، وبعد، فكم تكون الإحساسية مدينة لك إذا تكرمت بتحقيق أن الفن العصري شيء آخر غير الإحساسية، ثم أثبت التحقيق في كتاباتك الخالدة، فها هي ذي الإحساسية تحدثني بأنك استمرأتها واستنكرنها في آن! ألست قد استروحتها باسم الفن القديم أو الإحساسية الصحيحة، ثم عدت فاستقبحتها باسم الفن العصري أو الفن الحديث؟ وتقبل.

شعبان زكي
مطرية مصر

أوافق صديقنا المصور الفاضل على وجوب التفريق بين «الإحساسية» والفن العصري لأن ظلمًا كبيرًا للإحساسية أن تزج بآياتها كلها تحت عنوان الصور العصرية، التي لا نصيب لها من فن ولا فهم، ولا ذوق ولا خيال.

وأريد أن أقول هنا إن الذي عنيته بالفن القديم هو الفن الذي يجري على أسلوب «الكلاسيك» أو الرومانتيك مع بعض التجوز، وليس الفن القديم في تاريخه ومولد أصحابه؛ لأن بعض الصور التي نوهت بها لا يرجع تاريخها إلى أكثر من ثمانين أو تسعين سنة كما هو مكتوب على عناوينها، فلا يظن أنني أقصد بنسبتها إلى القديم إلى أسلوبها المدرسي «الكلاسيك» أو المدرسي المعدل «بالمذهب الرومانتيك» وهو تعديل لا يخرجها في أصول الرسم والإحاطة بالموضوع من النظام الطبيعي إلى الفوضى التي لا ضابط لها على الإطلاق.

وإنني أعتقد أن كل تجديد صحيح في فن التصوير لا ينافي «فكرة» الأساتذة الأقدمين عن الفن ونظرتهم إلى الأشياء على الإجمال؛ لأنهم لو عادوا اليوم لما رفضوا أن يستفيدوا في تصويرهم مما أحدثته علوم التشريح، وملاحظة النور والظلام، ولكانوا إحساسيين حين تكون الإحساسية صادقة ومجددين حين لا يتمادى التجديد إلى الشعوذة والبهلوانية، إذ ما هي الإحساسية في نشأتها؟ هي فيما أراها تكميل لنظر الأقدمين، مسبوق إليه أو متوقع في آثار بعض الأساتذة الإسبان والفرنسيين، و«ديلكروا» لم يكن إحساسيًّا ولكن أسلوبه في ملاحظة المسافة لا ينكره الأسلوب القديم، ولا أي أسلوب صحيح، فلا يعاب عليه أنك حين تدنو من أزهاره لا ترى إلا بقعًا من الألوان يتعذر عليك تمييزها، ثم تبتعد قليلًا قليلًا، فإذا هذه البقع ورود وأزهار لا أجمل منها ولا أصدق في رعاية اللون والرسم والمسافة، بل هذا من القدرة التي يعجب لها كل من يراها، والتي تفوق قدرة الأقدمين في فضيلة لا خفاء بها، وهي أن الأقدمين كانوا ينقلون ما يرونه على اللوحة، أما ديلكروا فإن الذي يضعه على اللوحة شيء غير الذي يراه، وغير الذي تراه أنت حين تقف على مسافة محدودة، ولا ريب أن نقل المنظر كما هو أسهل من ترجمته إلى منظر آخر يختلف في القرب أشد الاختلاف وينطبق على البعد المحدود كل الانطباق، وهكذا كانت صور سيسلي ومونيه وبيسارو، أو كانت بعض صورهم التي رأيناها في المعرض الفرنسي واستدللنا بها على قيمة الصور الأخرى، التي لا نراها إلا منسوخة في مجموعات المتاحف، فإنها كلها صادقة إذا نظرت إليها من مسافتها المقدرة أو حبست الأشعة في العين على القدر المناسب لألوانها الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد يسهل ضبطها والرجوع إليها في النقد والتعليم، ومجمل هذه القواعد أن اللون الواحد كالأحمر أو الأصفر مثلًا ليس هو لونًا واحدًا في الحقيقة؛ لأنه يختلف باختلاف اللون الذي كنت تراه قبله وباختلاف البعد والقرب والزاوية التي تنظر منها إلى الشيء الملون به.

وإنك حين تنظر إلى هدف بعد هدف يلزمك حصر للنظر في كل من هذه المرئيات يخالف حصره في الهدف الآخر، وإن المنظر في مجمله غير المنظر في تفاصيله، وإن تعميم الظلال على الأسلوب القديم ناقص في حكم الحس؛ لأن ألوان التظليل لها قانون غير القانون الذي أدركه القدماء، فكل هذا لا غبار عليه. ولكننا لا نريد أن نغلو في تقديره كما يغلو المتشيعون للإحساسية، ولا أن نجرد أسلوب الأقدمين من كل فضله في هذه الناحية، مثال ذلك شجرة معينة تريد أن تصورها: فهذه الشجرة ليست منظرًا واحدًا لأنها في الصباح غيرها في المساء، وفي الربيع غيرها في الشتاء، فما العمل في هذه الحالة؟ هناك ثلاثة أساليب لاستجماع هذه الأشكال المتغايرة: أحدها أسلوب مونيه الإحساسي، الذي يريد أن يصور على طريقة العصفور المتنقل في التغريد، فهو يرسم تلك الشجرة عشرة أشجار أو ثلاثين أو أربعين، على حسب تغير الساعات والفصول والأنوار والظلال، وأسلوب آخر إحساسي يحصر الشجرة وحدها ويغض النظر عن تفاصيل المنظر الذي حولها، وعن تفاصيل الشجرة نفسها؛ ليعطيك إياها في لحظة واحدة من الزمن كما لاحت لعينه، وكما وقعت في نفسه، وأسلوب الأقدمين وهو يضحي ببعض الظواهر التي تضحي الإحساسية بأكثر منها ليعطيك الشجرة في كثافتها، وتلوينها، وتظليلها، وروحها، ولبابها، الذي قلما ينال منه تغاير الأزمان والأجواء، فلا ريب أنه مهما اختلفت المظاهر فهناك الشجرة التي تمر بها كل هذه المظاهر، والتي تحتاج إلى التصوير جملة واحدة، كما يحتاج إليه كل مظهر من مظاهرها.

وهنا يبدو لنا أن الأقدمين كانوا إحساسيين أكثر من الإحساسيين؛ لأن فضل الإحساسية الأكبر هو الاعتماد على الشعور، أي تصوير الشيء كما يبدو في نفس ناظره من وراء المحسوسات الآلية؛ فالأستاذ الذي ينفذ من وراء الصباح والمساء والربيع والشتاء؛ لينقل لنا الشجرة كما قد يتخيلها واحدة كاملة في جميع هذه الملابسات هو إحساسي ينقل من الداخل أكثر مما ينقل من الخارج، ويعطينا من الجوهر أقرب مما يعطينا من الأعراض، وهذا هو الكمال الذي قد تفسده التجزئة حين يغلو فيها الإحساسيون إلى الحد الذي ترامى إليه ذلك الناقد المتهوس مارنيتي Marinetti الإيطالي، فزعم أن الفن يجب أن يعنى برسم الأشياء في الزمان لا في المكان وحده، وفسر ذلك بأن المصور يجوز له أن يرينا ظهر الكرسي من خلال جسم الرجل الجالس عليه؛ لأن ذلك الرجل سيفارق كرسيه في زمن قريب! وإنه يجوز له أن يرسم أذرعًا خمسًا أو ستًّا للرجل الذي يحك رأسه؛ لأنه يؤديه بذلك أداءً صادقًا في أزمانه المتتابعة، ويسمي أنصار هذه المدرسة أنفسهم بجماعة المستقبليين Futurist ويقضي سوء حظ الفن أن تتفق لبعضهم بعض الإجادة الفكاهية على مثال صورة «السيدة والكلب» فتشيع أنماطهم بين الأغرار ويتخذون من تلك الإجادة الطارئة جوازًا يدخلون به في دائرة المحظور، ثم تبحث عن كل هذه الكلمات الخاوية من مستقبلية إلى رسم في الزمان لا في المكان إلى «النفاذ المحسوس في خلال المادة» إلى غير ذلك من الطبل والطنين، فتلفيه كله لا يخرج عن رسم الحركة الذي عرفه الأقدمون وأدوه أجمل أداء، ووصفه شاعرنا العربي ابن حمديس حين قال:
أُسْدٌ تخال سكونها متحركًا
في النفس لو وجدت هناك مثيرا

فليس بين المدرسيين والرومانيين والإحساسيين النابغين من لم يرسم لنا الجسم في حركة تخيل لنا ما قبلها وما بعدها، وترينا إياه في الزمان لا في المكان وحده، ولكنهم لم يلجئوا قط إلى تعديد الأرجل والأذرع والوجوه، ولو فعلوا ذلك لكان أيسر عليهم وأقل مؤنة، وأغنى عن البراعة الفنية من كل أسلوب معروف، إذ لا صعوبة في محاكاة شريط الصور المتحركة الذي يؤدي من هذه اللمحات المستقبلية ما ليس يؤديه أبرع المستقبليين في الجديد والتلفيق.

وليت الأمر وقف عند حد هؤلاء المتهوسين، فإن الفوضى إذا بدأت لا تنتهي إلى نهاية معقولة، وقد بدأ «الإحساسيون» يبيحون الانحراف عن القواعد؛ لضبط المرئيات النفسية وفتحوا باب التصرف في الألوان، فظهر على أثرهم الإحساسيون المحدثون Neo-impressionists والتقسيميون Divisionists، الدواميون Vorticists، والتعبيريون Expressionists وأولئك المستقبليون وطوائف أخرى لا نحصيها، مما يدخل في هذه الأسماء التي يشملها اسم وما بعد الإحساسية Post-Impressionism أو اسم الوحشية الذي أطلق على بعضها في فرنسا Fauvism وإنه لأليق بهم قاطبة من جميع تلك الأسماء.

وإلى القراء مثلًا واحدًا من أمثلة هذه الصور التي رسمها «كاندنسكي» الروسي البولوني قبيل الحرب، ولم تعدم ناقدًا مثل السير ميشيل سادلر، يزعم أنه تبين فيها تعبيرًا عن حالة القلق التي تقدمت الحرب؛ لأنه بصر فيها بحطام من المدافع والأجسام والدواخين؛ فلينظر القراء إلى أي نهاية بلغ بالفن انحرافه عن الأصول لتصوير ما يسمى الإحساس المستكن في العواطف والأوهام.

ولم يكن في حساب «الإحساسيين» أن «فكرتهم» تهبط إلى هذا الحضيض، وتمسخ هذا المسخ الشنيع، ولا كان هذا شأن جميع الإحساسيين في هذا العصر، أوربيين كانوا أو شرقيين، ففي الدور الأعلى الذي عرضوا فيه العصريات صور لأرنست لوران يغبطه عليها أقدر الأساتذة المتقدمين، وفي معرض «هداية» الذي لا يزال مفتوحًا إلى الآن صورة «للرقص» أنصف فيها الأستاذ كل حق من حقوق الرسم والحركة والمعنى، وأتى فيها بآية من الآيات التي يفخر بها أكبر المصورين، فعلى مقربة من الصورة لا ترى إلا خطوطًا تبين للناظر عن شيء قليل من الراقصة والراقص، ثم تتضح الإبانة كلما ابتعدت حتى ترى الجهد ملموسًا في الراقص الشيخ والأثر ملموسًا في الراقصة الفتية، مع إتقان لا مزيد عليه في الملامح وتمثيل الإحساس، وفي هذا المعرض نشهد الإحساسية التي لا يبعث المصور إليها عجزه في الرسم، وتمحله للهرب من الإتقان فيه، فإنك ترى دلائل القدرة على الرسم والافتتان بالأنوار والظلال بادية على الصور الأخرى التي قضى بها الأستاذ البارع حق القربان الفني للشمس المصرية، ومعابد الفراعنة الخالدين.

لم يكن الشتات الذي آل إليه الفن الحديث في حساب الإحساسيين السابقين، ولكنه كان مخشيًّا من يوم أن شذ المجددون عن سنن المدرسيين في الأصول العامة، فنشأت في وقت واحد على التقريب طلائع مدرسة تدعو نفسها بأنصار الرسم الجيد La bonne Peinture على محاذاة الطلائع التي ظهرت للإحساسيين. كأنهم يتهمون الإحساسية بالعجز في الرسم؛ لأنها تنحرف عن تقاليده في بعض الأحيان، فإذا شاء المصورون القادرون أن يجنبوا الفن عواقب الفوضى والشتات، فالسبيل إلى ذلك أن يغلقوا الباب على الدعاوى النفسية التي لا وازع لها، وليجعلوا الظواهر أصولًا لا يعدوها المتخيلون ولا الواقعيون ولا يحاد عنها لأي عذر من الأعذار، ولا نستغني نحن في الشرق خاصة عن تقدير تلك الأصول إلى جانب العناية، بما اقترحه صديقنا المصور الفاضل من الاتفاق على المصطلحات، وضبط الأسماء، فإن إرسال الترجمة على عواهنها خليق أن يوقع القراء في الخطأ والإجحاف.
١  ١٦ مارس سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤