الربيع١

لماذا تغني الطيور؟

الربيع!

أين؟

ألا تراه؟ ها هو، هنا، هناك، في كل مكان، في الشجرة المورقة، في الزهرة المتألقة، في العصفور المارق من وكره، في الأحياء المتوثبة، في السماء الضاحية، في هذا الضياء النافذ الوهاج، كأنما يكشف بواطن الحياة من حيث اختبأت من طوارق الشتاء، أو كأنما يحيل الدنيا معنى يُشَفُّ ويُتَخَيَّل، لا جسدًا يُكثف ويُلمس، أو كأنما يُفيض عليها من صراحة اليقين، فلا تردد على سماتها، ولا خجل في حركاتها، ولا مبالاة أن تدل على نفسها بكل دلالة، وتُعرب عما في ضميرها بكل مقالة؛ فما بالربيع من حاجة إلى من يدلك عليه، ويترجم لك عنه؛ لأنه لا يتوارى عن أذن تسمع، وعين تنظر، وأنف يستنشق، ويد تلمس، وقلب يشعر، وحياة يأتيها النبأ المفرح من باطنها قبل أن ينتقل إليها بالآذان والعيون والآناف، وإنه لينطق ويتحدث كما قال البحتري:

وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكًا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما

بل هو يتكلم ولا يصنع من شيء إلا أن يتكلم ويتكلم، وما نحسب إلا أن الحياة كلها تعبير وإعراب، وإلا أن الربيع عندها هو ساعة الوحي والإلهام، ولا نظن الإنسان بدأ يسأل نفسه: ما الحياة؟ وما فائدة الحياة إلا في غاشية من غواشي الشتاء، حيث يبدو على كل شيء أنه يتلعثم ويطرق، ويلتمس المعاذير لوجوده وظهوره.

أما في الربيع فما الحاجة إلى بحث عن الحياة أو عن فائدة للحياة؟ ها هي الحياة جريئة على العدم لا تمهله أن يسألها لم أنت هنا؟ وما الذي تبغينه في هذه الأرجاء والآفاق؟ بل ها هي الحياة غنية بنفسها ولا شيء في الأرض والسماء غيرها. فحسبها أن تحيا وأن تقول: إنها تحيا، وأن تسمع أنها تحيا ولا مزيد على ذلك ولا داعية إلى المزيد، فإذا بدأت تلتمس الأسباب فقد بدأت تعتذر وقد بدأت ترتاب في دخيلتها وفيما حولها، فلا سبب يرضيها، ولا شفيع يغنيها غير السكوت، أو كلام هو أغمض وأخفى من السكوت.

الحياة تعبير، وقد نفذ البحتري إلى طويتها حين كانت غاية الغايات في الحسن عنده أنه يتكلم أو أنه لا يحجم ولا يخفي، فتلك شيمة كل شباب، وتلك شيمة كل ربيع؛ لأن الربيع شباب الزمان، وتلك شيمة كل حياة؛ لأن الحياة هي الشباب.

ولقد قدر لعصر البحتري — عصر النيروز والمهرجان — أن يكون شعراؤه أصدق الواصفين للربيع في كل سمة يعرفه بها الواصفون، ويتأمله فيها المتأملون، فإن قلت: إن الربيع تعبير فقد أحسن البحتري التلميح إلى معناه، وإن قلت إنه زينة، فأبو تمام يعرفه كذلك حين يقول:

دنيا معاش للورى حتى إذا
جاء الربيع فإنما هي منظر

وإن قلت: إنه حب فابن الرومي ينبئنا بذلك حين يصف الأرض فيه بأنها:

تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدت للذكر

أو حين يقول:

ورياض تخايل الأرض فيها
خيلاء الفتاة في الأبراد

أو وهو يجمع قولي البحتري وأبي تمام في قوله:

لم يبقَ للأرض من سرٍّ تكاتمه
إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف وشي من زواهرها
حمرًا وصفرًا وكلٌّ نبت غبراء

فالربيع زينة، والربيع حب، والربيع تعبير، بل ما الزينة، وما الحب إلا التعبير في لبابه، وإلا حسنًا يريد أن يظهر، وسرًّا يهم أن يبوح ويتفشى، وحياة تود أن تمتد من حيزها إلى كل حيز يحملها إليه باعث الحياة ومعينها بالظهور والذيوع؟

•••

آخر من يعلن لك بشارة الربيع هم جماعة الفلكيين في تقاويم الفصول، فإن برنامج الموكب عندهم لا يسلم من التقديم والتأخير، وكل شيء أصدق من التقاويم في الرواية عن الطبيعية حتى الأفلاك التي يرصدها أولئك الفلكيون، وحتى أعشاب الأرض التي لا تلغو، وحتى العصافير التي لا تخلق إلا لتلغو وتهذر، وتتحدث بالمفيد وغير المفيد!

ففي صبيحة يوم من الأيام صحوت فإذا أنا أسمع من خمائل الجيرة أصداء طال عليها صمت الشتاء، ولم تنطق منذ أشهر بغير دعاء الحدأ والغربان التي لا يُصمتها شتاء ولا صيف. عادت العصافير إلى التغريد والهذر فقد اختفى إذن شبح الشتاء العبوس، وانطلقت أطفال الطبيعة تلعب في غير خوف ولا انقباض، وهي إلى أن يرجع ذلك الشبح لن تكف عن اللعب واللغط، ولن تفتر عن الحركة والمراح، ولن تدع مكانًا يحملها إليه الجناحان إلا أن نقلت إليه بشارة الربيع وصدحت فيه بأنشودة الحياة.

وكأنما كنت على انتظار هذه البشارة، وعلى مسمع منها قبل أن تهتف بها المناقير، فقد قضيت أواخر الشتاء أقرأ عن الطير مستعيضًا بذكرها عن سماعها، فصحبت «بنيامين كد» في خلواته مع الطبيعة، وماشيت بوتر في عالم الموسيقى الآبدة، وأصغيت مع إدوارد جراي إلى أغاريد الربيع والخريف، فكان ترحيبي بالبشارة ترحيب المنتظر المتشوف، وسماعي بالخبر كسماع الحالم أفاق من حلمه فرأى من كان يراه في منامه، أو كما يقول صديقنا شكري:

وكنت كَرَاءٍ في الكرى طيف جنة
فلما تمشى في الصباح رآها

فأصغيت أسمع النبأ الجديد، وهل ثم من نبأ جديد؟ كل ما أزعجتني هذه الثرثارة لتفضي إلي به هو أنها هناك، وأنها حية كما أعلم، وأنها سعيدة بالحياة، فأهلًا وسهلًا! نعم النبأ هذا والله، وما يبرح جديدًا طريفًا في كل يوم، بل ما يبرح قديمًا معادًا ألذ من الجديد الطريف، فمرحبًا بالنبأ والمنبئين ومرحبًا بالخفة المستطارة، التي تنقض كل ما أوقرتنا به فلسفة المتشائمين.

•••

لماذا تغرد الطير؟ لأنها تجد الطعام الكثير كما يقول بعض الطعاميين النفعيين الذي لا يتناولون الحقائق أبدًا إلا من الأذناب، ولكن إدوارد جراي يراقب الطيور، ويتفهم لغاتها فيأبى أن يجعل ألسنة الهواتف كلها في بطونها، ويأخذ في حوار بين باحثين مفروضين يؤيد أحدهما فلسفة الطعام، ويشك الآخر في هذه الفلسفة. يقول الطعامي قوله فيجيبه صاحبه بأن الطعام أكثر ما يكون في شهري أغسطس وسبتمبر، فلماذا يقل فيهما الغناء؟ فلا يقنع الطعامي بهذه المناقضة ولا يعسر عليه أن يلتمس العلة لقلة الغناء فيما يصيب الطيور من الإعياء بعد موسم الحب والإنتاج، فيسأله صاحبه: ولماذا تعود فصيلة من الطير إلى التغريد في أكتوبر، ولا نسمع في هذا الشهر صوتًا لفصائل أخرى؟ فيجد الطعامي جوابًا يورده على شيء من الحذر والتحفظ ويقول: لعل هذه الفصائل أيضًا ينالها من التعب ما ليس ينال الأخريات! فيذكر له صاحبه اسم العصفور الدوري، وهو طائر ينسل ريشه في موسم الحب، ثم لا يستهل شهر أغسطس حتى يتدفق بالتغريد والتهليل، فينتهي الحوار بهذا، وينتقل المؤلف إلى رأي الذين يرجعون بسبب الغناء إلى الحب، فيقول: إن هذا العصفور الدوري يتجنب الأنثى ولا يطيق اقترابها في الخريف، ثم هو لا ينقطع عن الغناء حين يكون على تلك الحالة من النفور، ولعله يغني حينذاك ليقرر مكانه ويدفع المزاحمين عن غشيانه، وهو سبب معروف مشهود لرفع الصوت بالترنيم والتحذير.

ويخرج الوزير المشغوف بالطير من بحثه على نتائج ثلاث هي:
  • (١)

    أن الغذاء لازم للغناء، ولكنه لا يكفي وحده لابتعاثه.

  • (٢)

    أن الحب باعث للغناء في الطيور المغردة كافة، فهي تغرد جميعها في موسمه، وتبلغ فيه غايتها من النشوة والإطراب.

  • (٣)

    أن تقرير المكان كاف للغناء، إن لم يوجد له سبب سواه.

ولكن الوزير يعود بعد إثبات هذه النتائج فيورد عليها الريبة من غناء الزرازير في الخريف حين تتجمع في مكان واحد، ولا يبتعثها للغناء حب ولا تقرير مكان، وإنما تغني لأنها لا تعرف عندها سببًا للسكوت، فلا بد إذن من نتيجة رابعة وهي:
  • (٤)

    أن بعض الطيور تغني لمحض الشعور بالراحة والسلامة، بغير سبب خاص من تلكم الأسباب.

وكأن هذا كله ينتهي إلى نتيجة واحدة، وهي أن الطيور تغني لأنها خلقت للتعبير عن حياتها كلما زالت موانع التعبير، ومن السخف أن يقال إنها تغني؛ لأنها تجد الطعام الكثير لأن وجود الطعام نفسه في الربيع والصيف، يحتاج إلى تعليل غير ذلك التعليل، وإذا كانت الأرض تقتبس من الربيع حياة تسخو بالحبوب والخيرات، فما الذي جناه الأحياء عند هؤلاء الطعاميين، حتى لا يقتبسوا من الربيع خصبًا ينطق بالغبطة والسرور، وبكل ما تفيض به النفس من حب ورجاء واعتزاز؟

لكأن هؤلاء المساكين يحسبون أن الحياة تجرم في حق نفسها، أو في حق خالقها إذا ظهر فيها وجود لغير المعدة، ولم تكن المعدة هي جميع الأعضاء والأجسام، والطعام هو كل ما تدور عليه المساعي والأعمال والأقوال، ولكنه هوس «بالماديات» غلوا فيه حتى عاد أقبح وأغبى من الهوس ﺑ «الروحيات» الذي جرهم إلى إنكار الروح، ثم جرهم من إنكار الروح إلى إنكار الحياة الظاهرة، إلا أن تكون جسمًا يكال بالمكاييل، ويوزن بالموازين.

•••

إن الربيع ليغني لأنه حي، ولا سبب للغناء غير ذلك، ولا حاجة إلى سبب غيره لمن يحس ويعيش، والربيع حي؛ لأنه موسم الحرارة والضياء! وهل الحياة إلا حرارة وضياء؟ إنك لتؤمن بالروح وحده، أو بالجسم وحده، ثم تقول إن النور هو مصدر كل شيء وأصل كل حياة، فلا تكون إلا على صواب، وما كان نور العين ولا نور الروح إلا شيئًا واحدً في العنصر والقرار، وإلا عنصرًا واحدًا لكل ما يظهر في هذه الدنيا للبصائر والأبصار.

١  ٢٣ مارس سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤