عقول الأزهار١

هل للأزهار عقول؟ أما إن كانت عقول كعقول الإنسان تدرس وتبحث وتستنبط الأفكار في العلم والفلسفة، وتقيس ما تجهل على ما تعلم فلا بالبداهة، وما عن هذا يسأل أحد؛ لأن الأمر فيه ظاهر غني عن السؤال، وأما إن كانت عقول تناسب الزهر وما يحتاج إلى من تفكير في حياته — إن كانت بحياته حاجة إلى التفكير — فهذا الذي يجوز فيه السؤال، وهذا الذي يعنيه السائلون حين يبحثون للزهر عن عقل يدرك ما هو لازم له من الإدراك.

نحن في عصر يقول فيه أحد العلماء الهنود بأن الروح حظ مشترك بين الإنسان والجماد، بله الإنسان والحيوان والنبات، ويقول فيه: إن إحساس المعادن بما يؤثر فيها إنما يجري على مثال الإحساس في الكائنات العضوية من النبت فما فوقه إلى الإنسان العالم والشاعر، وليست هذه بأول مرة سمعنا فيها هذه الفلسفة من جانب الهند، فإنها هي صاحبة القول بوحدة الوجود، وتناسخ الأرواح، وانبثاث الحياة الإلهية في كل شيء مادة وغير مادة، ولكنها المرة الأولى التي يدرس فيها «التصوف» في معامل العلم الطبيعي، ويشترك فيها المجهر والمخبر والإنبيق للوصل ما بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، وإقامة الدليل على فلسفة الصوامع وتسبيح النساك؟

وتلك آية أخرى من آيات المزاج القومي الذي لا تغلبه الدراسة، ولا تنقله الثقافة من حيث غرسته ثقافة الآباء والأجداد، فقد قيل: إن الطبيعة وعلومها من شأن الغربيين المحدثين، وإن ما وراء الطبيعة وفلسفاته من شأن المشارقة الأقدمين، فما هو إلا أن نبغ عالم طبيعي بين الهنود حتى ظهرت الفلسفة الروحية في المعمل، والتقت الطبيعة وما وراءها على رأي الهند في مجاهل الزمان القديم، وبرز الكاهن من وراء العالم ليرفع الصلاة في معهد التحليل والتجريب إلى عرش «برهما» السرمدي، وليقول لنا مرة أخرى: إن حكماء الهند لم يتصوفوا من قلة العلم وإنما تصوفوا؛ لأنهم هكذا خلقوا وهكذا، انتهت إليهم عبر الحضارات البائدة، وأملت عليهم روح الطبيعة والإقليم.

فإذا كان للجماد إدراك على قول «بوز» — ذلك العالم الهندي — فأقل من ذاك في الغرابة أن يدرك الزهر، وأن يكون له عمل يوحيه عقل، ويشف عن تدبير، ونحن وما نشاء في إلحاق ذلك العقل بأي طبقة من طبقات العقول، وإنزال ذلك التدبير بأي منزلة من منازل الإلهام أو التفكير.

وهل لنا أن نترسل في التعميم ما دمنا قد بدأنا بالمزاج القومي الذي ظهر في تصوف عالم الهنود؟ فالذي يقول: إن للزهر عقلًا أو ذكاء يفهم فهمه، ويقصد قصده، هو شاعر غربي ولكنه من أصل شرقي؛ لأنه سلالة يهودية قد ورث عن آبائه إيمان إسرائيل، وأخذ منه مزجه بين عالم الأرض وعالم السماء، ونظرته المادية التي لا تنسى الدين، ونظرته الدينية التي لا تنسى المادة ولا تقيم الفوارق بين حيز الروح وحيز المحسوس. ذلك هو «موريس مترلنك» شاعر البلجيك أو إن شئت فقل متصوف البلجيك؛ لأن نصيبه من خيال المتصوفة أوفر من نصيبه من خيال الشعراء، فقد كان مترلنك أسبق إلى القول بذكاء الأزهار، والنداء بالروح الملهم الشائع في ممالك الحشرات والنبات، ولم يمنعه أن يقول ذلك علمه وتجريبه ولا مراقبته لطبائع الأحياء على طريقة المعامل ومذهب العلماء، فهو شرقي آخر قد نقل المعبد إلى المعهد وكتب على الأرض عنوان السماء.

يقول مترلنك: «ويخيل إلي أني لن أكون مغرقًا في الجسارة إذا قلت: أن ليس ها هنا أفراد من الخلق لها ذكاء أو ليس لها ذكاء، ولكنما هو إدراك عام موزع في هذه الدنيا كأنه فيض ينفذ في الكائنات بمقدار ما عندها من استعداد «لتوصيل» الإدراك، وعلى هذا يكون الإنسان على هذه الأرض هو مثال الحياة التي تميزت بأقل ما يعرف من المقاومة لذلك الفيض الذي يسميه الدينيون بالإلهي، وتكون أعصابنا هي الخيوط التي تهيأ لسريان تلك الكهرباء الأدق من الكهرباء، وتكون أدمغتنا هي الأداة التي ركبت على منوالها لمضاعفة التيار، ولكنه بعد تيار لن يخالف في طبيعته ولا هو صادر من ينبوع غير ينبوع التيار الذي ينفذ في الحجر، وفي النجم، وفي الزهرة، وفي الحيوان، وإنها لأسرار ربما كان من الفضول أن نستطلعها ما دمنا لم نرزق بعد تلك الحاسة التي تستجمع أسباب العلم بها، فحسبنا إذن أن نلمح بعض مظاهر ذلك الإدراك في غير أنفسنا، وإنه لحق علينا أن نشتبه في كل هذا الذي نراه من مظاهره في أنفسنا؛ لأننا نحن الحكم، ونحن المدعي، ونحن أصحاب المصلحة في تعمير عالمنا بالفاخر المعجب من الأوهام والآمال، وهذا هو الحري بأن يغلي عندنا كل علامة نلمحها في غيرنا، ولا يبعد أن تكون تلك العلامات التي أتيح لنا أن نلهمها من الأزهار ذرة ضئيلة، لا تقاس إلى الخبر الذي تفضي به الجبال والبحار والنجوم لو فاجأنا فيها أسرار حياتها. على أن ما لمحناه ثمة خليق أن يخامرنا ببعض الثقة حين نقول: إن الروح الذي يحيي الجميع أو ينجم من الجميع هو من عنصر هذا الروح الذي تحيا به أجسامنا، وإذا كان هذا هكذا، وكان هذا الروح مثلنا أو كنا نحن مثله، وكان كل ما يحتويه كذلك فينا، وكانت وسائله وسائلنا، وعاداته عاداتنا، وشواغله ودواعيه شواغلنا ودواعينا، وآماله فيما هو أرفع وأجمل، هي آمالنا فيما هو أرفع وأجمل منا.

أيكون إذن مناقضًا للمعقول أن نرجو رجاءنا هذا الذي نرجوه بالفطرة وعلى غير اختيارنا، ما دام من المحقق أن ذلك الروح يرجوه مثلنا؟ بل أيكون من المعقول حين نرى هذا الإدراك الموزع في الوجود أن الحياة لا تعمل ما يقتضيه الإدراك، ولا ترمي إلى قصد من السعادة والكمال والانتصار على ما نسميه شرًا وموتًا وظلامًا وعدمًا، وليس هو فيما يحتمل إلا ظل ذلك الوجه أو السبات الذي يوده.»

•••

هذه هي الفلسفة التي يتعلمها مترلنك من الأزهار — كلمات الربيع — أو كلمات الحياة مذ كان الربيع هو أظهر مظاهر الحياة، ولم يكن مترلنك أول من تلقن هذه الفلسفة الموحاة من عقول تلك الخلائق الجميلة «وليدة الأرض والضياء»، فلقد علم الشاعر العربي قبله «أن الله ليس له شريك» حين ننظر إلى العيون اللجينية على الذهب السبيك، وفطن وردزورث إلى الأسرار التي تضمنتها كئوس الرياحين، وقال هوراس سميث: إنه ليجد القساوسة والمحاريب والعظات في أفواه الزهر لو قذفت به الهجرة إلى حيث لا تبلغ الدعوة ولا تدق النواقيس، وقال تنيسون: إنه يقبض على سر كل شيء حين يضم يده على الزهرة الصغيرة، فالأزهار قديمات العهد بإيحاء الفلسفة وجلاء الغوامض والتبشير بما في الطبيعة من مسرة وجمال، ولكن مترلنك لم يقصد ما ذكرناه حين وصف هذه الفلسفة أو هذه الوعاظ بالعقل والحكمة والذكاء، ولا هو أراد الوحي الذي نوحيه لمن يستمعون إلى رسالة الطبيعة في غيبوبة التصوف والإلهام، وإنما أراد الذكاء الذي يفتق الحيلة، والعقل الذي يدبر المعيشة، والدهاء الذي يسوس مصاعب الأيام، والفطنة التي تتغلب على ضرورة القيد والاحتباس في مكان واحد، واستشهد بالأمثلة الكثيرة من الأزهار التي تحتال على التشرق والإطلال على منافذ الضياء، والأزهار التي تحتال على العصافير والحشرات لتنقل بذورها ولقاحها إلى حيث يقدر لها النماء والإنتاج، وأخبرنا بدهاء المديكاجو Medicago الصفراء التي كأنما علمت أن اللوالب التي تحفظ بذورها لا تضمن لها الانتشار ولا يسعها أن تعهد بتوزيعها إلى الريح؛ لأنها ملاصقة للتراب، فاحتالت على تلك البذور بشوكات دقاق تشتبك بالأحياء التي تأكلها فتنتقل إلى مكان بعيد، ويكون لها بذلك حظ في الذيوع والحياة لم تسعد به إخواتها اللواتي لم يوفقن لهذا الاختراع، وما بال اللوالب تلتف على بذور هذه الفصيلة من جميع الألوان؟ يقول مترلنك: إن هذه الفصيلة الماكرة تودع بذورها اللوالب لتطيل بقاءها فيها وتؤجل سقوطها ما استطاعت فيتسع الوقت لإطارتها مع الريح قبل ذهابها في التراب فقد سبقت أرخميدس إلى فلسفة اللوالب، وجاءت إحدى بنات الفصيلة — وهي الصفراء منهن — فسبقتهن باختراع الشوك الذي يغنيها ما ليست تغنيه الرياح.

هذه الحيل والأحاييل هي التي عناها الشاعر المتصوف بذكاء الأزاهير، ولمح علامة الذكاء الشامل الذي يتخلل كل شيء على حسب استعداده لإبراز ذلك الذكاء، والحق أننا إذا بحثنا في الحيل التي تحتالها الكائنات كلها لتخليد نوعها، ومكافحة العوادي على حياتها لم نجد بينها كبير فرق في أساسها وجوهرها؛ لأنها كلها تصدر عن عادات لدنية مسوقة بسلطان قاهر لا دخل فيه للإرادة والتفكير، فإذا دخل فيها التفكير كانت قد بلغت حدها، وأكملت غايتها، ولم يزدها التفكير إلا نافلة لا ضير من نقصها والاستغناء عنها، فإن لم يكن كل هذا عبثًا وكان فيه ما فيه من إدراك وبصيرة، فنصيب الزهر لا يقل عن نصيب الحيوان بل عن نصيب الإنسان في ذلك الإدراك وتلك البصيرة، ولا خلاف في ارتقاء الذكاء الإنساني إلى مرتقاه الذي يعلو به على كل موجود معروف على الأرض — فتلك بديهية لا معنى للكلام فيها والتساؤل عنها — ولكن الخلاف يكثر جدًّا — ويجب أن يكثر — حين نريد أن نقول: إن الإنسان قد استأثر بالبصيرة الملهمة، وانفرد بالعقل الذي يشتمل على الفكرة والغريزة، فما كان تدبير الإنسان لتخليد نوعه بمختلف فتيلًا عن تدبير الزهرة لتخليد نوعها، أو هو إذا اختلف بعض الشيء ففي العوارض التي تجيء بعد الأساس والجوهر، ويتفق كثيرًا أن تعرقل أغراض الطبيعة الخفية لا أن تزيد عليها في تحري الإنجاز والإتقان.

فلنأذن لبنات الروض بعقول ترشدها إلى الخير والجمال، ولنحمد الله على أنها ليست بمجنونة يطيش بها الجنون فتهلك وتفنى، ولا بعاقلة ترصد حبائل العقل للآمنين، وتتخذ فتنتنا بجمالها مصائد للمطامع والآثام، ولنسعد بذكائها إن كان في الذكاء سعادة! ولتبشرنا بصدق رجائنا إن صح ما توسمه فيها الشاعر المستبشر، فإن لم يكن ذلك صحيحًا، فأقل ما توحيه إلينا أن تبث في أبصارنا بشاشة الجمال والإقبال، وتنفث في ضمائرنا أريحية الجدة والنضارة، وأن نجعلها مقياسًا لحياتنا نعرف به قسطنا من القوة والشعور والحرية، فقد كانت هذه الأمة أشغف الأمم بالزهر تنثره على موائدها، وتضفر به شعورها، وتتقرب به إلى أربابها يوم كانت تحيا وتقتدر وتعتز بسيادتها على الأمم، ثم ذبلت أزاهيرها يوم تولاها الذبول، فتبدلت ضعفًا من قوة، وجمودًا من شعور، وخنوعًا من عزة، فإذا أزهرت رياضها فتلك نفوس تنضر بالحياة الكريمة، قبل أن ينضر التراب بالخمائل والأغصان.

١  ٣٠ مارس سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤