اللاوكون

٢

اللاوكون في الأصل هو اسم كاهن إله البحر تبتون في مدينة طروادة، وإجمال قصته أن اليونان لما حاصروا هذه المدينة ويئسوا من فتحها صنعوا تمثالًا عظيمًا على صورة حصان ودسوا فيه جماعة من شجعانهم وتركوه عند أبواب المدينة، وركبوا البحر متظاهرين بالرحيل يأسًا من الغلب بعد طول الحصار، وكان لهم جاسوس في طروادة طفق يزين لأبنائها أن يسحبوا التمثال العظيم إلى داخل أسوارها ويحتفظوا به غنيمة لهم وتذكارًا لثبات مدينتهم فمالوا إلى نصيحته، وتوجس الكاهن من عاقبة ذلك، فأنذرهم ألا يفعلوا مخافة أن يكون في التمثال نفر من اليونان مختبئين فيه لدسيسة دبروها بينهم وبين جيشهم الراحل، وضرب الكاهن التمثال برمحه فلم ينكسر فسحبه الطرواديون إلى داخل الأسوار، وأصر الكاهن على إحراقه فلم يلتفتوا إليه. قالت الأسطورة — أو الأساطير فإن هذه القصة كثيرة الروايات — وكانت الربة منيرفا تناصر اليونان وتشفق أن يصغي الطرواديون إلى إنذار كاهنهم فيكشفوا الدسيسة، ويحق الفشل على هذا التدبير وتبطل النبوءة القديمة التي أنبأت بفتح اليونان لطروادة فأطلقت الربة منيرفا ثعبانين هائلين على ولدي الكاهن وهو عند البحر يقدم القربان إلى الإله نبتون فالتهماهما ولم تغن استغاثتهما، ولا نجدته في دفع هذه الضربة من الربة الحانقة عليه الممالئة لأعداء بلاده، ثم أصيب في عينيه وأصبحت قصته مرتعًا لقرائح الشعراء اليونان والرومان، وصنع فيها بعض المَثَّالين هذا التمثال.

ويرى من ينظر إلى التمثال أن المَثَّال قد صنع الكاهن حيث يبدو الألم على كل عضلة من عضلات جسده مبرحًا شديدًا، ولكنه لا يبدو كذلك من حركة شفتيه اللتين تفتران قليلًا عن آهة رقيقة لا تناسب ذلك الألم المبرح الشديد، فهل في هذا التمثيل تناقض أو أن هناك سببًا من أصول الفن يوجب أن يكون تمثيل الألم في عضلات الجسد غير تمثيله في حركة الشفتين؟

قال ونكلمان الناقد الفني الألماني المعاصر للسنغ: «إن قرار البحر ليبقى ساكنًا وصفحة الماء عجاجة تضطرب ما طاب لها الاضطراب، وكذلك نرى في تماثيل اليونان ذلك الروح الكبير القرير وإن برح الألم وتفاقم العذاب فهذه الروح بادية في طلعة اللاوكون وليست بخافية في غير طلعته على ما به من شدة العذاب الأليم، وأنت ترى دلائل هذا العذاب في كل عضلة من عضلات جسده وكل عصب من أعصابه، ولكنه يتراءى على وجهه ووقفته بغير عنف ولا مجهدة، ففم لا يصرخ ذلك الصراخ المرعب الذي يرويه لنا فرجيل عن لاوكونه وفتحة الفم لا تدل على صراخ مرعب بل على أنين مكبوح.»

ومن هنا كانت بداءة لسنغ في الكتابة عن اللاوكون وعلاقته بالشعر والتصوير، ولهذا أطلق اسم اللاوكون على كتابه الذي تكلم فيه عن حدود الفنون وطرائقها في التعبير وإن لم يكن كله دائرًا على موضوع التمثال وحده.

فلسنغ يقول: إن الصراخ مكبوح في وجه التمثال لسبب غير الذي ذكره ونكلمان في تلك الملاحظة، فاليونان لا يأنفون من الصراخ إذا برح بهم الألم، ولا يروي لك شاعر من شعرائهم خبرًا عن أبطالهم الذين عانوا برح العذاب إلا وهو جاعلهم يصرخون الصراخ القوي المرهوب، فإذا كان تمثال اللاوكون لا يعبر عن ألمه بالصراخ فذلك راجع إلى الفرق بين الشعر والتصوير في طرائق التعبير لا إلى عظم الروح والرغبة في مغالبة الآلام، ومن ثم أخذ لسنغ في التفريق بين الشعر والتصوير وإقامة الحدود المحكمة لكل منهما في أساليب الوصف ومجازات التشبيه.

إن اللاوكون يغض من صراخه في رأي لسنغ لسببين متعلقين بأصول التصوير لا بأصول الأخلاق أو آداب التعبير عن آلام النفس البشرية.

فالسبب الأول هو أن منظر الصراخ على الفم وعلى ملامح الوجه بشع جد البشاعة مستكره جد الاستكراه، وما على القارئ إلا أن يمثل لنفسه فمًا مفغورًا إلى أقصى ما يندفع إليه ألم المتألم ووجهًا تنقبض ملامحه حسبما توحيه حركة ذلك الفم المفغور، ثم يتصور كيف تكون بشاعة ذلك الوجه وموقعه الكريه من النظر والخيال؟ فلا المَثَّال يرضى الجمال بتصويره على هذه الشاكلة لأنه منفر للنظر والفكر في آن واحد، ولا هو يرضى العطف؛ لأنه لا يعطي الناظر من أسباب العطف ما فيه الكفاية، وقد كان اليونان يكرهون تصوير البشاعة بل كانت حكومتهم تحرمها وتعاقب عليها. فلا جرم أن قد خطر للمثَّال الذي صور اللاوكون أن يكف من ألمه في ملامح وجهه، ويطلق من ذلك الألم في تصوير أجزاء بدنه، وقد فعل المصور تيمانتيس ما يشبه ذلك حين صور الفتاة أفيجينيا في موقف التضحية وصور الألم والحزن على وجوه النظارة كل بما يناسبه ويوافق قسطه من العطف والأسى، إلا أباها فقد غطى وجهه ولم يكشفه للناظر؛ لأنه لو سوى بينه وبين سائر النظارة في مظاهر الألم لكان ذلك مخالفًا للواقع وللمعقول، ولو أعطاه حقه من تلك المظاهر لكان بشعًا مستنكرًا، فما صنعه مصور اللاوكون هو العرف الذي لا غرابة فيه عند اليونان ولا عند المحدثين الذين يفهمون الصور هذا الفهم ويؤدونها هذا الأداء.

فهناك فرق إذن بين الشاعر وبين المصور في طريقة التمثيل يبيح لأحدهما ما قد يحرم على الآخر، وليس كما قال بعض الأقدمين وجاراهم فيه معظم النقاد والمحدثين، من أن التصوير شعر صامت والشعر تصوير ناطق، ثم رتبوا على ذلك أحكامًا شتى جرت إلى الخطأ في فهم الفنين على السواء.

ويسأل لسنغ: هل يتشابه شاعر القصة وشاعر الرواية التمثيلية في هذا الحكم؟ ولا يخفى أن لهذا السؤال موضعًا هنا، إذ كان الشاعر القصصي يعطينا الصورة النفسية أو لا يعرض على أعيننا الصورة الجسدية، أما الشاعر التمثيلي فلا بد من ممثل نراه رأي العين ونستبشع منظره حين الإغراق في الصراخ وتقبيض الوجه، كما نستبشع هذا المنظر في صورة المصور والمثال، فإذا جاز للشاعر القصصي أن يشتد في وصف الألم على الحكاية فهل يجوز ذلك للشاعر الذي يصوغ كلامه في قالب الروايات التمثيلية؟ يقول لسنغ: نعم يجوز في بعض الأحيان لأننا لا نحتقر الصارخ في جميع المواقف، بل نحن نعطف عليه ونشعر بألمه إذا علمنا أنه لم يلجأ إلى الصراخ والولولة ضعفًا وخورًا، وأنه قد غالب نفسه جهد المغالبة وصابر الآلام كل المصابرة، وأعطى الرجولة حقها الذي لا يلام بعده على مطاوعة الألم ومؤاتاة الطبيعة البشرية، وكل هذا مستطاع أن يعبر عنه في الشعر، وأن يشرح على المسرح في المواقف المتتابعة، ولكنه غير مستطاع على هذا النحو في الصور ولا في التماثيل.

•••

ذلك مجمل السبب الأول.

أما السبب الثاني فإجماله أن هناك فرقًا بين الشاعر والمصور في اختيار الزمن. فالزمن مسلس العنان للشاعر يختار منه ما يشاء سابقًا ولاحقًا، ويعرض لك الصورة بعد الصورة متممًا ومكملًا بغير قيد ولا حد في هذا الباب، أما المصور فليس له إلا لمحة واحدة يختارها، وعلى سلامة ذوقه في اختيار هذه اللمحة يتوقف كل الأثر الذي يبغيه على شعور الناظم، فعليه من أجل هذا أن يختار اللمحة التي هي دون غيرها أملأ اللمحات باستيحاء السوابق واللواحق وتضمين المعاني المغيبة في المعاني المعروضة للنظر، ومن أجل هذا أيضًا كان عليه ألا يختار لمحته بحيث توفي على النهاية القصوى لأول نظرة، ثم تحد الخيال فيقف مكانه ولا يتقدم ولا يتأخر ولا يلبث أن يمل ما يراه ويعرض عنه وهو كليل نافر، فإذا لاحظنا هذا فماذا يبلغ المصور من أنفسنا إذا هو مثَّل لنا اللاوكون في أقصى مدى ألمه، وجاء به فاغرًا فاه مقبضًا وجهه لا مذهب وراء رؤيته للتخيل ولا للشعور؟ إنه لا يعطينا مدى القصة واسعًا كاملًا، ولكنه يعطينا لمحة كابحة للخيال لا نلبث أن نملها كارهين. ولهذا كان مصور اللاوكون سليم البديهة والذوق لطيف الفطنة لدقائق فنه حين كبح صراخ اللاوكون، ولم يكبح خيال الناظر ولا شعوره.

وخلاصة الفروق بين الشعر والتصوير في رأي كاتب اللاوكون هي أن الشعر معني بوصف الحركات النفسية لا بوصف المشاهد المحسوسة، وأن التصوير على خلاف ذلك معني بكل ما يرى بالعين ولا يخامر النفس إلا من طريق الرؤية والملامسة، فالشاعر إذا وصف جمال المرأة وصف أثرها في النفس، ولم يشغل فنه بتصوير المحسوسات إلا من حيث هي دلالة على الخوالج والعواطف، أما المصور فله عمل آخر وهو نقل الصور من حيث هي مظهر ومكان له من حيث هي حركة وزمان، وهذه هي الخطوط البارزة في التفريق بين الفنين، ولكنها لا تمنع التداخل بينهما والالتقاء فيما يتشابهان فيه ويتوافيان.

ومن أمثلة لسنغ على الفرق بين الشاعر والمصور ها هنا صورة هلينا في شعر «هومر» وفي تماثيل المثالين وصور المصورين، فهي في التماثيل والصور امرأة فاتنة تم لها جمال الوجه والأعضاء، ولاحت بسمت بارع ينتقيه المصور على حسب المثل الأعلى من الجمال في ذوقه وخياله، أما في شعر هومر فأروع ما يروعنا من الصورة أن هلينا خطرت أمام شيوخ المدينة الحكماء فبهتوا وأقبل بعضهم على بعض يقول: لا عجب تضيع الأرواح وتشقى الأمم من أجل هذا الجمال! فليست هنا صورة محسوسة، ولكنه أثر في النفوس — نفوس الشيوخ — تتمثل به كيف يكون ذلك الجمال الذي لا يستكثر عليه الشيوخ الحكماء فضلًا عن الفتيان الجامحين أن تشقى به الأمم، وتستعر حوله الحروب، فافرض الآن أن مصورًا أراد أن يقلد الشاعر في تعظيم جمال هذه الفاتنة فصور لنا شيوخًا مبهوتين يحيطون بها ويحملقون في وجهها فماذا يكون أثر ذلك من نفس الناظر؟ يكون أنه يستحمق أولئك الشيوخ ويتوهم أنهم نفر من تلك الطائفة المضحكة التي لا يزجرها الهرم عن التصابي ولا يزعها العقل عن غرور الشباب. ويكون على حق حين يتوهم ذلك لأنه لا يستطيع أن يدرك من الصورة كما أدرك من القصيدة أن ذهول الشيوخ الحكماء لم يكن إلا ابن لحظة عابرة، وأنهم كانوا ذوي الرأي من أهل المدينة المحنكين وليسوا نفرًا من المتبطلين أحلاس الشهوات في سن يقبح فيها التصابي والمجون، وأنهم ما استعجلتهم الفتنة هنيهة حتى رجعوا إلى صوابهم وعادوا يقولون: أجل، ولكن عمار المدينة مقدم على كل ما عداه!

ونحسب أننا في غنى عن تنبيه القارئ اللبيب إلى إيجاز هذه الخلاصة، وأنها لا تغني عن مراجعة الكتاب ولا تمثل منه إلا بعض نواحيه، فلا يعرف اللاوكون حق عرفانه إلا من قرأ اللاوكون، ولكننا قادرون على أن نجمل هنا أثره الكبير في تصحيح الشعر، والتصوير، وإقامة الأذواق الفنية في الغرب على النهج القويم، فقد كان من هذا الأثر أن عدل الشعر عن حماقة الوصف المحسوس التي شغل بها المقلدون زمنًا طويلًا؛ لظنهم أنهم يرتقون إلى ذروة الشعر كلما ارتقوا إلى ذروة التصوير والتشبيه بالمحسوسات، وكان من أثره أن عدل التصوير عن الرموز المعنوية التي لا طاقة له بها، والتي هي ميدان الشاعر فهو عليها أقدر، وبها أحجى وأجدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤