قراءة القواميس١

المعروف أن المعاجم — أو القواميس — لا تقرأ إلا كلمة كلمة، وأنها ككل شيء ضخم عظيم الشأن لا يطال في مخاطبتها إلا بمقدار كلمة ورد غطائها كما يقولون! ثم ندعها وشأنها حتى تعيدنا إليها كلمة أخرى وقلما يزاد عليها، فهل هذا الذي نعنيه بالقراءة؟ أو للقواميس قراءة أخرى كتلك الكتب التي خلقها الله تقرأ من الجلدة إلى الجلدة، ومن السطر الأول إلى السطر الأخير؟

نعم للقواميس قراءة كهذه بل قراءتان، وما من تلميذ إلا يذكر في صباه كيف كان ينظر إلى هذه الكتب الضخام نظرة الإكبار والإعظام، وكيف كان يصور لنفسه أولئك العلماء الأجلاء الذين استبحروا في العلم، واستوعبوا كل ما في هذه الكتب من كلام أعجمي أو عربي كأنه الأعجمي في الغرابة وصعوبة الألفاظ! وهو لا يذهب بعيدًا في التصور والتقدير، فأستاذه هذا — أستاذه الذي يراه أمام عينيه — يحفظ القاموس ولا يخرم منه كلمة! أليس يسأله عن كل ما في كتاب المطالعة من كلمات غريبة فيجيب على البديهة؟ فإذا ساء حظ ذلك الأستاذ يومًا فاحتاج أمامه إلى القاموس يبحث فيه عن كلمة فالناظر إذن هو الذي يحفظ القاموس وحده دون جميع المعلمين في مدرسته! وإذا دار الفلك دورة النحس على هذا الناظر أيضًا في بعض زياراته القليلة للفرق الصغيرة أو الكبيرة، فالمفتش إذن هو المختص بحفظ القواميس والقادر وحده على أن يحمل في عقله هذا الكتاب الذي تعيا بحمله اليدان! ومتي يجيء اليوم الذي يرتقي هو فيه إلى هذه المرتبة العالية من الحفظ والتحصيل؟ ألا يجرب قليلًا؟ ألا يشرع من الآن؟

ويتفق أن يشرع في الصفحة الأولى يكررها كلمة بعد كلمة وحرفًا حرفًا من تلك المعاني التي لم يضعها مؤلف القاموس عبثًا هناك حتى يستغني القارئ الصغير ببعضها عن البعض الآخر! بل يتفق أن يحفظ صفحتين أو ثلاثًا أو أربعًا وخمسًا ثم لا بد أن يدركه السأم ويستكبر هذا الخطب الجسيم ويعزي نفسه بصغر السن وبعد اليوم الذي يحق له فيه أن يتصدى لهذه الأهوال.

ولكن لماذا تراه يحفظ القاموس؟

للترجمة بالبداهة!

فلو أنه حفظه كله لما غابت عنه كلمة في الترجمة من العربية إلى الإفرنجية أو من الإفرنجية إلى العربية، ولاستطاع أن يرطن مع أكبر كبير من الإنجليز أو الفرنسيين بلا توقف ولا تلعثم، وليس هذا بالأمر الصغير الذي يستكبر في جانبه العناء الأليم في حفظ ذلك الكتاب الجسيم.

ومن الحظ الحسن لصغار التلاميذ أن حفظ القاموس — مهما صغر — شيء عسير ومحاولة غير هينة على أي كان من المحاولين، وإلا فلو سهل عليهم ببعض العناء أن يحفظوا القواميس كلها من كلمتها الأولى إلى كلمتها الأخيرة لعلموا بعد قليل من الزمن أنه تعب غير نافع واجتهاد لا يؤدي إلى غناء اجتهاد، كما يقول أبو العلاء.

فأما أولًا: فلأن المعول في الكتابة والترجمة إنما هو على استحضار الكلمة في موضعها وعند الحاجة إليها، وليس على حفظ الكلمات الكثيرة بالمئات والألوف. فالذي يحفظ ألفي كلمة من اللغة ويقدر على استحضار كل كلمة منها في موضعها وعند الحاجة إليها، هو ولا مراء أقدر على الكتابة والترجمة ممن يحفظ عشرة أمثالها ولا يقدر على استحضار الكلمات في حينها.

وأما ثانيًا: فلأن ملكة الاستحضار لا تغني عن ملكة التعبير، فقد نحضر الكلمات في الذهن عند طلبها، ويظل التعبير بعد ذلك مختلًا ضعيفًا؛ لأن التصوير مختل ضعيف.

وملكة الاستحضار على لزومها ووجوب العناية بها شيء غير الحفظ، وغير الفهم، وغير التعبير، بل هي قد توجد في المرء على أقوى ما تكون وهو لا يفهم معاني الكلمات التي يخزنها في ذهنه، ويستثيرها من مخازنها عند طلبه، وقد عرفت رجلًا كانت فيه هذه الملكة النفسية على قوة خارقة للمألوف في جماعة الحفاظ، وهو قليل العلم بغير ما يحفظ بل قليل العلم بمعاني ما يحفظ، فلا يذكره إلا بحروفه دون معانيه، وهذا أدعى إلى الدهشة في الحقيقة إذ كان المعروف أن فهم معاني الكلمات يعين على حفظها، ويكون كالمناسبة التي تساعد على التعليق والتفكير.

كان هذا الرجل في «أسوان»، وكان صاحب رأي في الدين يعد رأيًا جريئًا من مثله، لأنه كان ينكر الأئمة الأربعة، وينكر الفقهاء جميعًا، ويكتفي بالقرآن على حسب ما يفهم هو بغير حاجة إلى تفسير مفسرين، وكانوا يسمونه الخامسي؛ لأنه يجيء بعد الأئمة الأربعة بمذهب في الدين يتبعه ويدعو إليه، ولما ظهر في صباه بهذا المذهب قبل ستين سنة أو قرابتها قامت عليه القيامة، وحملوه إلى الوالي يستتيبه فأبى أن يتوب وثبت على رأيه إلى آخر حياته.

والمدهش في أمر هذا الرجل ليس هذا وإن كان فيه من دواعي الدهشة ما فيه، إنما المدهش في أمره حقًّا تلك القدرة العجيبة على استحضار الكلمات بحروفها وألفاظها دون المعاني التي قد تعين الحافظ على سرعة الإحضار، وكان يحفظ القرآن وكثير من الناس يحفظون القرآن، ولكن الذي يمتاز به هو أنك لا تذكر له كلمة إلا جاءك بما يشبه لفظها من القرآن، ولا عليه من معناها في اللغة ولا في كتب هؤلاء النحاة المذبذبين الذين أدخلوا في الدين ما ليس فيه! وكان لا يقر لك بالعجز أبدًا؛ لأنه كان يعتقد أنه ما من شيء في الدنيا إلا وقد ورد في القرآن بحرفه ونصه، فإذا هو عجز عن إخراج كلمة من كتاب الله فقد شك في دينه أو ألقى يد السلم لمجادليه، وكلاهما عنده بلاء عظيم.

كنا نداعبه ونسأله: أفي القرآن يا عم فلان ذكر للمليم؟

فما هو إلا أن نفاجئه بالسؤال حتى يكر علينا بالجواب: أي نعم يا بني! قال الله تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ.

فتقول له: والنكلة؟ أفي القرآن ذكر لها؟

فلا يلبث إلا ريثما يجيل السؤال في رأسه ثم يقول: أجل! أجل! فيه يا بني فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ.

ولقيناه مرة على شاطئ النيل وفيه باخرة راسية لشركة كوك، فقلنا له: الآن يا عم فلان يتبين الحق من الباطل، هل ورد في القرآن ذكر لكوك؟

فسكت قليلًا، وقال: كيف لا؟ ورفع صوته وكان قوي الصوت جهيره طويل القامة مهيب الطلعة، وله لحية بيضاء صافية، فجعل يشير إلى الباخرة ويكرر الإشارة إليها كأنما يطعن الهواء بأصبعه وهو يقول: إن الله تعالى قال في كتابه المنزل على نبيه المرسل: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ونطق لها كأنما يقول وهو يشير إلى الباخرة: «وترى كوك قائمًا.»

وسأله بعضهم مرة: أين الشكولاتة في القرآن يا عم فلان؟

فقال: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ.

وهكذا من أمثال هذه الأمثلة وأمثال هذه الأجوبة لا يُلقى عليه السؤال حتى يُطرق هنيهة أو يجيب السائل توًّا: «أي نعم يا بني! أي نعم يا زنديق! أي نعم يا منافق! أي نعم يا عدو الله!» على حسب ما يتبينه في لهجة السائل من المناكرة أو المجاملة، ثم يردف ذلك بالآية وفيها الكلمة المسئول عنها أو ما يشبهها في لفظها، فإذا تعذر عليه استخراجها — وقلما يتعذر عليه — فهو يدخلها في طي غيرها، ويقول عن الدندرمة مثلًا إنها داخلة في طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، وعن أي شيء كان مجهولًا عند تنزيل القرآن إنه داخل في قوله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

ومر يومًا بصديق له يجلس بين اثنين ممن شهدوا عليه بالكفر وبالغوا في تعذيره، فما هو إلا أن لمح هذين الاثنين وصديقه بينهما حتى وقف في مجتمع السوق، وركز عصاه وهو يشير إلى اليمين وإلى الشمال: فلان! فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا وجعل يدور على نفسه ويهز ذراعه ويصيح بصوته الجهير: كلا كلا كلا، والناس يضحكون ويعجبون من سرعة استذكاره لتلك الآية التي تناسب مقامها أقرب مناسبة، وكانت له من أمثال ذلك نوادر كثيرة لا ينقضي أسبوع على غير نادرة طريفة أو عدة نوادر، فكان موضع دراسة عقلية وفكاهة لا يفرغ منها الدارسون والمتفكهون.

هذه ملكة الاستحضار على أقواها، وعلى الحالة التي قد تكون بمعزل عن ملكة الفهم وملكة التعبير، فليس كل من يحفظ يستحضر، ولا كل من يستحضر يعبر، وقراءة القواميس على هذه الطريقة — طريقة الحفظ والاستظهار — لا تفيد كما رأيت بغير ملكة الاستحضار وملكة التعبير.

أما الطريقة الأخرى — وهي التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال — فهي طريقة الترويح عن النفس بتقليب القاموس أحيانًا لتصفح الكلمات، واستذكار ما يصاحبها في الذهن من الحوادث والمناسبات. كأن تكون واردة في بيت شعر، أو مقترنة بخبر من الأخبار، أو لازمة معادة في كلام بعض الكتاب أو بعض الشعراء، أو مناسبات غير ذلك لا تزال تورد على بالك من الأسماء والأخبار معرضًا حافلًا مفرق المعروضات موزع الأغراض.

فتحت كتاب الإفصاح فصادفتني كلمة «ثوج» فذكرتني هذه الكلمة أختها «المثوج». والمناسبة التي سمعتها فيها لأول مرة، وكانت في خطاب كتبه تلميذ معي في المدرسة إلى عالم لغوي كبير هو المرحوم الشيخ حمزة فتح الله.

كان صديقي هذا تقيًّا صالحًا من صباه، وكان يحب التقاة الصالحين والذين عليهم سمت الدين والورع والطيبة والاتكال على الله، فكان يحب الشيخ حمزة ويجله ويقلده أيضًا تقليد المودة والإعجاب إذا دعت إلى ذلك ضرورة المزاح، وهي ضرورة في سن الصبا كثيرة الطروق لا تهاب التجلة ولا تعرف الأعذار! ولما انتهت دراسته لم ينسَ العالِم الكبير ولم يزل يواليه بالهدايا الأسوانية كالخوص المنسوج بألوانه الفرعونية، أو التمر الجيد، أو الفاكهة التي يتقدم إبانها في أُسْوان لحرارة جوها وسرعة النضج فيها، فأرسل إليه يومًا كيلتين من التمر الفاخر وتعب في انتقائه جدًّا وتعب في انتقاء الكلمات التي يكتبها إليه أضعاف تعبه في انتقاء الهدية.

ماذا يقول؟ أيقول أرسلت لك بلحًا في مقطف أو قفة أو أشباه ذلك من الكلمات التي يكتبها كل إنسان لكل إنسان؟ حاشى العلم وحاشى العلماء وحاشاه هو أن يقترف هذه الكبيرة في حق الشيخ، وأن يبتذل مقام العلامة اللغوي هذا الابتذال! كيف؟ أيذكر له القفة والبلح والمقطف في خطاب وهو لو استطاع لبدل حروف الجر التي يفهمها عامة الناس؟

وما أدري أين عثر بكلمة المثوج هذه، وعلم أنها مرادفة لكلمة المقطف، فهلل لها وكبر وأخذ في كتابة الخطاب.

أرسلت؟ لا! أزجيت أولى، وأبلغ.

إذن يكون مستهل الخطاب هكذا: «أزجيت إليك بمثوج فيه …»

فيه ماذا! فيه تمر كما يقول عامة خلق الله! معاذ الله! بل فيه بسر، فهي كذلك أولى هنا وأبلغ! وإذا كان القاموس يقول: إن البسر هو التمر لوَّن ولم ينضج … فلا بأس هنا بهذا التحريف المقصود. إنه لأشبه بالمألوف من تطفيف قيمة الهدية، وتصغير شأنها، فلا ضير أن يجري الكلام إذن على نحو هذه البلاغة النادرة:

مولاي الأستاذ الجليل: أزجيت إليك بمثوج فيه بسر، ثم يجري على هذا النمط إلى السلام والختام.

وقد كان، وذهب «البسر» وذهب الخطاب، وجاء الشيخ حمزة في موعده من العام فاستقبله صديقنا الصالح، وضحك الشيخ ولم يدرِ صديقنا مم يضحك، ثم سأله وهو يغالب نفسه: ما المثوج؟

قال: أوليس هو المقطف يا مولاي؟

قال: لا يا بني! المثوج هو زنبيل يوضع فيه الزبل والتراب! وقهقه الشيخ تلك القهقهة التي يذكرها عارفوه.

لا جرم ليس من المألوف أن يبلغ التطفيف بالهدية هذا المبلغ! وصدق مرة أخرى قول المتنبي:

أبلغ ما يطلب النجاح به الطبـ
ـع وعند التعمق الزلل

إذا قرئت القواميس على هذه الطريقة فقد تجد فيها أحيانًا كلامًا تقرؤه غير الحروف التي لا تدل على شيء، وغير الأفعال والأسماء التي تدل على شيء والزمن جزء منه، أو تدل على شيء وليس له من الزمن جزء ولا جزيء!

١  ٢٢ يوليو سنة ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤