أريحية الأمم١

تحيا الأمم ما بقيت لها أريحية وإعجاب، وتموت أو تدخل في دور الشيخوخة الفانية إذا نضب في نفوسها معين الأريحية، وفترت فيها حرارة الإعجاب، فإن المعجب بإنسان يثق ويرجو ويحس ويقدر، ولا يعوز الحي شيء من الحياة إذا اجتمع له الثقة والرجاء والإحساس والتقدير.

وإنما يفتر الإعجاب في النفس حين تخلد إلى العجز والراحة وتيأس من النهوض والمجاراة في مضامير السعي والحركة، فهي إذن غريبة عن مطالب الحياة، ومطالب الحياة إذن غريبة عنها، وكل فوز لا تشترك فيه ولا ترجو أن تشترك فيه هو شيء لا يعنيها ولا يستدعي اهتمامها ولا يربطها إليه سبب، فيستوي عندها ما يستحق الإعجاب وما ليس يستحقه، وتنظر إلى ميدان المفاخر كما ينظر المقعد إلى ميدان الحرب لا يغشاه ولا مأرب له فيه، نظرة فتور هي إن لم تكن نظرة كراهة ونفور.

من البلاد الحية نسمع أصداء الإعجاب كل يوم ترتفع عالية مجلجلة في أنحاء العالم ببطل متفوق في باب من أبواب القدرة والمهارة، وما هو إلا أن يتفوق البطل في ذلك الباب حتى تشمله الدنيا عندهم بحياطتها، وتعفيه من صغائر همومها، وتقصر آماله كلها على تجويد فنه والاحتفاظ لأمته بسمعتها وسمعته، فهو ما عاش في يسرة وحفاوة وتكريم واطمئنان، وهو في كفالة أمته من الساعة التي يرفع فيها ذكرها بين الأمم، ويبوئها مكان الزعامة في فنه بين طلاب ذلك المكان.

والأمم هي الرابحة بهذا الجزاء، وهي الرابحة بما تعطيه فضلًا عن ربحها الجزيل بما تأخذه وتحتويه، فهي لا تعطي إلا وهي جائشة النفس بالفخر والأمل، والشعور والإقبال على الحياة، وفي بعض ذلك الجيشان الذي يثيره فيها البطل بفوزه وغلبته جزاء لها وأعظم به من جزاء!

والحكومات تشارك الأمم في هذا، وتنعم بالأنواط والألقاب على السابقين بل على تابعي السابقين، أيًّا كان الميدان الذي فيه يسبقون — تنعم على سائق السيارة، ولاعب الكرة، والسابح، والطائر، والبارع في كل مطلب — ووسامها ولا ريب أقل من الوسام الذي ينيلها إياه بطلبها بما يلبسها من فخار السبق، ويقيضه لها من مزية التفرد في العالم بصفة من الصفات المأثورة، فحسب الفرد من واجب يؤديه لأمته أن يجعلها الأولى بين مثيلاتها مرة واحدة، وأن يرفع علمها فوق الأعلام لحظة واحدة، وأن يجعل اسمها أرفع من سائر الأسماء في صيحة واحدة. حسبه أن يصنع لها ذلك ليكون قد استحق هو التنويه بين الأفراد، واستحق مع التنويه أن يعيش عمره المعيشة التي تليق بمن هو فخر وطني ومجد ملايين.

بل يقل العجب من تمجيد سائق السيارة، ولاعب الكرة، والسابح، والطائر، وأمثالهم في مضامير الألعاب والجهود؛ لأن هؤلاء يفيدون ويصلحون وليس عملهم لهوًا ولا تزجية فراغ وهناك سابقون في مضامير أخرى لا فائدة لها ولا مجد فيها للسابقين مثلًا في لعب النرد أو لعب الشطرنج أو تجرع الشراب والتهام الطعام، فهؤلاء — على قلة شأنهم — لا يحرمون في الأمم الحية حظهم من الفخر أو حظهم من المال، ويعيشون بقية أعمارهم بما يجنون من أرباح الرهان في هذه المضامير.

لما سافر «شارلي شابلن» من أمريكا إلى أوربا خرجت لندن كلها لاستقباله في حشد قلما شهده ملك من كبار الملوك، وكتبت إحدى الصحف الفرنسية تعجب لذلك وتتساءل: ترى لو كان الطبيب فنسان — صاحب لقاح التيفوس — بين الجموع المهللة لشارلي شابلن أما كانوا ينحونه عن الطريق ليقبلوا على بطلهم العزيز؟

فلم تمض إلا أيام حتى زار شارلي شابلن باريس فكان استقباله فيها كاستقباله في لندن، وكانت عناية الفرنسيين والفرنسيات به كعناية الإنجليز والإنجليزيات. وكتبنا يومئذ نعقب على ما كتبته الصحيفة الفرنسية لنقرر هذا المعنى في أخلاد الذين يجهلونه من المصريين: هل من الظلم حقًّا أن يظفر شارلي شابلن بذلك الإعجاب، وأن يحرمه أمثال فنسان في حياتهم؟ لعمري إن الإنسان ليرى سمات العدل في هذه الأطوار التي تشاهد في الجماهير، فإن الممثل الهزلي لن يظفر بعد موته بكثير ولا قليل من الإعجاب الذي هو حقيق به، فمن الإنصاف أن يكافأ في حياته هذه المكافأة على إضحاك الناس، وتسرية همومهم، وتنشيط عقولهم، وقلوبهم، وما هو بالعمل الحقير ولا القليل الشأن في هذه الدنيا المفعمة بالشواغل والهموم. والأمر على خلاف ذلك مع فنسان وأمثاله، فإن ذكرهم لا ينسى بعد موتهم، والإعجاب بهم يبقى زمانًا وهم تراب في لحودهم؛ وليس هذا الإعجاب بالعملة الزائفة، بل هو عملة صحيحة مقومة يقبلها كل إنسان جزاء لأعماله، وهنا ضرب من الاقتصاد «الشعوري» غير مقصود في حركات الجماهير من هذا القبيل، فإن الطبيب «فنسان» يفيد بعلمه ولو لم يلق هتافًا وتهليلًا! أما شارلي شابلن فهل تراه يسخو بمواهبه بغير الهتاف والتهليل؟ أو هل يمكن التفريق بين الوقت الذي يضحك الناس فيه والوقت الذي يهللون له فيه ويهتفون؟

والواقع أن العالم لن يستطيع أن يسرف في تمجيد بطل عالم ولو مجد ومجد ومجد! لأن فائدة العالم من البطل أكبر جدًّا من فائدة البطل من العالم كائنًا ما كان نوع الفائدة، وبالغًا ما بلغ شأو التمجيد.

•••

دع هذا جانبًا وانظر الآن إلى جانب آخر لا يشكو من الإسراف في تمجيد البطولة والسخاء عليها، ولا تكون الشكوى فيه — إن كانت — إلا من الإسراف في الإهمال، والتثبيط وبخس الحقوق.

قرأت في الصحف خبرًا لم أدر كيف أصدقه؛ لأنه غير قابل للتصديق، قرأت فيها خبرًا موجزه أن فتى مصريًّا أحرز لمصر بطولة الدنيا في مصارعة الهواة، ورفع علمها عاليًا بين جميع الأعلام، ثم هو الآن فراش يقف بالباب في ديوان من دواوين الإسكندرية! نعم في ديوان من دواوين الإسكندرية التي يعيش فيها ألوف من «لا شيء»، والتي أرادوا يومًا أن يجعلوها قبلة الشرق والغرب في المسابقات والألعاب.

فتى مصري هو من جهة فراش على باب، ومن جهة أخرى أقدر رجل من نوعه في كوكب الأرض كله! يا لها من كبيرة كبرى؟ ويا لها من خارقة تحسب في خوارق التاريخ، وستحسب لا محالة في خوارق التاريخ.

ذهلت عما أقرأ وأنا أقرؤه وأردد النظر فيه، ذهلت ولا أزال كلما رددته في فكري يستولي على ذهول لا أفيق منه على وجه مريح، كيف يصدق هذا؟ كيف يكون؟ لا يصدق ولا هو قابل للتصديق، إلا بأن تراه رأي عينك وتلمسه لمس يدك، أما أنه شيء يصح أن يصدق ويصح أن يكون فهذا من وراء ما نعقل، ومن وراء ما يجب أن نعقل من عجائب الأمور.

أتدري أيها القارئ؟ لو كنت في أمة غربية ودار فيها ذكر المفاخر والمساوئ لخزيت من هذا الخبر أضعاف خزيي من خبر يقال عن عالم أو فيلسوف أو شاعر مغبون، لو قيل لي إن أكبر العلماء أو أكبر الفلاسفة أو أكبر الشعراء ظهر في وطنك فبخسوه حقه، وضاق به رزقه لما أطرقت لذلك خجلًا كما أطرق وهم يقولون إن بطلًا من أبطال العالم كله في المصارعة لا يجد القوت في وطنك إلا من وظيفة فراش يقف على باب.

ذلك أن المفروض في بطولة العلم والفلسفة والشعر أنها فوق متناول الجماهير، وأنها قد تسبق موقعها من الزمان فلا تلقى ما هي أهل له من الحفاوة والتقدير، وكلما ارتفعت طبقة النابغة واحتاج تقديره إلى ارتفاع النظر وارتفاع الشعور، وضح العذر وقلت الملامة، وكان ذلك سببًا لتخفيف الوزر الذي تؤخذ به الجماهير إذا هي قصرت في حقه وعجزت عن جزائه، أما بطولة العالم في المصارعة، فبطولة يعرفها بفطرته العالم والجاهل والذكي والغبي والقوي والضعيف، وهي بطولة لا يعتذر بجهلها أحد إلا إذا كان عذره أدل على ذنبه وأوجب لخزيه، فالتقصير في حقها لا معنى له إلا أنه هو التقصير، وأنه التقصير الخالع الكالح الذي لا يخجل من نفسه، ولا يلتمس الأعذار بقبحه؛ لأنه من الإيغال في الكنود بحيث لا يراه ولا يشعر أن أحدًا يراه.

أنا لا أعرف الفتى «إبراهيم مصطفى» الذي أحرز لوطنه هذا الشرف بين أمم العالم، ولكني أعرف أنه مصري، وأن عمله لمصر شرف له ولها، ولكن عمل مصر له وصمة لا تليق بالمصريين، وليست مما يصح عليه السكوت.

١  ٥ أغسطس سنة ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤