لو١

«لو» في حياة الأفراد كثيرة، وهي في حياة الأمم أكثر.

فما من أحد إلا ويذكر في حياته حادثًا خطيرًا، كان من الجائز ألا يحدث لولا مصادفة صغيرة، أو عملًا جليلًا تم على يديه، وكان من الجائز ألا يتم لولا كلمة سمعها أو خبر وصل إليه من حيث لا ينتظر وصوله، وأكثر الناس يستطيع أن يرد أمر نجاحه أو إخفاقه وسعادته أو شقائه إلى أشياء لم تكن تخطر على باله قبل وقوعها، ولو أنها وقعت عرضًا كما اتفق بها لتغير مجرى حياته.

ويتفق هذا للأمم كما يتفق للأفراد أو هو في تواريخ الأمم أكثر اتفاقًا؛ لأنها أطول أعمارًا وأحفل بالحوادث، وأوسع منافذ للصروف والغير، فهي كذلك أحفل بالمصادفات أو ما نسميه نحن بالمصادفات؛ لأننا نجهل ما وراءه من الأسباب ولا نسلسل حلقاتها إلى مبادئها الخفية وأصولها الحقيقية، وهذا هو موضع البحث الذي يكتب فيه الآن الأستاذ «هيرنشو» أستاذ التاريخ بكلية الملك في جامعة لندن، وينشر فصوله المتوالية في مجلة «الأوتلاين» الإنجليزية.

من الأقوال المشهورة أنه لو اختلف أنف كليوباترا في الطول بمقدار ثمن قيراط لاختلف معه تاريخ المسيحية وتاريخ العالم بأسره.

كيف ذلك!

قالوا: نعم. لو طال أنف كيلوباترا أو قصر بمقدار ثمن قيراط لشاه وجهها وذهبت فتنة جمالها وعز عليها أن توقع في شباكها رجلًا كيوليوس قيصر، أو رجلًا كمارك أنطونيوس؛ ومن ثم كانت معركة «أكتيوم» تختفي من التاريخ، وكانت دولة «أوغسطس» تنشأ في حدود غير حدودها، ومعالم غير معالمها، فلا بيلاطس يحكم في سورية، ولا هيرود يملك على اليهود، ولا الظروف التي أتاحت للقديس بولس أن يجوب الأقطار للتبشير بدعوته كانت تتهيأ له كما تهيأت أو تحدث كما حدثت، وكان من المحتمل أن تظل رومة بمعزل عن المسيحية بقية حياتها، إلى غير ذلك من التقديرات التي ليس لها اليوم ميزان توزن به، ولا يقف بها التخيل عند غاية.

ذلك مثل مما يصح أن يتغير في تاريخ الدنيا إذا تغير فيه أنف امرأة، وليس هذا التغيير بالأمر الحقير كما يقول الأستاذ، ولا سيما في رأي السيدة التي تحمل ذلك الأنف الذي يراد به أن يقصر أو يطول! ولكنه بالغًا ما بلغ من الخطر وجلالة الشأن تغيير يعجب الكثيرون إذا قيل لهم إنه يتصرف بالدنيا والآخرة هذا التصرف وتتعلق به مقادير الأمم وآمال بني الإنسان في العالم المجهول.

ومثل آخر من الأمثلة التي ذكرها الأستاذ في فصول هذا البحث، عمر الإسكندر الكبير الذي مات بحمى «الملاريا» في الثالثة والثلاثين وهي سن صغيرة، يفتتح فيها كثير من الناس سجل الشهرة والخلود. أفما كان من الجائز ألا يصاب الإسكندر بالحمى، وألا يموت في هذه السن الصغيرة؟ وإذا تأخر به العمر حتى ناهز السبعين أو الثمانين، وأنجز ما في نفسه من المطالب والخطط أفكان يمضي تاريخ الشرق والغرب في مجراه الذي يمضي فيه أم كان لا بد له من تغير يظهر لنا أمورًا لم تظهر، ويخفي أمورًا لم تخف، ويترتب عليه أن أناسًا منا لا يولدون، وأن أناسًا آخرين يولدون، وهم الآن في عالم الوهم والاحتمال؟

قال الأستاذ: لو أن الإسكندر الكبير لم يحتضر في سنة ٣٢٣ قبل الميلاد بل عاش حتى بلغ الكهولة على الأقل فنظم فتوحاته، ووطد أركان ملكه، وأتم برنامج فتوحه، وأنضج سياسته، لجاز أن يتحول كل ما أعقبه من الحوادث تحولًا عظيمًا عن باقي الآثار، فقد كان في العهد الذي مات فيه ينوي أن يغزو بلاد العرب؛ ليضمها إلى دولته، وأن يُسَيِّر على قرطاجنة أسطولًا، ثم يغير بعد ذلك على «رومة» التي كان الاستيلاء عليها في ذلك الحين من أهون الأمور وأقلها كلفة.

فلو أنه ملك بلاد العرب لكان من المحتمل ألا يظهر النبي محمد!

ولو أنه ملك قرطاجنة لكان من المحتمل ألا يظهر هنيبال، ولا يتردد له اسم في الأسماع.

ولو أنه ملك رومة لما ظهر يوليوس قيصر من خموله في الريف، ولا كان هذا الشهر يوليو، كتب هذا الفصل في شهر يوليو الماضي.

بل أعظم من ذلك أن المسيحية التي كانت في عنصرها نحلة من نحل الإسكندرية ما كانت لتصبح يومًا وهي كاثوليكية رومانية.

•••

واحتمال آخر من هذه الاحتمالات العجيبة. أن فلسفة روسو كلها كانت على وشك الضياع في ساعة من الساعات، ثم كان من المحقق أن ضياعها يؤثر بعض التأثير في مجرى الثورة الفرنسية التي كان روسو من أبنائها المتبعين، وكانت كتبه بمثابة الوحي لبعض دعاتها المسموعين.

فلو استطاع روسو في مساء ١٤ مارس سنة ١٧٢٨ أن يتقدم عشرين خطوة إلى باب جنيف لبقي حيث كان صبيًّا يتعلم الحفر، ويعول على النبوغ، وقلما يخطر له خاطر الكتابة والتأليف.

ولكن روسو تأخر عشرين خطوة عن باب المدينة في ساعة إقفاله، ففر من معلمه الصارم العسوف، الذي كان أنذره أشد إنذار إذا هو تأخر في المساء، وعرف روسو معنى هذا الإنذار من سابقتين سلفتا له في التأخير، فلوى وجهه عن باب المدينة، وأقدم على تلك الحياة الشاردة الهائمة التي ساقته إلى التأليف، وبثت في تصانيفه روح التذمر وحب التبديل.

وحدث كل ذلك اتفاقًا على خلاف الحساب المعروف، فإن باب المدينة كان يقفل في الساعة الثامنة وروسو قد عاد من رحلته في الخلاء قبل الساعة الثامنة ببضع دقائق، فلماذا أقفل الباب يومئذ قبل موعده؟ ولماذا حدث بعد ذلك ما حدث من خطوب كبار في تاريخ السياسة وتاريخ الآداب؟ حدث ذلك كله لأن حارس الباب كان على موعد مع حبيبته تنتظره في ذلك المساء وكان شديد الشوق إلى لقائها فعجل بإقفال الباب قبل الساعة الثامنة، وكان روسو على مسافة عشرين خطوة منه فعدا إليه فلم يدركه، وضاع رجاؤه عبثًا، وتركه الحارس يصرخ لمن لا يجيب ويتخبط ولا من سميع.

•••

هذه أمثلة من احتمالات كثيرة أوردها الأستاذ وأورد غيرها، وفي وسعنا نحن أن نضيف إليها من تاريخ مصر الحديث ما يضارعها في الغرابة وفي حكم المصادفة، فماذا كان يطرأ على تاريخنا الحديث من التغيير لو أن محمد علي الكبير لم ينج من الماء في الشواطئ المصرية عند قدومه إلى مصر في المرة الأولى؟ أو ماذا كان يطرأ عليه لو أن خبر المذبحة التي دبرت في القلعة وصل إلى مسامع المماليك قبل ذلك من خائن أو جاسوس؟ أو ماذا كان يطرأ عليه لو أن «سعد زغلول» عمل في الفلاحة والزراعة، ولم يعمل في الفقه والقانون؟ فهذه احتمالات معلقة بالمصادفات التي قد تكون وقد لا تكون ولكنها خطيرة النتائج بعيدة الآثار.

لنا أن نخفف من غلواء هذه الاحتمالات، فلا نجعلها الحكم المطلق فيما يتعلق بها من التطور والتبديل. لنا أن نقول مثلًا في أنف كليوبترا إنه كان يطول أو يقصر وإن ملاحتها كانت تشوه أو تحسن، ثم لا يغير ذلك من قلب «أنطونيوس» وحبه للنساء، واستعداده للوقوع في شرك امرأة غير كليوبترا في نسائها أو من نساء بعض البلاد.

ولنا أن نقول إن الشقاق كان وشيكًا أن تنجم له أسباب كثيرة بين «أنطونيوس» و«أكتافيوس» فتؤدي إلى الحرب فالظفر لمن هو أهل للظفر والهزيمة لمن هو أهل للهزيمة.

ولنا أن نقول إن رومة كانت تطمع في ملك مصر، ولو لم ينشب فيها نزاع بين قائدين، ولم يقبض فيها على ناصية الأمر قائد مغوار عظيم الدهاء.

لنا أن نقول هذا في أنف كليوبترا، ولنا أن نقول مثله في عمر الإسكندر، وفي خطوات روسو، وفيما شابه ذلك من العوارض والمصادفات، ولكننا إذا قلنا هذا أو غيره، فإلى أين نريد أن نصل وبماذا نخرج من جميع هذه الفروض؟

هل نستطيع أن ننكر أن الكبائر تتعلق بالصغائر وأن هذه الصغائر إذا زالت أو لم تحدث خلفتها صغائر أخرى تعمل عملها، وتقوم في تصريف الكبائر مقامها؟ هل نستطيع أن نغتر بأنفسنا فنزعم أن كل جليلة علينا تكبر على المقادير، فلا تعترينا إلا كما نقدر لها من التقدير، ونفرض لها من الظواهر والأسباب؟

هذه هي العبرة من حيث «لو» وما تصرفه من تواريخ الأفراد والأمم، فقد يعظم علينا الخطب فيكبر علينا أن نعلقه بالصغائر، ثم لا ترى فيه الأقدار إلا أن تعلقه بأصغر صغيرة من العوارض والمصادفات، وقد نلتمس العلل الجسيمة للحوادث الجسيمة؛ لأننا نقيسها بمقياس لا تأخذ به نواميس الوجود، وعزيز علينا أن تتعلق مصائر الأمم بثمن قيراط ينقص في أنف كليوبترا أو يزيد، ولكن من أين لنا أن ما هو عزيز علينا عزيز كذلك على الأقدار أو على نواميس الوجود.

قال حكيم: إذا شئت أن تهون عليك خطوب بني الإنسان فارفع بصرك إلى السماء، وانظر أين تقع الأرض في ذلك الكون الفسيح الذي لا أول له ولا آخر، أفحق نحن في حاجة إلى نظرة من السماء الرفيعة، والكون الفسيح لنعلم كيف يهون علينا ما ليس يهون؟!

لا يا سيدي الحكيم! انظر إلى الخطوب نفسها، وانظر إلى أسبابها ومصادفاتها تعلم كيف تهون عليك تلك الخطوب.

١  ٢ سبتمبر سنة ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤