بلاد الحياة والموت والأديان

القارة الآسيوية أرض حافلة بأسباب الحياة، حافلة بأسباب الموت، وهي لهذا كانت أرضًا حافلة بالأرباب والشياطين، وكان سلطان الدين فيها أقوى ما عرف في نفوس بني الإنسان.

بلاد شاسعة الأطراف فيها من النبات صنوف ومن الحيوان صنوف، فيها البطاح تغمرها الغياض والآجام والكلأ الجميم والعشب المريع، وفيها الثمار من كل فاكهة ألوان، والأمواه تجري في السهول والجبال، والمعادن في جوف الأرض على مقربة من تناول الفحص اليسير والعلم القليل، وفيها الأقاليم الواسعات يجتمع لها ما تفرق في أقاليم الأرض من الزرع والحيوان، وتجوس خلالها أسراب الطير والأوابد على اختلاف في الأقدار والطبائع والأشكال، والدواب ميسرات لمن يخرج إلى العراء ويصيد ويروض، والطعام من فاكهة الأرض ومن لحوم الأطيار والأسماك والأنعام غير ممنوع ولا مضنون به على الطالبين، فها هنا البركة والرضوان والخير الموفور وأرباب الرحمة والرخاء التي تؤتي عبادها كل ما يشتهون.

وبين هذه الخيرات والنعم آفات لا حصر لها ولا علم لأحد هنالك بما يسوقها على الناس وما يدفعها، فالبطاح تضربها الشمس في الصيف فهي جهنم، ويثقلها الثلج في الشتاء فهي زمهرير، والبراكين تخسف الأرض وترفعها فتغيض البحار وترتفع الأطواد، ويندك ما كان شامخًا ويشمخ ما كان في القرار الخفيض، والأمواه والأودية تخالطها السموم مما ينتشر فيها وعليها من الدواخين والمعاطب، فلا يعبرها حيوان إلا هلك، ولا تنبت فيها نابتة إلا ذوت، ولا يلم بها إنسان إلا على وجل يتلمس النجاة، والهوام ساعيات بالأذى، والأوابد ضاريات لا يحسبن لأبناء آدم حسابًا، والوباء يشيع حيث يشيع فلا علاج له ولا وقاء منه، والمرء يتلفت حوله فلا يعلم من أين يجيئه الموت ومن أين ينشد السلامة، فكل مهلكة عنده شيطان مارد وكل مصيبة تعتريه دسيسة من عالم مجهول، ولا حيلة له في كل ذلك إلا الصلوات والتعاويذ والقرابين، وإلا أن يلوذ بمن هم على صلة بالأرباب والشياطين، ومعرفة بمواقع الغضب منهم والقبول؛ عسى أن يمشوا بينه وبينهم بالشفاعات والمعاذير.

إذا وبئت الأرض فمات من عليها من الحيوان قال لك العلم الحديث: إنه غاز الفحم ينتشر فويقها فيموت فيه كل متنفس، وإذا وبئ البحر فمات من فيه من الحيوان، قال لك العلم الحديث: إنه سلفيد الهيدروجين ينشأ من بعض الأملاح المتحللة، فيبعث ريح الموت في طباق الموت غورًا بعد غور، وإذا لم يكن «علم حديث» فماذا يقول الإنسان صاحب الجهل القديم؟ لا يقول إلا أن الوادي استولى عليه روح الشر، ونزلت به لعنة الأرباب، ولا يعرف الخلاص إلا على يد كاهن أو ساحر هو في عرفه نصف شيطان ونصف إله، وإذا غبرت الدهور على ذلك مائة سنة بعد مائة أخرى بعد ألف سنة بعد ألف أخرى بعد آلاف وآلاف بلا أول لها معروف، فلا جرم يكون فن الكهانة قد بلغ الغاية من الإتقان، وقد أصبح أهله أساتذة مبرزين في اللعب بالحواس والعقول والسيطرة على الضمائر والأخلاد، بل لا جرم تكون لهم قدرة على ذلك يلعبون بها حتى بالعلم الحديث ورجال العلم الحديث!

•••

الأستاذ «فرديناند أسندوسكي» عالم بولوني من علماء المعادن الذين أرسلتهم الحكومة الروسية قبل ثلاثين سنة إلى بلاد الروسيا الآسيوية للاشتراك في بعثة التنقيب عن المناجم ودرس ما يتصل بهذا الباب من شئون البحيرات والبقاع في تلك البلاد، ثم قضت عليه الشيوعية في سنة ١٩٢٠ أن يعود إلى مواطن بحثه الأولى؛ هاربًا بحياته متخفيًا بين غدرات الطبيعة والناس، ملاقيًا الموت في ألف طريق محتالًا عليه بألف حيلة، حتى ليخيل إلى من يقرؤه أنه يقرأ قصة السندباد وهو ينجو من أخطار البحر ليقع في أخطار البر ويفلت من مخالب الرخاخ ليسقط بين براثن السباع، وإنما الفرق بين أعاجيب السندباد وأعاجيب الأستاذ أنك تقرأ في الأولى ما لا تصدقه، وتقرأ في الثانية ما هو خليق بالتصديق والأعاجيب التي تصدقها أعجب من تلك التي لا تصدقها وإن خيل إلى أناس أن الأمر على الخلاف، إذ لا غرابة ولا مشقة في تصورك ما لا يكون، ولكن الغرابة كلها في الشيء الكائن الذي يلقاه إنسان مثلك، وتلقاه أنت لو كنت في موضع ذلك الإنسان، فهذه هي الأعاجيب حق الأعاجيب، ومن أعجبها وأهولها قصة الأستاذ أسندوسكي، الذي عاش في مهربه كما تعيش الأوابد، بل عاش على قنص الأوابد من الأرض والماء والهواء، ولقي في جولاته قديمها وحديثها أناسًا أكلوا زملاءهم في الطريق من سعار الجوع وضراوة التأبد في القفار، وأوى إلى الغيران بين الوحوش يتربص بها ليأكلها وتتربص به لتأكله ريثما يذوب الثلج المحيط به من كل مسلك، فلما أذن الثلج بالذوبان؛ إذا بالرعود القاصفة يجلجل بها الماء الذي كان محبوسًا في القيعان فانطلق لا يلوي على شيء بما يجترف من الغابات والجثث والأنقاض، وإذا بالسجين الآدمي الذي أطلقه الربيع كما أطلق الماء الحبيس حائرًا متحذرًا يهاب من الآدميين ما لم يهبه من السباع والهوام، وإذا بالمآزق تنفرج له عن مثلها والمتالف تدفع به إلى شر منها، فلا يسلم من ريب أهل البلاد إلا لتقذف به الطريق إلى أعدائه الراصدين له بكل مرصد، ولا يجد الخيل للرحلة إلا ليفضي بها إلى أصقاع لا تطرقها الخيل، ثم لا يستعيض منها بالإبل حتى تخذله الإبل في بعض المصاعد والدروب، ثم لا يطمئن إلى المطايا حتى يحرن الدليل مخافة الشيطان الرابض في المفازة التي لا يجوزها من يسالم ذلك الشيطان، ولا يتصدى لحربه في عقر داره! وإذا نفعه العلم في مكان فهو وشيك أن يرديه في مكان آخر، فهو ها هنا ناصح خبير يمني الأماني ويتحدث بالكنوز والثروات، وهو ها هنا مطالب بأن يشفي المرضى ويصنع المعجزات لأنه عالم قدير، والعالم القدير لن يخفى عليه شيء ألا أن يكون بخيلًا بعلمه أو مضمر السوء، وهكذا مما ليس يتخيله وليس يحيط به إلا من قرأ قصة الرجل في كتابيه اللذين كتبهما عن رحلته القديمة والحديثة، وتخللهما بالوصف الجميل لكل ما شهد من محاسن الطبيعة وأهوالها وعقائد الناس وتواريخهم، مما يندر مثله في نوادر الخيال وتلفيقات الأكاذيب.

•••

كان لا بد للأستاذ أسندوسكي أن يغشى المعابد في تلك الرحلات المروعة، وأن يستجير بكهانها ومريديها، وأن ينفذ إلى بعض دخائلها ويطلع على بعض أسرارها، ولكنه مع كل علمه الحديث وخبرته الواسعة وشكوكه في الديانات لم يسلم من سلطان أولئك الكهان، ولم يكن شأنه معهم في إيرائه ما يريدون أن يراه، وإيهامه ما يريدون أن يتوهمه إلا كشأن أجهل الجهال من رحل البادية المنقطعين عن العمار، وخرج من آسيا حين خرج وهو نصف مؤمن بعقائدها الروحية بل بخرافاتها الموروثة التي كان يخشع لها وهو قد يعلم أسبابها ولا يخفى عليه تعليلها.

حدث عن أحد هؤلاء الكهان أو اللامات المعروف باسم «شجون لاما» فقال: «إنه كانت له الزعامة على جميع القبائل الرحالة في منغوليا الغربية وزنجاريا، وكان يبسط سلطانه حتى على القبائل المنغولية في تركستان، وله جاه لا يغالب بفضل ما له من الهيمنة على أسرار العلم الباطني كما يسميه، وسمعت أن جاهه هذا قائم كذلك على الفزع الذي يداخل المنغوليين منه؛ إذ لا يخالفه أحد إلا هلك، وكنت معه والريح تصفر وتزأر حول خيمته وترمي بالثلج عليها وأصداء الطبيعة تختلط بما يشبه الصريخ والإعوال والقهقهة من جميع الجوانب، فشعرت أنها بيئة لا يصعب فيها إرهاب البدوي الجوالة بالمعجزات، لأن الطبيعة نفسها قد هيأت لها دواعيها، وما كاد يسنح لي هذا الخاطر حتى رفع «شجون لاما» رأسه على حين فجأة ونظر إلي نظرة نافذة وهو يقول: «إن في الطبيعة لكثيرًا من المجهول وإن البراعة في استخدام هذا المجهول هي التي تجيء بالمعجزة الخارقة، ولكنها قوة لا يمنحها إلا القليل وسأريكها الآن، ولك — بعد — أن تخبرني هل رأيت أنت شرواها أو لم تره قبل الآن.» ثم وثب وشمر عن ساعديه وقبض على مديته ودلف إلى الراعي وناداه آمرًا «ميشيك! قف». فلما وقف الراعي أسرع اللاما بفك أزرار قميصه وعرى صدره، وإني لأسأل نفسي ماذا عسى أن يصنع اللاما إذ به يدفع مديته بكل ما أوتي من قوة في صدر الرجل، وإذا الرجل صريع يهوي على الأرض متخبطًا في دمه فيطفو شؤبوب من الدم على رداء الحرير الأصفر الذي كان يلبسه اللاما، فصحت به: ماذا فعلت؟ فهمس قائلًا: صه. لا تتحرك! وأدار لي وجهه ممتقعًا شديد الامتقاع، ثم فتح صدر الراعي المنغولي ببضع ضربات فرأيت رئتيه تتنفسان نفسًا هادئًا، والقلب ينبض نبضه المعدود، ولمس اللاما هذه الأعضاء فانقطع تفجر الدم ولاح وجه الراعي على أتم هدوء، وأخذ اللاما بفتح بطنه فأغمضت عيني فزعًا، ثم فتحتهما بعد هنيهة فكانت دهشتي أعظم وأدهى حين رأيت الراعي نائمًا وقميصه مفكوكًا وصدره سليمًا وهو راقد على جنبه واللاما جالس ساكن الجأش إلى جانب الموقد يدخن بيبته في تفكير عميق.»

قال الدكتور أسندوسكي: فعلمت أنني أخذت بقدرة اللاما المغناطيسية، وآثرت ذلك على أن أرى المنغولي المسكين يموت؛ لأنني لم أكن لأصدق أن اللاما قادر على أن يعيد ضحاياه إلى الحياة بعد أن يمزق أبدانهم ذلك التمزيق.

•••

وليس من الصعب على ما يظهر أن يؤخذ الأوربيون المتعلمون بقدرة اللامات المغناطيسية ويقعوا في أسر سلطانهم الروحي، فيؤمنوا بوحيهم أوثق الإيمان، فقد روى الدكتور «أسندوسكي» عن قائد روسي من أعداء الشيوعيين اسمه «يونجرن» مطلع على الفلسفة والأدب غريب الأطوار، كان في بلاد المغول وكان يستنبئ الحبر الأعظم عن كل شيء، ويعتقد أن خلاص العالم من بلائه سوف يكون على أيدي البوذيين.

وإلى هنا لا عجب أو العجب قليل، ولكن العجيب في الأمر أن يسأل هذا القائد الحبر الأعظم عن مصيره فينبئه أنه سينتهي بعد مائة وثلاثين خطوة، فيكون ما أنبأ به الحبر الأعظم، ويقول الأستاذ في ذاك: «بعد نحو مائة وثلاثين يومًا وقع البارون «يونجرن» في أسر البلاشفة بخيانة ضابطه، فنفذ فيه حكم الموت في نهاية شهر سبتمبر.»

ولا يحسبن القارئ أن العالم الذكي الذي يكتب هذا مخدوع في قداسة الحبر الأعظم أو أنه لا يعرف عنه ما يضعف الإيمان بالقداسة، فهو يقص عليك أن هذا الحبر يلهو، ويسكر، ويقامر، وأنه عمي من فرط المعاقرة وهم أطباؤه أن يسموه كما يفعلون أحيانًا حين تقضي مصلحة الديانة بتنصيب حبر جديد، ولكنها ملكة السحر على ما نرى قد بلغت تمامها بعدما توارثها الأحبار أجيالًا بعد أجيال، وأحاطتها الطبيعة بالمهيئات الكثيرة، وسرت عدوى التصديق بها من الأهلين إلى الغرباء.

وماذا يصنع الأستاذ «أسندوسكي» في بلاد تغلبه عقائدها، بل تغلبه خرافاتها فيرجع عنها وهو بين ضاحك وناقم وهازئ من الخرافة وهازئ من نفسه في آن؟ لقد حدثوه عن قبر «إبك خان» ولعنته ونقمة صاحبه على الدنيا، وحدثوه عن المصورين الذين حاولوا أن يصوروه فولوا عنه فزعين، فتاقت نفسه إلى تصويره فلم يكن بأسعد حظًّا من أولئك المصورين المزعومين، أما في المرة الأولى فقد نظر إلى زجاج الآلة الشمسية فلم ينظر عليه من آثر، فعاود الكرة فإذا الزجاج خلو من كل أثر كما كان في المرة الأولى، فعلل ذلك باعتراض تلك الأشعة التي يتفق في بعض الفلتات النادرة أن تمنع موجات النور التي يسمونها بالميتة أن تترك أثرًا على صفحات الزجاج، وأما في المرة الثانية فقد انكسرت به وبزميله المركبة وتهشمت الآلة الشمسية وقفل من جولته غير مصدق بالنجاة، وكل ذلك لأن صاحب القبر «إبك خان» كان أميرًا على ذلك المكان فخانه بعض أوليائه، وأعان عليه «جنكيز خان» فخرب بلاده وقتله بعد أن قتل ابنه، فلعن الدنيا والناس، وقال وهو يساق إلى الموت: «إنني أمقت كل إنسان وأمقت كل موجود، وويل لمن يأخذ من ناحية قبري شيئًا فإنني منتقم منه، وستبقى روحي حائمة ها هنا كأنها ضباب الخريف.»

تلك هي اللعنة التي حرمت على كل إنسان أن يأخذ شيئًا من قبر الأمير المنكوب، وحرمت حتى على النور أن يلقي ظلًّا لذلك القبر على زجاج التصوير!

•••

عاد أسندوسكي إلى وطنه واشتغل بالتدريس في جامعاته وبالكتابة في مواضيع شتى من العلم والأدب، وظهر له هذان الكتابان في موضوع رحلته هذه، وهما كتاب «البهم والناس والأرباب» وكتاب «الإنسان والأسرار في آسيا»، فترجما إلى لغات كثيرة وقرأنا أولهما فشاقنا إلى قراءة الثاني فخرجنا منهما معًا بخلاصتين: إحداهما أن مخاوف الطبيعة قد خيمت على عقول الآسيويين وضاعفت اللامات والسحرة فعلها في تلك العقول، وأساءوا توجيهها عامدين أو غير عامدين، ولكنهم — أي الآسيويين — قد ظفروا من كل ذلك بقوة روحية لا يستهان بها إذا نهضت شعوبهم، واتخذوا من روحياتهم مددًا للأخلاق والحوافز النفسية وعوامل الرجاء، ورب يوم يحمد فيه القوم تلك القوة الخفية، بعد أن كان منها ما يستوجب المذمة إلى هذا الزمان.

والخلاصة الأخرى أن معاشرة الطبيعة على كثب قد نبهت فطرة بعض الشعوب الآسيوية في بعض الأمور فتفوقت فيها على الغربيين المتحضرين لاضطرار أبنائها إلى مراقبة الأجواء ورياضة الأوابد والاحتيال على اصطيادها، ودراسة عاداتها وضبط النفس في محاربتها وغير ذلك من ضروب للفروسية أهملتها الحضارة الحديثة حتى كلت في أبنائها حواس الفطرة التي قد تعوضنا عنها العلوم معرفة وصناعة، ولكنها لن تعوضنا عنها من مادة الحياة، فإذا كان للحضارة ما تعلمنا إياه، فللبداوة أن تعلمنا كثيرًا من علوم الفطرة الصادقة، والفراسة المتيقظة، وما حاجتنا إليهما بأقل من حاجتنا إلى المعارف والصناعات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤