الفصل الثاني

الدين في النظر الإسلامي

(١) كلمة «دين» العربية

أصل هذه المادة ومعانيها المختلفة في لسان العرب

في معاجم اللغة العربية معانٍ متعددة للفظ «دين»، بلغ بها بعضهم عشرين معنى أو تزيد، لكن في هذه المعاني ما هو مولد بعضه من بعض، وفيها ما هو مجازي، وبعضها متداخل.

ومن معاني الدين اللغوية «الملة»، وهو معنى مولد كما نص عليه الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات في غريب القرآن»؛ إذ يقول: «والدين يقال للطاعة والجزاء، واستعير للشريعة، والدين كالملة، لكنه يقال اعتبارًا بالطاعة والانقياد للشريعة.» فللدين على رأيه معنيان لغويان أصليان هما: الطاعة والجزاء، ومعنى الشريعة مستعار من المعنى الأول.

وفي تفسير النيسابوري عند قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ: «والدين في اللغة الجزاء، ثم الطاعة سميت دينًا؛ لأنها سبب الجزاء.»

وفي كليات أبي البقاء: «والشريعة من حيث إنها يُطاع بها تسمى دينًا، ومن حيث إنها يجزى بها أيضًا.»

ويرى الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» أن المعاني الأصلية لكلمة «دين» هي الطاعة والانقياد والجزاء والحساب، ثم يجعل الدين بمعنى الملة والشريعة متفرعًا من جملة تلك المعاني الثلاثة.

ويقول المستشرق «ماكدونالد» Macdonald في الفصل الذي كتبه عن لفظ «دين» في دائرة المعارف الإسلامية: توجد في الحقيقة ثلاث كلمات متباينة في ثنايا الخليط من المعاني الذي يحشده اللغويون للفظ «دين»:
  • (١)

    كلمة آرامية عبرية بمعنى حكم.

  • (٢)

    كلمة عربية بمعنى العادة والديدن.

  • (٣)

    وكلمة فارسية لا صلة لها بالكلمتين الأوليين تدل على معنى الملة.

ثم نقل عن «فولرس» Vollers أنه ينكر وجود هذا اللفظ عربيًّا أصيلًا، ويقرر أن لفظ «دين» الفارسي كان مستعملًا عند العرب قبل الإسلام، وأن كلمة «دين» بمعنى العادة أخذت منه.

وبعيد أن يكون لفظ «دين» بمعنى «ملة» لفظًا غير عربي خصوصًا مع الاعتراف بوجود اللفظ نفسه عربيًّا بمعنى آخر في رأي «ماكدونالد». والناظر في هذه المادة يجد من تفنن العرب في الاشتقاق منها وتعديد الصيغ وفي تشعب استعمالاتهم لها ما لم تجربه عادتهم في الكلمات المعربة.

وإذا كان استعمال «الدين» في معنى الملة استعمالًا مولدًا من معنى أصلي للمادة؛ فإنني لست أميل إلى رأي القائلين بأن هذا المعنى الأصيل هو الطاعة أو الجزاء أو هو جملة الطاعة والحساب والجزاء؛ ذلك بأن الطاعة تستلزم آمرًا مطاعًا وأمرًا يطاع، فهي تستدعي أن يكون الدين ذا إله وشريعة، وكذلك الجزاء والحساب يستدعيان مجازيًّا محاسبًا، بيد أن من أديان العرب في الجاهلية التي تسمى في لسانهم «دينًا» من غير شك ما ينكر الإله القادر وينكر الحساب والجزاء، وقد أشار القرآن إلى ذلك؛ إذ يقول: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ١ والقرآن نفسه يسمى ما كان عليه العرب دينًا؛ إذ يطلب إلى الرسول أن يقول للكافرين: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.٢

ويلاحظ أن أكثر معاجم اللغة العربية تجمع لفظ «دَين» ولفظ «دِين» في مقام واحد باعتبار أنهما من مادة واحدة، بل هما يردان مصدرين لفعل واحد، ولذلك يلوح لي أن صيغة «دَين» أجدر بأن تكون أصلًا لصيغة «دِين». فإن «فَعْلًا» في العربية أكثر استعمالًا من «فِعْل» وأدنى إلى البساطة وسهولة الاستعمال، ويزيد هذا رجحانًا في نظري أن كلمة «دَين» تطلق في بعض مدلولاتها على كل شيء غير حاضر.

ففي لسان العرب: «والدَّين واحد الديون معروف، وكل شيء غير حاضر دَيْن، والجمع أدْيُن مثل أعْيُن وديون»، أفليس من المعقول أن تكون كلمة «دِين» بمعنى ملة مأخوذة من كلمة «دَين» بمعنى الشيء غير الحاضر؟ فإن أساس الأديان كلها الإيمان بأمر وراء هذا الوجود المحسوس الحاضر.

وليس ذلك بمانع من أن كلمة «دِين» مستعملة في لغة العرب لمعانٍ مختلفة منها: الطاعة والحساب والجزاء، ومنها القضاء والحكم، ومنها الحال والعادة … إلى غير ذلك.

(٢) الدين في لسان القرآن

هذا وقد ورد لفظ «دين» في أكثر من ثمانين موضعًا من القرآن.

وفي كتاب «كليات أبي البقاء»: «وكل ما في القرآن من الدين فهو الحساب.»

ولسنا نجد لهذا القول مساغًا، بل إن صاحب الكتاب نفسه ذكر بعد ذلك ما يخالفه.

أما المستشرق «ماكدونالد» فيقول: إن كل ما ورد في القرآن من لفظ «دين» يمكن تفسيره بأحد المعاني الثلاثة التي ذكرناها عنه آنفًا، وهي: الحكم، والعادة، والملة.

والمفهوم من كلام الراغب الأصفهاني أن الدين في القرآن يفسر بالطاعة تارة، والجزاء تارة، ويرد بمعنى الملة أيضًا.

ولعل أسلم الآراء هو ما يدل عليه كلام الراغب الأصفهاني؛ فإنك قد لا تجد كبير عناء في حمل الدين في الآيات القرآنية على معنى الجزاء أو الطاعة أو الملة.

استعمل القرآن لفظ الدين في المعاني المعروفة عند العرب على وفق استعمالاتهم. ومن تلك الاستعمالات الدلالة بلفظ «دِين» على معنى الملة. وبديهي أن العرب كانوا يريدون من الدين بمعنى الملة معنى يشمل ما كان معروفًا لهم من الأديان، وقد جاء القرآن والعرب في موقف تشعب ديني واضطراب. والقرآن هو أصدق مرجع في تصوير حالة العرب من هذه الناحية عند ظهور الدين الإسلامي؛ فإن القرآن أقدم ما نعرفه من الكتب العربية، وهو بما لقي من العناية بحفظه على مر العصور بين المسلمين أجدر المراجع بالثقة.

وقد ذكر القرآن في ثلاث آيات من آياته ما يدل على الأديان التي كان للعرب اتصال بها في عهده:
  • الآية الأولى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.٣
  • والآية الثانية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.٤
  • والآية الثالثة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.٥

ومذهب الصابئة على ما يحيط بتاريخه من غموض يكاد يتم الاتفاق على أنه يقر بالألوهية، ويرى أنَّا نحتاج في معرفة الله ومعرفة أوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيًّا لا جسمانيًّا، ففزعوا إلى هياكل الأرواح وهي الكواكب، فهم عبدة الكواكب.

أما المجوس فهم ثنوية أثبتوا للعالم أصلين اثنين مدبرين يقتسمان الخير والشر، يسمون أحدهما «النور» والثاني «الظلمة». والمجوس الأصلية زعموا أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين، بل النور أزلي والظلمة محدثة، ويعتقد المجوس أن الدين يجب أن يكون بواسطة نبي وأن يعتمد على كتاب.

وأما المشركون فهم طوائف مختلفة؛ فصنف منهم أنكر الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد في قوله: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ،٦ وفي قوله: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ٧ وصنف منهم أقر بالخالق، وأثبت حدوث العالم، وأنكر البعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.٨
وكان من العرب من أقر بالخالق، وأثبت حدوث العالم وابتداء الخلق، وأقر بنوع من الإعادة، وأنكر الرسل، وعبدوا الأصنام، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة، وحجوا إليها، ونحروا لها الهدايا، وقربوا القرابين، وهؤلاء هم الدهماء من العرب، وهم الذين حكى الله قولهم في آية: أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ.٩

ومعنى الدين الذي يتسع لهذه المذاهب كلها، والذي يكون محتويًا على المعنى المشترك بينها من غير أن يشمل ما لا يسمى دينًا، هو المعنى القائم على أن الدين هو الإيمان بأن الموجودات كلها ليست من نوع واحد ولا في مرتبة واحدة، بل بعضها أسمى من سائر الأنواع، أو هو الإيمان بذلك بشرط أن يكون ملة تجتمع على الأخذ بها أمة من الناس.

هذا هو المعنى العام الذي ينبغي أن يفهم من لفظ «دين» في لغة العرب، كما هو المعنى العام لما يقابل لفظ «دين» في اللغات الأعجمية، أي إن هذا هو الحد التام لماهية «الدين» الذي لا يتحقق بدونه أي حقيقة دينية في أي جيل من الناس.

(٣) المعنى الشرعي لكلمة «دين»

ولئن كان القرآن قد استعمل لفظ «دين» بهذا المعنى الشامل كما يدل عليه تسمية نحل المشركين أديانًا في قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ؛ فإن القرآن قرر في أمر الدين أصولًا جعلت للدين معنى شرعيًّا خاصًّا.

فالدين لا يكون إلا وحيًا من الله إلى أنبيائه الذين يختارهم من عباده ويرسلهم أئمة يهدون بأمر الله كما يؤخذ من كثير من آيات الكتاب:
  • كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ.١٠
  • وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.١١
  • إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا * رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.١٢
  • شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ.١٣
وهذا الدين الذي يوحيه الله إلى أنبيائه هو واحد لا يختلف في الأولين والآخرين، يدل على ذلك الآية الأخيرة: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ … إلخ. فقد قال مجاهد في معنى هذه الآية: «أوصيناك يا محمد وإياهم دينًا واحدًا»، وقال الرازي في تفسيرها: «والمراد: شرع لكم من الدين دينًا تطابقت الأنبياء على صحته.» ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ،١٤ يعني ملتكم ملة واحدة أي متحدة في العقائد وأصول الشرائع، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة.
وقال — تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ،١٥ قال الطبري في تفسير هذه الآية: «ثم ذكِّر نبينا محمد وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه والحكم بما أنزل إليه فيه، دون ما في سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شريعة الأنبياء والأمم قبله الذين قص عليه قصصهم، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم ولأمته فيما أحل لهم وحرم عليهم»، وروى الطبري عن قتادة قوله: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، يقول سبيلًا وسنة، والسنن مختلفة؛ للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يُقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل»، وروى الطبري عن قتادة أيضًا: «والدين واحد والشريعة مختلفة.»
وفي القرآن الكريم أيضًا: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ.١٦ قال الزمخشري: «فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتدِ إلا بهم، وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع؛ فإنها مختلفة، وهي هدى ما لم تنسخ، فإن نسخت لم تبقَ هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدًا.»
وقد بين القرآن هذا الدين الواحد الحق الذي لا يتغير بتغير الأنبياء في الآية الثالثة عشرة من سورة الشورى التي تقدم ذكرها: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ … إلخ والتي يقول البيضاوي في تفسيرها: «أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء — عليهم السلام — من أرباب الشرع.» وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسَّر بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله … وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ: ولا تختلفوا في هذا الأصل، أما فروع الشرع فتختلف كما بينه في آيات أخر، منها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ،١٧ ومنها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.١٨

هذا الدين الواحد هو المعبر عنه في آيات من القرآن بالإيمان وعن أهله بالمؤمنين والذين آمنوا.

قال الشيخ محمد عبده في تفسير جزء «عم» عند تفسير آية: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ:١٩إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا هم الذين صدقوا بأصل الخير والشر كما قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ،٢٠ واعتقدوا اعتقادًا صحيحًا بالفرق بين الفضيلة والرذيلة، وبأن لأنفسهم وللعالم حاكمًا يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب، وأن لهم جزاءً على أعمالهم: الخير بالخير، والشر بالشر، ثم كان تصديقهم هذا بالغًا من أنفسهم حد أن يملك إرادتهم، فلا يعملون إلا ما وافق اعتقاداتهم، فهم يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي عددت بالتفصيل في القرآن، وجماعها: أن تكون نافعًا لنفسك ولأهلك ولقومك وللناس أجمعين، فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ الدين ها هنا هو خلوص السريرة للحق، وقيام النفس بصالح العمل، وهو ما كان يدعو إليه وسائر إخوانه الأنبياء.

هذا هو الدين في لسان القرآن واصطلاحه الشرعي، فلنأخذ الآن في بيان الدين عند فلاسفة الإسلام.

الدين عند الفلاسفة الإسلاميين والفرق بين الدين والفلسفة

يقول ابن حزم في كتابه «الفصل في الملل والنحل»: «الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس هو شيئًا غير إصلاح النفس، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة.»

ودعوى ابن حزم: أنه لا خلاف بين أحد من الفلاسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة، على أن ما ذكره هو غرض الشريعة والفلسفة جميعًا ليست دعوى مسلمة؛ فإن معنى كلام ابن حزم أن غرض الفلسفة والشريعة غرض عملي، وليس ذلك بمذهب الفلاسفة ولا هو بمذهب الدينيين.

قال ابن رشد في كتاب «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: «وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق، والعلم الحق هو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي.»

وقال الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل»: «قالت الفلاسفة: ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها، وإنما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها، وهي لا تنال إلا بالحكمة، فالحكمة تطلب إما ليعمل بها وإما لتعلم فقط، فانقسمت الحكمة إلى قسمين: علمي وعملي … فالقسم العملي هو عمل الخير، والقسم العلمي هو علم الحق.»

وبهذا تتشابه غاية الدين وغاية الفلسفة؛ فكلاهما يرمي إلى تحقيق السعادة من طريق الاعتقاد الحق والعمل الخير.

بل موضوعات الدين وموضوعات الفلسفة واحدة؛ ذلك رأى الفارابي في كتابه «تحصيل السعادة»؛ إذ يقول: «فالملة محاكية للفلسفة عندهم، وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلتاهما تعطيان المبادئ القصوى للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان، وهي السعادة القصوى والغاية القصوى في كل واحد من الموجودات الأخر، وكل ما تعطي الفلسفة فيه البراهين اليقينية، فإن الملة تعطي فيه الإقناعات، والفلسفة تتقدم بالزمان الملة.»

والدين والحكمة عند هؤلاء الفلاسفة يفيض كلاهما عن واجب الوجود على عقول البشر بواسطة العقل الفعال.

فلا فرق إذن بين الحكمة والدين من جهة غايتهما ولا من جهة موضوعاتهما ولا من جهة مصدرهما وطريق وصولهما إلى الإنسان.

والفرق بين الدين والفلسفة عند الفارابي هو من وجهٍ أن طرق الفلسفة يقينية، أما طريق الدين فإقناعي، ومن جهة أخرى تعطي الفلسفة حقائق الأشياء كما هي، ولا يعطي الدين إلا تمثيلًا لها وتخييلًا، ولا يفرق الفارابي في ذلك بين ما هو علمي وما هو عملي.

وقد ذكر الفارابي ذلك في مواضع مختلفة من كتبه، ومن ذلك قوله في كتاب «تحصيل السعادة»: «وتفهيم الشيء على ضربين: أحدهما أن تعقل ذاته، والثاني أن يتخيل بمثاله الذي يحاكيه، وإيقاع التصديق يكون بأحد طريقين: إما بطريق البرهان اليقيني، وإما بطريق الإقناع، ومتى حصل علم الموجودات أو تعلمت فإن عقلت معانيها أنفسها أو وقع التصديق بها على البراهين اليقينية كان العلم المشتمل على تلك المعلومات «فلسفة»، ومتى علمت بأن تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها.» وحصل التصديق بما خيل منها عن الطرق الإقناعية كان المشتمل على تلك المعلومات بتسمية القدماء «ملة».

ويرى ابن سينا: أن بين الدين والفلسفة فرقًا آخر، هو وجهة الدين عملية أصالة، ووجهة الفلسفة بالأصالة نظرية، وهو يقول في رسالة الطبيعيات: «مبدأ الحكمة العملية مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تتبين بها، وتتصرف فيها بعد ذلك القوة النظرية من البشر بمعرفة القوانين واستعمالها في الجزئيات، ومبادئ الحكمة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه ومنصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة.»

ويقول الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» في معنى قول ابن سينا ما يأتي: «والأنبياء أيدوا بأمداد روحانية لتقرير القسم العملي وبطرف ما من القسم العلمي، والحكماء تعرضوا لأمداد عقلية تقريرًا للقسم العلمي وبطرف ما من القسم العملي، فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون، ويتشبه بالإله الحق تعالى بغاية الإمكان، وغاية الدين أن يتجلى له نظام الكون فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم وينتظم مصالح العباد، وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب وتشكيل وتخييل، فكل ما وردت به أصحاب الشرائع والملل مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة، إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة، فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم.»

والتشكيل والتخييل في كلام الشهرستاني خاص بالأمور العلمية، فالفلاسفة — كما يذكره ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة» — يقولون: «إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون أن الله تعالى جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيمًا محسوسًا وعقابًا محسوسًا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر؛ لأن مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان هذا كذبًا فهو كذب لمصلحة الجمهور؛ إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذا الطريق، وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبًا وباطلًا ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة، ثم من هؤلاء من يقول: النبي كان يعلم الحق، ولكن أظهر خلافه للمصلحة، ومنهم من يقول: ما كان يعلم الحق كما يعلم نظار الفلاسفة وأمثالهم، وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل على النبي … وأما الذين يقولون إن النبي كان يعلم ذلك، فقد يقولون: إن النبي أفضل من الفيلسوف؛ لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة، وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف.»

وقول ابن تيمية تقرير واضح لآراء الفلاسفة وإن كان في أسلوبه وألفاظه ما لم تَجْرِ به عادة الحكماء.

١  سورة ٤٥ (الجاثية، مكية)، آية ٢٤.
٢  سورة ١٠٩ (الكافرون، مكية)، آية ٦.
٣  سورة ٢ (البقرة، مدنية)، آية ٦٢.
٤  سورة ٥ (المائدة، مدنية)، آية ٦٩.
٥  سورة ٢٢ (الحج، مدنية)، آية ١٧.
٦  سورة ٤٥ (الجاثية، مكية)، آية ٢٤.
٧  سورة ٦ (الأنعام، مكية)، آية ٢٩.
٨  سورة ٣٦ (يس، مكية)، آيتي ٧٨، ٧٩.
٩  سورة ٣٩ (الزمر، مكية)، آية ٣.
١٠  سورة ١٣ (الرعد، مدنية)، آية ٣٠.
١١  سورة ١٦ (النحل، مكية)، آية ٤٣.
١٢  سورة ٤ (النساء، مدنية)، آيات: ١٦٣، ١٦٤، ١٦٥.
١٣  سورة ٤٢ (الشورى، مكية)، آية ١٣.
١٤  سورة ٢٣ (المؤمنون، مكية) آيات ٥١، ٥٢، ٥٣.
١٥  سورة ٥ (المائدة، مدنية)، آية ٤٨.
١٦  سورة ٦ (الأنعام، مكية)، آيات ٨٣–٩٠.
١٧  سورة ٣ (آل عمران، مدنية)، آية ٦٤.
١٨  سورة ٤ (النساء، مدنية)، آية ١٣٦.
١٩  سورة ٩٥ (التين، مكية)، آيتي ٦، ٧.
٢٠  سورة ٩٢ (الليل، مكية)، آيات ٥، ٦، ٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤