الفصل الثاني

الرأي الراجح في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة «إسلام»

  • (١)

    من تأمل فيما ذكره اللغويون من معاني مادة «سلم» على اختلاف ألفاظها وصيغها متحريًا البحث عما يصلح أن يكون أصلًا يتفرع عنه سائر المعاني؛ وجد في كتب اللغة المعتبرة — مثل: كتاب الاشتقاق لابن دريد، والصحاح للجوهري، والمفردات في غريب القرآن، ولسان العرب لابن منظور، والمصباح المنير للفيومي — أن «السلم» بكسر السين و«السلم» بكسر اللام الحجارة الصلبة، سميت بذلك لسلامتها من الرخاوة والواحدة سَلِمة، واستلم فلان الحجر الأسود هو افتعل من السلمة، وأن «السَّلَم» بفتحتين شجر عظيم له شوك ورقه القرظ يدبغ به، واحده «سلمة» بفتحتين أيضًا، كأنما سمي بذلك لاعتقادهم أنه سليم من الآفات، ويقال: منه سلَمت الجلد (بفتح اللام) أسلمه (بكسرها) إذا دبغته بالسلم. ولعل هذه المعاني هي التي ينبغي أن تكون هي الأصل الأول لمادة سلم، وعنها تفرعت جميع الاستعمالات الأخرى؛ ذلك بأن هذه المعاني هي أمور مادية محسوسة قريبة إلى حياة البداوة، فهي أجدر أن تكون أصلًا لوضع المعاني المجردة. وقد ولد العرب من هذه المعاني معاني أخرى وضعية حقيقية قائمة على معنى الخلوص الذي هو ملحوظ في المعاني الأولى.

    وهذه المعاني الحقيقية المولدة هي: (١) معنى الخلوص من الشوائب الظاهرة أو الباطنة، وفي معاجم اللغة أن السَّلْم بفتح فسكون والسلام والسلامة تكون بمعنى الخلوص والتعري من الآفات الظاهرة أو الباطنة. (٢) معنى الصلح والأمان، ويقول اللغويون: إن السِّلم والسَّلم بكسر السين وفتحها لغتان في الصلح، يذكران ويؤنثان كالسلام. (٣) معنى الطاعة والإذعان، فالسَّلَم بفتحتين على ما في كتب اللغة والسَّلْم بفتح فسكون والسِّلْم بكسر فسكون الاستسلام والإذعان والطاعة.

    ويرد اللغويون «السلام» — الذي هو اسم من أسماء الله، والسلام بمعنى التحية والدعاء — إلى معنى الخلوص والسلامة من المكاره والآفات، ورد السَّلَم بمعنى السَّلَف١ إلى هذا المعنى غير عسير.

    وفعل أسلم يستعمل في اللغة على وجهين؛ أحدهما: أن يستعمل لازمًا، والآخر: أن يستعمل متعديًا.

    واللازم يكون بمعنى الدخول في السلم بمعنى الصلح أو الطاعة، وقد ذكر علماء الصرف أن صيغة أفعل اللازم: تأتي بمعنى الدخول في شيء كأصبح بمعنى دخل في الصباح، وأقحط: دخل في القحط، وأعرق: دخل في العراق.

    وأما المتعدي: فصيغة أفعل فيه ترد للتعدية وهي تصيير الفاعل قبل دخول الهمزة مفعولًا، فأسلم الشيء لفلان منقول بالهمزة عن سلم الشيء لفلان: خلص له من غير منازع، كسلَّمه له تسليمًا المنقول بالتضعيف، وحقيقة معناه: أخلصه له وجعله له سالمًا.

    ولفظ «إسلام» مصدر «أسلم» لازمًا كان أم متعديًا فهو صالح للدلالة على كل ما يدل عليه الفعل من المعاني السالفة.

    هذه هي جملة المعاني اللغوية لمادة «سلم» وما تفرع عنها. وقد ورد في القرآن استعمال كثير من صيغ هذه المادة في معانيها اللغوية.

    فورد معنى الخلوص والبراءة من الشوائب الظاهرة والباطنة في قوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا٢ وفي قوله: إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.٣ وورد في غير هاتين الآيتين أيضًا، وجاء معنى الصلح في مثل قوله تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ٤ وقوله: وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.٥
    واستعمل القرآن بعض صيغ هذه المادة في معنى الانقياد والخضوع كما في قوله: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ.٦
  • (٢)
    على أن القرآن استعمل لفظ «إسلام» وفعله والوصف منه في معنى شرعي خاص، وقد اختلفوا في هذا المعنى الشرعي على مذاهب ثلاثة:
    • (أ)
      قال قائلون: إن الإسلام هو الإيمان، ومعنى الإيمان باتفاق أهل العلم من اللغويين وغيرهم التصديق كما في لسان العرب، وذهب هذا المذهب الفخر الرازي في تفسيره لآية: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ مستدلًّا عليه.
    • (ب)

      وقال آخرون: إن لفظ «إسلام» يطلق في لسان الشرع على معنيين؛ أحدهما: الإيمان، والثاني: معنى أعم من الإيمان، وهو الانقياد بالقلب أو بالظاهر، وقد نقل هذا المذهب النووي في شرحه على صحيح مسلم عن الخطابي.

      ومن القائلين بأن لفظ «إسلام» يطلق في لسان الشرع على معنيين من يفسر هذين المعنيين بما فسرهما به الراغب الأصفهاني؛ فيذهب إلى أن أحد المعنيين هو الإيمان، ويفسر الإيمان بالاعتراف باللسان، وأن الثاني فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف باللسان اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر.

    • (جـ)
      وقال قائلون: إن الإسلام يطلق شرعًا على ثلاثة معانٍ، وعلى هذا جرى الغزالي في الإحياء، وهذه المعاني الثلاثة هي:
      • أولًا: إطلاق الإسلام بمعنى الاستسلام ظاهرًا باللسان والجوارح، مع إطلاق الإيمان على التصديق بالقلب فقط، وبذلك يكون الإيمان والإسلام مختلفين.
      • ثانيًا: أن يكون الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والقول والعمل جميعًا، ويكون الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، فالإيمان أخص من الإسلام.
      • ثالثًا: أن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والظاهر جميعًا، وكذا الإيمان، وعلى هذا فالإسلام والإيمان مترادفان.
  • (٣)

    وأثر الفرق الإسلامية ظاهر قوي في هذا الخلاف المرتبط بمسألة احتدم فيها النزاع بين الفرق، وهي مسألة الكفر بارتكاب الكبيرة.

    فالأشعرية لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يرتكبه مستحلًّا له غير معتقد تحريمه، خلافًا للخوارج القائلين بأن مرتكب الكبائر يكفر ويزول عنه الإيمان، وخلافًا للقدرية والمعتزلة القائلين بأنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فيكون بين الكفر والإيمان.٧
    بل إن الفرق جعلت مسألة المعنى الشرعي للإسلام والإيمان من أسس نزاعها صراحة؛ فالأشعري يقول في الإبانة: «ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانًا.»٨ ويقول الطبرسي الشيعي في تفسيره مجمع البيان: «والإسلام والإيمان بمعنى واحد عندنا وعند المعتزلة.»٩

    فالخلاف على هذه المسألة إنما هو في الحقيقة من تمحلات الفرق والتماسها دقائق البحث اندفاعًا وراء جموح النظر؛ فهو مصطنع اصطناعًا.

  • (٤)
    ولكنهم يريدون أن يلتمسوا سببًا لهذا الخلاف في القرآن نفسه، وعندهم أن منشأه أن علماء الإسلام وجدوا في آيات القرآن ما ذكر فيه الإسلام مقابلًا للإيمان على وجه يشعر بالتغاير بينهما: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ،١٠  عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ،١١  إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ،١٢  الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ،١٣ كما وجدوا في آيات ما يدل على أن الإسلام والإيمان واحد: وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ،١٤  فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ،١٥  يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.١٦

    وقد أرادوا التحلل من هذا الإشكال بأن جعلوا للإسلام في لسان الشرع معاني مختلفة.

    على أن الأمر لا يدعو إلى ذلك فإن القرآن استعمل من مادة «سلم» صيغًا كثيرة في معانيها اللغوية كما استعملها العرب، ولكنه استحدث للفظ «إسلام» وما اشتق منه معنى واحدًا شرعيًّا استعمله في آيات غير قليلة؛ وهذا المعنى هو: التوحيد وإخلاص النفس لله وحده لا يكون فيها لغيره شريك يعبد ويسمى إلهًا، وهو معنى مولد من المعنى اللغوي الذي هو الخلوص والسلامة. قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: «واشتقاق المسلم من قولهم أسلمت لله؛ أي سلم له ضميري.»١٧
    أما سائر استعمالات القرآن لهذه المادة فاستعمالات لغوية جارية على الأوضاع والاستعمالات العربية الحقيقية. وقد ذكر ما يفيد ذلك الزمخشري في الكشاف عند تفسير آية: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
  • (٥)

    والأدلة على أن المعنى الشرعي للإسلام هو التوحيد وإخلاص الضمير لله تظهر في عدة مواطن:

    • أحدها: أن القرآن يقرر أن الدين واحد على لسان جميع الأنبياء وهو الإيمان بما يجب الإيمان به، وإنما تختلف الشرائع، أي الأحكام العملية: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ،١٨أَولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ،١٩  وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.٢٠
      ودين الله الواحد الذي لا يدخله النسخ ولا يختلف باختلاف الأنبياء هو في عرف القرآن المسمى إسلامًا: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ،٢١الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا؛٢٢ وهذه الآية الأخيرة نزلت يوم عرفة في حجة الوداع، قالوا: ولم يعش النبي بعدها إلا ٨١ ليلة، وهي تدل على أن الدين الذي هو الإسلام هو التنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع التي كملت في القرآن؛ أما الأحكام العملية فهي تختلف باختلاف الأنبياء والأمم، وقد تتغير بتغير المظان، ولم يجمعها القرآن إلا إجمالًا بتبيينه الأصول التي تستمد منها تلك الأحكام، ولم تكن كملت عند نزول الآية.٢٣

      وقد ثبت بما ذكرناه أن الدين في عرف القرآن هو الإيمان بالأصول الدينية التي هي حقائق خالدة لا يدخلها النسخ ولا تختلف فيها الأنبياء، وأن الإسلام هو هذا الدين؛ إذ لا دين غيره عند الله.

    • ثانيها: أن صيغة «إسلام» وردت في القرآن مضافة وغير مضافة في ثمان آيات، منها ست آيات مدنية، وآيتان مكيتان.
      فأما المكيتان فهما: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ،٢٤أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ،٢٥ والآيتان صريحتان في أن الإسلام فيهما هو الإيمان الخالص الذي موضعه الصدر أي القلب.
      وأما الآيات المدنية فهي: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ،٢٦ وتفسير الإسلام في هذه الآية بالإيمان تدل عليه الآيات اللاحقة دلالة ظاهرة. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا٢٧ والإسلام في هذه الآية مذكور في مقابلة الكفر، وقد قوبل الإسلام وما يشتق منه في القرآن بالكفر كما في هذه الآية، وكما في آية: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ،٢٨ وآية: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ،٢٩ وقوبل الإسلام بالشرك في آيات عدة؛ منها: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،٣٠ وآية: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.٣١
      أما باقي الآيات المدنية فهي: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ،٣٢ وهي من الآيات التي ذكرها كتاب «حجج القرآن» في حجج القائلين بأن الإيمان والإسلام واحد، وآية: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ،٣٣ وآية: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ،٣٤ وآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.٣٥

      وقد بين الزمخشري وغيره من المفسرين في تفسير هذه الآيات: أن الإسلام فيها هو التوحيد وإسلام الوجه لله، وذلك يقتضي أن لفظ «إسلام» لم يرد في القرآن إلا مستعملًا في معناه الشرعي مرادفًا للإيمان.

    • ثالثها: أن القرآن سمى أتباع دين محمد الَّذِينَ آمَنُوا؛ في آياتٍ منها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ،٣٦ وآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛٣٧ وآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ،٣٨ وسماهم كذلك المسلمين في آيات منها: وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا٣٩ … وآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ،٤٠ وفي ذلك إشعار بأن معنى الإيمان والإسلام متفق غير مختلف.
  • (٦)
    وإذا كان الإسلام في عرف القرآن هو القواعد الأصولية التي يجب الإيمان بها والتي جمعها القرآن كاملة بحيث يعرف الإسلام بأنه هو ما أوحاه الله إلى نبيه محمد في القرآن، وأمره بتبيينه للناس كما تشير إليه آية: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ٤١ … فقد تطور استعمال لفظ الإسلام إلى ما يشمل الأصول الاعتقادية، أو الفروع العملية، وتطور استعمال لفظ «الدين» كذلك فأصبح تعريف الدين عند المسلمين هو: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال.٤٢ ومع هذا التطور فقد بقيت بين المسلمين آثار العرف الشرعي إلى اليوم، فهم يقسمون الدين إلى فروع وأصول باعتباره منقسمًا إلى معرفة هي الأصل وطاعة هي الفرع، ويقولون إن العقائد يقينية؛ فلا بد أن تكون ثابتة بطريق ديني يقيني قطعي وهو القرآن وحده؛ إذ هو المقطوع به وحده في الجملة والتفصيل، أما الأحكام العملية فيكفي فيها الظن.٤٣ ويقولون: إن النسخ لا يكون في مسائل علم الكلام وإنما يكون في مسائل الفقه.
    ثم إن الخلاف بين المسلمين في شئون الأحكام العملية ليس له خطر الخلاف في الأمور الاعتقادية، فالآراء المتباينة في الأولى تسمى مذاهب، وأتباع كل يعتقدون أن مذهبهم صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرهم خطأ يحتمل الصواب، بل يرى بعضهم: أن الحق يتعدد في المسائل الاجتهادية؛ باعتبار أن الله لم يكلف الناس إلا بأن يبذلوا جهدهم في تحري الصواب، فما وصلوا إليه بجهدهم فهو بالنسبة لهم الحق لا يجوز العدول عنه، ولست تجد شيئًا من ذلك في أمور العقائد التي يؤدي الاختلاف فيها إلى تفرق الفرق يكفر بعضها بعضًا، والحق في مسائل الاعتقاد واحد لا يتعدد وكل ما سواه باطل، أحسن الفروض بالنسبة لصاحبه أن يعذر فينجو من عقاب الأخذ بالباطل.٤٤
    هذا والأعمال البدنية نفسها لا يكون لها اعتبار في دين المسلمين بحسب صورها الظاهرة، وإنما هي معتبرة بالنيات والهيئات النفسانية التي هي مصدرها،٤٥ وفي القرآن: لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ٤٦ … ويروى عن النبي حديث هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقال الشافعي وأحمد: إنه يدخل فيه ثلث العلم، وهو من أصح الأحاديث النبوية وأشهرها، حتى زعم بعضهم أنه متواتر،٤٧ واعترافًا بمكانه بين السنن تجده في فاتحة كثير من كتب السنة المعتبرة، وهذا الحديث هو: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.»

انتهى طبعه في ٥ من ذي الحجة سنة ١٣٦٤ / ١٠ نوفمبر سنة ١٩٤٥.

١  أي القرض، ويقصره الفقهاء على نوع خاص من القرض، فهو عند أبي حنيفة مثلًا بيع آجل بعاجل إذا كانا مختلفي النوع، كبيع غلة آجلة بنقود عاجلة.
٢  آية ٧١ من السورة الثانية (البقرة، مدنية).
٣  آية ٨٩ من السورة ٢٦ (الشعراء، مكية).
٤  آية ٣٥ من سورة ٤٧ (محمد، مدنية).
٥  آية ٦١ من السورة ٨ (الأنفال، مدنية).
٦  آية ٢٦ من سورة ٣٧ (الصافات، مكية).
٧  انظر «الإبانة» للأشعري ص١٠، وشرح الفقه الأكبر لأبي منصور الماتريدي المتوفى سنة ٣٣٣ﻫ، صفحات ٢–٤، طبع الهند.
٨  «الإبانة» ص١٠.
٩  مجمع البيان، جزء أول، ص١٧٥ طبعة فارس سنة ١٣٠٤ﻫ.
١٠  آية ١٤، سورة ٤٩ (الحجرات، مدنية).
١١  آية ٥، سورة ٦٦ (التحريم، مدنية).
١٢  آية ٣٥ سورة ٣٣ (الأحزاب، مدنية).
١٣  آية ٦٩ سورة ٤٣ (الزخرف، مكية).
١٤  آية ٨٤ سورة ١٠ (يونس، مكية).
١٥  آيتي ٣٥، ٣٦ سورة ٥١ (الذاريات، مكية).
١٦  آية ١٧، سورة ٤٩ (الحجرات، مدنية).
١٧  كتاب الاشتقاق لابن دريد، الجزء الأول، ص٢٢.
١٨  آية ١٣ سورة ٤٢ (الشورى، مكية) ويراجع في ذلك تفاسير الطبري والكشاف والرازي والبيضاوي.
١٩  آية ٩٠ سورة ٦ (الأنعام، مكية) ويراجع تفسير الكشاف للزمخشري.
٢٠  آية ٤٨ سورة ٥ (المائدة، مدنية) ويراجع في ذلك تفسير الطبري، ويراجع كذلك كتاب مفتاح دار السعادة الطبعة الأولى بمصر ج٢ ص١٢٦، ١٢٧، وكتاب حجة الله البالغة ج١ ص٦٨، ٦٩.
٢١  آيتي ١٩، ٢٠ سورة ٣ (آل عمران، مدنية)، يراجع تفسير الكشاف للزمخشري.
٢٢  آية ٣ سورة ٥ (المائدة، مدنية).
٢٣  يراجع تفسير البيضاوي لهذه الآية والموافقات للشاطبي ج٣ ص٦٢ وج٤ صفحتي ١١٦، ١١٧.
٢٤  آية ١٢٥ سورة ٦ (الأنعام، مكية).
٢٥  آية ٢٢ سورة ٣٩ (الزمر، مكية).
٢٦  آية ٧ سورة ٦١ (الصف، مدنية).
٢٧  آية ٧٤ سورة ٩ (التوبة، مدنية).
٢٨  آية ٨٠ سورة ٣ (آل عمران، مدنية).
٢٩  آية ٢ سورة ١٥ (الحجر، مكية).
٣٠  آية ٦٧ سورة ٣ (آل عمران، مدنية).
٣١  آية ١٤ سورة ٦ (الأنعام، مكية).
٣٢  آية ١٧ سورة ٤٩ (الحجرات، مدنية).
٣٣  آية ١٩ سورة ٣ (آل عمران، مدنية).
٣٤  آية ٨٥ سورة ٣ (آل عمران، مدنية).
٣٥  آية ٣ سورة ٥ (المائدة، مدنية).
٣٦  آية ٦٢ سورة ٢ (البقرة، مدنية).
٣٧  آية ٦٩ سورة ٥ (المائدة، مدنية).
٣٨  آية ١٧ سورة ٢٢ (الحج، مدنية).
٣٩  آية ٧٨ سورة ٢٢ (الحج، مدنية).
٤٠  آية ١٠٢ سورة ٣ (آل عمران، مدنية).
٤١  آية ٤٤ سورة ١٦ (النحل، مدنية).
٤٢  انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.
٤٣  انظر: شرح المواقف جزء أول ص٣٨، والموافقات جزء ٤ ص٣.
٤٤  انظر: فصول البدائع في أصول الشرائع، جزء ٢، صفحات ٤١٧–٤٢٤.
٤٥  انظر: كتاب «حجة الله البالغة»، جزء أول، ص٤.
٤٦  آية ٣٧ سورة ٢٢ (الحج، مدنية).
٤٧  انظر: شرح القسطلاني على البخاري، جزء أول، ص٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤