المقدمة

(١) تمهيد في شروط التأليف

من تصدى للكتابة أو التأليف، فقد جعل نفسه خادمًا للمصلحة العامة، إلا من يحصر كتابته في شئون خصوصية، أو يعالج علمًا يلذُّ له، ولا يهمه سواه، أو يتعاطى الكتابة لأغراض معينة. أو يكون مرماه من التأليف بيان قدرته على الإنشاء والغوص على المعاني العويصة، والألفاظ الغريبة، بتقليد الأساليب القديمة التماسًا لإعجاب العلماء مما يشقُّ على جمهور القراء — فهؤلاء وأمثالهم يكتبون لأنفسهم أو لطبقة خاصة لغرض خاص، ولهم منزلة وفضل، ولكن في غير الخدمة العامة، وإذا لم يصادفوا إقبالًا من الجمهور اتهموه بالجهل، وهددوه بالإعراض والتقاعد عن الكتابة — مع أنه لم يشعر بوجودهم لأنهم لم يخاطبوه بلسانه.

وأما الكاتب العمومي، فإنه خادم الأمة ووليُّ إرشادها، وعليه أن يبذل الجهد في سبيل مصلحتها. ولا بد له في تأليفه من ثلاثة شروط: الأول اختيار الموضوع الذي يرى الأمة في حاجة إليه، والثاني أن يسبكه في قالب يسهل تناوله، والثالث أن يتوخَّى صدق اللهجة والصراحة بلا انحياز إلى طائفة أو حزب. والكُتَّاب يتفاوتون قدرة على القيام بأحد هذه الشروط أو كلها، بتفاوت أحكامهم على النافع أو الضار من المواضيع، وتباين قدرتهم على إيضاح أفكارهم، ويصعب ذلك على الخصوص في المواضيع الأدبية كالتاريخ، والاجتماع، والأخلاق، ونحوها — بخلاف المواضيع الطبيعية، فإنها مقيدة بمصطلحات تسهل الإجادة فيها.

الأسلوب العصري

أما الأبحاث الأدبية، فإنها تفتقر في تأديتها إلى إعمال الفكرة من حيث ترتيبها وسبكها في عبارة سهلة سالمة من الركاكة والتعقيد، وهذا في نظرنا هو الأسلوب العصري الذي يجب على كل كاتب أن يتحداه — وهو شائع اليوم على أقلام الكُتَّاب لا يشذ عنه إلا المتفانون في المحافظة على القديم، الذين يحسبون اللغة وقفًا لا يحل بيعه أو التصرف فيه، وفاتهم أنها من قبل الأحياء الخاضعة لناموس الارتقاء، تتغير بتغير أحوال الاجتماع من البداوة أو الحضارة؛ فتنمو بتولد الألفاظ الجديدة للمعاني الجديدة والتراكيب العصرية للأفكار العصرية، وتذهب الألفاظ القديمة بذهاب معانيها، كالأعضاء المهملة في الجسم الحي، تقضي الطبيعة بانقراضها ليقوم سواها مقامها، أو هي كالحويصلات التي تندثر بالعمل الحيوي، فتخلِّفها الحويصلات الجديدة النامية. فالتغيير الذي يصيب الألفاظ والأساليب باختلاف الأعصر دليل على حياة اللغة. ومن حاول الوقوف في سبيل هذا التغيير، فقد عارض الطبيعة — كما يفعل الصينيون بحبس أقدام بناتهم في قوالب الحديد لتبقى صغيرة، فهم لا يوقفون النمو لكنهم يشوِّشون عمله فتنمو الأقدام مشوهة، وهكذا الوقوف في سبيل اللغة فإنه لا يوقف نموها لكنه يشوش عمله.

صدق اللهجة

أما صدق اللهجة، والصراحة في القول، والخلو من الغرض فهي من أهم واجبات الكاتب، لكنها من أصعب الشروط عليه؛ إذ لا يسهل على الإنسان أن يجرِّد نفسه من الروابط الدينية أو الاجتماعية التي تتجاذبه، وقد رضعها من اللبن وتمكَّنت من خاطره بتوالي الأعوام. وإنما يقوى على مغالبتها قويُّ الإرادة عالي التربية. وقد يتطرف المتعصِّب لأمته أو طائفته، حتى لا يرى الحسنات إلا فيها، ولا يرى في سواها غير السيئات؛ ولذلك فهو لا يفيد في الخدمة العامة، وقد يضر.

أما المواضيع، ففيها النافع والضار وما بينهما، والموضوع الواحد يختلف نفعه أو ضره باختلاف حال الأمة، وباختلاف نسق الكاتب في تبويبه وأسلوبه في تأديته، وفي مقدار ما يضمِّن كتابه من الحقائق أو المواد؛ لأن من الكتاب من يصرف همه إلى رشاقة العبارة وتزويقها وتنميقها، ولو جرَّ ذلك إلى تبديد المعنى أو غموضه، ومنهم من يوجه اهتمامه إلى الحقائق التي يستطيع جمعها في كتابه بلا تكلف أو تأنُّق، ويحافظ على سلامة المعنى قبل كل شيء — هذه هي الخطة التي نبذل جهدنا في تحديها في ما نكتبه؛ لأننا نرى الأمة في حاجة إلى الحقائق أكثر مما إلى الألفاظ، وهذا ما توخيناه على الخصوص في هذا الكتاب؛ لاتساعه وتشعُّب مواضيعه وتعدد جزئياته؛ ولأننا نعلق أهمية كبرى بالنظر إلى حاجة الناشئة العربية إليه.

(٢) ما هو تاريخ آداب اللغة؟

واختلف الكُتَّاب في مباحث تاريخ آداب اللغة؛ فبعضهم يقتصر منها على تاريخ الأدب بمعناه الخاص دون سائر العلوم، أو بمعناه العام لكنه لا يتجاوز النظر في تاريخه مع اعتبار مجرى التاريخ العام عليه، أو بقطع النظر عن ذلك، وقد يكتفي بعضهم من تاريخ آداب اللغة بتراجم العلماء والشعراء، وأمثلة من أقوالهم بدون التعرض لكتبهم، أو يجعل همه وصف الكتب التي ظهرت في كل علم دون التراجم وأطوار العلم، ومنهم من يكتفي بإطراء أصحاب هذه اللغة، وما بلغوا إليه من الرقي في معالجة المواضيع الهامة بالقياس على الأمم الأخرى. أما نحن فقد أردنا أن نجمع بين ذلك كله على ما يبلغ إليه الإمكان.

(٣) نسق هذا الكتاب

فقسمنا كتابنا إلى أعصر، بيَّنَّا فيها ما تقلبت عليه آداب اللغة في كل عصر، وذكرنا الأسباب السياسية والاجتماعية التي أثرت في ذلك، وما قد يقابلها عند الأمم الأخرى، ومزية العرب فيها، وأرَّخنا كل علم في كل عصر، وترجمنا النابغين فيه، وذكرنا ما خلفوه من الكتب، واقتصرنا من ذلك على ما يمكن الحصول عليه، ووصفنا أهم تلك الكتب ومنزلتها من سواها، وأشرنا إلى المطبوع منها مع سنة الطبع ومكانه، وما لم يطبع ذكرنا مكان وجوده في أشهر المكاتب الكبرى بمصر أو الآستانة أو أوروبا أو غيرها من المكاتب العمومية أو الخصوصية. وربما فاتنا ذكر كتب لا توجد إلا في بعض المكاتب الخصوصية التي لم يصلنا خبرها، فنرجو ممن يقف على شيء من ذلك أن ينبهنا إليه لننشره خدمة لآداب هذا اللسان، وذيَّلنا كل ترجمة أو باب بأشهر المآخذ التي يمكن الرجوع إليها في تفصيل تلك الترجمة أو التوسع في ذلك الباب.

فمن أحب الاطلاع على تاريخ علم من العلوم مثلًا طلبه في كل عصر، وتتبَّع تاريخه إلى آخره، ومن شاء الاطلاع على تأثير التقلُّبات السياسية في الآداب والعلوم هان عليه ذلك بمطالعة ما صدرنا به كل عصر من تاريخ تلك التقلبات، وإذا أراد الاطلاع على ترجمة عالم أو شاعر أو أديب أو نحوي أو لغوي أو مؤرخ أو جغرافي، أو أي رجل من رجال العلم أو الأدب، طلب ترجمته في باب العلم الذي غلب عليه حسب الأعصر، فيجد هناك خلاصة ترجمته، وحقيقة منزلته، وما خلَّفه من الكتب مما وصل إلينا خبره ووصف كل كتاب وأين يوجد، وإذا شاء التوسع في ترجمة ذلك الرجل رجع إلى ما ذكرناه من المآخذ في ذيل ترجمته. وهكذا إذا كان غرضه البحث عن موضوع يريد التوسع فيه، فإنه يجد الكتب التي تبحث فيه، فيختار ما يريده منها.

(٤) الغرض من هذا الكتاب

وقد ألفنا هذا الكتاب للناشئة العربية، أو طلاب هذا اللسان الذين يريدون الوقوف على العلوم العربية وأماكنها للمطالعة أو التأليف، أو يعوزهم درس موضوع أو الكتابة فيه ولا يعرفون مظانَّه، وقد عرفنا حاجة الناشئة إلى ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تتوالى علينا من هذا القبيل، فربما رغب أحدهم في درس تاريخ أمة أو دولة أو موضوع من المواضيع الاجتماعية أو الأخلاقية أو اللغوية، وأحب الاطلاع على ما قاله العرب فيه، ولا يدري مَنْ ألف فيه منهم، وهل ما ألفوه لا يزال باقيًا، وما هي قيمته بالنظر إلى سواه في موضوعه، وهل طبع، وأين، وإذا لم يطبع فأين يوجد؟ إلخ. فهذا الكتاب يرشده إلى كل ما يريده من هذا القبيل، ويسهل استخدامه لهذه الغاية بعد وضع الفهارس في آخره.

وقد توخينا الإفاضة في ما يهمُّ طلاب الأدب أو الشعر أو التاريخ، وسواها من العلوم الأدبية والاجتماعية والأخلاقية ونحوها، واختصرنا في كتب الفقه وسائر العلوم الشرعية؛ لكثرتها وتنوُّعها واستقلالها بموضوعها، وفعلنا ذلك أيضًا في كتب الطب والفلسفة والمنطق ونحوها من العلوم القديمة لذهاب دولتها أو تغير قواعدها.

(٥) موقع الجزء الأول

وقد تحقق ظننا في حاجة الناشئة إلى مثل هذا الكتاب بما آنسناه من إقبالهم على الجزء الأول من قلة مواده، واقتصاره على تاريخ آداب اللغة في العصور الأولى قبل تكوُّن العلوم، فاقتنته نظارة المعارف العمومية، وقررت بعض المدارس الكبرى تدريسه، وطلب إلينا البعض الآخر أن نستخرج منه نسخة مختصرة للتدريس، وسنفعل ذلك بعد الفراغ من تأليف الكتاب ونشره.

وكان للجزء الأول المذكور وقع لدى الأدباء والكتَّاب فتناولوه بالتقريظ والانتقاد. أما المقرِّظون فنشكر لهم حسن ظنهم، وأما المنتقدون فقد اهتمُّوا بانتقاده بلهجة تتفاوت شدةً وأسلوبًا بتفاوت فهمهم من المراد بالانتقاد وشروطه، وتدلُّ على حرج مركز الكاتب الشرقي بين قرائه، وليس في الدنيا جمهور استحكم فيه اختلاف المشارب والأهواء والأغراض مثل قراء العربية، فهم مختلفون موطنًا ومشربًا ومذهبًا وتربيةً، فلا يتأتَّى لكاتب إرضاؤهم جميعًا ولو أُوتي علم الأولين والآخرين.

ومما تحسن الإشارة إليه من الانتقادات المعقولة أن بعضهم انتقد على المؤلف تقليله من الأمثلة الشعرية أو النثرية، ولكن ذلك ما أردناه، ولو أكثرنا من الأمثلة لخرجنا عن الغرض المقصود من هذا الكتاب، ومن أراد التوسع فليطلب ذلك في المآخذ الأصلية المذكورة في ذيل التراجم، أو يطالعه في كتب الأدب لأدباء هذا العصر، ومنها طائفة حسنة جمت نخبة الأشعار والأقوال أشهرها «أدبيات اللغة العربية» لمحمد عاطف بك والشيخين محمد نصار وأحمد إبراهيم وعبد الجواد أفندي عبد المتعال من رجال نظارة المعارف العمومية، وكتاب «أدب لغة العرب» للشيخ محمد حسن نائل المرصفي مدرس اللغة العربية بكلية الفرير في مجلدين، و«مجاني الأدب» وشرحه للآباء اليسوعيين في عدة مجلدات، وجواهر الأدب للشيخ أحمد الهاشمي مراقب مدارس فيكتوريا ونحوها. ومن الكتب الهامة في تاريخ آداب اللغة «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب» لروحي بك الخالدي، وهو فريد في بابه.

وإنما نختص من المنتقدين بالذكر الأب لويس شيخو اليسوعي؛ لأنه عقد في مجلة المشرق (سنة ١٤ ج٨) فصلًا طويلًا في نقد الجزء الأول من هذا الكتاب نقدًا نمَّ عن أدبه وفضله، ودلَّ على تمكُّنه من الموضوع. فبعد أن وصف الكتاب ومنزله بالنسبة إلى ما ظهر من الكتب في موضوعه بالعربية وغيرها ذكر ملاحظاته وانتقاداته بتعقُّل وإخلاص، فنشكر له حسن ظنه واهتمامه في البحث والتنقيب، وسننظر في ملاحظاته بعين الاهتمام وإن كان أكثرها في غير مكانه أو قبل أوانه، فإن بعضها يكاد يكون تحقيقه مستحيلًا كطلبه بيان اللغات التي كان يتكلم بها العرب في جاهليتهم الأولى، والبعض الآخر ليس مكانه في ذلك الجزء كالمفضليات والحماسات ونحوها، فقد ذكر أكثرها في هذا الجزء؛ لأن أصحابها من أدباء العصر العباسي، واتهمنا بالتقصير في أبحاث سبق لنا البحث فيها مطولًا في كتبنا الأخرى، كبيان نسبة اللغة العربية إلى أخواتها السامية، فقد فصَّلنا ذلك في كتابنا «الفلسفة اللغوية» وفي «تاريخ العرب قبل الإسلام»، واقترح علينا أمورًا لو أردنا العمل بها لاستغرق هذا الكتاب أضعاف حجمه، فإنه تقدم إلينا أن نستخرج عادات العرب وتاريخهم من أمثالهم وأشعارهم، وهو خارج عن موضوع الكتاب، ومثل ذلك اقتراحه أن نطيل في درس كل شاعر وشعره، وهذا يفتقر إلى كتاب خاص لكل شاعر، وإنما اكتفينا بخلاصة الترجمة وزبدة ما يقال في الموضوع مع مراعاة المكان، وأشرنا إلى المآخذ لمن أراد التعمُّق، وانتقد علينا أيضًا مبالغتنا في بيان مآثر العرب والتنويه بفضلهم! ويرى أيضًا أننا أخطأنا في تعيين وفيات بعض شعراء الجاهلية، وغير ذلك من الملاحظات التي يريد من ورائها خدمة آداب اللغة، وهي ضالتنا التي ننشدها؛ ولذلك فإننا سنتدبَّر ملاحظاته وننظر فيها بإخلاص وامتنان، وفي كل حال فإننا استفدنا من انتقاده — جزاه الله خيرًا وجعله قدوة للمنتقدين.

(٦) موضوع هذا الجزء

كان المراد عند الفراغ من الجزء الأول أن نجعل هذا الجزء خاصًّا بتاريخ آداب اللغة في العصر العباسي من ظهور الدولة العباسية سنة ١٣٢ﻫ إلى سقوط بغداد سنة ٦٥٦ﻫ، فقسمنا هذا العصر أو الدولة إلى أربعة أعصر لكل منها صفة مشتركة في السياسة والاجتماع والأدب يمتاز بها عن سواه سيأتي ذكرها، وإنما نريد هنا بيان الحكمة في ذلك التقسيم:
  • فالعصر الأول: (سنة ١٣٢–٢٣٢ﻫ) هو عصر الإسلام الذهبي من حيث السياسة والدولة، أو هو عصر الرشيد والمأمون والبرامكة، وقد بلغت الدولة الإسلامية إبَّان مجدها، وفيه نشأت أكثر العلوم الإسلامية، ونقلت أهم العلوم الدخيلة.
  • والثاني: (سنة ٢٣٢–٣٣٤ﻫ) هو فترة بين العصرين الأول والثالث، اشتغل فيها رجال الدولة بأنفسهم عن نصرة رجال العلم والأدب.
  • والثالث: (سنة ٣٣٤–٤٤٧ﻫ) هو عصر الإسلام الذهبي من حيث نضج العلم والأدب، ولا سيما اللغة وعلومها والتاريخ والجغرافية، وفيه تعاصرت عدة دول تعاون ملوكها وأمراؤها ووزراؤها على الاشتغال بالعلم والأخذ بناصر العلماء.
  • والرابع: (سنة ٤٤٧–٦٥٦ﻫ) فيه ظهرت ثمار العلوم، ونضجت الموسوعات والمعاجم التاريخية والجغرافية وغيرها.

فلما أخذنا بالكتابة اتسع بنا المقال، فاكتفينا بالأعصر الثلاثة الأولى في هذا الجزء؛ أي: من تكون العلوم إلى نضجها، وأجَّلنا الكلام في العصر العباسي الرابع وما يليه من العصور إلى الجزء الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله.

(٧) الخلاصة

هذا وقد بذلنا الجهد في تنسيق هذا الكتاب وتبويبه وضبط حقائقه وبسط عبارته بإخلاص وصراحة، مما نعتقد فيه النفع للناشئة العربية، فإن أحسنَّا فذلك ما أردناه وهو فرض أدَّيناه، وإلا فقد أعذرنا ببذل الجهد وصدق النية، ولنا الأمل أن ينشط من أدبائنا من يوفي الموضوع حقه بأحسن مما فعلنا، وبالله التوفيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤