ما وراء الطبيعة

(١) الكهانة والعرافة

هما لفظان لمعنى واحد، وفرق بعضهم بينهما فقال: الكهانة مختصة بالأمور المستقبلة، والعرافة بالأمور الماضية. وعلى كل حال فالمراد بهما التنبؤ واستطلاع الغيب … على أن العرب كانوا يعتقدون في الكاهن القدرة على كل شيء، فكانوا يستشيرونه في حوائجهم، ويتقاضون إليه في خصوماتهم، ويستطبونه في أمراضهم ويستفتونه فيما أشكل عليهم، ويستفسرون منه عن رؤاهم، ويستنبئونه عن مستقبلهم، وبالجملة فالكهان عندهم هم أهل العلم والفلسفة والطب والقضاء والدين، شأن تلك الطبقة من البشر عند سائر الأمم القديمة في بابل وفينيقية ومصر وغيرها.

والكهانة من العلوم الدخيلة على العرب، جاءتهم من بعض الأمم المجاورة لهم، والغالب في اعتقادنا أن الكلدان حملوها إليهم مع علم النجوم. ويؤيد ذلك أن الكاهن يسمى في العربية أيضًا «حازي» أو «حزاء» وهو لفظ كلداني معناه الاشتقاقي الناظر أو الرائي أو البصير، وهو يدل عندهم على الحكيم والنبي، وأما لفظ «الكاهن» فقد اقتبسه العرب بعدئذ من اليهود الذين نزحوا إليهم على أثر ما أصابهم من النكبات في أورشليم وخصوصًا بعد خرابها على يد طيطس سنة ٧٠ للميلاد، وقد أخذ عنهم العرب كثيرًا من الآداب والعادات مما لا يدخل في بحثنا.

وأما الكهانة فأصلها من عند الكلدان، ولعل الذين حملوا علم النجوم إلى العرب هم الكهنة الكلدانيون أنفسهم، فكانت الكهانة في جملة ما حملوه إليهم. ويؤيد ذلك أن العرب كانوا يطلقون لفظ الحزاء على الكاهن والمنجم،١ على أن أهل بابل ما زالوا يتواردون على بلاد العرب إلى ما بعد الإسلام، والعرب يجلونهم لعلمهم وتعقلهم.

فالعرب كانوا يعتقدون في الكهنة العلم بكل شيء، وأن ذلك يأتيهم بواسطة الأرواح … فمن كان منهم يعتقد التوحيد نَسب ذلك إلى استطلاع الغيب عن أفواه الملائكة، وإذا كان من عبدة الأصنام اعتقد حلول الأرواح في الأصنام وإباحتها أسرار الطبيعة للكهان والسدنة، فيقول العرب: إن الأصنام تدخلها الجن (أي الأرواح) وتخاطب الكهان، وأن الكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وربما عبروا عنه بالهاتف، ومن أقوالهم: «الأحبار في اليهود، والرهبان في النصارى، والكهان في العرب».

فكل ما كان يصنعه الكاهن إنما مصدره الغيب، فإذ استطبه مريض من ألم أو صداع عالجه بالرقى، وإذا استشاره في معضلة خط له في الرمل أو نفث في العقد، وإذا حكمه متخاصمان رمى لهما بالقداح، وإذا استطلعه شخص أخذ قمقمًا جعله بين يديه ونفث فيه ونحو ذلك من الحركات الوهمية، وإذا استفسره عن رؤيا تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب.

قلنا: إن الكهانة أتت العرب من بين النهرين، فالكهان القدماء كانوا في الغالب كلدانيين (أو صائبة في قولهم) وكان العلم عندهم، ثم ما لبث العرب أنفسهم أن أخذوا ذلك عنهم فنشأ الكهان منهم، على أن بعض العرب اقتصروا فيما تناولوه على علم دون آخر، فكان بعضهم يتعاطى الطب فقط وبعضهم تعبير الرؤيا أو القيافة أو القضاء.

الكهان

واشتهر في بلاد العرب جماعة كبيرة من الكهان والكواهن، أقدمهم شق وسطيح وحكاياتهما أشبه بالخرافات منها بالحقائق، فعندهم أن الأول كان شق إنسان (أي نصفه) بيد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وأن سطيحًا كان لحمًا يُطوى كما يُطوى الثوب لا عظم فيه غير الجمجمة ووجهه في صدره، ويزعمون أن هذين الكاهنين عاشا بضعة قرون، إلى غير ذلك من الأوهام، ومن الكهان الذين نبغوا في النهضة العربية قبل الإسلام: خنافر بن التوأم الحميري، وسواد بن قارب الدوسي، وفيهم من يعرفون بما ينسبون إليه من البلاد أو القبائل … كقولهم: كاهن قريش، وكاهن اليمن، وكاهن حضرموت، وغيرهم.

ويقال نحو ذلك في العرافين، وأكثرهم ينسبون إلى بلدانهم وقبائلهم كعراف هذيل، وعراف نجد، وأشهرهم عراف اليمامة شهره عروة بن حزام ببيت قاله فيه — وكذلك الشعراء يشهرون ممدوحيهم — وهو قوله:

أقول لعرَّاف اليمامة داوني
فإنك إن دوايتني لطبيب
وأما الكواهن من النساء فإنهن كثيرات منهن طريفة كاهنة اليمن، وهي أقدمهن. وإليها ينسبون الإنذار بخراب سد مأرب وإتيان سيل العرم، وزبراء بين الشحر وحضرموت، وسلمى الهمدانية الحميرية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة الخثعمية بمكة، وزرقاء اليمامة وغيرهن، وينسبن إلى القبيلة أو المدينة ككاهنة بني سعد، يزعمون أنها أقدم عهدًا من شق وسطيح وأنها استخلفتهما،٢ وما زالت الكهانة في العرب حتى جاء الحديث بإبطالها وهو: «لا كهانة بعد النبوة».٣
وكان للكهان عند العرب لغة خاصة تمتاز بتسجيع خصوصي يُعرف بسجع الكهان مع تعقيد وغموض، ولعلهم كانوا ينوخون ذلك للتمويه على الناس بعبارات تحتمل غير وجه كما يفعل بعض مشايخ التنجيم في هذه الأيام، حتى إذا لم يصدق تكهنهم جعلوا السبب قصور الناس في فهم الكاهن. ومن أمثلة سجع الكهان ما يروونه عن طريفة كاهنة اليمن حين خاف أهل مأرب سيل العرم وعليهم مزيقياء عمرو بن عامر، فإنها قالت لهم: «لا تؤموا مكة حتى أقول وما علمني ما أقول إلا الحكم المحكم رب جميع الأمم من عرب وعجم» قالوا لها: «ما شأنك يا طريفة؟» قالت: «خذوا البعير الشذقم فخضبوه بالدم تكن لكم أرض جرهم جيران بيته المحرم».٤

(٢) القافية وغيرها

ومن قبيل الكهانة أيضًا القيافة، لكنها تختص بتتبع الآثار والاستدلال منها على الأعيان، وهي قسمان: قيافة الأثر، وقيافة البشر، والأولى تختص بتتبع آثار الأقدام أو الحوافر أو الأخفاف والاستدلال من آثارها في الرمال أو التراب على أصحابها، والفائدة من ذلك الاهتداء إلى الفارِّ من الناس أو الضال من الحيوان، وقد أتقن العرب ذلك حتى فرق بعضهم بين أثر قدم الشاب والشيخ، وقدم الرجل والمرأة، والبكر والثيب، وأما قيافة البشر فهي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وسائر أحوالهما، وهي من قبيل الفراسة.

وكانت القيافة شائعة في العرب ثم اختصت بعض القبائل بها دون البعض الآخر، وأشهر العرب بقيافة الأثر بنو مدلج وبنو لهب، ولا تزال هذه القيافة شائعة إلى اليوم في بعض قبائل نجد، مثل بني مرة وهم أعلم الناس بها حتى لقد يعرف أحدهم الإنسان من أثره، وربما نظر إلى أثر بعير فقال: هذا بعير فلان! وكثيرون منهم يميزون بين العراقي والشامي والمصري والمدني!

والفراسة كانت شائعة عند العرب، وكانت لهم فيها براعة يستدلون بهيئة الإنسان وأشكاله وأقواله على أخلاقه ومناقبه، وهي من قبيل الذكاء وسرعة الخاطر، وسجية طبيعية.

ومن قبيل الكهانة تعبير الرؤيا، وكان معروفًا عند العرب، وكانوا يفزعون إلى الكهان في تفسير الأحلام على أن كثيرين من غير الكهان كانوا يتعاطونها٥ ومن هذا القبيل زجر الطير وخط الرمل، وقد أغضينا عنهما لضيق المقام.

وتجد أخبار كهانهم في كتب التاريخ وكتب الأدب وخصوصًا الأغاني والعقد الفريد وفي السيرة النبوية وكتب التفسير وفي الجزء الأول من مروج الذهب للمسعودي والأول من أبي الفداء وفي معجم البلدان لياقوت الحموي ومعجم ما استعجم للبكري وحياة الحيوان للدميري وفي كتب الأدب وغيرها …

هوامش

(١) السيرة الحلبية ٤٨ ج١.
(٢) السيرة الحلبية ٣٦ ج١.
(٣) كشف الظنون ٣٣٩ ج٢.
(٤) الأغاني ١١٠ ج١٣.
(٥) السيرة الحليبة ٢٩١ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤