التغيير الذي أحدثه الإسلام في العرب

(١) اجتماع كلمة القبائل

كان العرب في الجاهلية يتفاضلون بالعصبية ويتفاخرون بالأنساب، فلما جاء الإسلام كان في جملة ما بدله من أحوالهم أنه جمع كلمتهم وصاروا يدًا واحدة على اختلاف أنسابهم ومواطنهم، وبعد أن كان اليمني يفاخر الحجازي، والمضري يفاخر الحميري، ونحو ذلك من مفاخرات القبائل والبطون والأفخاذ، جاء الإسلام فجمعهم تحت راية واحدة باسم واحد هو «الإسلام» فقال الرسول: «المسلمون إخوة» وقال من خطبة ألقاها يوم فتح مكة: «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب»،١ وقال من خطبة في حجة الوداع: «أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى».٢

واقتدى بالرسول خلفاؤه الأولون لا سيما عمر بن الخطاب، فإن جبلة بن الأيهم ملك غسان بعد أن أسلم اتفق وهو يطوف في الكعبة أن فزاريًّا وطئ إزاره فانحل، فرفع جبلة يده وهشم أنف الفزاري فشكاه إلى عمر، فأراد عمر أن يهشم أنف جبلة فقال: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك؟!» فأجابه عمر: «إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتُّقى والعافية» فلم يحتمل جبلة ذلك فعمد إلى الفرار.

انتشار العرب في الأرض

كان العرب محصورين في جزيرتهم القاحلة، وهم أهل بادية وخشونة وشظف من العيش يسمعون بالرومي أو الفارسي، فيعظمون قدره ويتمثلون بسطوة قيصر وكسرى، ولم يتجاوزوا جزيرة العرب إلا قليلًا، فلما ظهر الإسلام واجتمعت كلمة العرب، نهضوا للفتح وأوغلوا في البلاد وفتحوا الأمصار، ولم يستطع شيء أن يقف تيارهم، فانساحوا في الأرض حتى نصبوا أعلامهم على ضفاف الكنج شرقًا، وشواطئ المحيط الأطلسي غربًا، وضفاف نهر لورا شمالًا، وأواسط إفريقيا جنوبًا، وملأوا الأرض فتحًا ونصرًا واحتلوا مدائن كسرى وقيصر، وأقاموا في المدن وركنوا إلى الحضارة وتعودوا الترف واختلطت أنسابهم بتوالي الأجيال. والقبائل التي قامت بنصرة الإسلام ونشره قبائل مضر وأنصارها من العدنانية والقحطانية.

ولم ينتشر العرب بالفتح فقط، ولكنهم هاجروا أيضًا بأهلهم وخيامهم وأنعامهم؛ التماسًا لسعة العيش في البلاد العامرة من مملكتهم الجديدة. فقد جلت بطون من خزاعة إلى مصر والشام في صدر الإسلام؛ لأن أرضهم أجدبت فمشوا يطلبون الغيث والمراعي، وكذلك كانت تفعل العرب كلما أصابها جدب حتى كانت لهم أعوام خاصة يجلون فيها إلى مصر والشام يسمونها أعوام الجلاء، وكانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام؛ إذا أجدبت أرضهم يمموا العراق وفارس فيعطيهم الفرس التمر والشعير … ولكنهم كانوا لا يقيمون هناك بل يرجعون إلى بلادهم؛ خوفًا من الذل في سلطان دولة أعجمية، أما بعد الإسلام، فكان المقام يطيب لهم في بلاد فتحها آباؤهم وأعمامهم وأخوالهم وغرسوا فيها أعلامهم وجعلوها فيئًا لهم.

ولا يخفى ما يترتب على مثل هذا الاختلاط من الانقلاب في اللغة والآداب، لكنه لم ينضج ويظهر إلا في عصر الأمويين فما بعده.

انتشار القرآن الكريم

بعد أن كان هَم عربِ الجاهلية إذا اجتمعوا في نادٍ أو سوق إنشاد الأشعار والتفاخر أو التفاضل، أصبح همهم القرآن وحفظه وتلاوته صباح مساء، وإذا بعث الخليفة عاملًا إلى بلدة أمره أن يحكم بالعدل وأن يعلم المسلمين القرآن وكانوا يعلمونهم الحديث أيضًا.

(٢) تأثير ذلك التغيير في آداب اللغة

إن ظهور الإسلام انقلاب ديني سياسي اجتماعي، ولا بد لكل انقلاب من آثار يخلفها في نفوس أصحابه وعقولهم، فيحدث تغييرًا في آدابهم وعلومهم، والتغيير الذي أحدثه الإسلام في آداب الجاهلية يرجع إلى ثلاثة أوجه:
  • أولًا: أنه أبطل بعض تلك الآداب.
  • ثانيًا: أنه نوَّع البعض الآخر.
  • ثالثًا: أنه أحدث آدابًا جديدة لم تكن من قبل …
فالآداب التي أبطلها الإسلام الكهانة وفروعها؛ إذ جاء الحديث بتحريمها،٣ والآداب التي أحدثها، بعضها اقتضاه الإسلام كالعلوم الشرعية واللسانية، وبعضها نُقل عن الأمم الأخرى كالفلسفة والطبيعيات والطب، وسيأتي الكلام عنها في حينه.
أما النوع الذي أحدثه الإسلام في آداب الجاهلية، فأكثره في الشعر والخطابة وهما من الآداب الجاهلية التي زادها الإسلام رونقًا، لكن الخطابة سبقت الشعر في الرقي؛ لحاجة المسلمين إليها في الفتوح والغزوات، والعرب لا يزالون على بداوتهم تتأثر نفوسهم من التصورات الشعرية سواء سُبكت في قالب الخطابة أو الشعر، والخطابة أقرب تناولًا؛ إذ لم يرد في القرآن ما يُنفر الناس منها كما ورد في الشعر والشعراء … فكما كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر في تقييد مآثرهم وتفخيم شأنهم والتهويل على عدوهم والتهيب من فرسانهم، أصبح الخطيب في الإسلام مقدمًا على الشاعر؛ لفرط حاجتهم إلى الخطابة في استنهاض الهمم وجمع الأحزاب وإرهاب الأعداء.٤

هوامش

(١) ابن هشام ٢١٩ ج٢.
(٢) البيان والتبيين ١٦٤ ج١.
(٣) مشكاة المصابيح ٣٩٢.
(٤) البيان والتبيين ٩٨ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤