حال الشرق عند الفتح الإسلامي

نعني بالشرق البلاد التي فتحها المسلمون حول بحر الروم وخليج العجم، وهي تشمل مصر والشام والعراق وفارس … فلما فتحوها كان بعضها تحت سيطرة الفرس وهي العراق وفارس، والبعض الآخر تحت سيطرة الروم وهي الشام ومصر، أما من حيث الآداب والعلوم، فمصر والشام كانتا ملحقتين بمملكة الروم، بآدابهم وعلومهما، والغالب في دينهما النصرانية، والعراق وفارس كانت آدابهما فارسية وأكثر أهلهما من المجوس، وكان التنازع قائمًا بين النصرانية والمجوسية، ونشبت الحرب بين الروم والفرس لهذه الغاية، فجاء العرب وغلبوا الأمتين جميعًا، فقام الإسلام في ذينك البلدين مقام ذينك الدينين.

(١) آداب الروم في مصر والشام

كانت آداب الروم في مصر والشام يومئذ عبارة عن الآداب اليونانية في عصرها الإسكندري الروماني، لأن آداب اليونان القدماء هي القاعدة الأساسية لآداب الرومان ومن تشعبت إليه دولتهم من الأمم … وللآداب اليونانية أطوار فصلناها في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي آخرها العصر الإسكندري، وفيه انتقلت علوم اليونان وآدابهم من أثينا وغيرها من بلادهم إلى الإسكندرية على عهد البطالسة بمن انتقل إليها من جالية اليونان على أثر فتوح الإسكندر في الشرق في القرن الرابع قبل الميلاد، وحملوا معهم كتب العلم والفلسفة والطب والشعر والأدب واللغة والتاريخ غير ما جمعه البطالسة من الكتب الأخرى، فزهت الإسكندرية بهم وبعلومهم.

ويقسم العصر الإسكندري المذكور إلى قسمين: الأول كانت مصر فيه تحت سيادة البطالسة وهو العصر الإسكندري اليوناني، والثاني بعد دخولها في سيطرة الروم قبل الميلاد، وهو العصر الإسكندري الروماني وينتهي بظهور الإسلام …

فلما فتح المسلمون مصر والشام، كانت هذه البلاد في عصرها الإسكندري الثاني أو الروماني الذي يبدأ قبل الفتح الروماني بنصف قرن، أي يوم دخول أثينا في حوزة الرومان في القرن الأول قبل الميلاد؛ لأن قائدهم سولا لما فتح أثينا حمل منها أحمالًا من كتب العلم والفلسفة إلى رومية … فانتقل العلم من أثينا إلى رومية وضعف شأن الإسكندرية قبل دخولها في حوزة الروم، فلما صارت رومانية قبيل الميلاد زادت ضعفًا، وكانت علومها قد تغيرت وجهتها وانحصرت في الفلسفة، لأن الإسكندرية ما برحت منذ تأسيسها وفيها جماعة من العبرانيين نزحوا إليها كعادتهم في الرحيل للارتزاق أو فرارًا من الاضطهاد، فآنسوا في الإسكندرية ترحيبًا وراحة فتكاثروا، فترتب على اختلاطهم باليونان وتمازج الأذواق والأبحاث تغير مهم في الفلسفة والدين لأن العبرانيين أهل توحيد ووحي وتقليد، واليونان أهل فلسفة ومنطق وأساطير دينية … فأدى التمازج إلى التقارب وزاد ذلك بظهور النصرانية، ولما تأيدت النصرانية واعتنقها اليونان، أخذوا في تطبيق فلسفتهم على الدين … فتولد من ذلك ما يسمونه الفلسفة الأفلاطونية الجديدة Neo-platonic والفلسفة الفيثاغورية الجديدة Neo-pytlagoric وجملة القول إن العصر الإسكندري الثاني قلما أفاد العلم لأن أبحاثه كانت غايتها دينية.
هذه هي الفلسفة التي كانت شائعة في المملكة الرومانية الشرقية عند الفتح الإسلامي، وكانت مدرسة الإسكندرية أم المدارس الشرقية يُعلَّم فيها الطب والهندسة والفلك وسائر العلوم الطبيعية والرياضية، ويتفاخر العلماء بالتخرج فيها كما يتفاخر متخرجو جامعات أكسفورد وكمبريدج وباريس وبرلين اليوم، وعاصرتها مدارس حسنة في برغاموس وطرسوس ورودس وأنطاكية وبيروت، وكان في بيروت مدرسة للحقوق ذاعت شهرتها في الآفاق.١

فلما جاء الإسلام، كان العلم قد انحط في هذه المدارس كلها وأهملت كتب الفلسفة القديمة بمقاومة رجال الدين لها لأنها في نظرهم عثرة في سبيل الدين …

(٢) آداب مملكة الفرس

كان للفرس آداب قديمة قد أضافوا إليها كثيرًا من علوم الهند والصين وآشور وغيرها من أمم الشرق القديم … فلما فتح الإسكندر بلادهم نقل ما كان في عاصمتهم من كتب العلم إلى بلاده فذهب تمدنهم وتضعضعت شؤونهم وتقاعدوا عن العلم إلى أيام سابور بن أزدشير في الدولة الساسانية بأواسط القرن الثالث للميلاد، فحارب الروم ونقل جماعة من أسراهم إلى الأهواز وأنشأ لهم مدينة سماها جندي سابور، وأكرم وفادتهم فحببوا إليه العلم … فعمد إلى استرجاع علوم الفرس من اليونان أو الاستعاضة بمثلها … فبعث إلى بلاد اليونان من استجلب كتب الفلسفة وأمر بنقلها إلى الفارسية٢ واختزنها في مدينته، وأخذ الناس في نسخها وتدارسها.
فلما تولى كسرى أنوشروان العادل (٥٣١م–٥٧٨م) فُتح للفرس مورد جديد للعلم والفلسفة بما كان من اضطهاد يوستنيان قيصر الروم للفلاسفة الوثنيين على أثر إقفاله الهياكل والمدارس الوثنية، وكانت الفلسفة الأفلاطونية الجديدة قد نضجت، ففر بعض أصحابها من وجه الاضطهاد وتفرقوا في العالم، وجاء منهم سبعة إلى أنوشروان فأكرم وفادتهم وأمرهم بتأليف كتب الفلسفة ونقلها إلى الفارسية، فنقلوا المنطق والطب٣ وألفوا فيهما الكتب فطالعها هو ورغب الناس فيها، وعقد المجالس للبحث والمناظرة كما فعل المأمون بعده بقرنين وبعض القرن حتى خُيل لليونان الذين جالسوا أنوشروان أنه من تلامذة أفلاطون.

وأنشأ أنوشروان في جندي سابور مدرسة للطب والفلسفة، اشتهرت في بلاد الفرس كما اشتهرت مدرسة الإسكندرية في مصر ومدرسة بيروت في سوريا.

فنرى أن آداب الفرس عند ظهور الإسلام كانت قائمة على آداب اليونان، والعالم المتمدن في ذلك العهد مدين لليونان بأكثر آدابه كما صارت الأمم الإسلامية بعد ذلك مدينة بآدابها وعلومها لآداب اللغة العربية التي نضجت في أيام العباسيين.

ومما يحسن قوله: إن آداب اليونان نُقلت إلى الأمم الشرقية على أيدي السوريانيين، نقلوها أولًا إلى الفارسية ثم نقلوها إلى لسانهم السرياني، ونقلوها بعد ذلك إلى اللسان العربي في التمدن الإسلامي … لكن ذلك لم يتم إلا في الدولة العباسية.

(٣) الدولة الأموية واللغة العربية

أما الدولة الأموية فالهمة كانت متجهة فيها على الخصوص إلى الآداب العربية الجاهلية لأن الأمويين كانوا شديدي الحرص على منزلة العرب كثيري العناية بحفظ الأنساب، وهم الذين جعلوا الإسلام دولة فأيدوها ونشروا اللغة العربية في المملكة الإسلامية بنقل الدواوين من الرومية والفارسية إلى اللغة العربية وبعد أن كانت مصر والشام رومية والعراق كلدانية أو نبطية، أصبحت هذه البلاد بتوالي الأجيال عربية النزعة وتنوسيت لغاتها الأصلية، وهي تعد الآن من البلاد العربية، وإذا نزلها التركي أو الإفرنجي أو غيرهما من أي أمة كانت وتوالد فيها عد نسله عربيًّا.

وظل العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفائهم، وكان خلفاؤهم يرسلون أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم، وظل كثير من عادات الجاهلية شائعًا في أيامهم كالمفاخرة والمباهلة ومناشدة الأشعار في الأندية العمومية، فكان أشراف أهل الكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار ويتحادثون ويتذاكرون أيام الناس، وأهل البصرة يخرجون إلى المربد لهذه الغاية كما سيجيء … كأنهم رجعوا بعصبيتهم إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام، ولم يبلغ العرب من العز والسؤدد ما بلغوا إليه في أيام هذه الدولة، وقد تكاثروا على عهدها وانتشروا في ممالك الأرض.

هوامش

(١) راجع الهلال ص٢٢ سنة ١٩.
(٢) أبو الفداء ٥٠ ج١.
(٣) E. Broune, Literary Hist. of Persia, I. 167.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤