اللغة العربية

هي إحدى اللغات السامية … ويريدون باللغات السامية اللغات التي كان يتفاهم بها أبناء سام — وهم في اصطلاحهم أهل ما بين النهرين وجزيرة العرب والشام — أشهرها العربية والسريانية والعبرانية والفينيقية والأشورية والبابلية والحبشية، ولم يبق حيًّا منها إلا العربية والحبشية والعبرانية والسريانية، والعربية أرقاها جميعًا.

واللغات السامية أخوات لا يعرف لهن أم، وظن بعضهم أن اللغة البابلية أو الأشورية القديمة أمهن، كما أن اللغة اللاتينية أم اللغات الإسبانية والإيطالية والبرتغالية ولكن المحققين لا يؤيدون ذلك، والمعول عليه أن هذه اللغات السامية أخوات انقرضت أمهن قبل زمن التاريخ.

(١) تاريخ اللغة العربية

البحث في تاريخ اللغة على العموم يتناول:
  • أولًا: النظر في نشأتها منذ تكونها مع ما مر عليها من الأحوال قبل زمن التاريخ، كتكون الأفعال والأسماء والحروف وتولد صيغ الاشتقاق وأساليب التعبير ونحو ذلك، والبحث في هذا كله من شأن الفلسفة اللغوية، وقد فصلناه في كتابنا «الفلسفة اللغوية».
  • ثانيًا: النظر فيما طرأ على اللغة من التأثيرات الخارجية بعد اختلاط أصحابها بالأمم الأخرى، فاكتسبت من لغاتهم ألفاظًا وتعبيراتٍ جديدةً كما يقتبس أهلها من عادات تلك الأمم وأخلاقهم وآدابهم ما يوافق ذلك من تنوع معاني الألفاظ بتنوع الأحوال، مع حدوث صيغ جديدة وألفاظ جديدة.
  • ثالثًا: النظر في تاريخ ما حوته اللغة من العلوم والآداب باختلاف العصور وهو «تاريخ آداب اللغة».

وهذا التقسيم تقريبي؛ إذ لا تجد حدًّا فاصلًا بين هذه الأقسام.

وإذا تدبرت تاريخ كل ظاهرة من مظاهر الأمة كالآداب أو اللغة أو الشرائع أو غيرها باعتبار ما مر بها من الأحوال في أثناء نموها وارتقائها وتفرعها، رأيتها تسير في نموها سيرًا خفيًّا لا يشعر به إلا بعد انقضاء الزمن الطويل، ويتخلل ذلك السيرَ البطيء وثباتٌ قوية تأتي دفعة واحدة، فتغير الشؤون تغيرًا ظاهرًا وهو ما يعبرون عنه بالنهضة، وسبب تلك النهضات في الغالب احتكاك الأفكار بالاختلاط بين الأمم على أثر مهاجرة اقتضتها الطبيعة من قحط أو خوف … أو يكون سبب الاختلاط ظهور نبي أو متشرع أو فيلسوف كبير أو نبوغ قائد طماع يحمل الناس على الفتح والغزو أو أمثال ذلك من الانقلابات السياسية أو الاجتماعية، فتتحاك الأفكار وتتمازج الطباع، فتتنوع العادات والأخلاق والأديان والآداب، واللغة تابعة لكل ذلك بل هي الحافظة لآثار ذلك التغيير فتدخرها قرونًا بعد زوال تلك العادات أو الآداب أو الشرائع، وإذا تبدل شيء منها حفظت آثار تبديله.

فاللغة العربية تعرضت لهذه الطوارئ مثل سائر اللغات الحية، وتقلبت على أحوال شتى، فتنوعت ألفاظها بالنحت والإبدال والقلب، ودخلها كثير من الألفاظ الأعجمية في أعصر مختلفة قبل أن تدون وتضبط في أزمنة لم يدركها التاريخ، وإنما نستدل على ذلك من درس ألفاظها ومقابلتها بأخواتها وغيرها.

واللغة العربية التي نحن بصددها هي لغة الحجاز التي وصلت إلينا، وكانت قبل الإسلام لغات عدة تعرف بلغات القبائل، وبينها اختلاف في اللفظ والتركيب كلغات تميم وربيعة ومضر وقيس وهذيل وقضاعة وغيرها كما هو مشهور … وأقرب هذه اللغات شبهًا باللغة السامية الأصلية أبعدها عن الاختلاط، وبعكس ذلك القبائل التي كانت تختلط بالأمم الأخرى كأهل الحجاز مما يلي الشام وخصوصًا أهل مكة من قريش؛ فقد كانوا أهل تجارة وسفر؛ شمالًا إلى الشام والعراق ومصر، وجنوبًا إلى بلاد اليمن، وشرقًا إلى خليج فارس وما وراءه، وغربًا إلى بلاد الحبشة.

فضلًا عما كان يجتمع حول الكعبة من الأمم المختلفة وفيهم الفرس والأنباط واليمنية والأحباش والمصريون، غير الذين كانوا ينزحون إليها من جالية اليهود والنصارى، فدعا ذلك كله إلى ارتقاء اللغة بما تولد فيها أو دخلها من الاشتقاقات والتراكيب مما لا مثيل له في اللغات الأخرى.

وزاد ذلك الاقتباس خصوصًا بالنهضة التي حدثت في القرنين الأول والثاني قبل الإسلام بنزول الحبشة والفرس في اليمن والحجاز على أثر استبداد ذي نواس ملك اليمن، وكان يهوديًّا فاضطهد نصارى اليمن في القرن الخامس للميلاد وخصوصًا أهل نجران … فطلب إليهم اعتناق اليهودية، فلما أبوا قتلهم حرقًا وذبحًا، فاستنجد بعضهم بالحبشة، فحمل الأحباش على اليمن وفتحوها واستعمروها حينًا، وأذلوا ملوكها أعوامًا، ثم أنف أحد أمرائها «ذو يزن» فاستنجد الفرس على عهد كسرى أنوشروان، فأنجده طمعًا في الفتح، فأخرج الأحباش من اليمن بعد أن ملكوها نحو سبعين سنة وكانوا في أثناء ذلك يترددون على الحجاز، وحاولوا فتحه في أواسط القرن الخامس فجاءوا مكة بأفيالهم ورجالهم ولم يفلحوا، واهتم أهل الحجاز بقدوم الحبشة إلى مكة حتى أرخوا به، وهو عام الفيل، ولما فتح الفرس اليمن أقاموا فيها واختلطوا بأهلها بالمبايعة والمزاوجة وتوطنوا، وكانوا يقدمون إلى الحجاز، وأهل الحجاز يترددون إليهم.

(٢) ما دخلها من الألفاظ الأعجمية

غير ما طرأ عليها من التغيير والتبديل قبل زمن التاريخ فتكاثرت ألفاظها ومشتقاتها ودخلها كثير من الألفاظ الأجنبية، وغير ما اقتبسته من التراكيب الغريبة، ولكن أكثره ضاع فيها وتنوع شكله ولم يعد يتميز أصله، على أننا نستدل على تكاثر الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية بخلو أخواتها من أمثال تلك الألفاظ، فإذا رأينا لفظًا في العربية ولم نرَ له شبيهًا في العبرانية أو السريانية أو الحبشية، ترجح عندنا أنه دخيل فيها، وأكثر ما يكون ذلك أسماء العقاقير أو الأدوات أو المصنوعات أو المعادن أو نحوها مما يحمل إلى بلاد العرب من بلاد الفرس أو الروم أو الهند أو غيرها، ولم يكن للعرب معرفة به من قبل، أو في أسماء بعض المصطلحات الدينية أو الأدبية، وأكثر هذا منقول عن العبرانية أو الحبشية؛ لأن اليهود والأحباش من أهل الكتاب.

الألفاظ الفارسية واليونانية

ويقال بالإجمال: إن العرب اقتبسوا من لغة الفرس أكثر مما اقتبسوا من سواها، ولذلك رأينا أئمة اللغة إذا أشكل عليهم أصل بعض الألفاظ الأعجمية عدوها فارسية، ومن أمثلة ما ذكره صاحب المزهر من الألفاظ الفارسية: «الكوز الجرة الإبريق الطشت الخوان الطبق القصعة السكرجة السمور السنجاب القاقم الفنك الدلق الخز الديباج التاختج السندس الياقوت الفيروزج البلور الكعك الدرمك الجردق السميذ السكباج الزيرباج الإسفيداج الطباهج الفالوذج اللوزينج الجوزينج التفرينج الجلاب السكنجبين الجلنجبين الدارصيني الفلفل الكرويا الزنجيبل الخولنجان القرفة النرجس البنفسج النسرين الخيري السوسن المرزنجوش الياسمين الجلنار المسك العنبر الكافور الصندل القرنفل» وعندنا أن بعض هذه الألفاظ غير فارسي كما سترى.

ومما اقتبسوه من اليونانية واللاتينية الفردوس والقسطاس والبطاقة والقرسطون والقبان والإسطرلاب والقسطل والقنطار والبطريق والترياق والقنطرة وغيرها كثير.

الألفاظ الحبشية والعبرانية

وأما ما نقلوه عن الحبشية فأكثره لا يدل على أصله؛ لتغير شكله؛ ولأن الحبشية والعربية أختان تتشابه الألفاظ فيهما، والمشهور عند علماء العربية من الألفاظ المقتبسة من الحبشية ثلاثة: كفلين والمشكاة والهرج، لكننا لا نشك في أنهم اقتبسوا كثيرًا غيرها وخصوصًا فيما يتعلق بالمصطلحات الدينية.

من ذلك قولهم: «المنبر» وهو عند العرب «مكان مرتفع في الجامع أو الكنيسة يقف فيه الخطيب أو الواعظ» وقد اشتقه صاحب القاموس من «نبر» أي ارتفع، وفي ذلك الاشتقاق تكلف، وعندنا أنه منقول عن «منبر» من الحبشية أي كرسي أو مجلس أو عرش.

ومن هذا القبيل لفظ «النفاق» وهو عند العرب «ستر الكفر في القلب وإظهار الإيمان» وقد اشتقوه من «نفق» راج أو رغب فيه، وليس بين المعنيين تناسب فاضطروا لتعليله إلى استعارة خروج اليربوع من نافقائه فقالوا: «ومنه اشتقاق المنافق في الدين» وهو تكلف نحن في غنى عنه إذا عرفنا أن «نفاق» في الحبشية معناها الهرتقة أو البدعة أو الضلال في الدين، وهي من التعبيرات النصرانية التي شاعت في الحبشة بدخول النصرانية فيها.

وكذلك لفظ «الحواري» اشتقه صاحب القاموس من «حار» بمعنى البياض وقال في معنى الحواري: «إنه سمي بذلك؛ لخلوص نية الحواريين ونقاء سريرتهم أو لأنهم كانوا يلبسون الثياب البيض»، والأظهر عندنا أن هذه اللفظة معرب حواري في الحبشية ومعناها فيها «الرسول» وهو المعنى المراد بها في العربية تمامًا».

وكذلك «برهان» اشتقها صاحب القاموس من «برهن» واشتقها غيره من «بره» بمعنى القطع وأن النون زائدة فيها، وهي في الحبشية «برهان» أي النور أو الإيضاح مشتقة من «بره» أي اتضح أو أنار.

وقس على ذلك كثيرًا من أمثاله كالمصحف، فإنه حبشي من «صحف» أي كتب والمصحف الكتاب … ناهيك بأسماء الحيوانات أو النباتات أو نحوها فإن «عنبسة» من أسماء الأسد عند العرب وهي الأسد بالحبشية.

وقد أخذوا عن العبرانية كثيرًا من الألفاظ الدينية كالحج والكاهن والعاشوراء وغيرها، وأكثرها نقل إلى الصيغ العربية؛ لتقارب اللفظ والمعنى في اللغتين؛ لأنهما شقيقتان، ويضيق هذا المقام عن إيراد الأمثلة.

الألفاظ السنسكريتية

ولا ريب في أن العرب اقتبسوا كثيرًا من الألفاظ السنسكريتية ممن كان يخالطهم من الهنود في أثناء الأسفار للتجارة أو الحج؛ لأن جزيرة العرب كانت واسطة الاتصال بين الشرق والغرب … فكل تجارات الهند المحمولة إلى مصر أو الشام أو المغرب كانت تمر ببلاد العرب، وكان للعرب في حملها أو ترويجها شأن، وقد عثرنا في السنسكريتية على ألفاظ تشبه ألفاظًا عربية تغلب أن تكون سنسكريتية الأصل؛ لخلو أخوات العربية من أمثالها كقولهم: «صبح» و«بهاء» فإنهما في السنسكريتية بهذا اللفظ تمامًا ويدلان على الإشراق أو الإضاءة، ولا يعقل أنهما مأخوذان عن العربية؛ لأن السنسكريتية دونت قبل العربية بزمان مديد، ونظن لفظ «سفينة» سنسكريتي الأصل أيضًا وكذلك «ضياء»، ولعلنا بزيادة درسنا اللغة السنسكريتية ينكشف لنا كثير من أمثال ذلك …

على أننا نرجح أن العرب أخذوا عن الهنود كثيرًا من المصطلحات التجارية وأسماء السفن وأدواتها وأسماء الحجارة الكريمة والعقاقير والأطياب مما يحمل من بلاد الهند، والعرب يعدونها عربية أو يلحقونها بالألفاظ الفارسية تساهلًا، كالمسك مثلًا؛ فقد رأيت صاحب المزهر يعده فارسيًّا، وهكذا يقول صاحب القاموس، وهو في الحقيقة سنسكريتي، ولفظه فيها «مشكاة»، وذكروا «الكافور» بين الألفاظ الفارسية وهو هندي على لغة أهل ملقا ولفظه عندهم «كابور»، وقد ذكروا أيضًا أن القرنفل فارسي، والغالب عندنا أنه سنسكريتي؛ لأن أصله من الهند، وقس عليه.

وفي كتابنا «تاريخ اللغة العربية» فصل ضاف في هذا الموضوع بينا فيه القاعدة في تعيين أصول الألفاظ الأعجمية، وأوردنا كثيرًا من الألفاظ المنقولة للعربية من اللغات الفارسية والهندية واليونانية واللاتينية والحبشية، وأئمة اللغة يعدونها عربية، وفصل آخر فيما لحق اللغة العربية من التغيير في ألفاظها بمقابلتها بأخواتها.١

(٣) كيف كانت اللغة العربية لما جاء الإسلام؟

ليس ما قدمناه وأشرنا إليه من تاريخ تكون اللغة العربية وترقيها إلا فذلكة مثلنا بها ذلك التاريخ، ولا يستطاع تفصيله وتعيين التقلبات التي مرت بها هذه اللغة قبل الإسلام؛ إذ ليس لدينا أمثلة مدونة يرجع إليها أو يقاس عليها، غير ما قدمناه مما وجدوه منقوشًا على قبر امرئ القيس وهو لا يشفي غليلًا، ولو أن أشعار أيوب كانت مدونة كما دونت إلياذة هوميروس مثلًا، لاستخرجنا من المقابلة بين لغتها ولغة الجاهلية الثانية تاريخ تقلب الألفاظ والتعابير … كما فعل اليونان في بيان الفروق بين لغة الإلياذة ولغات ما دون بعدها … وكما فعلنا في تدوين تاريخ اللغة العربية بعد الإسلام، وما تقلبت عليه من تبدل الألفاظ وتفرعها وتنوعها ودخول الألفاظ والتراكيب الأعجمية، وما أخذته من كل لغة حسب الأطوار التي مرت بها٢ وكما يفعل فلاسفة اللغة في رد اللغات الحية الأوربية إلى أصولها اللاتينية، والجرمانية واليونانية.

ومهما يكن من تاريخ اللغة العربية القديم؛ فقد عرفناها عند ظهور الإسلام ناضجة، وقد تفرعت إلى لغات باختلاف الأصقاع والقبائل، فدون المسلمون إحدى تلك اللغات مع أمثلة من سائر اللغات على ما سنبينه.

(٤) البلاد التي كان أهلها يتكلمون العربية قبل الإسلام

إذا نظرت إلى الخريطة اليوم، رأيت الناطقين بالعربية منتشرين في غربي البحر المتوسط وجنوبيه إلى الشام والعراق وما بين النهرين وفي جزيرة العرب وفي مصر وطرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش وعلى شواطئ البحر الأحمر وفي السودان وغيرها من أواسط إفريقيا وعلى شواطئ إفريقيا الشرقية وغيرها … غير الذين يتعلمون العربية للمعاملات الدينية، وهم المسلمون في أكثر أنحاء المعمورة في فارس وخراسان وأفغانستان وتركستان والهند والصين وجزائر الهند الشرقية وسائر البلاد التي دخلها الإسلام في القارات الخمس.

أما قبل الإسلام؛ فقد كانت اللغة العربية محصورة في جزيرة العرب وما يليها من مشارف الشام والعراق إلى تدمر وفي بادية الجزيرة «بين النهرين» وفي جزيرة سينا وقليل بعدها في صحراء مصر الشرقية.٣

ويعسر تقدير إحصاء العرب في ذلك العهد، كما يعسر تقديره اليوم؛ لاعتماد أولئك الأقوام على الرحلة والتنقل في البوادي … ولكننا نحسبهم لا يزيدون على بضعة ملايين، أكثرهم من أهل البادية متفرقون قبائلَ وعشائرَ وأفخاذًا وبطونًا في الحجاز ونجد واليمن وتهامة وحضرموت وعمان والأحساء والبحرين وفي بادية الشام والعراق، يندر فيهم المتحضرون سكان المدن؛ إذ لم يكن يومئذ من المدن العامرة في جزيرة العرب غير مكة والمدينة والطائف بالحجاز، وصنعاء في اليمن وبعض المزارات في أواسط الجزيرة وبعض الثغور على الشواطئ.

فالمعول في إحصاء العرب على أهل البادية، وكانوا ينقسمون حسب قبائلهم، وكانت تلك القبائل مع كونها رحالة تنحصر رحلتها غالبًا في بقعة من بقاع الجزيرة ما لم يطرأ عليها طارئ يبعثها على الانتقال إلى بقعة أخرى، كما أصاب قبائل عدنان في القرون الأولى قبيل الميلاد وبعده …؛ إذ كانت تقيم في تهامة ثم تفرقت فيها وفي الحجاز ونجد، وكانت القبائل القحطانية في اليمن، ثم انتشرت في سائر جزيرة العرب، ولكل انتقال سبب طبيعي أو سياسي أو غير ذلك مما يطول شرحه، وقد فصلناه في كتابنا «العرب قبل الإسلام».

فلما جاء الإسلام كانت قبائل العرب البادية أكثرها في نجد وتهامة والحجاز والأحساء ومشارف الشام والعراق ومعظمها من العدنانية، كما تجد ذلك مبينًا في الخريطة …

وبالقياس على ما نشاهده اليوم من تعدد لغات — أو لهجات — المتكلمين بالعربية في الشام والعراق ومصر والمغرب وما بينها من الاختلاف لفظًا وتركيبًا، مع أن الأصل واحد فيها جميعًا «لغة مضر» نعتقد أن لغات تلك القبائل كانت تختلف بعضها عن بعض ويزداد الفرق بينها بزيادة البعد وباختلاف ما يجاورها من غير العرب، فلغات أواسط جزيرة العرب وإن بعدت الشقة بينها كانت أكثر تقاربًا مما بينها وبين لغات أهل الشواطئ؛ لاختلاط هؤلاء بالأعاجم على شواطئ خليج العجم والبحر الأحمر من جالية الفرس والهند والأحباش وغيرهم، أو عند مشارف الشام؛ لاختلاطهم بأهل المدن من السريان أو الروم أو الأنباط في الشام والعراق، ولما نهض المسلمون في صدر الإسلام لجمع اللغة، لاحظوا هذه الاعتبارات؛ التماسًا لاختيار أحسن اللغات وأبعدها عن العجمة …

(٥) فروع اللغة العربية

وإذا أمعنت النظر في الخريطة، رأيت أكثر سكان أواسط جزيرة العرب من قبائل مضر … وأعظمها يومئذ تميم في شرقي نجد، وغطفان «عبس وذبيان»، وسليم وغيرهما في نجد، وأرقاها قريش في مكة، وكان من القبائل القحطانية هناك طيء في نجد ومذحج في أطراف الحجاز، وأكثر السكان في الشمال الشرقي من ربيعة، ومنهم بكر وتغلب في بادية العراق والجزيرة.

فلغات هذه القبائل كانت تختلف بعضها عن بعض باختلاف أصولها ومساكنها، وكان الاختلاف على معظمه بين لغات اليمن ولغات الحجاز ونجد أي بين جنوب الجزيرة وشمالها، وأحسن مثال للغات الجنوب ما خلفه الحميريون من الآثار بالحرف المسند، وأحسن مثال للغة الحجاز لغة القرآن وشعر الجاهلية، والفرق بين اللغتين كبير، والعرب يسمون لغة قدماء اليمنيين «المسند»، ولمن أقام حول اليمن من العرب لغات لعلها فروع من لغة اليمن، وكان لكل إقليم منها لسان يختلف عن ألسنة سائر الأقاليم وله اسم خاص يعرف به، وهي:
  • المسند: لغة في اليمن.
  • الزبور: لغة في حضرموت وبعض اليمن.
  • الرشق: لغة عدن والجند.
  • الحويل: لغة مهرة والشحر.
  • الزقزقة: لغة الأشعريين.

هذا هو تقسيم العرب للغات اليمن، ويرى العلماء اليوم أن بعضها غير عربي ولكن أكثرها ذهب ولا سبيل إلى تحقيق ذلك.

أما لغات أهل الحجاز ونجد وسائر الشمال وهم العدنانيون، فترجع إلى أصل واحد يسمونه «المبين» وهو الباقي إلى الآن ومنه لغة القرآن وقد تغلب على سائر الألسنة وانتشر مع المسلمين في الأرض.

اللسان المبين

فاللسان المبين كان يتكلمه عرب الشمال وهم قبائل كثيرة كما رأيت، وبينها فروق في معاني الألفاظ ونطقها وفي أساليب التركيب، ولكن الإسلام ذهب بها جميعًا إلا لغة قريش «لغة القرآن» وما اختاره علماء اللغة من ألفاظ القبائل الأخرى، ولم يبق من لغات هذه القبائل إلى الآن إلا أمثلة ذكرها علماء اللغة عرضًا من باب العيوب، وأكثرها في قبائل ربيعة … مثال ذلك أنهم كانوا يزيدون بعد ضمير المخاطب المفرد شينًا، فيقولون: عليكش وبكش؛ بدلًا من عليك وبك، وجاء في بعض الكتب أنهم يبدلون الكاف شينًا، فيقولون عليش بدل عليك … وهي في الحالين غير الشين التي يدخلها عامة المصريين على الاستفهام.

ومن بقايا لغات القبائل أن بني تميم كانوا يلفظون الهمزة إذا وقعت في أول الكلمة عينًا، فيقولون في «أسلم» «عسلم» ويسمونها العنعنة، وكان الهذليون وهم قبيلة من مضر يجعلون الحاء عينًا ويسمونها الفحفحة … ومنها العجعجة في قضاعة وهي أن يجعلوا الياء المشددة جيمًا فيقولون في تميمي: تميمج، والاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهي أن يقولوا: أنطى بدل أعطى، وعند بعض القبائل حروف لا توجد عند سواها كالحرف بين القاف والكاف في لغة تميم لعله كالكاف الفارسية، وذكر صاحب المزهر أمثلة كثيرة من هذه العيوب.٤
ومن اللغات الشاذة التي تفيدنا في الرجوع إلى أصل اللغة العربية، استعمال الذال للموصول بدل «الذي» فإن بعض العرب (قبيلة طي) يقولون: «فلان ذو سمعت به» أي الذي سمعت به، وهو تركيب آرامي أو بابلي من بقايا القرابة بين العرب والحمورابيين، ومن هذا القبيل كسر أول فعل المضارع كما يفعل سريان هذه الأيام، فإنه كان عامًّا في قبائل العرب إلا في قريش وأسد،٥ ولغات القبائل المشار إليها ظلت بعد الإسلام مدة، ثم أخذت تنقرض بالتدريج وحلت لغة قريش محلها … ليس في جزيرة العرب فقط بل في كل بلد دخله الإسلام …

على أن ما يعده أئمة اللغة عيوبًا في لغات هذه القبائل، إنما يصح تسميته بذلك بالنظر إلى اللغة التي اختاروها لا بالنظر إلى اللغة نفسها … فإن استعمال «ذو» للموصول لم يسموه عيبًا إلا لأنه يخالف المألوف في لغة قريش، ولو ألفوه لفضلوه على «الذي»، وعلى كل حال فإن علماء اللغة لما قاموا لجمع اللغة تخيروا من لغات تلك القبائل أحسن ما فيها بالنظر إلى أذواقهم ومألوفهم، وأكثر ما أخذوه من قيس وتميم وأسد، وسنعود إلى ذلك عند الكلام عن جمع اللغة وتدوينها.

هوامش

(١) راجع تاريخ اللغة العربية من صفحة ١٠–٢١ طبعة ثانية.
(٢) راجع تاريخ اللغة العربية من صفحة ٢٢–٦٣ طبعة ثانية.
(٣) راجع خريطة جزيرة العرب ص١٠٤ من تاريخ العرب قبل الإسلام.
(٤) المزهر: ١٠٩ ج١.
(٥) المزهر: ١٢٤ و٢٥٢ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤