العلوم اللسانية

ونريد بها العلوم التي ترجع إلى ضبط اللغة العربية كالنحو والصرف والأدب ونحوها، وهذه بدأت بالتكون في العصر الأموي، ولم يتكون منها في هذا العصر غير النحو ويلحقه الحركات والإعجام، وسنتكلم عن كل منها:

(١) النحو

النحو بمعناه الحقيقي طبيعي على لسان كل متكلم يتلقنه من مرضعه؛ لأن الإنسان يتعلم النحو وهو يتعلم النطق …؛ إذ بدونه لا يحسن التعبير عن أفكاره، أما إذا أراد أن يتعلم لسانًا غير لسانه، فدرس قواعد النحو فإنه يسهل عليه تناوله، ولذلك فالأمة قد تقضي قرونًا عدة وهي تتكلم وتخطب وتنظم الشعر قبل أن تدون قواعد النحو وتجعله علمًا … فاليونان لم يبدأوا بضبط قواعد لسانهم إلا في القرن الخامس قبل الميلاد، وأول من بدأ بذلك منهم بروتغوراس المتوفى سنة ٤١١ق.م، فتكلم في المذكر والمؤنث وبعض الأسماء، ثم بروديكوس وقد عاصره وتكلم في المترادفات، ثم جاء أرسطو وغيره وأتموا علم النحو اليوناني وله تاريخ يشبه تاريخ النحو العربي، وكذلك فعل الرومان في نحو اللغة اللاتينية، فإنهم لم يدونوا قواعده إلا في القرن الأول قبل الميلاد في زمن بومبيوس … وقد دونه عالِم اسمه ديونيسيوس تراكس اقتداء باليونان.

فاليونان نبغ فيهم الشعراء والخطباء والأدباء والفلاسفة قبل تدوين قواعد النحو في لسانهم … فنظم هوميروس إلياذته وأوديسته وهو لم يتعلم قواعد النحو، فلم يضره ذلك شيئًا؛ لأن اللغة كانت ملكة فيه، وألف إسخيلوس الروايات التمثيلية وسحر اليونان ببيانه، ونبغ الفلاسفة أمثال أناكسيمندر وطاليس، وكتب هيرودوتس الرحالة تاريخه المشهور قبل وضع النحو، وكذلك الرومان، فقد نبغ فيهم جماعة من الشعراء والخطباء والأدباء قبل تدوين النحو.

وضع النحو العربي وواضعه

وهكذا العرب، فقد نظموا الشعر وألقوا الخطب وتناشدوا وتراسلوا قبل تدوين النحو؛ لأن ملكة اللغة كانت طبيعية فيهم … على أنهم اضطروا إلى ضبط تلك القواعد وتدوينها بأسرع مما اضطر إليه اليونان والرومان؛ التماسًا للدقة في ضبط معاني القرآن … فلم يمضِ على دولتهم نصف قرن حتى شعروا بالحاجة إلى النحو … ويغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويبه على منوال السريان؛ لأن السريان دونوا نحوهم وألفوا فيه الكتب في أواسط القرن الخامس للميلاد، وأول من باشر ذلك منهم الأسقف يعقوب الرهاوي الملقب بمفسر الكتب المتوفى سنة ٤٦٠م،١ فالظاهر أن العرب لما خالطوا السريان في العراق اطلعوا على آدابهم وفي جملتها النحو، فأعجبهم … فلما اضطروا إلى تدوين نحوهم نسجوا على منواله لأن اللغتين شقيقتان، ويؤيد ذلك أن العرب بدأوا بوضع النحو وهم في العراق بين السريان والكلدان، وأقسام الكلام في العربية هي نفس أقسامه في السريانية.
أما استعجال العرب في تدوين النحو فإنه تابع لاستعجالهم في الفتح ونشر الدين، لأن الفتوح دعت إلى الاختلاط بالأعاجم، والاختلاط دعا إلى فساد اللغة … فأصبح الناس يهملون الإعراب، وكان العرب عند ظهور الإسلام يعربون كلامهم على نحو ما في القرآن، إلا من خالطهم من الموالي والمتعربين، فإن هؤلاء كانوا حتى في أيام الرسول يخطئون في الإعراب … وقد ذكروا رجلًا لحن بحضرة الرسول فقال: «أرشدوا أخاكم فقد ضل» وقال أبو بكر: «لأن أقرأ فأسقط أحب إلي من أن أقرأ فألحن»،٢ ولكن اللحن لم يكثر إلا بعد الفتوح وانتشار العرب في الآفاق، فتذمر العمال مما كانوا يسمعونه من اللحن وخصوصًا في قراءة القرآن، وأحسوا بحاجة شديدة إلى ضبط قواعد اللغة.
أما واضع علم النحو أو مدونه فهو بالإجماع أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة ٦٩ﻫ، وكان من سادات التابعين صحب علي بن أبي طالب وشهد معه واقعة صفين ثم أقام في البصرة، وكأنه تعلم لغة السريان أو اطلع على نحوها فرغب في النسج على منواله، فعرض ذلك على والي العراقين يومئذ زياد ابن أبيه فأبى٣ … حتى إذا جاءه رجل يشكو إليه أمرًا فسمعه يقول: «أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك بنون» فاستنكف زياد من سماع ذلك اللحن، فبعث إلى أبي الأسود أن يصنع ما كان قد نهاه عنه.
واختلف الرواة فيما بعث أبا الأسود على وضع النحو، لكنهم مجمعون على أنه واضعه كما قدمنا، وهو يقول: إنه تلقى ذلك عن علي بن أبي طالب، فوضع علم النحو أو الشروع فيه على الأقل ثابت لأبي الأسود، ويؤيد ذلك ما ذكره ابن النديم صاحب الفهرست مما شاهده بعينه في عرض كلامه عن خزانة كتب أطلعه عليها أحد جامعي الكتب … فكان في جملة ما فيها قمطر كبير فيه نحو ٣٠٠ رطل جلود فلحاف وصكاك وقرطاس مصري وورق صيني وورق تهامي وجلود أدم وورق خراساني، وبينها أربع أوراق، قال: «أحسبها من ورق الصين ترجمتها هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود — رحمة الله عليه — بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علان النحوي، وتحته: هذا خط النضر بن شميل، ثم لما مات هذا الرجل فقدنا القمطر».٤

على أن ما وضعه أبو الأسود من القواعد لم يكن ليسد الحاجة المستعجلة لضبط القراءة، فعمد إلى ضبطها بعلامات يتميز بها المنصوب من المرفوع أو الاسم من الفعل، فوضع علامات كانت عند السريان يدلون بها على الرفع والنصب والجر أو يميزون بها الفعل من الاسم كما سيجيء.

فالعرب كانوا يعرفون الإعراب قبل علم النحو كما كانوا يحسنون النظم قبل علم العروض، وكان ذلك ملكة طبيعية فيهم حتى اختلطوا بالأعاجم وأسلم هؤلاء وليس فيهم ملكة اللغة ليفهموا القرآن … فاضطروا إلى ضبطها وكانوا أكثر المسلمين اشتغالًا بذلك، بدأ بعلم النحو أبو الأسود وأتمه من جاء بعده من أهل البصرة والكوفة، ولم ينضج إلا في العصر العباسي وسيأتي الكلام عليه هناك.

(٢) الحركات

ونعني بها علامات الضم والفتح والكسر ونحوها، اضطروا إلى وضعها في أوائل الإسلام لضبط الإعراب في قراءة القرآن، وكان القرآن في أول الإسلام محفوظًا في صدور القراء، لا خوف من الاختلاف في قراءته؛ لكثرة عنايتهم في تناقله وضبط ألفاظه حتى دونوه وكثر أهل الإسلام … فمضى نصف القرن الأول للهجرة والناس يقرأون بلا حركات ولا إعجام، وأول ما افتقروا إليه الحركات، وأول من رسمها أبو الأسود الدؤلي المتقدم ذكره … فإنه وضع نقطًا تمتاز بها الكلمات أو تُعرف بها الحركات، ولذلك توهم بعضهم أنه وضع نقط الإعجام، والحقيقة أنه وضع نقطًا لتمييز الاسم من الفعل والحرف، وليس لتمييز الباء من التاء أو الجيم من الحاء، والأرجح أنه اقتبس ذلك من الكلدان أو السريان جيرانه في العراق، وكان عندهم نقط كبيرة توضع فوق الحرف أو تحته لتعيين لفظه أو تعيين الكلمة الواقع هو فيها: اسم هي، أم فعل، أم حرف … مثل قولهم: «كتب» فيمكن أن تكون اسمًا جمع كتاب أو فعلًا ماضيًا معلومًا أو مجهولًا، وكان عندهم أيضًا نقط هي حركات، وصفها يعقوب الرهاوي قبيل ذلك الزمن،٥ وهي عبارة عن نقط، كانت تُرسم في حشو الحروف ثم تحولت إلى نقط مزدوجة تنوب عن الحركات الثلاث، وما زالت عندهم إلى اليوم فالظاهر أن أبا الأسود اقتبس هذه الحركات، ويؤيد ذلك أنه لما أراد التنقيط أتوه بكاتب، فقال له أبو الأسود: «إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحروف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف»،٦ فكان العرب بعد ذلك يستعملون هذه النقط، والغالب أن يكتبوها بلون غير لون الخط، وقد شاهدنا في دار الكتب المصرية مصحفًا كوفيًّا منقطًا على هذه الكيفية وجدوه في جامع عمرو بجوار القاهرة، وهو من أقدم مصاحف العالم مكتوب على رقوق كبيرة بمداد أسود وفيه نقط حمراء اللون، فالنقطة فوق الحرف فتحة، وتحته كسرة، وبين يدي الحرف ضمة، كما وصفها أبو الأسود.

صور الحركات

أما صور الحركات التي وصلت إلينا … نعني الضمة والفتحة والكسرة فلا نعلم واضعها أو واضعيها ولا الزمن الذي وُضعت فيه، ولكن الغالب أنها وُضعت في القرون الأولى للإسلام كما وُضعت نقط الإعجام اقتداء بالسريان لأن هؤلاء وضعوا الحركات لحروفهم في القرن الثامن للميلاد نقطًا كما فعل العبرانيون. والحركات عند العبرانيين ١١ وعند السريان الشرقيين ٧ وعند السريان الغربيين ٥، أما في العربية فهي ثلاث فقط.

ظل الساميون يكتبون ألسنتهم بلا حركات من أقدم أزمنة التاريخ في أشور وبابل وفينيقية واليمن والحجاز، ولم يفطنوا لوضع الحركات إلا بعد الميلاد المسيحي، وأقدم وسيلة اتخذوها لدفع الالتباس في القراءة النقطة الكبيرة التي استخدمها السريان كما تقدم، والغالب أنها وُضعت نحو القرن الرابع للميلاد، ثم تقدموا خطوة أخرى فاتخذوا لكل خطوة علامة خاصة توضع فوق الحرف أو تحته، وهي عند العبران والسريان الشرقيين نقط تُوضع مفردة أو مزدوجة فوق الحرف أو تحته فتدل على الضم أو الفتح أو الكسر أو ما بينهما، كالإمالة والإشمام ونحوهما.

أما السريان الغربيون، فاقتبسوا الحركات من الأبجدية اليونانية، وأخذوا منها خمسة أحرف صوتية هي Y.E.H.O.A. عبروا بها عن الحركات، كل حرف يجانس الحركة التي يدل عليها في اليونانية، وقد تم ذلك في المائة الثامنة للميلاد …؛ إذ نهض السريان لتحرير ألفاظ الكتاب المقدس وسائر كتب الدين وضبطوا قراءتها، وكانت اليونانية شائعة بين رجال العلم منهم، فاقتبسوا حروفها الصوتية لهذه الغاية.
أما العرب فقد اهتموا بضبط لسانهم مثل السريان، فاقتدوا بهم أولًا بالنقط الكبيرة والصغيرة ثم وضعوا الحركات المستقلة كما وصلت إلينا … لكنهم لم يقتبسوها من أحرف الألسنة الأخرى كما فعل السريان، بل أخذوها من الأبجدية العربية فاستخدموا حروفها الصوتية؛ لتدل على الحركات، والحركات العربية لا تقل عددًا عن الحركات السريانية وربما زادت عليها، ولكن الأحرف الصوتية في العربية ثلاث فقط (الواو والألف والياء) فاستعاروها للدلالة على الضم والفتح والكسر وهي الحركات الرئيسية، وتركوا سائر الحركات المختلسة كالإشمام والروم والإمالة لفطنة القارئ، وإذا تأملت صورة الحركات المذكورة رأيت الضمة كالواو تمامًا والفتحة تشبه الألف مائلة، وأما الكسرة فإنها الآن بعيدة الشبه بالياء، فإما أنها كانت عند أول استخدامها أقرب إلى شكل الياء ثم تنوعت بالاستعمال، أو أنهم قلدوا بها حركة الكسر عند السريان الشرقيين، وهي نقطتان أسفل الحرف فرسمهما العرب معًا فجاءتا كالكسرة، أو لعلهم اقتبسوا الياء السريانية فإن صورتها كالكسرة العربية وهي ٓ وقد قال الإمام الرازي: «الحركات أبعاض المصوتات».

المدة والشدة والوصلة والهمزة

وفي الكتابة العربية علامات أخرى لضبط التلفظ بالمد أو الوصل أو الإدغام، وهي أحدث في استنباطها من الحركات التي تقدم ذكرها، ولكنها وُضعت قبل القرن الخامس للهجرة وأشهرها المدة ٓ والشدة ّ والوصلة ُ وكلها مقتطعة من ألفاظ تؤدي المعنى المراد من وضعها، فالمدة مقطوعة من «مد» والشدة من «شد» والوصلة من «صل» … وذلك أن الكاتب كان إذا أراد ضبط ما يكتبه كتب فوق الحرف الذي يريد مده قوله «مد» بصيغة الأمر، وفوق الحرف المدغم لفظ «سد» والشين بلا نقط، وفوق الألف المراد وصلها كلمة «صل»، وكانوا يرسمون هذه الألفاظ صغيرة كما يفعلون حتى اليوم في علامات ضبط قراءة القرآن، فيكتبون فوق الكلمة «قف» أو «ج» أو «ص» أو «ط» وكل منها مقتطعة من لفظ يراد به تعيين درجة الوقف أو الوصل.

وظلوا دهرًا يكتبون علامات المد والشد والوصل بصورها الأصلية ثم اختصروها، فكانوا يعبرون عن حركة المد أولًا بكتابة لفظ «مد» وعن التشديد بلفظ «شد» وعن الوصل بلفظ «صل» ثم اختصروا صورها بالاستعمال فصارت المدة «مد» والشدة «سد» والوصلة «صل» ثم اختُصرت في الكتابة إلى ما هي عليه الآن، وقد اطلعنا في معرض دار الكتب المصرية على كتاب مخطوط في أوائل القرن الخامس للهجرة، وفيه هذه العلامات قريبة جدًّا من ألفاظها الأصلية، وهذه صورتها في ذلك الكتاب «مد» للمدة و«سد» للشدة و«ﺻ» للوصلة.

أما همزة القطع فإنها بصورة العين مصغرة «ع»، ولعلهم يرمزون عنها بالعين لتقارب لفظيهما، وكثيرًا ما تتبادلان، أو أنهم رسموا العين مقطعة من لفظ «قطع»، كما بقيت الصاد من صل والشين من شد.

ومن العلامات الكتابية الشائعة علامة توضع في آخر الرسالة أو الكتاب، ويُراد بها الدلالة على نهاية القول وهي «،» أو نحوها، والغالب في اعتقادنا أنها بقية لفظ «صح» التي كانوا ولا يزالون يختمون رسائلهم بها.

(٣) الإعجام

كان الخط لما اقتبسه العرب من السريان والأنباط خاليًا من النقط، ولا تزال الخطوط السريانية بلا نقط إلى اليوم، فالإعجام حادث في العربية وهو قديم فيها، والظاهر أن المسلمين بعد أن استخدموا الحركات المذكورة رأوا التصحيف قد تكاثر، والتبست القراءة عليهم لتكاثر الأعاجم من القراء، والعربية ليست لغتهم … فصعب عليهم التمييز بين الأحرف المتشابهة في شكلها كالجيم والحاء والسين والشين والباء والتاء والثاء، فانتبه لذلك الحجاج أمير العراق في أيام عبد الملك بن مروان، قال ابن خلكان: «ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المختلفة علامات تميزها بعضها من بعض، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفرادًا وأزواجًا وخالف بين أماكنها، فعبر الناس بذلك زمانًا لا يكتبون إلا منقوطًا فكان مع استعمال النقط أيضًا يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام فكانوا يتبعون النقط بالإعجام»،٧ وفي عبارة ابن خلكان هذه التباس فلا يُفهم المراد بها ولا ما الفرق بين التنقيط والإعجام وهما واحد. ولا يعقل أن يكون المراد بالنقط الحركات لأنهم إنما عمدوا إليها لكثرة التصحيف؛ أي اختلاف القراءة باختلاف النقط، فالظاهر أن النقط المذكورة هي من قبيل الإعجام لتمييز الحروف المتشابهة، ولكن نصرًا هذا لم ينقط إلا بضعة حروف مما يكثر وروده ويخشى الالتباس فيه، ثم رأوا القراءة لا تُضبط إلا بتنقيط كل الحروف كما هي الآن، وهذا ما عبروا عنه بالإعجام.

وقد شاهدنا في معرض الخطوط في دار الكتب المصرية كتابة عربية على صحيفة من البردي «البابيروس» مؤرخة سنة ٩١ﻫ، وفيها إعجام لكنه قاصر على الصور المتشابهة للباء للتمييز بين الباء والياء والتاء وصورة حرف الشين؛ لتمييزه من السين بثلاث نقط موضوعة على استواء واحد، وشاهدنا أجزاء من مصاحف أخرى مكتوبة على رقوق صغيرة وعليها نقط حمراء للحركات ونقط سوداء للإعجام، وقد تجد خطوطًا قديمة منقطة ومحركة وخطوطًا حديثة بلا تنقيط ولا تحريك.

ولم تُعجم الحروف كلها في وقت واحد، ولكنهم تدرجوا في ذلك حسب الحاجة في أزمنة مختلفة، ويتضح ذلك لمن يتأمل في المخطوطات العربية القديمة، فإنك تجد الإعجام لم يبلغ ما هو عليه الآن إلا بتوالي الأجيال، وآخر حرف أُعجم الياء لتمييز الياء من الألف المقصورة، وأول من فعل ذلك المرسلون الأمريكيون في بيروت في أوائل القرن الماضي.

(٤) التاريخ والجغرافية (في زمن بني أمية)

لم يكن عند عرب الجاهلية من التاريخ إلا أخبار متفرقة ليست من التاريخ في شيء، فلما ظهر الإسلام واشتغل المسلمون بالفتح والحرب حتى استتب لهم الأمر ونزعوا إلى الجهاد … تدرجوا في وضع التاريخ مثل تدرجهم في سائر العلوم الإسلامية، وهو قسمان:
  • (١)

    تاريخ المسلمين وأعمالهم وتراجم رجالهم وهذه قد استخرجها العرب من أعمالهم.

  • (٢)

    تاريخ الأمم الأخرى … وهذه بدأوا بتعريفها ونقلها من زمن بني أمية لأن الدهاة من الخلفاء الأمويين كانوا من أرغب الناس في معرفة أخبار مشاهير الأمم الأخرى.

فمعاوية بن أبي سفيان كان يجلس لأصحاب الأخبار في كل ليلة بعد العشاء إلى ثلث الليل، فيقصون عليه من أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها في رعيتها وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكائدها، ثم ينام ثلث الليل ويقوم، فيأتيه غلمان مرتبون وعندهم كتب قد وكلوا بحفظها وقراءتها، فيقرأون عليه ما في تلك الكتب من سِيَر الملوك وأخبار الحروب ومكايدها وأنواع السياسة،٨ والغالب في اعتقادنا أن تلك الكتب كانت باللغتين اليونانية واللاتينية، وفيها أخبار أبطال اليونان والرومان كالإسكندر ويوليوس قيصر وهنيبال، وأن الغلمان كانوا يفسرونها له بالعربية.

وسماع أخبار العظماء يستنهض الهمم إلى الاقتداء بهم ولذلك كان أكثر القواد العظام الراغبين في العلا من العرب وغير العرب يستتلون أخبار من سبقهم من مشاهير القواد والساسة للعبرة.

أما تدوين التاريخ في اللغة العربية، فبدأ في زمن بني أمية مع رغبة المسلمين عن التدوين في ذلك العصر لأسباب بيناها في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي، ولكنهم اختصوا عدم التدوين بالفقه والتفسير، فلم يدونا إلا في القرن الثاني، وأما ما تقدم ذكره عن تفسير ابن عباس، فإنه مرويٌّ عنه سماعًا.

ويظهر أنهم بدأوا بتدوين التاريخ الأجنبي قبل تدوين حروبهم وفتوحهم؛ إذ لم يكن المراد بالتدوين خدمة التاريخ … إنما فعلوه لحاجة الخلفاء إلى الاطلاع على أحوال الأمم الأخرى، وأول من فعل ذلك عبيد بن شرية، ألَّف كتاب الملوك وأخبار الماضين لمعاوية بن أبي سفيان، ذكره صاحب الفهرست ولا وجود له الآن، وكان الأمويون يسمون أبحاث هذا العلم «علم أخبار الماضين»، وذكر ابن النديم كتبًا في موضوعات مختلفة ألَّفها أبو مخنف الأزدي من أصحاب علي، فيها تراجم المشاهير ونحوهم، وكتابًا ألفه عوانة بن الحكم الكلبي في التاريخ، وآخر في سيرة معاوية وبني أمية في القرن الثاني للهجرة، ولم يصل إلينا شيء من هذه الكتب ولا غيرها من كتب الأدب والتاريخ مما كُتب في زمن بني أمية.

ومن العلوم التاريخية التي وُلدت في العصر الأموي علم الأنساب، وقد علمت أن الأنساب من العلوم الجاهلية فاحتاج إليها المسلمون في صدر الإسلام لإثبات أنسابهم، وعليها يتوقف مقدار العطاء أو منزلة الشخص من الدولة أو المنصب فجعلوها علمًا، وأول من احتاج إلى ذلك زياد بن أبيه الداهية المشهور الذي استلحقه معاوية بنسبه؛ ليستعين به على أعدائه، فعمل في نسبه كنابًا دفعه إلى ابنه. ذكر ذلك ابن النديم أيضًا، ولم نقف عليه ولا على خبره، وذكر أيضًا من أقدم النسابين في الإسلام دغفل والحجر بن الحارث والبكري ولسان الحمرة ولم يذكر لهم كتبًا.

وبالإجمال إن التاريخ ولد في زمن بني أمية، ولم ينضج إلا في العصر العباسي، وعلى كل حال فإن العرب من أسبق الأمم إلى تدوين التاريخ بعد أن تمدنوا؛ لأن الرومان لم يؤلفوا فيه إلا بعد تأسيس دولتهم بسبعة قرون، وأول مؤرخيهم يوليوس قيصر٩ أي بعد استقرار الدولة، واليونان بدأ التاريخ عندهم بموضوعات خاصة، ولم يدونوا التاريخ العام إلا في زمن هيرودوتس أي بعد إنشاء دولتهم ببضعة قرون.

أما الجغرافية فلفظها يدل على أنها دخيلة، لكن العرب بدأوا بشيء منها قبل النقل كما سيجيء.

(٥) العلوم الدخيلة

نريد بالعلوم الدخلية التي نقلها المسلمون إلى اللغة العربية من الألسنة الأولى، ويدخل فيها علوم اليونان والفرس والهند والسريان وغيرهم، وهذه نُقلت في العصر العباسي كما هو مشهور، لكن العرب بدأوا بنقلها منذ أيام بني أمية وإن لم يبقَ من نقلهم شيء إلى الآن.

خالد بن يزيد

وأول من فعل ذلك خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة ٨٥ﻫ حفيد معاوية الأكبر ويسمونه الحكيم، وكان طامعًا في الخلافة بعد وفاة أخيه معاوية الثاني، فغلبه على ذلك مروان بن الحكم وانتقلت الخلافة من بيت أبي سفيان إلى بيت مروان، فلما يئس خالد من الخلافة وهو ذو مطامع وذكاء، انصرف ذهنه إلى اكتساب العلا بالعلم، وكانت صناعة الكيمياء رائجة يومئذ في مدرسة الإسكندرية، فاستقدم جماعة، منهم راهب رومي اسمه مريانوس طلب إليه أن يعلِّمه صناعة الكيمياء … فلما تعلمها أمر بنقلها إلى العربية فنقلها له رجل اسمه أسطفان القديم،١٠ وهذا أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.

وكان خالد راغبًا في علم النجوم أيضًا، وأنفق الأموال في طلبه واستحضار آلاته، ولعلهم ترجموا له شيئًا منه لم يصلنا خبره.

ولم يصلنا شيء من منقولات خالد المذكورة، ولكنه كان شديد الولع بالعلوم الطبيعية وخصوصًا الكيمياء والفلك، وقد ذكر ابن القفطي في ترجمة ابن السنبدي أنه شاهد في خزائن الكتب بالقاهرة كرة نحاس، كُتب عليها «حملت هذه الكرة من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية».١١

واشتغل بنقل العلم في هذا العصر بعض أهل الشام، نقلوا بعض كتب الطب، وممن وصلنا خبرهم من النقَلَة طبيب كان معاصرًا لمروان بن الحكم اسمه ماسرجويه، سرياني الجنس يهودي المذهب كان يُقيم في البصرة، وظهر في أيامه كتاب في الطب هو كناش (حاوي) من أفضل الكنانيش، ألَّفه القس أهرون بن أعين في اللغة السريانية فنقله ماسرجويه إلى العربية، فلما تولى عمر بن عبد العزيز وجد هذا الكتاب في خزائن الكتب في الشام … فحرضه بعضهم على إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فاستخار الله في ذلك أربعين يومًا ثم أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم، ويدلك ذلك على التردد الذي استولى على الخليفة في إخراج هذا الكتاب، مع أنه من كتب الطب لا الفلسفة.

وذكر ابن النديم أن سالمًا كاتب هشام بن عبد الملك نقل رسائل أرسطو إلى الإسكندرية، وعلى كل حال لم يبقَ شيء من منقولات هذا العصر.

هوامش

(١) شعراء السريان للقرداحي ١٨.
(٢) المزهر ١٩٩ ج٢.
(٣) ابن خلكان ٢٤٠ ج١.
(٤) الفهرست: ٤٠.
(٥) اللمعة الشهية ٢٠.
(٦) الفهرست ٤٠.
(٧) ابن خلكان ١٢٥ ج١.
(٨) المسعودي ٥٢ ج٢.
(٩) Lit. Ane. 359, 232.
(١٠) الفهرست ٢٤٢ و٢٤٤.
(١١) أخبار الحكماء لابن القفطي ٤٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤