الخاتمة

أما وقد فرغنا من الكلام في الشعر والشعراء في العصر الأموي؛ فقد رأينا أن نختم الكتاب ببضعة فصول تتعلق بالشعر والشعراء؛ إتمامًا للفائدة.

(١) كيف كان الشعراء يستحثون قرائحهم؟

مهما بلغ المرء من سمو المدارك وصفاء الذهن وسرعة البديهة فإنه لا يستغني أحيانًا عن شحذ قريحته وذهنه أو استحثاث خاطره وخصوصًا في الشعر؛ إذ كثيرًا ما تمر على الشعراء فترات لا يجدون فيها قدرة على النظم، قال الفرزدق: «قد تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من نظم بيت من الشعر»، ويرى آخرون أن الشعر مثل عين الماء إن تركتها اندفنت وإن استهتنتها هتنت، يريدون أنه لا بد للشاعر من استحثاث قريحته من وقت إلى آخر.

وللشعراء طرق شتى في استحثاث قرائحهم تختلف باختلاف أمزجتهم وعاداتهم وطبائعهم. سُئل ذو الرمة: «كيف تفعل إذا انقفل دونك الشعر؟» فقال: «كيف ينقفل دوني وعندي مفاتيحه!» قيل له: «وعنها سألناك ما هي؟» قال: «الخلوة بذكر الأحباب» فهذا لأنه عاشق، وسُئل كُثير عزة: «كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟» قال: «أطوف في الرباع المحيلة والرياض المعشبة فيسهل علي أرصنه ويسرع إلي أحسنه».

وكان الأخطل يستحث قريحته بشرب الخمر، وكذلك كان يفعل كثيرون ممن كانوا يشربونها، وكانت طائفة من الشعراء تستحث شياطينها، كما فعل الفرزدق، وقد أُفحم عند سماع قصيدة حسان التي يقول فيها:

لنا الجفنات الغرُّ يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وقد أمهله قائلها ثلاثة أيام حتى يجيب عليها، وكانت ساعة جمود على قريحته … فاضطر إلى استحثاثها، قال: «أتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم أو لم أقل شعرًا قط، حتى نادى المنادي بالفجر فرحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت ريانا — وهو جبل بالمدينة — ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أخاكم أبا لبنى — يعني شيطانه — فجاش صدري كما يجيش المرجل … ثم عقلت ناقتي وتوسدت ذراعها، فما قمت حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتًا» على أنه كان إذا خانته قريحته وصعب عليه الشعر ركب ناقته وطاف خاليًا منفردًا وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية فيعطيه الكلام قياده …

وكان الأبيرد الرياحي إذا خانته القريحة أخذ عصاه وانحدر في الوادي، وجعل يقبل فيه ويدبر ويهمهم بالشعر فتأتيه المعاني، وكان جرير يستحث قريحته بشرب النبيذ ويتمرغ بالرمل أو على الفراش ويهمهم ويحبو على الفراش عريانًا حتى يخاله الناظر إليه أصيب بجنة، وسُئل نصيب مرة: «أتطلب القريض أحيانًا فيعسر عليك؟» فقال: «إي والله ربما فعلت فآمر براحلتي فيشد بها رحلي، ثم أسير في الشعاب الخالية وأقف في الرباع المقوية فيطربني ذلك ويفتح لي الشعر».

ويقال نحو ذلك في أحوال الشعر في سائر العصور، وكان أبو تمام إذا أعيته القريحة غطس في صهريج ماء عنده يمكث فيه ساعة.

على أن لاستحثاث القريحة قواعد عامة يجري عليها الكثيرون منها الجلوس بجانب الماء الجاري أو الإشراف من الأماكن العالية والنزوح إلى الأماكن الخالية أو التجول في الرياض، وبعضهم يستنهض قواه العاقلة أو قريحته بالاستلقاء على الظهر، وهم مجمعون في الأكثر على مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم.

(٢) شياطين الشعراء

كان العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطانًا يوحي إليه المعاني، حتى لقد يتوهم الشاعر منهم أنه رأى شيطانه وخاطبه، وأوحى إليه، وألهم في ذلك أخبار طويلة ذكر بعضها في جمهرة أشعار العرب (صفحة ١٨) وذلك مبني على اعتقادهم بوجود الجن على طوائف، وينسبون إليها أشعارًا وأقوالًا لا فائدة من ذكرها.

ومن غريب اعتقادهم في شياطين الشعراء أن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره،١ وزاد ادعاؤهم ذلك حتى سموا شيطان كل شاعر باسم خاص به فكان شيطان الأعشى يسمى «مسحل».٢

وفي كتب الأدب أخبار كثيرة تدل على ما يعتقدونه من الجن وشياطين الشعر، من ذلك أن رسولًا من عند بشر بن مروان جاء جريرًا فدفع إليه كتابًا وقال له: «إنه قد أمرني أن أوصله إليك ولا أبرح حتى تجيب عن الشعر في يومك إن لقيتك نهارًا أو ليلتك إن لقيتك ليلًا»، وأخرج إليه كتاب بشر وقد نسخ له القصيدة وأمره أن يجيب عنها، فأخذها ومكث ليلته يجتهد أن يقول شيئًا فلا يمكنه (قالوا): فهتف به صاحبه من الجن من زاوية البيت، فقال له: «أزعمت أنك تقول الشعر ما هو إلا أن غبت عنك ليلة حتى لم تحسن أن تقول شيئًا فهلا قلت:

يا بشرُ حقَّ لوجهك التبشيرُ
هلا قضبتَ لنا وأنت أميرُ»

فقال له جرير: «حسبك، كفيتك» وما زال حتى أتم القصيدة.

وذكروا عن كثير عزة أنه قال: «ما قلت الشعر حتى قولته» قيل له: «وكيف ذلك؟» قال: «بينما أنا يومًا نصف النهار أسير على بعير لي بالغميم أو بقاع حمدان إذا راكب قد دنا مني حتى صار إلى جنبي فتأملته فإذا هو من صفر وهو يجر نفسه في الأرض جرًّا، فقال لي: «قل الشعر» وألقاه علي، قلت: «من أنت؟» قال: «أنا قرينك من الجن» فقلت الشعر …»

(٣) الشعراء والقراءة

وكانت القراءة في صدر الإسلام خاصة بطبقة من الناس أهمهم حفظة القرآن ومن توخى المدنية فسكن المدن وغلبت عليه الحضارة، أما أهل البادية فيظهر أنهم ظلوا يعولون على الذاكرة، وخصوصًا الشعراء، فقد كانت طائفة من فحولهم لا يقرأون وخصوصًا في الجاهلية، فأكثرهم كانوا أميين، أما في الإسلام بعد انتشار القراءة والكتابة فظل كثيرون من الشعراء لا يقرأون وخصوصًا أهل البادية، فلعلهم كانوا يعولون على الرواية، أو على الحفظ، ومن شعراء العصر الأموي الذين كانوا لا يقرأون الفرزدقُ، وقد وقفنا حينًا عندما تبين لنا أنه لا يقرأ لعلمنا بمنزلته من الشاعرية وتقدمه بين رجال الدولة، وقد تبين لنا ذلك عرضًا في سياق واقعة جرت له مع مروان بن الحكم … وذلك أنه قال شعرًا أساء مروان بن الحكم وهو والي المدينة، فدعاه إليه وتوعده وأجله ثلاثًا وقال: «اخرج عني» فأنشد الفرزدق:

دعانا ثم أجَّلَنَا ثلاثًا
كما وُعِدَت لمهلكها ثمود

قال مروان: قولوا له عني أني أجبته، فقلت:

قل للفرزدق والسفاهة كاسمها
إن كنتَ تارك ما أمرتك فاجلس
ودع المدينة إنها محظورة
والْحَقْ بمكة أو ببيت المقدس

فعزم على الشخوص إلى مكة فكتب له مروان إلى بعض عماله ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار، فارتاب (الفرزدق) في كتاب مروان فجاء به إليه وقال:

مروانُ إن مطيتي معقولةٌ
ترجو الحِباء وربَّها لم ييأس
آتيتني بصحيفةٍ مختومةٍ
يُخْشى عليَّ بها حِباء النقْرس
الق الصحيفة يا فرزدق لا تكن
نكدًا كمثل صحيفة المتلمس
ورمى بها إلى مروان فضحك، وقال: «ويحك إنك أميٌّ لا تقرأ فاذهب بها إلى من يقرأها، ثم ردها حتى أختمها» فذهب بها فلما قرئت إذا بها جائزة فردها إلى مروان فختمها، وأمر له الحسين بن علي بمائتي دينار.٣

فتبين لنا من ذلك أنه لا يقرأ، فإذا صح ذلك عن الفرزدق فكيف بسواه، ويقال: إن ذا الرمة أيضًا كان لا يقرأ.

(٤) الخطابة والخطباء في العصر الأموي

ظلت الخطابة محتفظة بمكانتها في العصر الأموي؛ لحاجة القوم إلى استنهاض الهمم في جمع الأحزاب أو تفريقها والتحريض على النهوض للحرب ونحوها، فكان أكثر القواد خطباء وفيهم جماعة من أبلغ رجال الخطابة … فالحجاج بن يوسف كان خطيبًا بليغًا زادته الخطابة عظمة وسطوة، وكان العراق متمردًا على عبد الملك، فلما أعجزه أمره ولى الحجاج عليه فدخل الحجاج الكوفة وصعد المنبر متلثمًا متنكبًا قوسه واضعًا إبهامه على فمه، واحتقره الناس وكادوا يرمونه بالحصى فوقف وأزاح لثامه عن وجهه وألقى خطبته التي قال في مطلعها:
أنا ابنُ جلا وطلَّاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
إلى أن قال:

أما والله إني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله. أما والله إني لأرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وكأني أرى الدماء بين العمائم واللحى:

هذا أوان الشدِّ فاشتدي زيَمْ
قد لَفَّها الليل بسوَّاقٍ حُطَمْ

ألا وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نثر كنانته فعجم عيدانها، فوجدني أصلبهًا عودًا فوجهني إليكم، فإنكم أهل بغي وشقاق، وخلاف ونفاق، طالما سعيتم في الضلالة وسننتم سنن البغي، أما والله لألحونكم لحو العصا ولأعصبنكم عصب السلمة ولأقرعنكم قرع المروة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، والله ما أخلق إلا فريت ولا أعد إلا وفيت … إلخ.

فما فرغ من خطبته حتى هابوه وأذعنوا له، وكان شديدًا عليهم وأمره مشهور، ومع ذلك فقد كان إذا رقى المنبر وذكر إحسانه إلى أهل العراق وصفحه عنهم وإساءتهم إليه، يخيل للسامع أنه صادق وأن أهل العراق ظلموه،٤ ولذلك كان الأمراء والخلفاء يخافون الخطباء كما يخافون الشعراء؛ لما في أقوالهم من التأثير في تلك النفوس الحساسة.
وكان أكثر الخلفاء يخطبون لكنهم يتفاوتون في البلاغة وقوة العارضة، على أن تلك القوة أخذت تضعف فيهم بعد الفراغ من الفتوح والانغماس في أسباب الترف والسكون إلى الرخاء والبذخ، وتحولت من الحماسة إلى المواعظ ثم إلى الشكاية، وتداعى فن الخطابة بتداعي دولة العرب في الشرق، فلما قامت دولتهم في الأندلس بعثوه وقربوا الخطباء كما قربوا الشعراء، لكنهم قلما كانوا يستخدمونهم لإنهاض الهمم أو إخماد الفتن؛ لذهاب الحاجة إلى ذلك بذهاب البداوة والفراغ من الفتح، على أنهم كانوا إذا احتفلوا بتنصيب خليفة أو بالنصر على عدو أو باستقبال قادم كبير، تقدمت الخطباء للترحيب به وإعظام شأنه ووصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة.٥

وأما الأمراء والقواد فكانوا يخطبون في الجند قبل الإغارة على العدو، فيحرضونهم على الثبات، وكثيرًا ما كانت الخطبة سببًا للنصر كخطبة خالد بن الوليد في موقعة اليرموك، وخطبة المغيرة في موقعة القادسية، وخطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس، ونحو ذلك مما لا تسعه المجلدات.

ناهيك بشيوع الخطابة في القبائل على اختلاف أصقاعها كما كانت في الجاهلية، وكانت ترد الوفود إلى المدينة أو دمشق أو بغداد أو غيرها من عواصم المسلمين لتهنئة الخليفة أو استنفاره أو استنجاده أو استجدائه، وكان شباب الكتَّاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم لشيوع حب الخطابة فيهم،٦ ولاقتباس أساليب البلاغة منهم.

(٥) الإنشاء في العصر الأموي

كان الإنشاء في عصر الراشدين جامعًا مانعًا، وفيه بلاغة وإيجاز كما تقدم، وقد علمت أن الدولة الأموية عززت اللغة العربية وآدابها فكانت بلاغة القول في جملة ذلك، وكان الخلفاء والأمراء ينشطون أهل الأدب، وأكثر إنشائهم في المراسلات بين الخليفة وعماله يقلدون بها مكاتبات عصر الراشدين، وقد ذكرنا أمثلة من ذلك في مكانها.

على أن اقتراب الدولة الأموية من الحضارة أثر في الإنشاء ونوعه وأطاله، ونشأت طائفة من الكتَّاب (أي كتَّاب الرسائل) في الدولة فأصبحت الكتابة مهنة. وبعد أن كان الكاتب في زمن الراشدين يتولى ضبط حساب الديوان وكتابة المراسلات، أصبحت الكتابة في الدولة الأموية خمسة أصناف لكل منها كاتب خاص … ومنهم كاتب الرسائل المقصود من كلامنا هنا، وقد يسمى كاتب السر وهو يد الخليفة وكاتبه ومستودع أسراره. فكان الخلفاء يتخيرون لهذا المنصب أبلغ المنشئين. وكان للبلاغة تأثير في سياستهم كما كان للشعر لأن القوم يومئذ لا يزالون في عهد الفروسية والأريحية، تقيمهم البلاغة وتقعدهم.

ومن أشهر كتابهم سالم كاتب هشام بن عبد الملك، وقد نقل شيئًا من رسائل أرسطو إلى الإسكندر. وله رسائل في مائة ورقة (فهرست ١١٧)، وكان للأمراء كتَّاب ينشئون لهم الرسائل لم يصلنا من أخبارهم إلا القليل، وكان الإنشاء في أثناء ذلك يتنوع ويرتقي حسب الأحوال وعملًا بناموس الارتقاء، فلم تنقضِ الدولة الأموية حتى صار للإنشاء فيها صفة معينة وطريقة مخصوصة وضعها أو أتمها عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد، وصار له أسلوب خاص نسب إليه وقلده الكتَّاب فيه.

(٥-١) عبد الحميد الكاتب

هو عبد الحميد بن يحيى … مولى من أهل الشام، أي أهل البلاد الأصليين الذين دخلوا في الإسلام، فهو ليس عربيًّا. وكان المثل يُضرب ببلاغة إنشائه في الرسائل، فيقال: فُتحت الرسائل بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد. وكان في أول أمره معلم صبية يتنقل في البلدان، ثم ارتقى حتى صار كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين ومات معه سنة ١٣٢ﻫ، ويمتاز عبد الحميد بأنه أول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب، فاستعمل الناس ذلك بعده وقلدوه فيه، وله رسائل بليغة ذكر ابن النديم أنها تجتمع في ألف ورقة لم يصل إلينا منها إلا القليل.

وفي دار الكتب رسالة خطية تُنسب لعبد الحميد المذكور.

(٦) الخلاصة

والخلاصة أن الأمويين نشطوا الآداب الجاهلية ولا سيما الشعر والخطابة، فارتقت في أيامهم وراجت سوق الأدب بالبصرة والكوفة، وكثر الشعراء ونظموا في كل باب ولم يصلنا كل ما نظموه.

وفي هذا العصر بدأ تكوُّن الفقه والتفسير والنحو وضبط الخط وبدأوا بالإعجام والحركات، وفيه رسخت اللغة العربية في المملكة الإسلامية بنقل الدواوين إليها، وفيه بدأوا بنقل العلوم الطبيعية.

وأهم ما بين أيدينا من المؤلفات الشرعية أو اللسانية أو الأدبية أو في التاريخ والجغرافيا أو في أي علم من العلوم إنما هو من ثمار العصر العباسي الآتي ذكره. أما التفسير الذي ينسبونه إلى عبد الله بن عباس؛ فقد تقدمت الإشارة إليه …

حتى الشعر الأموي فإنه لم يصلنا إلا على أيدي الرواة من أهل العصر العباسي …

هوامش

(١) جمهرة أشعار العرب ٢٤.
(٢) رسائل أبي العلاء ١٠٧.
(٣) الأغاني ٤٣ ج١٩.
(٤) البيان ٢٠ ج١.
(٥) نفح الطيب ١٧٥.
(٦) العقد الفريد ٢٦٧ ج٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤