الشعر في العصر الجاهلي

(١) ما هو الشعر؟

الشعر من الفنون الجميلة التي يسميها العرب الآداب الرفيعة، وهي الحفر والرسم والموسيقى والشعر، ومرجعها إلى تصوير جمال الطبيعة، فالحفر يصورها بارزة، والرسم يصورها مسطحة بالأشكال والخطوط والألوان، والشعر يصورها بالخيال ويعبر عن إعجابنا بها وارتياحنا إليها بالألفاظ … فهو لغة النفس أو هو صور ظاهرة لحقائق غير ظاهرة، والموسيقى كالشعر … هو يعبر عن جمال الطبيعة بالألفاظ والمعاني، وهي تعبر عنه بالأنغام والألحان، وكلاهما في الأصل شيء واحد …

هذا هو تعريف الشعر في حقيقته، ولكن علماء العروض من العرب يريدون بالشعر الكلام المقفى الموزون فيحصرون حدوده بالألفاظ، وهو تعريف للنظم لا للشعر … وبينهما فرق كبير؛ إذ قد يكون الرجل شاعرًا ولا يحسن النظم، وقد يكون ناظمًا وليس في نظمه شعر … وإن كان الوزن والقافية يزيدان الشعر طلاوة ووقعًا في النفس، فالنظم هو القالب الذي يسبك فيه الشعر، ويجوز سبكه في النثر.

وقد تقدم ابن خلدون خطوة أخرى في تعريف الشعر، فقال: «الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به»، فهو يجعل التقفية والوزن من شروط الشعر، ويشترط أيضًا استقلال كل بيت منها بغرضه، وهو تقييد لا باعث له؛ إذ قد ترى في الكلام المنثور معاني تؤثر في نفسك تأثير الشعر، وذلك كثير في كلامهم، والحكم فيه للذوق، ومن أصعب الأمور أن نعرف الشعر ونجعل له حدودًا جامعة مانعة، كما نعرف الصرف أو النحو أو الفلك أو غيرها من العلوم والآداب، ولكنك إذا قرأت قولًا فيه خيال شعري، تعرفت الشاعرية فيه وشعرت بلذة ذلك التعرف وطربت له، وقد يكون ذلك النثر قولًا وإنما أطربك ما فيه من أساليب الكتابة أو الاستعارة … فإذا سبكته في قالب شعري زاد رونقًا وطلاوة، فإذا غنيته على توقيع الألحان زدت طربًا به، فالوزن يزيد الشعر طلاوة من قبيل التوقيع الموسيقي في الألفاظ والحركات لا من قبيل المعنى.

فإذا قرأنا لبعضهم نثرًا يصف به ذهوله في الحب، فيقول: «إذا جئت دار الحبيب ليلًا لحاجة لي التمسها، فلا أدخل الدار حتى أنسى ما جئت له» فهذا معنى شعري ترتاح إليه النفس، لكن ارتياحها يكون أكثر إذا نظم ذلك المعنى شعرًا كقول المجنون:

فيا ليلَ كم من حاجة لي مهمة
إذا جئتكم بالليل لم أدرِ ما هيا

ويكون وقعه في النفس أشد إذا غني على لحن مطرب.

وعلى ذلك فيدخل في الشعر كثير من أقوال العرب التي نعدها من قبيل الأمثال أو الحكم المأثورة المبنية على الكناية كقولهم: المرء بأصغريه لا ببرديه، وعاد الأمر إلى نصابه، وصاحت عصافير بطنه، ونحو ذلك.

فالشعر بالمعنى لا بالوزن والقافية … وقد رأينا بعض متقدمي العرب يرون هذا الرأي في تعريف الشعر؛ فقد قال بعضهم: «الشعر كلام وأجوده أشعره»١ ولم يقيده بالوزن ولا القافية، وقال آخر: «الشعر شيء تجيش به صدورنا، فتقذفه على ألسنتنا».٢

(٢) أنواع الشعر

العرب يقسمون الشعر إلى الفخر والحماسة والمدح والرثاء والعتاب والغزل والتشبيب وغيرها من الأغراض، وهذه كلها في نظر الشاعر غير العربي نوع من أنواع الشعر يسمونه الشعر الغنائي أو الموسيقي؛ لأن مرجعه إلى التأثير على النفس تأثير الموسيقى.

ويقسم الشعر عند الإفرنج إلى ثلاثة أنواع:
  • (١)
    الشعر القصصي Epique.
  • (٢)
    الشعر الغنائي Lyrique.
  • (٣)
    الشعر التمثيلي Dramatique.

(٢-١) الشعر القصصي

فالشعر القصصي أقدمها، وهو عبارة عن سرد الوقائع أو الحوادث في الشعر (موزونًا أو غير موزون) على سبيل القصة، وأكثرها دينية، وأبطالها الآلهة ومعظم حوادثها عنهم وبهم، وإذا تدبرت الشعر عند سائر الأمم وجدته أقدم آدابها، وأقدمه الديني المتعلق بالآلهة وأعمالهم كما في إلياذة هوميروس عند اليونان ومهابهارتة الهند، ومن هذا القبيل بعض الأشعار العبرانية كسفر داود ونشيد الأناشيد فإنها شعر ديني لكنها ليست من النوع القصصي بل من الموسيقي …؛ لأن الشعر القصصي نادر في أشعار الساميين على الإجمال إلا السريان، فإن القديس أفرام نظم شيئًا منه ولعله اقتبسه من اليونان.٣

أما العرب فيخالفون العبرانيين من حيث الشعر الديني؛ لأنه لم يكن عندهم في الجاهلية كما كان عند العبرانيين، ولا يعقل أنهم خالفوا إخوانهم فيه، ولا بد من أنهم نظموا الأشعار … خاطبوا بها هبل واللات والعزى وغيرها، واستعطفوها وصلوا لها وتخشعوا أمامها، ولكن منظوماتهم في هذا الموضوع ضاعت في ثنايا الأجيال؛ لعدم تدوينها ولاشتغالهم عنها بالحماسة والفخر بسبب الحروب التي قامت بينهم قبيل الإسلام، فلما جاء الإسلام انصرف الرواة عن حفظها؛ لأنها وثنية والإسلام يمحو ما كان قبله، فاكتفوا بتدوين أشعار الحماسة والفخر، ولكن بقي من الأشعار الدينية أمثلة قليلة جاء ذكرها عرضًا في تراجم بعض الشعراء كأمية بن أبي الصلت وغيره.

(٢-٢) الشعر الغنائي

قضى اليونان بضعة قرون وليس عندهم غير الشعر القصصي، وفيه أخبار آلهتهم وحروبها وعلاقاتها بالبشر، ثم قالوا الشعر الغنائي وقد نضج عندهم نحو القرن السابع قبل الميلاد على أثر الحوادث السياسية والحروب التي قامت بين الأحزاب اليونانية وتغلب فيها الشعب على الأشراف كما تقدم، فهاج الظفر قرائحهم وأعقب ذلك التنازع بين الإسبارطيين والمسينيين وبين يونان آسيا الصغرى وجيرانهم فذاقوا لذة التغلب، فجاش في صدور الشعراء إحساس لم يتعودوه من قبل، كما أصاب العرب الحجازيين على أثر خروجهم من سلطة الحميريين، ثم بما قام بينهم من النزاع والحروب في القرون الأولى قبل الإسلام، فإنها أنطقتهم وحركت نفوسهم كما سيجيء.

فأصبح اليونان في القرن السابع قبل الميلاد أهل دولة وتمدن ورخاء فصاروا في حاجة إلى شعراء يحضونهم على الثبات في الحرب أو يمدحون بسالتهم ويطرون أعمالهم ويصفون حضارتهم … فظهر الشعر الغنائي أو الموسيقي وفيه المدح والهجاء والحماسة والفخر والرثاء، ووضعوا الأوزان الجديدة له، وطبيعي أن الظفر يبعث على المدح، والموت يولد الرثاء، والحب يستدعي النسيب والغزل، فصار ملوك اليونان وكبراؤهم يقربون الشعراء الغنائيين؛ لسماع المدح كما فعل العرب في إبان دولتهم، فكثر الشعراء الغنائيون عندهم وأستاذهم بندار، وشاع الشعر الغنائي فيهم، فاشتغلوا به عن الشعر القصصي … كأنهم اشتغلوا بإثارة العواطف والحث على الفضائل عن تقرير الحقائق وسرد الحوادث.

(٢-٣) الشعر التمثيلي

ثم رأوا الكلام وحده لا يكفي لتحريك العواطف وتمثيل الفضائل، فعمدوا إلى تمثيلها للعيان بحوادث اخترعوها يؤدي سردها أو تمثيلها إلى مغزى ما يريدون، فبدلًا من أن يمدح شاعرهم الشجاعة مثلًا ويحببها إلى الأبطال ببلاغة البيان الشعري، عمدوا إلى نظم قصة تظهر فضل هذه المنقبة يمثلونها على مشهد من الناس؛ لتكون أوقع في النفس وأثبت في الذهن، وسموا هذا النوع من الشعر «الشعر التمثيلي Drame».
ويراد بالشعر التمثيلي في أصل وضعه تمثيل الوقائع التي ترمي إلى الموعظة أو الحكمة سواء مثلت على المسرح أو لم تمثل،٤ وفي الشعر القصصي شيء منه؛ لأن إلياذة هوميروس لا تخلو من مشاهد تمثيلية، ولكن الشعراء بدءوا في نظمهم أولًا بالشعر الخيالي التصويري المحض؛ إذ هاج شاعريتهم التخشع للآلهة، وكانوا يغنون لهم ويرقصون في غنائهم على توقيع الألحان، فتصوروا الوزن من حركات الرقص، وذلك أصل النظم عندهم، وكان أول منظوماتهم أقاصيص الآلهة وأعمالهم، ثم تدرجوا إلى وصف الواقع … فبدءوا بالعواطف يعبرون عنها بالشعر الغنائي، ثم عمدوا إلى تمثيل الفضائل والرذائل على المسارح للاستفادة منها وهو الشعر التمثيلي.

هل عند العرب شعر تمثيلي؟

قد رأيت أن الشعر التمثيلي هو الوجهة العملية من الشعر التي يراد بها تمثيل الفضائل أو الرذائل للعين، والعرب مثل سائر الساميين أكثر ميلًا إلى الخيال والتصور، فلم يلتفتوا إلى التمثيل أو على الأقل لم نعثر بين ما وصلنا من آدابهم قبل الإسلام على شيء من الشعر التمثيلي على سبيل المحاورة أو التمثيل، كما هو الحال عند اليونان أو من أخذ عنهم … فهل كان عندهم وفقد؟

إذا أمعنا النظر فيما خلفه العرب من أخبارهم وآدابهم وجدناه لا يخلو من التمثيل بأعم معانيه وإن لم يكن شعرًا مجردًا بل هو مزيج من الشعر والنثر، وقد وصل إلينا في قالب القصص والحقائق التاريخية، لكن أكثرها في نظرنا موضوع أو كان له أصل فوسعوه وطولوه ونمقوه؛ ليكون عبرة أو قدوة في الموقف المطلوب، وأكثر تلك القصص ترمي إلى تمثيل الفضائل البدوية التي يقدسها العرب، كالوفاء والضيافة والشجاعة والجوار والعفة والفروسية ونحوها تمثيلًا يحببها إلى الناس ويرغبهم فيها، وجعلوا أبطالها رجالًا من مشاهيرهم في تلك المناقب.

فقصة حاتم الطائي التي ذبح فيها فرسه لضيفه وأبناؤه جياع أقرب إلى أن تكون موضوعة أو مبالغًا فيها؛ للتحريض على السخاء، وقصة السموأل التي قتل فيها ابنه ولم يسلم الأمانة المودعة عنده موضوعة أو موسع فيها؛ لتمثيل الوفاء، وأخبار العذريين في العفة أكثرها موضوع؛ لترغيب الناس في العفة، وقد أجمع الرواة تقريبًا على أن أخبار مجنون ليلى موضوعة أو يراد بها تمثيل العفة مع الثبات على الحب … وهي تشبه من هذا القبيل رواية روميو وجولييت لشكسبير، وقس على ذلك أكثر ما يروونه من هذا النوع، مثل حكاية حنظلة والنعمان بن المنذر، وهم يروونها عن عبيد بن الأبرص أيضًا، كأن المراد المغزى وهو الترغيب في الوفاء، ونسبة هذه الحوادث إلى أشخاص معروفين في التاريخ لا يطعن في أن المراد بها التمثيل، وهذه قصة عنترة فإن صاحبها شاعر شجاع معروف فوسعوا قصته وأضافوا إليها ما يرغب في الشجاعة والفروسية.

أما السريانيون فالتمثيل غير أصلي في آدابهم، وإنما اتخذوه في جملة آدابهم الدينية من اليونان، وكانت منظوماتهم في أول أمرها بغير قافية، ثم قفوها بعد الإسلام … فلعلهم اقتبسوا ذلك من العرب.

والخلاصة أن الشعر العربي أكثره من الشعر الغنائي، وهو أرقى في العربية منه في سائر اللغات، وليس في الدنيا امة تضاهي العرب في كثرة الشعر والشعراء.

أقدم منظومات العالم

المشهور أن إلياذة هوميروس أقدم ديوان شعري؛ لأنه نظم نحو القرن التاسع قبل الميلاد وهو ١٤٠٠٠ بيت، ولكن هناك كتابين نظما نحو ذلك الزمن أو قبله: أحدهما الفيدا كتاب البراهمة وهو من قبيل الشعر الموسيقي، ويقال: إنه نظم نحو القرن الثاني عشر ق.م، وزبور داود نظم نحو القرن العاشر، ولعله عاصر صاحب الإلياذة، وللمصريين القدماء منظومات ترتقي إلى عهد رمسيس الثاني نحو القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ولكن سفر أيوب أقدم من ذلك ببضعة قرون، فإذا صح أنه عربي الأصل كان أقدم الآثار الشعرية الباقية إلى الآن عربي الأصل.

(٣) كيف بدأ العرب ينظمون الشعر؟

(٣-١) الشعر والغناء

يظهر أن الشعر والغناء من أصل واحد عند جميع الأمم، والشعر وضع أولًا للتغني به وإنشاده للآلهة أو الملوك، ولذلك فاليونان والرومان يقولون: «غنى شعرًا» لا «نظم شعرًا» أو «وضع شعرًا» والعرب يقولون: «أنشد شعرًا» أو أنشد الشعر الفلاني أي غناه، وقضى اليونان أجيالًا لا يقولون الشعر إلا إنشادًا، ولعل العرب كانوا كذلك في أقدم أحوالهم، فنبغ منهم جماعة يغنون شعرهم كما فعل الأعشى قبيل الإسلام؛ فقد كان ينظم الشعر ويغنيه، ولذلك سموه صناجة العرب، وما زال ذلك شأنهم بعد الإسلام، فإن الشاعر إذا جاء الخليفة أو الأمير بقصيدة أنشدها في حضرته وهو قائم، فإذا لم يكن صوته رخيمًا أو مسموعًا اقتنى غلامًا رخيم الصوت ينشد أشعاره، وللإنشاد لحن مطرب، وكان الرشيد يطرب للإنشاد أكثر مما يطرب للغناء، واشتهر بعد الإسلام جماعة من الشعراء المغنين كالدرامي، وسلامة وإسحق الموصلي وغيرهم.

والغالب أنهم بدأوا أولًا بالسجع بلا وزن نحو ما وصل إلينا من سجع الكهان، وربما كان الكهان يغنونه توقيعًا على القافية، ومن أمثلة سجعهم قولهم في الأنواء: «إذا طلع السرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان وتهادت الجيران. إذا طلع النجم — يعني الثريا — فالحر في حدم والشعب في حطم. إذا طلع الدبران توقدت الحزان وكرهت النيران ويبست الغدران ورمت بأنفسها حيث شاءت الصبيان. إذا طلعت الهقعة تقوض الناس للقلعة ورجعوا عن النجعة وأردفتها الهنعة، إذا طلعت الجوزاء توقدت المعزاء وكنست الظباء وعرقت العلباء وطاب الخباء، إذا طلعت الذراع حسرت الشمس القناع واشتعلت في الأفق الشعاع وترقرق السراب بكل قاع …» وهي طويلة.

هذا هو السجع بقافية بلا وزن، وكان العرب يتساجعون أي يتذاكرون بالسجع، ولعلهم وضعوا السجع أولًا لتقييد علومهم أو ما يريدون حفظه كما في المثل المتقدم ذكره.

أما النظم أي القياس بالمقاطع وهو الوزن، فأبسطه الرجز وهو أقدم أوزان الشعر … كل بيت منه ينفرد بقافية خاصة، وهو كالسجع لكنه موزون، والرجز قديم عندهم، يزعم العرب أن أول من قاله مضر بن نزار؛ إذ سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول «وا يداه وا يداه» وكان من أحسن خلق الله صوتا فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالًا لقوله «هايدا هايدا» يحدون بها الإبل، وقال آخرون: إن الأصل في وضع الشعر الغناء، قالوا «وكان الكلام كله منثورًا، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأمجاد وسمحائها الأجواد؛ لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين للكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرًا؛ لأنهم شعروا به أي فطنوا له».

(٣-٢) أصل وزن الشعر

والغالب في اعتقادنا أن الوزن مأخوذ في الأصل من توقيع سير الجمال في الصحراء، وتقطيعه يوافق وقع خطاها، ويؤيد ذلك أن الرجز أول ما استعمله العرب لسوق الجمال وهو الحداء في اصطلاحهم، وكأنه وضع لهذا الغرض؛ لأن العربي يقضي أكثر أوقاته في معاشرة جمله أو ناقته … وعندهم ضربان من الرجز: المشطور، والمنهوك، والمشطور هذا وزنه:

دع المطايا تنسم الجنوبا
إن لها لنبأ عجيبا
حنينها وما اشتكت لغوبا
يشهد أن قد فارقت حبيبا
ما حملت إلا فتى كئيبا
يسر مما أعلنت نصيبا
لو ترك الشوق لنا قلوبا
إذا لآثرنا بهن النيبا٥
إن الغريب يسعد الغريبا

وهو يشبه بتوقيعه على مقاطعه مشي الجمال الهوينا، ولو ركبت ناقة ومشت بك الهوينا، لرأيت مشيتها يشبه وزن هذا الشعر تمامًا، فكان العرب يحدونها به إذا أرادوا سيرها وئيدًا، وربما كان شاعرهم عاشقًا فيتذكر حبيبته وهو يسوق ناقته، فيحدوها بأبيات على وزن الرجز … كذلك فعل جميل بثينة وكان في سفر إلى الحج مع مروان بن الحكم … فطلب إليه مروان أن يسوق الجمال أي يحدوها فقال:

يا بثن حيِّي أو عدينا أو صِلي
وهوني الأمر فزوري واعجلي
بثين أيا ما أردت فافعلي
إني لآتي ما أبأت مقتلي٦

فلم يقبل مروان أن يتغزل بالحدو وإنما يطلب الخلفاء والأمراء إذا ركبوا الإبل أن يحدوها الحادي برجز في مدحهم، خرج عبد الملك يومًا رائحًا على نجيب ومعه حاد يحدوه بقوله:

يا أيها البكر٧ الذي أراكا
عليك سهل الأرض في ممشاكا
ويحك هل تعلم من علاكا
إن ابن مروان علا ذراكا
خليفة الله الذي امتطاكا
لم يَعْلُ بكرا مثل ما علاكا

أما إذا أراد الحادي أن تسرع الجمال في السير، حدا لها بالرجز المنهوك وهذا وزنه:

أعطيته ما سألا
حكَّمته لو عدلا
قلبي به في شغل
لا ملَّ ذاك الشغلا
قيده الحب كما
قيد راع جملا٨

واعتبر ذلك في بحر الخبب من الشعر، فإنه يوافق في توقيعه خبب الفرس أي ركضه وهذا وزنه:

أبكيت على طلل طربا
فشجاك وأخزنك الطلل

أوزان الشعر

ثم وضعوا الأوزان والبحور حسب الاقتضاء كل منها لحال من الأحوال … بعضها يوافق الشعر الحماسي والبعض الآخر يوافق الرثاء أو الغزل … فالبحر الطويل يوافق نظم الشعر الحماسي ويوافق الوافر الفخر، والرمل الحزن والفرح، ويلائم السريع العواطف وقس على ذلك:٩

فالرجز أقدم أبحر الشعر، وكان الشاعر يقول منه البيتين والثلاثة ونحو ذلك إذا حارب أو فاخر، ثم صاروا يطيلون النظم فيه، ويقال: إن أول من أطاله الأغلب العجلي على عهد النبي ثم رؤبة بن العجاج، وتفننوا في بحر الرجز فتعددت أوزانه، واخترعوا أبحرًا غيرها، وصاروا ينظمون الأراجيز الطوال ويريدون بها ما زادت أبياتها على عشرة.

أما غير الرجز من أبحر الشعر، فكانوا أولًا ينظمون منه المقاطيع القصيرة عند الحاجة … حتى إذا تحركت نفوس العرب بالحروب بعد استقلالها من اليمن كما سيجيء، وظهر فيها الأبطال والفرسان، احتاجوا إلى الشعر فأطالوا فيه، فظهرت القصائد، وأول من أطالها المهلهل أخو كليب، وأول قصيدة قالها في قتل أخيه المذكور … فهو لم يفعل ذلك إلا بعد أن حركه طلب الثأر، وهو أول شاعر بلغت قصائده ثلاثين بيتًا من الشعر واقتدى به سواه، ثم كان للنظم تاريخ بعد الإسلام.

الألحان

ولما وضعوا الأوزان صار للغناء عندهم ألحان معينة فجعلوا لكل غناء أو لحن وزنًا مخصوصًا فصار عندهم للرثاء وزن وللحماسة آخر، فالنصب غناء الركبان والفتيان ويقال له: الجنابي، اشتقه رجل من كلب يقال له: جناب، وهو يخرج من أصل الطويل في العروض، والسناد هو الغناء ذو الترجيع الكثير النغمات، والهزج هو الغناء الخفيف الذي يرقصون عليه فيطرب، ويستخف الحليم١٠ وظلوا بعد الإسلام يختصون كل لحن بوزن.١١

(٤) شاعرية العرب

ما قدمنا كان بداية النظم عند العرب على ما نظن … وكان ذلك طبعًا في زمن بعيد لا يدرك أوله التاريخ، ومهما يكن من سبب النظم فإن العرب أقوى الأمم شاعرية وأقدرهم على النظم في الشعر الغنائي بلا خوف … يدلك على ذلك عدد شعرائهم وضروب شعرهم في قرن واحد وبعض القرن قبيل الهجرة، ولذلك أسباب طبيعية؛ أهمها:
  • أولًا: أن العربي بفطرته ذو نفس حساسة وشعور راقٍ وأريحية وأنفة، سريع الطرب، سريع الغضب، فيه بديهة وارتجال، ومن كان هذا شأنه لا يلبث حين يجيش صدره بمعنى أن يلفظه لسانه … ولذلك كان أكثر شعرهم غنائيًّا أو موسيقيًّا، يعبرون به عن إحساسهم ويصورون به شعورهم وهو يصدر عن أحد أربعة فواعل: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغلب …
  • ثانيًا: أن لغتهم شعرية؛ لما فيها من أساليب الكناية والاستعارة ودقة التعبير وكثرة المترادفات مما يسهل وجود القافية … فالعربي من أنطق الأمم ولغته أوسع اللغات ولفظها أدل من سائر الألفاظ وفيها الأمثال والحكم … وللغة شأن كبير في تسهيل النظم حتى على أبناء البلد الواحد والنسب الواحد … فالعرب مع اشتراكهم في الطبائع والحس ودقة الشعور والشاعرية، يلاحظ أن الذين كانوا منهم يتكلمون غير لسان مضر (المبين) لم ينظموا الشعر — فإن هذا اللسان ويقال له لسان معد كان شائعًا في معظم الجزيرة العربية إلا اليمن ومهرة وعمان، وقد انتشرت الشاعرية بين المتكلمين بهذا اللسان في الحجاز ونجد وإن لم يكونوا عربًا، حتى اليهود والعبيد من الزنج والنوبة، واعتبر ذلك بعد الإسلام بانتشار اللغة العربية في الأقطار؛ فقد نبغ فيها شعراء أصلهم من الروم والفرس والترك والبربر وغيرهم، وذلك من تأثير اللسان.
  • ثالثًا: صفاء جوهم وتفرغهم للتأمل في الطبيعة، فإن أهل الجو الصافي تكون أذهانهم صافية، وخصوصًا إذا كانوا أهل خيال وتصور مثل العرب … فيزيدهم الصفاء شاعرية، ولا سيما إذا كانوا متفرغين للنظر في الوجود ومراقبة أحوال الطبيعة كما كان العرب في بداوتهم، غير ما بعثهم على قول الشعر من المنافسات والحروب في أيامهم وغيرها كما سنفصله فيما يلي.

هوامش

(١) الأغاني ١٢٤ ج١٨، ٦٠ ج٢١.
(٢) البيان والتبيين ١٧٢ ج٢.
(٣) Lit Syr. 20.
(٤) Ence, Brit. XIX. 263, Lit Anc. 56.
(٥) النيب: النوق.
(٦) أبأ: استحل.
(٧) البكر: الفتي من الإبل.
(٨) العقد الفريد ١٦١ ج٣.
(٩) الإلياذة العربية ٩٠.
(١٠) العمدة ٢٤١ ج٢.
(١١) الأغاني ١٠٥ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤