التاريخ والمؤرخون

قد رأيت في كلامنا عن التاريخ في العصر الماضي أن الحاجة دعت يومئذ إلى وضع السيرة النبوية والأنساب وأخبار الفتوح والطبقات، وذكرنا أشهر من ألف فيها، ويمتاز هذا العصر بكتابة التاريخ العام الشامل لأخبار القدماء والمحدثين مما لم يتعرض له أهل العصر الماضي، وإنما عمد أهل هذا العصر إلى التأليف فيه بعد أن اطلعوا على ما نقل من نوعه إلى العربية من كتب الفرس،١ وبعد اتساع معارف القوم على أثر ترجمة كتب العلم القديمة عن أهم الأمم، وقد تقررت أحكام الشرع فلم تبقَ حاجة إلى الخوض في الفتوح وأسبابها، فاقتصروا على تلخيص أخبارها وتبويبها وتحقيقها وضبطها، وضعفت العصبية العربية لتسلط الأتراك وغيرهم واستقرت الأنساب، فلم تبق حاجة إلى الخوض في النسب وعلومه، وشاعت عصبية الوطن بعد ذهاب عصبية النسب على أثر المنافسات بين البصرة والكوفة وبغداد والشام، فاتجهت الأفكار إلى تأليف الكتب الخاصة في أحوال المدن وأحوال الأمم.

وهناك ضرب من التاريخ تخلَّف عن علم الأدب أو تفرَّع عنه، نعني أخبار العرب وأيامهم وأشعارهم وسائر أحوالهم، فهذه كانت داخلة في علم الأدب لعلاقتها باللغة والشعر، فلما اتسعت معارف الناس وتولدت العلوم اللسانية بالتفرع عن الأدب كما تقدم كان من جملة فروعه ما تخلف عن الأخبار التي كانوا يأتون بها لإثبات معنى كلمة أو تعبير أو شعر أو نحو ذلك، وتوسعوا فيه فصار تاريخًا لكنه مقصور على أخبار العرب وبلادهم. وكُتَّاب هذا التاريخ يجوز إدخالهم في جملة علماء الأدب كالأصمعي وأبي عبيدة، وإنما جعلناهم في جملة المؤرِّخين لبيان عمل ناموس الارتقاء في التفرع والتنوع.

فالمؤرخون في هذا العصر ينقسمون إلى أربعة أقسام:
  • (١)

    مؤرخو الفتوح،

  • (٢)

    أخبار العرب وأحوالهم وشعرائهم والأنساب والطبقات وغيرها،

  • (٣)

    تاريخ البلدان والأمم؛ أي تاريخ كل بلد أو أمة على حدة — أو التاريخ الخاص،

  • (٤)

    التاريخ العام.

وإليك أشهر من ألَّف في كل قسم من هذه الأقسام على هذا الترتيب حسب سنة الوفاة:

(١) أولًا: مؤرخو الفتوح

في هذا العصر ختم تاريخ الفتح الإسلامي لذهاب الحاجة إليه بالفراغ من الفتوح إلا ما كتبوه في فتح بعض المدن أو الممالك بعد فتح بيت المقدس أو نحوه أو نقل ما مضى، وهاك أشهر مؤرخي الفتوح:

(١-١) ابن عبد الحكم (توفي سنة ٢٥٧ﻫ)

هو آخر من دوَّن الفتوح الإسلامية الخاصة في صدر الإسلام، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم من أهل مصر. كان أبوه المتوفى سنة ٢١٤ فقيهًا من أصحاب مالك، وأفضت إليه رئاسة المالكية، وكان غنيًّا وجيهًا، وفي أيامه أتى الإمام الشافعي إلى مصر فدفع إليه ألف دينار، وأخذ له من ابن عسامة التاجر ألف دينار، ومن رجلين آخرين ألف دينار. وكان لعبد الله هذا ولدان: محمد صحب الإمام الشافعي، والآخر عبد الرحمن الذي نحن في صدده، وله مؤلف واحد كبير اسمه «فتوح مصر والمغرب والأندلس» منه نسخة خطية في مكتبة باريس، وقد نشرت منه قطعة عن فتح أفريقية طبعت في غوتنجن سنة ١٩٥٦، وقطعة أخرى عن فتح الأندلس طبعت في لندن سنة ١٨٥٨ مع ترجمة إنكليزية، وهو تحت الطبع كله الآن بإدارة لجنة تذكار جيب الإنكليزية في لندن، وأخباره في ابن خلكان ٢٤٨ ج١.

(١-٢) البلاذري (توفي سنة ٢٧٩ﻫ)

اسمه أبو جعفر أحمد بني يحيى بن جابر البلاذري، وهو خاتمة مؤرخي الفتح. ولد في أواخر القرن الثاني للهجرة، ونشأ في بغداد، وتقرب من المتوكل والمستعين والمعتز، وعهد إليه هذا بتثقيف ابنه عبد الله الشاعر المشهور، وكان شاعرًا وكاتبًا ومترجمًا ينقل من الفارسية إلى العربية، ومن شعره بيتان مدح بهما المستعين هما:

ولو أن برد المصطفى إذ حويته
يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته فلبسته
نعم هذه أعطافه ومناكبه
وذكر صاحب الفهرست أنه وسوس في آخر أيامه فأخذ إلى البيمارستان؛ لأنه شرب تمر البلاذر على غير معرفة، ومنه اسمه. ومات على الأغلب سنة ٢٧٩ أول أيام المعتضد، وله مؤلفات أهمها:
  • (١)

    فتوح البلدان: هو أشهر كتبه، ويظهر أنه مختصر من كتاب أطول منه كان قد أخذ في تأليفه وسماه «كتاب البلدان الكبير» لم يتمَّه فاكتفى بهذا المختصر، وهو يدخل في ٥٠ صفحة ذكر فيها أخبار الفتوح الإسلامية من أيام النبي إلى آخرها بلدًا بلدًا لم يفرط في شيء منها مع التحقيق اللازم واعتدال الخطة، وضمنه — فضلًا عن الفتوح — أبحاثًا عمرانية أو سياسية يندر العثور عليها في كتب التاريخ كأحكام الخراج أو العطاء وأمر الخاتم والنقود والخط ونحو ذلك. وقد طبع الكتاب في ليدن سنة ١٨٧٠ بعناية المستشرق ذي غويه، ونشرته في مصر شركة طبع الكتب العربية سنة ١٩٠١، وهو أجمع كتب الفتوح وأصحُّها.

  • (٢)

    أنساب الأشراف: ويسمى أيضًا الأخبار والأنساب، وهو مطول في ٢٠ مجلدًا لم يتم. وكان ضائعًا فعثر المستشرق الألماني أهلوارت في مكتبة شيفر المستشرق على الجزء الحادي عشر من كتاب في التاريخ ليس عليه اسم، فرجح أنه من أجزاء كتاب البلاذري الذي نحن في صدده، فطبعه في غريزوالد سنة ١٨٨٣ على الحجر بخطه في ٤٥٠ صفحة. وفيه كثير من أخبار بني أمية في زمن عبد الملك والوليد، ويدخل في ذلك تفاصيل وقائع مصعب بن الزبير وأخيه عبد الله وأخبار الخوارج.

وترجمة البلاذري في الفهرست ١١٣، وفي صدر طبعة فتوح البلدان.

(٢) ثانيًا: مؤرخو جزيرة العرب

يدخل في هذا الباب من انصرف من الرواة والأدباء إلى التاريخ فكتب فيه، والغالب في هؤلاء أن يكون ما يكتبونه مقصورًا على أخبار العرب وأيامهم وقبائلهم وسائر أحوالهم، ويدخل في ذلك أيضًا أنساب العرب؛ لأن الأنساب بعد ذهاب دولة العرب وتغير وجه العطاء على القبائل لم يبقَ لها شأن سياسي حيوي، وبعد أن كان ثبوت نسب الرجل في قبيلة يدرُّ عليه المال أصبح مقصورًا على التفاخر بالأجداد، فصارت الكتابة فيه من قبيل العلم، ولم ينقطع له كاتب كما حدث في أوائل الدولة، فأصبح من جملة أخبار العرب. ويدخل في هذا الباب أيضًا أخبار القبائل وحروبها وأيامها وتراجم المشاهير من الشعراء والنحاة، أو ما يتألف من ذلك كالطبقات ونحوها، وهاك أشهرهم:

(٢-١) محمد بن حبيب (توفي سنة ٢٤٥ﻫ)

هو أبو جعفر محمد بن حبيب بن أمية مولى بني العباس. كان من علماء بغداد بالأنساب والأخبار واللغة والشعر والقبائل. روى عن ابن الأعرابي وقطرب وأبي عبيدة، وكان مؤدِّبًا، وقد ألَّف كتبًا كثيرة ذكر منها ابن النديم ٣٣ كتابًا في الأمثال والقبائل والأنساب والتاريخ واللغة، وهاك ما بلغنا خبره منها:
  • (١)

    كتاب القبائل والأيام الكبير: هو أهم كتبه، ألفه للفتح بن خاقان، وقد رآه ابن النديم صاحب الفهرست، وقال في وصفه: «رأيت النسخة بعينها عند أبي القاسم بن أبي الخطاب بن الفرات في طلحي نيف وعشرين جزءًا، وكانت تدل على أنها نحو من أربعين جزءًا في كل جزء ٢٠٠ ورقة وأكثر، ولهذه النسخة فهرست لما تحتوي عليه من القبائل والأيام بخط التستري بن علي الوراق في طلحي نحو ١٥ ورقة.» لكن هذا الكتاب فقد، وإنما ذكرناه لأهميته لعل أحدًا يعرف وجود شيء منه في بعض المكاتب.

  • (٢)

    مختلف القبائل ومؤتلفها: أو المؤتلف والمختلف في النسب. الغرض منه بيان أسماء القبائل المتشابهة لفظًا المختلفة نسبًا، وضبط لفظها جيدًا، وهو جزيل الفائدة مع صغره، طبعه وروستنفيلد في غوتنجن سنة ١٨٥٠.

  • (٣)

    كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء: لم يذكره صاحب الفهرست بهذا الاسم، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية رواية عثمان بن جني.

  • (٤)

    كتاب المخبر: وهو يشتمل على خلاصات تاريخية عن النبي والصحابة والخلفاء. منه نسخة خطية في المتحف البريطاني.

  • (٥)

    كتاب المغتالين: منه نسخة خطية في جملة كتب زكي باشا، ويسمى أيضًا كتاب من قتل غيلة. وترجمة محمد بن حبيب في الفهرست ١٠٦.

(٢-٢) الزبير بن بكار (توفي سنة ٢٥٦ﻫ)

هو أبو عبد الله الزبير بن بكار، ويتَّصل نسبه بعبد الله بن الزبير بن العوام. كان من أعيان العلماء في المدينة، ولد سنة ١٧٢ﻫ، وتولى القضاء في مكة، ودخل بغداد مرارًا آخرها سنة ٢٥٣ﻫ، وتوفي في مكة وهو قاضٍ عليها سنة ٢٥٦ﻫ، وكان شاعرًا أديبًا جليل القدر، بعث المتوكل في طلبه لتأديب ولده، وأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت وعشرة أبغل يحمل عليها رحله إلى سُرَّ مَنْ رأى.

ذكر له صاحب الفهرست ٣٣ مؤلفًا في النسب والوفود والنوادر وأخبار الشعراء ونحو ذلك — وإليك ما وصل إلينا منها:
  • (١)

    كتاب نسب قريش وأخبارهم: منه نسخة خطية في مكتبة أكسفورد (بودليان) وفي كوبرلي بالآستانة.

  • (٢)

    الموفقيات: هي قطع تاريخية ألفها لتلميذه الموفق بن المتوكل في ١٩ جزءًا لم تصلنا منها إلا أربعة أجزاء من ١٦–١٩، طبعها ووستنفيلد في غوتنجن سنة ١٨٧٨.

وترجمة ابن بكار في ابن خلكان ١٨٩ ج١، والفهرست ١١٠.

(٢-٣) عمر بن شبة (توفي سنة ٢٦٢ﻫ)

هو أبو زيد عمر بن شبة ويقال له: ابن ربطة النميري؛ لأنه كان مولى لبني نمير. ولد سنة ١٧٣ﻫ، ونشأ في البصرة شاعرًا إخباريًّا راوية صادق اللهجة، وتوفي في سر من رأى سنة ٢٦٢ﻫ. وقد ألف كتبًا كثيرة ذكر منها صاحب الفهرست ٢٢ كتابًا في وصف البصرة والكوفة ومكة وأمرائها وغير ذلك، ضاعت كلها إلا كتابًا وقفنا عليه في المكتبة الخديوية خطأً اسمه «الجمهرة» ينسب إليه ولم يذكر في مؤلفاته بهذا الاسم، وهو يشتمل على أخبار العرب العرباء وشيء من أيامهم وأشعارهم وحروبهم قبل الإسلام مع الفرس والروم واليمن، وأكثر روايته عن ابن نافع وابن إسحاق، وهو من قبيل القصص التاريخية، وسنفرد فصلًا خاصًّا بهذا الموضوع فيما يلي من هذا الكتاب.

وترجمة ابن شبة في ابن خلكان ٢٧٨ ج١، والفهرست ١١٢.

ويدخل في هذا النوع من التاريخ كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة، وسائر تراجم الشعراء لابن السكري، وكتاب المعمرين للسجستاني، وقد ذكرت في أماكنها.

(٣) ثالثًا: التواريخ الخاصة

ونريد بها تواريخ البلدان والأمم والقبائل والطوائف كل منها على حدة، كتاريخ دمشق وتاريخ بغداد أو قريش أو القبط أو الروم أو نحو ذلك، والتأليف فيها قديم عند العرب حتى قبل الإسلام، فقد ذكر المسعودي أن عدي بن زيد العبادي ألَّف في تاريخ الروم واقتبس المسعودي منه، وقد ألَّف بعضهم في أيام بني أمية وألف غيرهم في هذا العصر، لكن أكثر ما ألفوه ضاع، كتاريخ مرو لابن سيار، وتاريخ البصرة والكوفة لابن شبة، وتاريخ واسط لأسلم بن سهل، وتاريخ أصفهان ليحيى بن منده وغيرها.

وهاك أشهر من وصل إلينا من شيء من تواريخهم الخاصة إلى آخر هذا العصر:

(٣-١) الأزرقي

اسمه أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي: له كتاب أخبار أيام مكة، عني بطبعه ووستنفيلد في ليبسك سنة ١٨٥٨ في جملة مجموعة مؤلفة من أربعة أجزاء سماها أخبار مكة، استغرق طبعها ٣ سنوات (١٨٥٨–١٨٦١) أهم ما فيها كتاب الأزرقي المذكور، ومقتبسات من تاريخ مكة لمحمد الفاكهي. ومن شفاء الغرام لتقي الدين الفاسي، ومن كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام للنهرواني وغيرهم، وهي أحسن مجموعة في أخبار مكة إلى القرن السادس للهجرة.

وترجمة الأزرقي في الفهرست ١١٢.

(٣-٢) ابن طيفور (توفي سنة ٢٨٠ﻫ)

هو أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر، واسم أبي طاهر طيفور أصله من أبناء خراسان من أولاد الدولة. ولد في بغداد، وكان مؤدب كتاب عاميًّا، ثم اشتغل بالتأليف، واشتهر به ونبغ نبوغًا عظيمًا. ذكر له صاحب الفهرست خمسين كتابًا لم يبق منها إلا النزر اليسير أهمها:
  • (١)

    تاريخ بغداد، هو أقدم ما وقفنا عليه من تاريخها، ولكن لم يصلنا منه إلا الجزء السادس، استخرجه الدكتور كيلر الألماني من مخطوطات لندن، وطبعه على الحجر في ليبسك سنة ١٩٠٨، وعلق عليه الملاحظات مع ترجمة ألمانية، ويحتوي على تاريخ المأمون من شخوصه إلى بغداد سنة ٢٠٤ﻫ إلى وفاته.

  • (٢)

    كتاب المنثور والمنظوم: هو اختيارات من أحسن ما نظم أو نثر في العربية إلى عصره في بضعة عشر جزءًا، رأينا منها ثلاثة أجزاء في المكتبة الخديوية (١١ و١٢ و١٣) كل منها نحو ألف صفحة كبيرة، ومنها بضعة أجزاء في لندن.

  • (٣)

    بلاغات النساء: طبع في مصر ١٩٠٧.

وتجد ترجمة ابن طيفور في معجم الأدباء ١٥٢ ج١، والفهرست ١٤٦.

أما الكتب الخاصة بتواريخ الأمم، فإن أبا الحسن المدائني المتوفى سنة ٢٢٥ ألَّف كتبًا جمة ذكر ابن النديم عشرات منها، وقد ضاعت كما ضاع سواها من أمثالها.

وكذلك سير الأفراد مثل سيرة ابن طولون وابنه خمارويه ليوسف بن الداية المتوفى سنة ٣٣٤ﻫ، منه شذرات اقتبسها من أرَّخ مصر بعده كابن سعيد وغيره.

(٤) رابعًا: التاريخ العام

يمتاز هذا العصر عما تقدمه من العصور بظهور التاريخ العام ناضجًا فيه، وكانت التواريخ قبله في مواضيع متفرقة لأغراض مختلفة، فلما اطلع المسلمون على تواريخ الأمم الأخرى أحبوا أن ينسجوا على منوالها، وزادت في أثناء ذلك علائق المسلمين بسواهم، فأصبح همهم النظر في التاريخ على الإجمال، فأخذوا يؤلِّفون التواريخ العامة التي تبدأ بالخليقة وتفرق الأمم ثم تواريخ تلك الأمم، وأهم ما وصلنا منها في هذا العصر خمسة كتب لخمسة من المؤرخين — إليك تراجمهم حسب سني وفاتهم مع وصف كتبهم:

(٤-١) اليعقوبي (توفي سنة ٢٧٨ﻫ)

هو أحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي، وجده من موالي المنصور، وكان رحالة يحب الأسفار، ساحَ في بلاد الإسلام شرقًا وغربًا، فكان سنة ٢٦٠ﻫ في أرمينية، ورحل إلى الهند وعاد إلى مصر وبلاد المغرب، وألَّف في سياحته هذه كتابًا سماه كتاب البلدان، وهو أقدم كتاب عربي وصل إلينا في الموضوع، لم تذكر السنة التي توفي فيها اليعقوبي، ولكن يؤخذ من سياق كتبه أنه توفي بعد سنة ٢٧٨.

وله في التاريخ كتاب يعرف بتاريخ اليعقوبي نشره المستشرق هوسما في ليدن سنة ١٨٨٣ في مجلدين: الأول في التاريخ القديم على العموم من آدم فما بعده إلى ظهور الإسلام، وتدخل فيه أخبار الإسرائيليين والسريان والهنود واليونان والرومان والفرس والنوبة والبجة والزنج والحميريين والغساسنة والمناذرة، والثاني في تاريخ الإسلام، وينتهي في زمن المعتمد على الله سنة ٢٥٩ﻫ، وقد رتبه حسب الخلفاء، ومن مزاياه فضلًا عن قدمه أن مؤلفه شيعيٌّ فيأتي بأشياء عن العباسيين يتحاشى سواه ذكرها، وللمستشرقين أبحاث انتقادية في هذا الكتاب.

وسنأتي على ذكر كتاب البلدان في باب الجغرافية.

(٤-٢) أبو حنيفة الدينوري (توفي سنة ٢٨٢ﻫ)

هو أحمد بن داود من أهل الدينور، أخذ علمه عن البصريين والكوفيين، وأكثر أخذه عن ابن السكيت، وكان متفننًا في علوم كثيرة منها النحو واللغة والهندسة والحساب وعلوم الهند، فهو يعد من النحاة أو اللغويين أيضًا، ولكننا جعلناه من المؤرخين؛ لأن أهم ما وصلنا من كتبه كتاب «الأخبار الطوال» في التاريخ العام يشتمل على نحو ما اشتمل عليه كتاب اليعقوبي، لكنه اختصر في التاريخ القديم، ويمتاز بتوسُّعه في تاريخ بني أمية، وخصوصًا أخبار علي ومعاوية والخوارج والأزارقة، وينتهي التاريخ المذكور بوفاة المعتصم سنة ٢٢٧ﻫ، وقد طبع في لندن سنة ١٨٨٨ في ٤٠٠ صفحة بعناية المستشرق جرجيس.

وله مؤلفات عديدة ضاعت، وفي جملتها كتاب في النبات من حيث اللغة لم نقف عليه، ولكن منه قطعًا في كتاب التنبيهات على أغلاط النحاة، ونقل عنه المخصص.

وترجمة أبي حنيفة الدينوري في معجم الأدباء ١٢٣ ج١، والفهرست ٧٨.

(٤-٣) ابن جرير الطبري (توفي سنة ٣١٠ﻫ)

هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، علَّامة وقته وإمام عصره، ولد في آمل بطبرستان سنة ٢٢٤ﻫ، ورحل في طلب العلم، فجاء بغداد، ثم شخص إلى مصر والشام والعراق حتى استوعب العلوم، ثم استقر في بغداد يقرئ الحديث والفقه حتى مات سنة ٣١٠ﻫ، ودفن هناك.كان على مذهب الإمام الشافعي، ثم اختار لنفسه مذهبًا في الفقه تبعه فيه جماعة من العلماء وضعوا فيه الكتب، منهم علي بن عبد العزيز الدولابي، ومحمد بن أحمد بن أبي الثلج، وابن العراد، وأبو الحسن أحمد بن يحيى المنجم، وأبو بكر بن كامل، وغيرهم. وكل منهم ألف كتبًا في بسط مذهب ابن جرير الطبري ودافع عنه ورد على مخالفيه.

واشتهر الطبري بقوة عارضته وفصاحة لهجته وبصبره على العمل، حتى قالوا: إنه قضي أربعين سنة يكتب كل يوم ٤٠ صفحة، ولا يخلو ذلك من مبالغة، لكنه يشير إلى كثرة عمله؛ فإن كتابيه اللذين اشتهر بهما — نعني التاريخ والتفسير — ذكروا أن كلًّا منهما كان في أول الأمر ٣٠٠٠٠ ورقة؛ أي ٦٠٠٠٠ صفحة، ثم أشار عليه تلامذته باختصارهما؛ فصارا إلى ما هما عليه، وقد ألف التفسير قبل التاريخ، وكل منهما مرجع الكتاب في موضوعه؛ لأنه استوفى الكلام فيهما، وكان ثقة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه؛ لسعة علمه في القرآن وعلومه وبأخبار الناس وأيامهم، وكان حرَّ الفكر صريح القول؛ إذا اعتقد أمرًا جاهر به لا يخشى في الحق لومة لائم، فكثر أخصامه من العامة ومن يتزلَّفون إليهم أو يرتزقون بمرضاتهم ولا سيما الحنابلة؛ لأنه ألف كتابًا ذكر فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر فيه ابن حنبل، فقيل له في ذلك فقال: «لم يكن فقيهًا وإنما كان محدِّثًا.» فعظم ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون عدًّا في بغداد؛ فنقموا عليه واتهموه بالإلحاد، وشاركهم أكثر العامة — ولو سئلوا عن معنى الإلحاد ما عرفوه — وهو لا يهمه ذلك لزهده وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها أبوه في طبرستان، فلما توفي في شوال سنة ٣١٠ﻫ دفن في داره؛ لأن العامة اجتمعت ومنعت دفنه نهارًا، وألَّف كتبًا ذكر منها صاحب الفهرست بضعة عشر مؤلفًا هذا ما بقي منها:
  • (١)

    كتاب أخبار الرسل والملوك: ويعرف بتاريخ الطبري. وهو تاريخ عام يبدأ بالخليقة وينتهي سنة ٣٠٢ﻫ يدخل في عدة مجلدات صفحاتها نحو ٧٥٠٠ صفحة، وقد طبع في ليدن بعناية المستشرق دي غويه، استغرق طبعه بضع عشرة سنة من ١٨٧٩–١٨٩٢ في ٢٣ جزءًا، وطبع بمصر سنة ١٩٠٦ في ١٣ مجلدًا، وقد اتبع في أخباره الإسناد إلى رواتها بالتسلسل لزيادة التحقيق على عادتهم في ذلك العهد. وهو عمدة المؤرخين ومرجعهم في التحقيق حتى الآن، وتغالى القوم في اقتناء هذا الكتاب حتى كان منه في خزانة العزيز الفاطمي صاحب مصر ٢٠ نسخة منها واحدة بخط المؤلف. وكان في دار العلم بمصر ١٢٠ نسخة منه، ولم يكن يتأتى اقتناؤه إلا للملوك وأهل الثروة. ولما أظلم الشرق في الأجيال الوسطى، وخيَّم الجهل أُحرقت المكاتب فضاعت نسخه، فلما أرادوا طبعه في لندن لم يجدوا منه نسخة كاملة في مكان واحد، فاضطروا إلى جمعها من عدة أماكن. وقد ترجم هذا الكتاب إلى الفارسية البلعمي، وترجمه عن ترجمة البلعمي زوتنبرج إلى الفرنساوية، وطبعت الترجمة في سنة ١٨٧٤ في ٤ مجلدات، وترجم أيضًا بعضه إلى اللغة اللاتينية، وطبع في غريزوالد سنة ١٨٦٣، وترجم إلى التركية، وطبع في الآستانة سنة ١٢٦٠ﻫ.

    وقد عني غير واحد بكتابة ذيل للتاريخ المذكور، منهم عريب بن سعد الكاتب القرطبي، ألَّف ذيلًا على الطبري ينتهي إلى سنة ٣٦٥ﻫ طبع مع تاريخ الطبري في ليدن، ومحمد بن عبد الملك الهمذاني المتوفى سنة ٥٢١ﻫ تمَّم حوادث التاريخ إلى سنة ٤٨٧، سماه تكملة تاريخ الطبري، ومنه نسخة خطية في مكتبة باريس.

  • (٢)

    التفسير الكبير: سيأتي ذكره في باب التفسير.

  • (٣)

    تهذيب الآثار في الحديث: لم يتمه، ويوجد بعضه في مكتبة كوبرلي.

  • (٤)

    اختلاف الفقهاء: يبحث فيما اختلف فيه الفقهاء الأربعة في بعض الأحكام كالبيع والإعتاق والإيجار والزرع والكفالة، وما يتفرع عن ذلك طبع بمصر سنة ١٣٢٠.

وترجمة الطبري في ابن خلكان ٤٥٦ ج١، وابن الأثير ٤٩ ج٨، والفهرست ٢٣٤.

(٤-٤) أبو زيد البلخي (توفي سنة ٣٢٢ﻫ)

هو أحمد بن سهل. ولد في بلخ ونشأ في العراق، وأدرك الكندي الفيلسوف وأخذ عنه، ثم عاد إلى بلاده فخدم أمراءها، وكان مطَّلِعًا على العلوم القديمة؛ ولذلك اتخذ في مؤلفاته طريقة الفلاسفة من النقد والنظر، وكان ذلك سببًا في غضب الوجهاء عليه، وبعد أن كانوا يدرُّون عليه الأعطية قطعوها عنه، ونسبوه إلى الإلحاد شأنهم في كل من يتظاهر بحرية الفكر والقول، ولأبي زيد عشرات من المؤلفات في مواضيع مختلفة ذكرها صاحب الفهرست (صفحة ١٣٨) ضاعت كلها، وقد وصلنا ما لم يذكره الفهرست بل رواه صاحب كشف الظنون أو غيره، وهو:
  • (١)

    كتاب البدء والتاريخ: يمتاز عما تقدمه من كتب التاريخ العام بأنه أوسعها جميعًا في أخبار الخليفة، وقصص الأنبياء وأخبار الأمم القديمة. وفيه تواريخ الخلفاء إلى أيامه. وقد عني بترجمته إلى الفرنساوية الأستاذ هيوار المستشرق الفرنساوي، وطبع الأصل والترجمة في شالون سنة ١٩١٠.

  • (٢)

    صور الأقاليم: هو من قبيل الجغرافية، وسنذكره بين جغرافيي العصر العباسي الثالث؛ لأنه قدوتهم في رسم الخرائط.

وترجمة أبي زيد البلخي في معجم الأدباء ١٤١ ج١، والفهرست ١٣٨.

(٤-٥) ابن البطريق (المتوفى سنة ٣٢٨ﻫ)

هو أفتيخوس سعيد بن البطريق. ولد سنة ٢٦٣ في الفسطاط، واشتهر بالطب كما اشتهر بالتاريخ، وخلف من الآثار عدة مؤلفات وصلنا منها كتاب «نظم الجوهر» في التاريخ، ألَّفه لأخيه عيسى في معرفة التواريخ من عهد آدم إلى سني الهجرة، وينتهي إلى سنة ٣٢١ﻫ من الدولة العباسية، وهي السنة التي صار فيها المؤلف بطريركًا على مدينة الإسكندرية على مذهب الملكية. وقد طبع كتابه هذا في أكسفورد سنة ١٦٥٩ مع ترجمة لاتينية لإدوارد بوكوك المستشرق في مجلدين صفحاتهما نحو ١١٠٠ صفحة، وطبعت قطع منه في بطرسبرج سنة ١٨٨٣. وفيه كثير من أخبار النصارى وأعيادهم وذكر البطاركة وأحوالهم ومدة حياتهم وما جرى لهم، وقد ذيل هذا الكتاب يحيى بن سعيد بن يحيى الأنطاكي بكتاب سماه «تاريخ الذيل»، طبعه روزن المستشرق الروسي في بطرسبرج سنة ١٨٨٣ مع ترجمة وتعاليق في اللغة الروسية أضعاف الأصل العربي؛ فجاء الكتاب المطبوع في نيف وخمسمائة صفحة منها ٧٠ فقط للأصل العربي.

وترجمة سعيد بن البطريق في طبقات الأطباء ٨٦ ج٢.

وليست هذه كل كتب التاريخ الهامة التي أُلِّفت في هذا العصر، فإن مئات منها ضاعت، وأكثرها في أخبار الخلفاء والوزراء والنسب وأخبار المدن والدول والملوك وغير ذلك؛ ففي مقدمة مروج الذهب أسماء نحو مائة منها استعان بها المسعودي في تأليف ذلك الكتاب، وهو لم يذكر إلا الكتب التي اشتهر مؤلفوها، وقد ضاع معظمها، وفيما ضاع منها كتب هامة ككتاب التاريخ وأخبار الأمويين ومناقبهم وذكر فضائلهم وغيره من تواريخ الأمويين، فإن أخبار هذه الدولة ضاعت في أيام بني العباس تزلفًا من الكتاب لأهل الدولة، وبعض الكتب التي ذكرها المسعودي فاتت صاحب الفهرست، وقليل منها لا يزال باقيًا إلى الآن كتاريخ اليعقوبي والطبري.

هوامش

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ١٥٦ ج٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤