العلوم الإسلامية

تفرعت العلوم الإسلامية في أوائل الإسلام إلى القراءة والتفسير والحديث، ثم ظهر الفقه، وأخذت هذه العلوم تنمو بنمو التمدن، وقد علمت مما تقدم أن الفقه نضح ورسخت قواعده في العصر العباسي الأول والحديث في العصر الثاني، ونشأت في أثناء ذلك فروع أخرى من علوم القرآن أو العلوم الإسلامية الدينية على أثر انتشار الفلسفة وغيرها من علوم الأقدمين والعلوم الدخيلة، ونشأت فروع أخرى في الأعصر الآتية سيرد بيانها.

ومن يتدبر اشتغال المسلمين في العلوم الإسلامية يعجب لما استخدموه فيها من إعمال الفكرة ولا سيما الفقه، فإنه من ثمار عقولهم واجتهادهم لا دخل فيه لأمة أخرى؛ إذ لا علاقة له بالعلوم القديمة، ومن ينظر في قضاياه وأحكامه يعلم ما اقتضاه ذلك من دقة النظر وقوة العقل مما لم يسبق له مثيل، أما الفلسفة أو المنطق مما نقلوه عن اليونان فقد ساعد في إنشاء بعض فروعه والتوسع في البعض الآخر كعلم الكلام، فقد كان للفلسفة والمنطق تأثير كبير في نموه، وقد تقدم خبره في العصر الثاني.

(١) علم الكلام

ونبغ في هذا العصر غير واحد من علماء الكلام لبعضهم مؤلفات في مواضيع أخرى، جاء ذكرهم في أبوابها كالشريف المرتضى بين الأدباء، والبعض الآخر لم يخلفوا ما يستحق الذكر، وإنما نذكر منهم في هذا الباب أشهر أنصار الأشعري، وهو:

(١-١) أبو بكر الباقلاني

هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني، المتوفى سنة ٤٠٣ﻫ صاحب «إعجاز القرآن»، وهو مشهور بين طلاب الأدب والبلاغة، ومدار البحث فيه على إثبات إعجاز القرآن وأنه معجزة نبوة النبي، وفيه فصول في نفي الشعر من القرآن وكيفية الوقوف على عجز القرآن، وطائفة حسنة من خطب النبي وكتبه ومن كلام الراشدين وغيرهم من بلغاء الصحابة والتابعين وغير ذلك، وقد طبع في مصر سنة ١٣١٥ وغيرها، وترجمة الباقلاني في ابن خلكان ٤٨١ ج١.

(٢) التصوف

هو من العلوم التي نشأت ونضجت في هذا العصر، وخلاصة تاريخه «أنه من العلوم الشرعية الحادثة، وأصله العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيها من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة».

وقد اختلف علماء الإسلام في أصل كلمة التصوف أو الصوفية، فقال جماعة باشتقاقها من الصفاء أو الصفة، وقال آخرون غير ذلك، ويرى ابن خلدون أن اشتقاقها من الصوف أقرب إلى الصواب لاختصاص أصحابه بلبس الصوف، وعندنا أنها مشتقة من لفظة يونانية الأصل هي Σοφιа (صوفيا) ومعناها الحكمة، ويتركب منها ومن фιλοσ (فيلوس) محب фιλοσοφιа (فيلوصوفيا)؛ أي محب الحكمة، وهي بالعربية: «الفلسفة»، فيكون الصوفية قد لقبوا به نسبة إلى الحكمة؛ لأنهم كانوا يبحثون فيما يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا، ويؤيد ذلك أنهم لم يظهروا بعلمهم هذا ولا عرفوا بهذه الصفة إلا بعد ترجمة كتب اليونان إلى العربية ودخول لفظ الفلسفة فيها.

ومدار طريقتهم كلها: «محاسبة النفس على الأفعال والتروك وآداب خاصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، يدلون بها على ما يريدونه من أساليب المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم»، فلما دونت العلوم في الإسلام كتب الصوفية في طريقتهم على ذلك المنهج فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، ومنهم أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري المتوفى سنة ٤٦٥ﻫ، وكان عالمًا في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة فضلًا عن التصوف، وقد ألف فيه كتابه المعروف بالرسالة القشيرية، وهي مطبوعة بمصر سنة ١٢٨٤ﻫ وسنة ١٣٠٤، وبهامشها تقريرات من شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عليها، وأبو حفص عمر بن محمد الملقب شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة ٦٣٢ﻫ ببغداد ألف في ذلك عوارف المعارف، وقد جمع حجة الإسلام الغزالي بين الأمرين في كتاب الأحياء فدون فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بيَّن آداب القوم وسننهم، وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم، وسنأتي على ترجمة حاله ومؤلفاته، وصار علم التصوف علمًا مدونًا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط.

(٣) الفقه

لم يزد الفقهاء بعد رسوخ قواعد الفقه على أيدي الأئمة الأربعة شيئًا غير التلخيص والشرح أو التعليق، وقد ظهر في أثناء هذا العصر جماعة من كبار الفقهاء، ولكن أكثرهم اشتغلوا بعلوم أخرى، فدخلت ترجماتهم في أبواب تلك العلوم، ولو أردنا ترجمة كل من ظهر من الفقهاء في هذا العصر لخرجنا عن الاختصار الذي أردناه في هذا الباب، وإنما نترجم الفقهاء الذين خلَّفوا كتبًا تدخل في بعض الأبواب الأخرى من آداب اللغة جريًا على الغرض المراد من هذا الكتاب، وأشهرهم في هذا العصر:

(٣-١) أبو الحسن الماوردي (توفي سنة ٤٥٠ﻫ)

هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الفقيه الشافعي تعلم في البصرة وبغداد وتقدم في مناصب القضاء، وكان مفكرًا حسن التأليف كما يظهر من كتبه التي وصلت إلينا وهاك أهمها:
  • (أ)

    كتاب الأحكام السلطانية: يبحث في الإمامة وشروطها والخلافة وأحكامها والوزارة وأقسامها وشروطها وإمارة الجهاد وأقسامها والقضاء، والشروط التي يصح التقليد بها والنقابة حسب الأنساب، وفصول في الولاية على الحج وولاية الصدقات وأحكام الفيء والغنيمة وأقسامها والجزية والخراج حسب الأرضين وأحكام الإقطاع وترتيب الدواوين وأنواعها، وما اختص ببيت المال وأحكام الحسبة وغير ذلك من القواعد الشرعية، مما يتعب الباحث عنه في غير هذا الكتاب، وهو مطبوع في مصر سنة ١٢٩٨ وغيرها.

  • (ب)

    أدب الدنيا والدين: يبحث في الأخلاق والآداب، ويشتمل على فصول في فضل العقل وذم الهوى والحث على العلم وأخلاق العلماء والآداب الدينية والدنيوية ويدخل تحتها ما يصلح به حال الإنسان من المؤاخاة بالمودة وأدب النفس وما يتعلق به كحسن الخلق والحياء والحلم والصدق وأضدادها وآداب المواضعة، وفيه أبحاث في الكلام والصمت والصبر والجزع والمشورة وكتمان السر والمزاح والضحك، طبع في الآستانة سنة ١٢٩٩ وفي مصر مرارًا، وهو من كتب الأدب المعول عليها في كثير من المدارس.

  • (جـ)

    نصيحة الملوك: في باريس.

  • (د)

    تسهيل النظر وتعجيل الظفر: في السياسة والحكومة، في غوطا.

  • (هـ)

    كتاب الحاوي الكبير في الفروع: هو مطول في الفقه الشافعي يدخل في ٢٣ مجلدًا، منها نسخة في المكتبة الخديوية تنقص الجزء الثامن، وربما زادت صفحات الكتاب كله على ٧٠٠٠ صفحة كبيرة.

  • (و)

    أعلام النبوة: يبحث في إثبات النبوات وشروطها وما تضمنه القرآن من الإعجاز وما في أقوال النبي من ذلك، منه نسخ في برلين والمكتبة الخديوية في ٣٠٠ صفحة.

  • (ز)

    كتاب الأمثال والحكم: يشتمل على ٣٠٠ حكمة و٣٠٠ حديث و٣٠٠ شعر، موجود في ليدن.

  • (ح)

    معرفة الفضائل: في الأسكوريال.

وترجمة الماوردي في ابن خلكان ٣٢٦ ج١.

(٣-٢) الفرائض

وتفرع من الفقه علم الفرائض وهو معرفة حقوق الوراثة وأشكالها ومختلفاتها وضروب مواقعها وما يحتاج إليه ذلك من الحساب، فأفرد له العلماء بابًا مخصوصًا وكتب فيه الفقهاء منهم كأبي حنيفة وغيره، ولكن بعضهم انقطع له بنوع خاص ومن هؤلاء في أوائل الدولة العباسية ابن شبرمة وابن أبي ليلى ويحيى بن أكثم ثم أبو المعالي، ثم ألَّف فيه كثيرون يضيق المقام عن ذكرهم.

(٤) التفسير والحديث

أما التفسير فما زال للعقل مجال فيه، فظهر جماعة كبيرة من المفسرين بعد الطبري المتقدم ذكره في العصر الماضي، ومنهم في هذا العصر النقاش الموصلي المتوفى سنة ٣٥٨ صاحب كتاب «شفاء الصدور» ومنه قطعة في المكتبة الخديوية، والحوفي المصري المتوفى سنة ٤٣٠ﻫ صاحب كتاب: «البرهان في تفسير القرآن» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وابن أبي طالب القيسي المتوفى سنة ٤٣٧ في قرطبة، له مؤلفات كثيرة ضاعت وغيرهم.

وأما الحديث فاستقرت قواعده في الكتب الستة المتقدم ذكرها، لكن العلماء ظلوا يشتغلون فيه بين أخذ ورد، وأشهر من نبغ من المؤلفين فيه بهذا العصر الطهماني الحاكم النيسابوري المتوفى سنة ٤٠٥، وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي المتوفى سنة ٤٤٧، والأجري المتوفى سنة ٣٦٠، والبيهقي المتوفى سنة ٤٥٨ وغيرهم. ولم يصلنا من آثارهم ما يستحق الذكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤