العلوم الإسلامية الشرعية

(١) الفقه

في هذا العصر ضبط الفقه ودونت أحكامه بعد أن أفضت الخلافة إلى بني العباس. وكان أئمة الفقه في المدينة فأراد المنصور تصغير أمر العرب وإعظام الفرس؛ لأنهم أنصارهم وأهل دولتهم، فكان من جملة مساعيه في ذلك تحويل أنظار المسلمين عن الحرمين فبنى بناءً سمَّاه القبة الخضراء حجًّا للناس وقطع الميرة عن المدينة،١ وفقيه المدينة يومئذ الإمام مالك الشهير، فاستفتاه أهلها في أمر المنصور فأفتى بخلع بيعته؛ فخلعوها وبايعوا محمد بن عبد الله من آل علي، وعظم أمر محمد هذا وحاربه المنصور ولم يتغلَّب عليه إلا بعد العناء الشديد، فرجع أهل المدينة إلى بيعة المنصور قهرًا، وظل مالك مع ذلك ينكر حق البيعة لبني العباس، فعلم أمير المدينة يومئذ وهو جعفر بن سليمان عم المنصور بذلك فغضب، ودعا بمالك وجرده من ثيابه، وضربه بالسياط، وخلع كتفه.٢

(١-١) الرأي والقياس

وكانت علوم القرآن قد انتشرت في العراق وفارس، ونبغ من أبنائها من درس الفقه والفتيا، ولكنهم ما زالوا عيالًا فيهما على أهل المدينة؛ لأنهم أوثق الناس بحفظ الحديث وقراءة القرآن. وكان الحديث قليلًا في العراق على الخصوص، والمسلمون غير العرب هناك أكثرهم من الفرس وهم أهل تمدن وعلم، فعمدوا إلى استخدام القياس العقلي في استخراج أحكام الفقه من القرآن والحديث، فخالفوا بذلك أهل المدينة؛ لأنهم كانوا شديدي التمسك بالتقليد، فكان من جملة مساعي المنصور في تصغير أمر المدينة وفقهائها — وخصوصًا مالك بعد أن أفتى بخلع بيعته — أنه نصر فقهاء العراق القائلين بالقياس، وكان كبيرهم يومئذ أبو حنيفة النعمان في الكوفة، فاستقدمه إلى بغداد، وأكرمه وعزز مذهبه، وكان أبو حنيفة لا يحب العرب ولا العربية، حتى إنه لم يكن يحسب الإعراب ولا يبالي به؛٣ ولذلك كان الربيع حاجب المنصور يقاومه؛ لأن الربيع ينتسب إلى العرب، وكان يكره الفرس، وابنه الفضل هو الذي سعى في قتل البرامكة.

فلما نصر المنصور أبا حنيفة وأصحابه — وهم المعروفون بأهل الرأي أو القياس — ازداد مالك تمسكًا برأيه، وتبعه فقهاء الحجاز وهم أهل الحديث، وانقسم الفقهاء كافة إلى قسمين أهل الحديث وأهل الرأي، وزعيم الأول مالك وأنصاره من أهل الحجاز وأصحاب الشافعي وأصحاب سفيان الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وغيرهم من أهل التقليد، وعرفوا بأصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم مبذولة في تحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي أو الخفي ما وجدوا خبرًا أو أثرًا، ويدلك على شدة تمسكهم بذلك قول الشافعي: «إذا وجدتم لي مذهبًا ووجدتم خبرًا على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر.»

وزعيم أصحاب الرأي أبو حنيفة، وأصحابه فقهاء العراق، ومنهم محمد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف القاضي، وزفر بن الهذيل المتوفى سنة ١٥٨، واللؤلؤي، وابن سماعة المتوفى سنة ٢٣٣ﻫ، وأبو مطيع البلخي، وعافية القاضي وغيرهم، وقد سموا أهل الرأي؛ لأن عنايتهم بتحصيل وجه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار.٤

وجاء بعد مالك من أصحاب مذهبه محمد بن إدريس المطلبي الشافعي، فرحل إلى العراق، وخالط أصحاب أبي حنيفة، وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهب خالف فيه مالكًا في كثير من مذهبه، ثم جاء بعده أحمد بن حنبل، وكان من علية المحدثين، وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث، فاختصوا بمذهب آخر. ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، وتولدت منهم مذاهب الإسلام الأربعة: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي.

وإليك خلاصة تراجمهم حسب سني وفاتهم مع ما خلَّفوه من الكتب.

(١-٢) الأئمة الأربعة

أبو حَنيفة النُّعمان (توفي سنة ١٥٠ﻫ)

هو النعمان بن ثابت مولى بني تيم من أهل الكوفة، ولد سنة ٨٠ﻫ، وكان خزَّازًا يبيع الخز، وكان عالمًا عاملًا زاهدًا عابدًا كثير الخشوع دائم التضرع، فاتصل خبره بالخليفة أبي جعفر المنصور؛ فبعث إليه، فلما جاءه أراد أن يوليه القضاء فحلف أنه لا يفعل، وقال: «لن أصلح إلى قضاء.» وكان حسن الوجه شديد الكرم حسن المواساة لإخوانه، وكان ربعة في الرجال، وقيل: كان طويلًا تعلوه سمرة، ومن أحسن الناس منطقًا، وأحلاهم نغمة، وكان قوي الحجة حتى قال عنه الإمام مالك: «إنه رجل لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.» وكان طلق اللسان جهوري الصوت، إذا سألته عن الفقه تفجر وسال كالوداي وسمعت له دويًّا وجهارةً.

وهو الذي بوَّب الفقه وفرع له فروعًا وعمدته فيما قاله القياس، وكان بعيدًا عن الغيبة لا يذكر أحدًا بسوء ولو كان عدوًّا له. وكان واسع العلم في كل العلوم الإسلامية إلى ذلك العهد، إلا أنهم عابوه بالعربية، وكان مذهبه في النحو كوفيًّا؛ لأنه من أهل الكوفة، وتوفي في السجن. وذكر المسعودي أنه مات وهو ساجد في صلاته، ومن مؤلفاته الباقية:
  • (١)

    الفقه الأكبر: منه نسخ خطية في أكثر مكاتب أوروبا، وفي المكتبة الخديوية، وقد طبع في لكناو الهند مع ترجمة هندستانية، وهو من قبيل أصول الدين، وفيه دفاع ضد المرجئة، وله شروح ومختصرات في المكتبة الخديوية وغيرها. طبع بمصر وعليه شرح ملا علي القاري.

  • (٢)

    مسند أبي حنيفة: جمعه تلامذته، ومنه نسخ خطية عديدة بالمكتبة الخديوية.

  • (٣)

    وصيته لأصحابه: في الأصول، منها نسخ خطية في غوطا وباريس، وعليها شروح في مكاتب غوطا وأيا صوفيا ونور عثمانية والمكتبة الخديوية والإسكوريال.

  • (٤)

    وصيته لابنه: منها نسخة في باريس.

  • (٥)

    المخارج في الحيل: في الفقه. رواها تلميذه أبو يوسف، منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية.

تجد أخباره في ابن خلكان ١٦٣ ج٢، والفهرست ٢٠١ وغيرهما.

مالك بن أنس (توفي سنة ١٧٩ﻫ)

هو أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة وصاحب المذهب المالكي، ولد سنة ٩٥ﻫ، أخذ الفقه عن ربيعة الرأي فقيه أهل المدينة المتوفى سنة ١٣٦ﻫ بالهاشمية، وكان مالك بن أنس ورعًا تقيًّا إذا أراد أن يحدث توضَّأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ثم حدث، وكان يأتي المسجد ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق، وهناك يجتمع إليه أصحابه، ويأخذون عنه الفقه والفتوى، وهم الذين نشروا مذهبه وكتبوا فيه، وعنه أخذ الإمام الشافعي. وكان مالك بن أنس شديد البياض مع ميل إلى الشقرة طويلًا عظيم الهامة أصلع يلبس الثياب العدنية الجياد، ويكره حلق الشارب ويعيبه. وله من الكتب:
  • (١)

    كتاب الموطأ: أساس المذهب المالكي، وهو كالحديث رواه عنه أبو محمد الليثي، ومنه نسخ خطية في أكثر مكاتب أوروبا، وقد طبع في دلهي بالهند سنة ١٢١٦ﻫ، وفي لاهون بالهند سنة ١٨٨٩، وله شروح للبطليوسي ولابن العربي والقرطبي والزرقاني، وقد طبع هذا الأخير بمصر سنة ١٢٨٠ﻫ وغيرها في ٤ مجلدات، وقد رواه الشيباني المتوفى سنة ١٨٩ﻫ، وردَّ فيه على ما يخالف مذهب مالك، وطبع في لكناو الهند سنة ١٢٩٧، وفي لودهيانا الهند سنة ١٨٩٢، وله شروح أخرى لا فائدة من ذكرها.

  • (٢)

    رسالة في الوعظ: بشأن الرشيد ويحيى البرمكي، منها نسخة في الإسكوريال، وطبعت في بولاق سنة ١٣١١.

  • (٣)

    كتاب المسائل عن لسان تلميذه ابن عبد الحكم، منها نسخة في غوطا، وترجمته في ابن خلكان ٤٣٩ ج١، والفهرست ١٩٨.

الإمام الشافعي (توفي سنة ٢٠٤ﻫ)

هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وينتهي نسبه إلى هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي. ولد بغزة من بلاد الشام سنة ١٥٠ﻫ، وتوفي في مصر سنة ٢٠٤ﻫ في زمن المأمون بن الرشيد، ودفن في القرافة في مصر، ومقامه مشهور، وبجواره الآن مدفن العائلة الخديوية، وقدم بغداد سنة ١٨٥، وبعد سنتين خرج إلى مكة ثم عاد إلى بغداد بعد سنة فأقام بها شهرًا، ثم قدم مصر فأقام فيها وما زال إلى أن توفاه الله. وكان الإمام الشافعي كثير المناقب جم المفاخر، حاز من العلوم الإسلامية أقصاها وأدناها من العلم في الكتاب والسنة وكلام الصحابة وآثارهم، واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة والشعر، حتى أقر له بالسبق الأصمعي الراوي الشهير وأحمد بن حنبل الإمام، وقال أبو عبيد: «ما رأيت رجلًا قط أكمل من الشافعي.» وسأل عبد الله بن أحمد بن حنبل والده عنه فقال: «يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن.» وهو أول من تكلم بأصول الفقه وهو الذي استنبطه، وقد ذكر له الفهرست نيفًا ومائة مؤلف لم يصل إلينا منها إلا:
  • (١)

    كتاب الأم، رواه عنه الربيع بن سليمان، فإنه يبدأ هكذا: «أخبرنا أبو علي الحسين بن حبيب بن عبد الملك في دمشق سنة ٣٣٧ قال: أخبرنا الربيع بن سليمان قال: أخبرنا محمد بن إدريس إلخ.» وهو كتاب ضخم، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وطبع بمصر في ٧ مجلدات.

  • (٢)

    السنن المأثورة، في مكتبة كوبرلي بالآستانة.

  • (٣)

    أصول الفقه، هي رسالة في الأصول طبعت بمصر.

  • (٤)

    مسند الشافعي بالحديث، منه نسخة خطية في يني جامع وكوبرلي، وقد رواه النيسابوري وشرحه ابن الأثير.

  • (٥)

    قصيدة تنسب إليه: في ليدن. وترجمته في ابن خلكان ٤٤٧ ج١، والدميري ٢٥ ج١، وسير الملوك ١٥٠، والفهرست ٢٠٩.

الإمام أحمد بن حنبل (توفي سنة ٢٤١ﻫ)

هو الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل، يتصل بنسبه بشيبان من ربيعة. ولد في بغداد سنة ١٦٤ﻫ، وكان من أصحاب الإمام الشافعي، وشهد الشافعي عند خروجه إلى مصر بقوله: «خرجت من بغداد وما خلَّفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل.» وظهر في أيامه القائلون بخلق القرآن، فدعي للقول بقولهم فلم يجب؛ فضرب وحبس وهو مصرٌّ على الامتناع. وكان حسن الوجه ربعة يخضب بالحناء خضبًا ليس بالقاني، في لحيته شعيرات سود. ودفن في بغداد بمقبرة باب حرب، وهو صاحب المذهب الحنبلي. وأهم مؤلفاته الباقية:
  • (١)

    المسند في الحديث: رواه ابنه عبد الله، وهو موجود خطًّا في أكثر مكاتب أوروبا والآستانة والمكتبة الخديوية، وقد طبع بمصر، وهو مرتب حسب الرواة، فيقسم إلى مساند أولها مسند أبي بكر فعمر فعثمان إلى غيرهم من الصحابة.

  • (٢)

    كتاب السنة موصل المعتقد إلى الجنة: في مكتبة برلين.

  • (٣)

    الزهد: في برلين.

وترجمته في ابن خلكان ١٧ ج١، والفهرست ٢٢٩.

(١-٣) أصحاب الأئمة

ونبغ طائفة من تلامذة أولئك الأئمة وأصحابهم، وقد ذكرنا بعضهم، وليس منهم في هذا العصر من خلَّف آثارًا تستحق الذكر إلا ثلاثة: اثنان من أصحاب أبي حنيفة، والثالث من أصحاب مالك، وهم:

القاضي أبو يوسف (توفي سنة ١٨٢ﻫ)

هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ولد سنة ١١٣ﻫ، وهو من أهل الكوفة، وكان صاحبًا للإمام أبي حنيفة، وقد أخذ عنه الفقه وما يتعلق به. وكان فقيهًا عالمًا أخذ عن كثيرين من الفقهاء، ولكن غلب عليه مذهب أبي حنيفة، وإن يكن خالفه في بعض المواضع، وذاع صيته حتى تولى القضاء في بغداد على عهد ثلاثة من خلفاء بني العباس: المهدي والهادي والرشيد. وهو أول من دُعِيَ بقاضي القضاة، وميَّز العلماء بلباس خاص، وكانوا لا يميزهم شيء من ذلك عن سائر العامة. وقد ذكر أبو أحمد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن أبا يوسف تكلَّم عن نفسه قائلًا:

كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاءني أبي يومًا وأنا عند أبي حنيفة فانصرفت معه، فقال: «يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة؛ فإن أبا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش.» فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: «ما شغلك عنا؟» قلت: «الشغل بالمعاش وطاعة والدي.» فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: «استمتع بها.» فنظرت فإذا فيها مائة درهم، وقال لي: «الزم الحلقة، وإذا فرغت هذه فأعلمني.» فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إليَّ مائة أخرى، ثم كان يتعهدني، وما أعلمته بخلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه كان يخبر بنفادها حتى استغنيت وتمولت. ا.ﻫ.

والباقي من مؤلفاته:

كتاب الخراج، فيه مقدمة يخاطب بها الرشيد، رواه تلميذه الشيباني، منه نسخ خطية في برلين وباريس وأياصوفيا ونور عثمانية وكوبرلي، وطبع بمصر سنة ١٣٠٢ﻫ.

وترجمته في ابن خلكان ٣٠٣ ج٢، والدميري ١٢٩ ج١.

محمد بن الحسن الشيباني (توفي سنة ١٨٩ﻫ)

هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء، الفقيه الحنفي. ولد سنة ١٣٥ﻫ، وهو ابن خالة الفراء النحوي الشهير، وكان مولده في واسط بالعراق، وأصله من قرية عند باب دمشق في وسط غوطتها، ونشأ بالكوفة، وحضر مجلس أبي حنيفة، وتفقه على أبي يوسف المتقدم ذكره، وألف كتبًا كثيرة في الفقه وغيره، وهو الذي نشر مذهب أبي حنيفة، وكان فصيح اللسان حتى قالوا: إنه «إذا تكلم خيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته»، وقد عاصر الإمام الشافعي صاحب المذهب الشافعي، وجرت بينهما أحاديث ومجالس بحضرة الخليفة هارون الرشيد. وقال الإمام الشافعي: «ما رأيت أحدًا يُسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن.» وخلف مؤلفات جمة أشهرها:
  • (١)

    كتاب المبسوط: وهو كتاب الأصل في الفروع منه نسخ خطية في أياصوفيا ونور عثمانية والمكتبة الخديوية، وهو غير المبسوط للسرخسي.

  • (٢)

    كتاب الزيادات: منه نسخة في المكتبة الخديوية ونسخة مشروحة.

  • (٣)

    الجامع الكبير: في الفروع. منه نسخة في المكتبة الخديوية ويني جامع، ولها شروح وتلخيص متفرقة في مكاتب أوروبا والآستانة والخديوية.

  • (٤)

    الجامع الصغير: مطبوع بمصر على هامش كتاب الخراج المتقدم ذكره.

  • (٥)

    كتاب الآثار: في المكتبة الخديوية.

  • (٦)

    كتاب السير الكبير: وفيه أحكام الحرب، ومنه نسخ خطية في أكثر مكاتب أوروبا وفي المكتبة الخديوية. وترجمة الشيباني في ابن خلكان ٤٥٣ ج١.

عبد الرحمن بن القاسم (توفي سنة ١٩١ﻫ)

هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زبيد بن الحارث العتقي. تفقه بالإمام مالك، فصحبه عشرين سنة، وانتفع به أصحاب مالك بعد موته، وقد اشتهر على الخصوص بالمدونة الكبرى في مذهبهم، وهي كتاب ضخم على سبيل السؤال والجواب، ولها شأن كبير لدى المالكيين، طبعت بمصر، ولها شروح منها شرح على موادها المشكلة، منها نسخة في المكتبة الخديوية وغيرها. وتجد ترجمته في ابن خلكان ٢٧٦ ج١.

ومن الفقهاء في هذا العصر فقهاء الشيعة، لم ينبغ منهم من يستحق الذكر، ومنهم من لا ينسب إلى إمام، أشهرهم يحيى بن آدم بن سليمان المتوفى سنة ٢٠٣ﻫ، له كتاب الخراج طبعه جونبول في ليدن سنة ١٨٩٦.

فترى مما تقدم أن المسلمين دوَّنوا فقههم وأقروه واستنبطوا الأحكام والشرائع قبل انقضاء القرن الثاني من تأسيس دولتهم، ولم يتَّفق ذلك لدولة من الدول قبلهم، فإن الشريعة الرومانية لم يستقرَّ أمرها وتضبط إلا في زمن يوستنيان، وذلك بعد تأسيس الدولة الرومانية بأكثر من عشرة قرون.

(٢) الحديث

لم ينضج علم الحديث ويتم تكوُّنه إلا في آخر هذا العصر، وفي العصر العباسي الثاني، وكان في العصر الأول مختلطًا بالفقه، وقد اشتغل الأئمة الأربعة المتقدم ذكرهم بالحديث في جملة اشتغالهم بالفقه، واختلفوا في عدد الصحيح منه، فالإمام أبو حنيفة — زعيم أصحاب الرأي — لم يصح عنده إلا ١٧ حديثًا، ومالك صح عنده ٣٠٠ حديث، وروى ابن حنبل ٥٠٠٠٠٠ حديث أو أكثر، وقد دوَّنوا ذلك في كتبهم، فأبو حنيفة ألف كتابًا في الحديث خاصة. وأما مالك بن أنس فقد دوَّن الأحاديث في الموطأ، وقد تقدم ذكره، وكذلك الشافعي قد ذكرنا له السنن، وكان الإمام ابن حنبل يحفظ نحو مليون حديث، لكنه دوَّن منها في مسنده نحو نصفها، ومسنده المذكور يعرف باسمه، وقد ذكرناه.

واشتغل بالحديث في هذا العصر جماعة كبيرة في أنحاء المملكة الإسلامية أكثرهم في المدينة ومصر وبغداد والكوفة والبصرة، هاك أشهرهم حسب سني الوفاة ومكانها:

ابن جريج من الموالي سنة ١٤٩ ببغداد
الأوزاعي عربي سنة ١٥٧ ببيروت
سفيان الثوري عربي سنة ١٦١ البصرة
زياد البكائي عربي سنة ١٨٣ الكوفة
ابن عياش عربي سنة ١٩٣ الكوفة
سفيان بن عيينة مولى سنة ١٩٨ مكة
السمان فارسي سنة ٢٠٣ البصرة
الواقدي مولى سنة ٢٠٧ بغداد
ابن نافع الصنعاني مولى سنة ٢١١ اليمن
عبد الله بن عبد الحكم سنة ٢١٤ مصر
عبد الله بن مسلمة عربي سنة ٢٢١ البصرة
كاتب الواقدي سنة ٢٣٠ بغداد
يحيى بن معين الحافظ سنة ٢٣٣ المدينة

وبعض هؤلاء سيأتي ذكرهم في الأبواب الأخرى، ويذكر ما لهم في الحديث في جملة مؤلفاتهم الأخرى، وإنما نذكر هنا الأوزاعي؛ فإن له كتابًا في الحديث منه نسخة خطية في جملة كتب الشنقيطي في المكتبة الخديوية، ويلي هؤلاء الأئمة في الحديث أصحاب الكتب الستة عمدة المحدثين، وسيأتي الكلام عليها في العصر الآتي.

(٣) التفسير والقراءة

قلما اشتغل القوم بالتفسير في هذا العصر، ولم يدوِّنوا ما يستحق الذكر منه، وقد ذكرنا تفسير ابن عباس في الجزء الأول، وهو يبدأ هكذا: «أخبرنا عبد الله الثقة بن المأمون الهروي قال: أخبرنا أبي قال: أخبرنا أبو عبد الله قال: أخبرنا أبو عبد الله محمود بن محمد الرازي قال: أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروي قال: أخبرنا علي بن إسحاق السمرقندي عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال …» وسيأتي ذكر بعض كتب التفسير في أثناء الكلام عن المواضيع الأخرى لاشتغال الأدباء والمؤرخين والنسَّابين به، والتفسير لم ينضج وتظهر فيه المؤلفات الوافية إلا في العصر الآتي، ولم يحدث في القراءة ما يستحق الذكر في هذا العصر.

(٤) التاريخ

بدأ التاريخ يتكوَّن في العصر الأموي كما تقدم، لكنهم لم يشتغلوا إلا فيما دعتهم إليه دولتهم، وأغراضها من الإطراء بمشاهيرهم أو تحقيق الأنساب لأجل العطاء ونحوه. ولم يصل إلينا منه شيء لذهاب ذلك في أثناء الفتن، أو لتعمد العباسيين محو آثار عدوتهم اللدود، أو لإهمال الناس تلك الكتب مراعاة لرأي العباسيين.

على أن التاريخ بمعناه الحقيقي لم يتم تكوُّنه ولا في العصر العباسي الأول الذي نحن في صدده، وإنما تمهد فيه السبيل لتأليف التواريخ العامة أو الخاصة، ثم ظهر التاريخ في العصر الذي يليه بعد نقل العلم والأدب عن غير العرب واستقرار الأحوال السياسية والاجتماعية، فأهل المائة الأولى من العصر العباسي كان اشتغالهم على سبيل التمهيد مثل اشتغالهم في الأدب والتفسير والحديث، وفي كتب الأدب كثير من مواد التاريخ عن العرب وبلادهم.

على أنهم لما أخذوا في جمع القرآن وتفسيره وجمع الأحاديث احتاجوا إلى تحقيق الأماكن التي كتبت بها الآيات أو قيلت فيها الأحاديث، فعمدوا إلى جمع السيرة النبوية؛ لأنها شاملة لكل ذلك، ولما اشتغل المسلمون بضرب الخراج اختلفوا في البلاد هل فتحت عنوة أو صلحًا أو أمانًا، فاضطروا إلى تحقيق ذلك وتدوين أخبار الفتوح.

(٤-١) مؤرخو الفتوح

الشيخ أبو إسماعيل

أقدم كتب الفتوح التي وصلت إلينا كتاب فتوح الشام للشيخ أبي إسماعيل محمد بن عبد الله الأزدي البصري من أهل أواسط القرن الثاني للهجرة، طبع في كلكتة الهند سنة ١٨٥٤، وهو عظيم الأهمية، وقد ذكرناه مفصلًا في باب الإنشاء من عصر الراشدين، والكتاب نحو ٢٦٠ صفحة غير الفهارس والمقدمات مع خلاصة ترجمته بالإنكليزية.

الواقدي (توفي سنة ٢٠٧ﻫ)

يليه الواقدي وهو مولى من موالي بني هاشم في المدينة، واسمه أبو عبد الله محمد بن عمرو بن واقد كاتب جليل القدر، كان عالمًا بالحديث والمغازي والفتوح، وقد قربه المأمون وولاه القضاء بشرقي بغداد في عسكر المهدي، وتوفي هناك. وكان المأمون يراعي جانبه ويبالغ في إكرامه، لكن المحققين يستضعفون حديثه، وله مؤلفات عديدة ذكر منها ابن النديم ٢٨ كتابًا هاك ما وصلنا منها:
  • (١)

    كتاب المغازي: يشتمل على غزوات النبي، طبعه كرامر في كلكتة سنة ١٧٥٦ في ٤٠٠ صفحة، وله خلاصة إنكليزية طبعها ولها وزن في برلين سنة ١٨٨٢.

  • (٢)

    كتاب فتوح الشام: وهو أشبه بالقصص منه بالتاريخ؛ لما حواه من التفاصيل والمبالغات، لكنه مؤسَّس على الحقيقة، وفيه حقائق لا توجد في سواه من كتب الفتوح، وقد طبع مرارًا إحداها في الهند سنة ١٨٥٤–١٨٦٠ في ثلاثة مجلدات مع ملاحظات وتعاليق بقلم المستشرق نساو، وطبع أيضًا في مصر سنة ١٨٨٢ﻫ وغيرها.

  • (٣)

    فتح أفريقيا: طبع في تونس سنة ١٣١٥ في مجلدين.

  • (٤)

    فتح العجم: طبع في الهند سنة ١٢٨٧.

  • (٥)

    فتح مصر والإسكندرية: طبع في ليدن سنة ١٨٢٥.

  • (٦)

    تفسير القرآن: منه نسخة خطية في المتحف البريطاني.

  • (٧)

    عدة كتب في الفتوح تنسب إليه كفتح منف والجزيرة والبهنسا طبعت بمصر وغيرها. وكان له كتاب يسمى فتوح الأمصار لم نقف عليه، ولكن المؤرخين نقلوا عنه، وأكثر كتبه محشوة بالمبالغات لا يعول عليها. وفي مجلة المشرق البيروتية مقالة انتقادية في الواقدي ومؤلفاته (صفحة ٩٣٦ سنة ١٠) جزيلة الفائدة.

وترجمة الواقدي في ابن خلكان ٥٠٦ ج١، والفهرست ٩٨.

ومن كتب الفتح كتاب فتوح مصر وأعمالها على عهد عمر بن الخطاب، لابن إسحاق الأموي، طبع على الحجر بمصر سنة ١٢٧٥ﻫ، وهو كالقصة داخل في كتاب فتوح الشام للواقدي، وسنذكر سائر كتب الفتوح في أماكنها حسب العصور.

(٤-٢) كتب الطبقات

قد رأيت فيما تقدم من كلامنا عن القرآن والحديث والنحو والأدب أن العلماء اضطروا لتحقيق مسائل هذه العلوم إلى البحث في أسانيدها، والتفريق بين ضعيفها ومتينها؛ فجرَّهم ذلك إلى النظر في رواة تلك الأسانيد وتراجمهم وسائر أحوالهم؛ حتى أصبح من شروط الاجتهاد في الفقه معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها والإحاطة بأحوال النقلة والرواة عدولها وثقاتها ومطعونها ومردودها، والإحاطة بالوقائع الخاصة بها، فقسموا رواة كل فن إلى طبقات؛ فتألَّف من ذلك تراجم العلماء والأدباء والفقهاء والنحاة وغيرهم مما يعبرون عنه بالطبقات، ومنها طبقات الشعراء، وطبقات الأدباء، وطبقات النحاة، وطبقات الفقهاء، وطبقات الصحابة، والتابعين، وطبقات الفرسان، والمحدثين، واللغويين، والمفسرين، والحفاظ، والمتكلمين، والنسابين، والأطباء، حتى الندماء والمغنين وغيرهم، وألفوا في كل باب غير كتاب؛ ولذلك كان المسلمون أكثر أمم الأرض كتبًا في التراجم لأفراد الرجال.

وأقدم كتب الطبقات التي وصلت إلينا غير طبقات الشعراء لابن سلَّام الذي تقدم ذكره كتاب طبقات الصحابة لابن سعد المعروف بكاتب الواقدي.

ابن سعد صاحب الطبقات (توفي سنة ٢٣٠ﻫ)

هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الزهري. كان من الفضلاء النبلاء، كثير العلم، صادقًا، ثقة. صحب الواقدي وكتب له فعرف به، ولم يذكر له صاحب الفهرست إلا كتاب أخبار النبي لم يصل إلينا، ولكننا عرفنا كتابًا ينسب إليه اسمه طبقات الصحابة والتابعين أو كتاب الطبقات الكبير يدخل في بضعة عشر مجلدًا، طبع في ليدن ١٣٢٠–١٣٢٥ﻫ، وهو كتاب نفيس جزيل الفائدة اشترك في الوقوف على طبعه وتصحيحه المستشرقون سخاو وهو روفتش وليبرت وسترستين وبروكلمن، ويقسم إلى عدة أقسام في ثمانية أجزاء: الجزء الأول في السيرة النبوية (١٦١ صفحة)، والثاني في المغازي (١٣٧ صفحة)، والثالث في تراجم البدريين من الصحابة (٤٥٦ صفحة)، والرابع في تراجم الأنصار والمهاجرين ممن لم يشهد بدرًا وأسلموا قبل فتح مكة (٢٨٤ صفحة)، والخامس تراجم أهل المدينة من التابعين ومن كان منهم ومن الصحابة في مكة والطائف واليمن واليمامة والبحرين (٤١٢ صفحة)، والسادس تراجم الصحابة من الكوفيين (٢٩١ صفحة)، والسابع عن الصحابة البصريين (لم يطبع بعد)، والثامن تراجم الصحابة من النساء (٣٦٥ صفحة)، فصفحات الكتاب كله نيف وألفا صفحة كبيرة غير التعاليق والفهارس ونحوها، وهي نحو ألف صفحة أخرى، والطبقات تحتوي على سيرة النبي ومغازيه وتراجم نحو ٣٠٠٠ من الصحابة والتابعين، وروايتها في صدرها متسلسلة من ابن سعد إلى عدة رواة آخرهم شرف الدين بن محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسين الدمياطي. وأسانيد ابن سعد في كل ترجمة على حدة، وأكثر روايته عن محمد بن عمر بن واقد (الواقدي)، ومحمد بن إسحاق، وهشام الكلبي، وعبد الملك بن هشام. وفي الكتاب فوائد كثيرة عن تاريخ الجاهلية وآدابها، ومنه نسخ خطية في مكاتب لندن وغوطا وبرلين والآستانة وغيرها.

وترجمة ابن سعد في ابن خلكان ٥٠٧ ج١، والفهرست ٩٩.

(٤-٣) الأنساب وكتابها

ونعد الأنساب من قبيل التاريخ دعا إلى وضعها حاجة الناس إلى العطاء على الأنساب حسب ديوان عمر. وقد ذكرنا في الجزء الأول ما كان منها في الجاهلية، وفي العصر الأموي، وقد نبغ من علماء النسب في العصر العباسي الأول الذي نحن في صدده جماعة أشهرهم:
  • (١)
    هشام الكلبي (المتوفى سنة ٢٠٦ﻫ): هو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب بن بشر الكلبي. نشأ في الكوفة، وكان نسَّابة عالمًا بأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها. أخذ عن أبيه محمد بن السائب، وكان محمد هذا من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار وأيام الناس، معدودًا بين المفسرين والنسَّابين. توفي بالكوفة سنة ١٤٦ﻫ، ولم يخلف إلا كتابًا في تفسير القرآن. أما هشام فخلف نحو مائة كتاب ذكرها صاحب الفهرست مفصلًا صفحة (٩٦–٩٨)، وقسمها إلى أبواب بعضها في الأحلاف والبعض الآخر في المآثر والبيوتات والمنافرات والموءودات، وبعضها في أخبار الأوائل، وبعضها فيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وغيرها في أخبار الإسلام، وأخبار البلدان، وأخبار الشعر، وأيام العرب، وفي الأخبار، والأسمار، والأنساب. وأهم كتبه في الأنساب كتاب النسب الكبير، ويحتوي على أنساب أهم قبائل العرب من العدنانية والقحطانية، فضلًا عن الأنساب المفردة لأشهر القبائل على حدة مما يضيق المقام عن وصفه، ولا فائدة منه؛ لأن هذه الكتب ضاعت منذ أزمان، ولم يبق منها إلا الروايات المنقولة في كتب النسب ونحوها منسوبة إليه، وقطع محفوظة في بعض المكاتب منها:
    • (أ)

      جزء من كتاب النسب الكبير أو جمهرة الأنساب منه نسخ خطية في مكاتب باريس والإسكوريال وأكسفورد ولندن وغيرها.

    • (ب)

      نسب فحول الخيل في الجاهلية والإسلام: منه نسخ في غوطا والإسكوريال وفينا.

    • (جـ)

      كتاب الأصنام: أو كتاب تنكيس الأصنام، نقل معظمه ياقوت في معجم البلدان، وهو يشير هناك إلى مأخذه، ومنه نسخة في جملة كتب زكي باشا في ٢٩ ورقة.

      وتجد ترجمة هشام الكلبي في ابن خلكان ١٩٥ ج٢، وطبقات الأدباء ١١٦، والفهرست ٩٥.

ومن النسابين في هذا العصر:
  • (٢)
    الهيثم بن عدي الكوفي: المتوفى سنة ٢٠٧ﻫ، ذكر له صاحب الفهرست عشرات من الكتب.
  • (٣)
    المدائني: المتوفى سنة ٢٢٥، ذكر له أيضًا كثيرًا من المؤلفات تزيد على ما ذكره لهشام الكلبي.
  • (٤)
    ابن عبدة.
  • (٥)
    علان الشعوبي.

وغيرهم. ولو جمعت كتبهم في النسب وغيره لزادت على بضع مئات لم يصلنا منها غير ما يرد ذكره عرضًا منقولًا عنهم في كتب الأدب أو التاريخ أو الفتوح، كالطبري والبلاذري وياقوت وأبي الفرج صاحب الأغاني وغيرهم.

(٤-٤) السيرة النبوية

وقد يسمونها «المغازي»، وذكروا أسماء كثيرين اشتغلوا بجمعها في أواخر القرن الأول وفي النصف الأول من القرن الثاني للهجرة، لم يصح منها إلا كتاب المغازي لابن مسلم الزهري المتوفى سنة ١٢٤، وقد ضاع، وكتاب المغازي لموسى بن عقبة المتوفى سنة ١٤١ﻫ، وفي مكتبة برلين نسخة بهذا الاسم جمعها يوسف بن محمد بن عمر تشتمل على الغزوات النبوية، ومنها قطع منتخبة طبعت في أوروبا سنة ١٩٠٤.

سيرة ابن هشام

وأما سيرة النبي كاملة فأقدم ما وصل إلينا منها سيرة محمد بن إسحاق رواية عبد الملك بن هشام، وقد اتفقوا على صحتها، وفيها أيضًا نسب النبي وكثير من أخبار الجاهلية وأنسابهم وعاداتهم وأديانهم ونحوها. ويرى الناقد فيها كثيرًا من القصائد يغلب على الظن أنها دخيلة، وذكر صاحب الفهرست أنهم كانوا يعملون الأشعار، ويأتون بها إلى ابن إسحاق ويسألونه أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل. أما السيرة أو المغازي فهي أقدم المصادر التي بين أيدينا وأوثقها.

عبد الملك بن هشام (توفي سنة ٢١٣ﻫ)

وقد قدمنا أن السيرة المذكورة هي رواية ابن هشام، وهو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، كان مشهورًا بعلم النسب والنحو. أصله من البصرة، وأقام في مصر، وألف كتبًا في الأنساب ضاعت، وتوفي بمصر سنة ٢١٣، وهو الذي روى سيرة النبي من المغازي والسير لابن إسحاق، وهذَّبها ولخَّصها، وهي الموجود في أيدي الناس. وترجمته في ابن خلكان ٢٩٠ ج١.

محمد بن إسحاق (توفي سنة ١٥١ﻫ)

أما ابن إسحاق صاحب السيرة الأصلي، فهو أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني بالمقام، كان جده يسار مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، سباه خالد بن الوليد في عين النمر. وكان ابن إسحاق ثبتًا في الحديث والمغازي، فسمع عن أكثر العلماء. أتى إلى المنصور وهو في الحيرة فكتب له المغازي، فسمع منه أهل الكوفة بذلك السبب، وتوفي ببغداد سنة ١٥١ﻫ. ومن كتبه في المغازي أخذ عبد الملك بن هشام السيرة التي نحن في صددها. وترجمته في ابن خلكان ٤٨٣ ج١.

وقد طبعت السيرة مرارًا أضبطها طبعة غوتنجن سنة ١٨٦٠ بعناية ووستنفيلد المستشرق الألماني في مجلدين مضبوطة بالشكل اللازم، وألحقها بجزء ثالث فيه تعاليق وملاحظات وفهارس. وفي صدره ترجمة ابن إسحاق نقلًا عن ابن قتيبة وابن خلكان وابن النجار. ونقل عن كتاب عيون الأثر لابن سيد الناس اليعفري من أهل القرن الثامن للهجرة ما قيل في ابن إسحاق ومناقبه، وما قيل من الطعن فيه والرد على الطعن، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة. وقد طبعت السيرة أيضًا في بولاق في ثلاثة أجزاء سنة ١٢٩٥. ومنها نسخ خطية في أكثر مكاتب أوروبا. وترجمها وايل المستشرق إلى الألمانية، ونشرت الترجمة في ستتجارت سنة ١٨٦٤.

وأما النسخة الأصلية رواية ابن إسحاق، فالمظنون أن منها نسخة في مكتبة كوبرلي بالآستانة. ووقفنا على كتاب خاص بتراجم الرجال الذين روى محمد بن إسحاق عنهم طبع في ليدن سنة ١٨٩٠.

(٤-٥) الخلاصة

وبالجملة لم يبق أديب من أدباء ذلك العصر إلا وأتى في كتبه على شيء من التاريخ كما فعل الأصمعي وأصحابه، وكذلك المترجمون فإنهم كتبوا كثيرًا من الحوادث وذهبت كتبهم. ولبيان ذلك راجع مقدمة مروج الذهب للمسعودي، فتجد أسماء عشرات من خيرة المؤلفين الذين استعان بهم المسعودي في تأليف كتابه، وأكثر مؤلفيها من أبناء العصر العباسي الأول لم يبق من مؤلفاتهم شيء إلى اليوم، ولعلنا نقف على شيء منها بالبحث كما اتفق للدكتور كيلر الألماني منذ عامين؛ فإنه عثر على الجزء السادس من كتاب تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر المعروف بطيفور المتوفى سنة ٢٨٠ﻫ، وسنعود إليه … وكما وقفنا على طبقات ابن سلام الجمحي، بعد أن ظل المستشرقون دهرًا يأسفون لضياعها وألفوا في ذلك الكتب والرسائل.

(٥) نظرة عامة

انقضى العصر العباسي الأول، وهو فاتحة العصور العباسية، وفيه نضج النحو، ووضع علم العروض، وظهر أئمة الفقه ووضعوا أساس المذاهب الأربعة الباقية إلى الآن، وتكاثر الأدباء والشعراء، وتميز الشعر بالحضارة، وتبدلت طريقته وتلطف أسلوبه، وتولدت فيه أبواب جديدة.

وفيه دخل اللغة العربية طائفةٌ من العلوم القديمة؛ نعني علوم اليونان والفرس والهند وغيرهم، وظهرت المؤلفات فيها فضلًا عن الترجمات.

وكان أكثر اشتغال أدباء البصرة والكوفة في اللغة العربية، وجمع ألفاظها وأخبار أصحابها وأمثالهم وأشعارهم وأنسابهم. وفيه وضعت السيرة النبوية وكتب المغازي والفتوح، وأكثر المشتغلين في هذه النهضة الموالي وأهل الذمة وبعض العرب.

وهناك علوم أخرى ستولد أو تنشأ في الأعصر الآتية، وبعض العلوم التي ولدت في هذا العصر ستنضج فيما يلي، وسيأتي الكلام على كل شيء في مكانه.

ومما يستلفت الانتباه من أخبار هذا العصر كثرة ما وضع فيه من كتب الأدب واللغة والنحو والنسب ومجاميع الأشعار والأخبار والأمثال، مما يعد بالمئات أو الألوف ولم يبقَ منها إلا بضع عشرات، وقد تقرأ لأحدهم مئات من أسماء الكتب التي ألفها ثم لا تجد منها إلا كتابًا أو بضعة كتب كما رأيت في أخبار المدائني وهشام الكلبي وأبي عبيدة والأصمعي وغيرهم، وبعضهم لم يبق من آثارهم شيء.

على أن هذا العصر أحسن حظًّا من العصر الأموي الذي سبقه، وستكون الأعصر الآتية أحسن حظًّا منه.

هوامش

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ٣٠ ج٢.
(٢) ابن خلكان ٤٣٩ ج١.
(٣) ابن خلكان ١٦٥ ج٢.
(٤) الشهرستاني ١٢٢ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤