المدارس الحديثة

نعني المدارس التي أنشئت على نظام مدارس أوربا لتعليم العلوم الحديثة، وكانت مصر والشام أسبق سائر العالم العربي لاقتباسها، فنقصر كلامنا على تاريخ المدارس في هذين البلدين بالأكثر، ولكل منهما عامل ساعد على ذلك يختلف عن العامل الذي ساعد الآخر، ونقدم الكلام في تاريخ المدارس المصرية؛ لأنها أسبق إلى الظهور، وأسرع في النمو.

(١) المدارس الحديثة في مصر

(١-١) تمهيد في التعليم بمصر قبل هذه النهضة

وقبل التقدم إلى هذه المدارس نقول كلمة في حال المدارس قبلها، وقد جاء شيء من ذلك في أماكن مختلفة من هذا الكتاب، وكتبنا فصولًا عنها في تاريخ التمدُّن الإسلامي (ج٢)، وفي الهلال سنة ١٥ و١٩ وغيرها، وإنما يهمنا هنا حال التعليم في مصر في أول القرن التاسع عشر قبل دخول التعليم الحديث، وكان مركز التعليم الإسلامي يومئذٍ في مدرسة الأزهر، وكانت هذه المدرسة مبعث نور العرفان لمصر وغيرها من العالم الإسلامي.

الأزهر

هو أقدم المدارس المصرية، ومن أقدم المدارس الكبرى في العالم على الإجمال؛ لأنه أنشئ منذ نحو ألف سنة، ويندر في مدارس العالم الكبرى اليوم مدرسة مرَّ عليها عشرة قرون ولا تزال باقية، وقد توالت على الأزهر أحوال شتى بين عسر ويسر، وله فضل خاص على آداب اللغة العربية؛ لأنه احتفظ بها في أثناء الأجيال المظلمة.

ولما أراد محمد علي النهوض بالأمة المصرية لتخريج المعلمين، أو الصناع الماهرين، أو غيرهم ممن يستعين بهم في عمله، استعان بطلبة الأزهر، فاختار منهم طائفة أرسلهم إلى أوربا لتلقي العلم أو الطب، أو تعلم الطباعة والفنون الأخرى، ولا يزال حتى الآن مجتمع الشبيبة الإسلامية المصرية وغير المصرية تأتيه من أقطار العالم الإسلامي على اختلاف الأجناس واللغات، وبين طلاب الأزهر العربيُّ والتركي والسوداني والفارسي والهندي والجاوي والشركسي والأفغاني والصيني وغيرهم، وكلهم يتلقَّون العلم فيه باللغة العربية، فهو أكبر وسيلة لنشر هذا اللسان وتأييده.

تاريخه القديم

بنى جامع الأزهر القائدُ جوهر فاتح مصر للخلفاء الفاطميين في أواسط القرن الرابع للهجرة، وكان الغرض من بنائه إقامة الشعائر الدينية، وتأييد مذهب الشيعة العلوية؛ لاختلاط السياسة بالدين في ذلك العهد، وبذلوا جهدهم في تقريب العلماء، فاستقدموهم من سائر أقطار العالم الإسلامي، وأجروا عليهم الأرزاق، وفرقوا فيهم الأموال، وكانت أكثر مجالسهم في الأزهر على عادة الفقهاء يومئذٍ، فتزاحمت فيه الأقدام، وكانوا كلما ضاق بهم وسَّعوه بأبنية ينشئونها بجانبه، ويوسعون دوره حتى أصبحت سعته الآن نحو ١٢٠٠٠ متر، وكانت أقل من نصف ذلك.

وكانت أعطية الفقهاء في أول الأمر على غير قياس أو ميقات، فلما أفضت الخلافة إلى العزيز بالله ثاني الخلفاء الفاطميين سنة ٣٦٥ﻫ، أمر وزيره يعقوب بن كلس أن يرتب للفقهاء أرزاقًا معينة، وأن يبني لهم منازل يقيمون فيها بجانب الجامع، وكانوا يأتون المسجد في بادئ الرأي لصلاة الجمعة، وقراءة الفقه على رأي الشيعة، والوعظ والمباحثة، فتدرَّجوا من القراءة إلى التعليم حتى أصبح الجامع مدرسة كبرى أكثر دخلها مما وقفه لها الخلفاء والأمراء، ويُقدَّر دخله السنوي اليوم بعشرين ألف جنيه.

تاريخه الحديث

ظل الأزهر مدرسة شيعية طول مدة الفاطميين (نحو مائتي سنة) حتى غلبهم صلاح الدين على مصر، وبايع للخليفة العباسي فصارت خطته سُنِّية، ولا تزال كذلك إلى الآن، وكانت علومه في أول أمره قاصرة على الفقه وعلوم الدين، ثم دخلت فيه الرياضيات والنجوم وبعض العلوم الطبيعية، على أنها لم تكن بالشيء الهام، وإنما كانت أهمية الأزهر قائمة بالعلوم الإسلامية واللغوية، وأُغفِل ما سواها بتوالي الأجيال، ولا سيما في القرون المظلمة على عهد المماليك، ولما انتبه المسلمون إلى شئونهم العلمية في أواخر القرن الماضي، اهتم العقلاء بإصلاح الأزهر، وأرادوا إدخال العلوم الطبيعية والرياضية فيه، لكنهم خافوا أن يفاجئوا الناس بهذا الإصلاح؛ لأنه يخالف ما رسخ في أذهانهم من تقبيح العلوم الطبيعية، وما يُبنَى عليها، واتهام أصحابها بالكفر، فرأت الحكومة أن تمهد ذلك بفتوى من كبار الفقهاء، فاستفتت المرحومَيْن الشيخ محمد الأنبابي شيخ جامع الأزهر، والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في «هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات، وتركيب الأجزاء المعبَّر عنها بالكيمياء، وغيرها من سائر المعارف؟» فأجاب الشيخ الأنبابي جوابًا مؤرَّخًا في أول ذي الحجة سنة ١٣٠٥ﻫ، خلاصته جواز تعليم تلك العلوم مع بيان النفع من تعلمها، وصادق الشيخ البنا على هذه الفتوى بتاريخ ٧ منه.

ثم تصدى المرحوم الشيخ محمد عبده لإصلاح الأزهر، وتطبيق علومه على حاجة الأمة في هذا العصر، فلقي مقاومة شديدة من المحافظين على القديم، وانتهت المساعي بإضافة مبادئ الهندسة والجغرافية والعلوم العقلية والإنشاء والأدب، لكن روح المرحوم محمد عبده انتشرت في الأزهر، فنشأ من تلاميذه طائفة حسنة من مستقلي الفكر، ومحبي الاطلاع على العلوم الحديثة، وتفهم الأمور، والتمييز بين النافع والضار من العلوم.

وطلبة الأزهر الآن يزيد عددهم عن عشرة آلاف طالب على اختلاف الأجناس واللغات، تسعة أعشارهم من المصريين، تقيم كل طائفة منهم في رواق خاص بها يُنسَب إليها، فللمصريين ١١ رواقًا، لكل جهة من جهات القطر رواق خاص بها، كرواق الصعايدة والبحيرة والفيومية وغيرها، ولغير المصريين ١٦ رواقًا: لأهل الحجاز، ودارفور، والشام، والعراق، والمغرب، وجاوي، وأفغانستان، والأتراك، وسنار، وأهل بورنو، والحبشة، واليمن، والأكراد، والهنود، والنوبة، والدكارنة، وتختلف هذه الأروقة سعة باختلاف عدد سكانها، وله قوانين وشروط ودرجات،١ وفي الأزهر مكتبة سيأتي ذكرها.

(١-٢) المدارس المصرية في أيام محمد علي

إن الفضل الأكبر في إنشاء هذه المدارس للمغفور له محمد علي باشا جد العائلة الخديوية، وهو صاحب النهضة العلمية كلها، أما المدارس فإنه سبق إلى إنشائها لأسباب طبيعية اقتضتها أحواله السياسية، فضلًا عن رغبته في نشر العلم، بدأ بالمدرسة الحربية سدًّا لحاجته إلى جند منظم، ثم تدرَّج إلى سائر المدارس.

المدارس الحربية

  • (١)
    المدرسة التجهيزية الحربية في قصر العيني: تولى محمد علي ولاية مصر سنة ١٨٠٥م، وصادق الباب العالي على ولايته، لكنه ظل خائفًا من المماليك؛ لئلا تسنح لهم فرصة يثبون بها عليه كما كانوا يفعلون مع سواه من الولاة، فسبقهم وفتك بهم بقلعة القاهرة سنة ١٨١١، وقبض أموالهم وأملاكهم، وأباح نساءهم وبيوتهم كما هو مشهور، وكان في جملة ما قبضه من أموالهم عدد كبير من صغار المماليك الشراكسة، فانتقى أكبرهم سنًّا جعلهم في جملة الجند المولج بحراسته في قصره، واستبقى صغارهم في القلعة يتربَّون فيها على جاري العادة في تربية الغلمان المماليك عند الأمراء في ذلك العهد؛ استعدادًا للخدمة العسكرية أو غيرها، فكانوا يحفِّظونهم القرآن، ويعلِّمونهم الخط واللغة التركية، والرياضة البدنية، والحركات العسكرية، وركوب الخيل.
    وكان محمد علي كبير المطامع لا يقنع بالولاية، فحدَّثته نفسه بتوسيع دائرة سلطانه، وعلم أن ذلك لا يتأتَّى له إلا بجند منظَّم، فعزم سنة ١٨١٦ أن يؤلف جندًا على النظام المتَّبَع في أوربا، فلاقى من جنده الألباني مقاومة شديدة؛ لأن ذلك النظام يذهب بأهميتهم، ويُضعِف نفوذهم، فرأى أن ينفِّذ مشروعه بعيدًا عنهم، فانتخب أكبر أولئك المماليك، وأرسلهم إلى الصعيد يتعلمون النظام العسكري الحديث على أساتذة من الإفرنج، وعلم أن هؤلاء التلاميذ لا يلبثون أن يصيروا جندًا فتفرغ أماكنهم في تلك المدرسة، فأنشأ في قصر العيني سنة ١٨٢٥ مدرسة إعدادية سمَّاها المدرسة التجهيزية الحربية، أدخل فيها نحو ٥٠٠ غلام، بعضهم من صغار المماليك، والبعض الآخر من أبناء الأتراك والأكراد والألبانيين والأرمن واليونان، وغيرهم ممن كانوا في خدمته، وليس فيهم وطني واحد، فكانوا يعلِّمونهم القرآن والنحو وآداب اللغة التركية والفارسية والعربية، وأما لغة التعليم فهي التركية، ونظرًا لأنهم ينوون إدخالهم المدرسة الحربية، فكانوا يعلِّمونهم مبادئ الحساب والهندسة والجبر والرسم واللغة الإيطالية؛ لأن أكثر أساتذة المدرسة الحربية كانوا يومئذٍ من الإيطاليين.
    figure
    المستشفى العسكري في أبي زعبل سنة ١٨٢٥.
    وكان محمد علي راغبًا في سرعة تنظيم الجند، فأوفد جماعة من أولئك المماليك إلى ليفورن وميلان وفلورنسا ورومية سنة ١٨١٦ لدرس الحركات العسكرية وبناء السفن والطباعة والهندسة وغيرها من الفنون الحربية — أشار عليه بذلك الأساتذة الإيطاليون، وكان قد بدأ بإرسال الطلبة لهذه الأغراض منذ سنة ١٨١٣ — ثم أرسل غلمانًا آخرين سنة ١٨١٨ إلى إنكلترا لدرس الميكانيكيات، وسلك الأبحر، ونواميس السائلات.٢

    وأما المدرسة التجهيزية المشار إليها فاستمرت في التقدم، وصاروا يعدون فيها الطلبة للطب أيضًا بعد إنشاء مدرسة الطب كما سيجيء، وكان فيها مكتبة عدد كتبها ١٥٠٠٠ مجلد في اللغات الفرنساوية والإيطالية والعربية، وبلغ عدد تلاميذها نحو ٨٠٠ طالب أكثرهم من أبناء المماليك.

  • (٢)
    مدرسة أركان حرب في أبي زعبل: ثم عمد محمد علي إلى إنشاء المدرسة الحربية على أساس فرنساوي، وقد أشار عليه بذلك الحاج عثمان نور الدين بك من أعوانه العقلاء، وكان قد سافر إلى باريس، وأقام فيها سنتين (١٨١٩-١٨٢٠)، فأوعز إليه أن يكون أساتذة هذه المدرسة من الفرنساويين، فأنشأها سنة ١٨٢٥ قرب أبي زعبل بجوار القاهرة على ٤٠٠ متر من المعسكر العام، وسماها «مدرسة أركان حرب»، وجعلها على نظام مدارس فرنسا الحربية لتخريج الضباط، وبلغ عدد تلاميذها في السنة التالية ٨٨ تلميذًا، كانوا يتعلمون فيها الرياضيات والرسم والجغرافية الحربية والطبجية وهندسة الحصون وسائر العلوم الحربية، واللغات الفرنساوية والتركية والفارسية، وأكثر أساتذتها من الفرنساويين، ورئيسها فرنساوي اسمه بلانا (Planat) يقدم تلاميذها الامتحان بعد ثلاث سنوات، وينال الفائز الشهادة الدالة على كفاءته العسكرية.

مشروعاته الأخرى، والإرسالية العلمية الأولى

figure
جومار — مدير الإرسالية المصرية الأولى إلى فرنسا سنة ١٨٢٦.

ثم رأى الحاجة ماسة إلى أطباء لتطبيب الجند، فأنشأ المدرسة الطبية في أبي زعبل سنة ١٨٢٦، وكان هناك مستشفى كبير يسع ١٦٠٠ مريض، وعهد بإدارتها إلى الدكتور كلوت بك كما سيجيء، ثم أخذ في سائر مشروعاته الإصلاحية للصناعة والتجارة والعلم، وآماله في الإصلاح متجهة نحو فرنسا.

وتعجيلًا لثمار سعيه في إعداد الجند المنظم وتطبيبه، والعمل على استخراج المعادن واستثمار الأرض وإنشاء المعامل وغيرها، رأى أن يرسل من يتعلم ذلك في فرنسا، فاختار بضعة وأربعين شابًّا من أمم مختلفة، عهد بإدارة شئونهم إلى المستشرق الفرنساوي جومار، وعيَّن لكل جماعة منهم العلوم التي يتعلمونها، وهي الإرسالية العلمية الأولى، وهذه أسماؤهم وموالدهم، وما ذهبوا لطلبه من العلوم والفنون:
تلاميذ الإرسالية المصرية العلمية الأولى إلى باريس سنة ١٨٢٦ (مرتبة أسماؤهم حسب العلوم التي ذهبوا لتعلمها)
اسم الطالب مكان ولادته سنُّه
لتعليم الإدارة الملكية
عيدي أفندي المهردار الأستانة ٢٩
أرتين أفندي أرمني الأستانة ٢٢
سليم أفندي جورجيا ١٩
محمد خسرو جورجيا ٢١
للإدارة العسكرية
مصطفى أفندي مختار قولة ٢٤
راشد أفندي قولة ٢٤
أحمد أفندي قولة ٢٥
سليمان أفندي شركسي ١٨
للإدارة البحرية
حسن الإسكندراني ٣٧
محمود أفندي شركسي ٢١
محمد شنان أفندي شركسي ٢٠
للسياسة
إسطفان أفندي أرمني سباسطية ٢٢
خسرو أفندي أرمني الأستانة ١٨
لنواميس السائلات
مصطفى محرمجي القاهرة ١٧
أحمد شعبان القاهرة ١٧
يوسف العياضي القاهرة ١٨
للطب والجراحة والتشريح … إلخ
علي هيبة القاهرة ١٨
محمد الدشطوطي القاهرة ٢٣
للزراعة
يوسف أفندي أرمني ٢٣
خليل محمود القاهرة ٢٠
للتاريخ الطبيعي والمعادن
علي حسين القاهرة ١٨
أحمد النجدلي القاهرة ١٦
أحمد أفندي يوناني ١٨
محمد بيومي القاهرة ١٧
للميكانيكيات
الشيخ أحمد العطار القاهرة ٢٧
للهندسة العسكرية
مظهر أفندي القاهرة ١٧
سليمان أفندي البحيري القاهرة ١٨
علي أفندي جورجيا ١٨
للطبجية
عمر أفندي شركسي ٢٠
سليمان لاز أفندي طرابزون ٢٥
لاصطناع الأسلحة ومسابك الحديد
أمين أفندي الأستانة
احمد حسن حنفي القاهرة ١٨
للطبع والحفر
حسن الورداني القاهرة ١٧
محمد أسعد القاهرة ١٥
للكيمياء
عمر الكومي القاهرة ١٨
أحمد يوسف القاهرة ٢٠
للترجمة
الشيخ رفاعة طهطا ٢٤
تلامذة عادوا إلى مصر
الشيخ محمد الرقيقة
إبراهيم وهبة
الشيخ العلوي
لأغراض غير معينة
أمين أفندي
أحمد أفندي
تلامذة سافروا إلى طولون ومرسيليا
حسين أفندي
قاسم الجندي*
Journal Asiatique, 1828.
يظهر من هذا الجدول أن الإرسالية العلمية الأولى إلى فرنسا كان عددها ٤٤ طالبًا، عاد منهم ٣ والباقون ٤١ بينهم ثلاثة رؤساء هم: عبدي أفندي المهردار في الإدارة الملكية، ومصطفى أفندي مختار الدويدار في الإدارة العسكرية، والحاج حسن الإسكندراني في البحرية،٣ يبقى ٣٨ طالبًا، منهم ٤ أرمن مسيحيون، و٣٤ مسلمون بينهم ثلاثة مشائخ.

وقد كان لهذه الإرسالية دوي في عالم الأدب بأوربا، ولا سيما في باريس؛ لأنها دلت على علو همة محمد علي، وشدة رغبته في إصلاح وادي النيل، فعني بعض المصورين في تصوير أفراد تلك الإرسالية كما رأوهم بأزيائهم الشرقية وعمائهم العربية؛ لتحفظ في المتاحف، وطبع آخرون من تلك الصور نسخًا قليلة يعز وجودها، وفي الشكل الآتي أمثلة من تلك الصور بشكلها الشرقي تمثل أزياء موظفي رجال الحكومة في أوائل أيام محمد علي، وتحت كل صورة اسم المنصب الذي بلغ إليه صاحبها في الحكومة المصرية.

فحسن بك ناظر البحرية هو الحاج حسن الإسكندراني الوارد ذكره في الجدول، وسنه ٣٧، ذهب ليتعلم الإدارة البحرية فصار ناظرها.

وأمين بك ناظر الكهرجلات صورته بجانب صورة حسن بك، وهو أمين أفندي من الأستانة، ذهب في تلك الإرسالية لدرس اصطناع الأسلحة ومسابك الحديد، فارتقى في هذه الفنون وصار ناظر الكهرجلات، ومعناه في اصطلاحهم ناظر معمل البارود.
figure
خمسة من تلاميذ الإرسالية المصرية الأولى إلى باريس، وهم في الأعلى من اليمين: حسن بك ناظر البحرية، يليه أمين بك ناظر الكهرجلات، وفي الأسفل من اليمين: محمد بيومي مدرس مدرسة الطب، ومصطفى محرمجي مهندس قناطر وجسور، ومظهر بك مهندس قناطر وجسور.

ومحمد بيومي في أول الصف الثاني من طلاب نواميس السائلات، لكنه صار مدرسًا في مدرسة الطب، يليه مصطفى محرمجي رفيقه صار مهندس قناطر وجسور، ثم مظهر أفندي أصله من طلاب الهندسة العسكرية صار مهندس قناطر وجسور، وقِسْ على ذلك أغلب أولئك الطلاب، وسنأتي على تراجم الذين نبغوا منهم، وخلفوا آثارًا تستحق الذكر، وننشر رسومهم، كما نأتي على تراجم النابغين من الإرساليات الأخرى وغيرها.

ديوان المدارس

هذه هي الخطوة الأولى التي خطاها محمد علي نحو إنشاء المدارس العلمية، ثم أرسل إرساليات أخرى في أوقات مختلفة، فبلغ عدد الذين أُرِسلوا إلى أوربا في أيامه أفرادًا وجماعات (بين سنة ١٨١٣ و١٨٤٩) ٣١٩ شخصًا، أنفق عليهم ٢٢٣٢٣٣ جنيهًا، واتخذ من نوابغ أولئك الطلبة معلمين ومترجمين لمدارسه، وأطباء لجنده، وموظفين لحكومته، وعمالًا في إدارته، وتعددت المدارس وكانت تابعة في أول أمرها للعسكرية، فأنشأ لها إدارة ملكية خاصة سنة ١٨٣٦ سماها ديوان المدارس، وهي التي سُميت بعد ذلك نظارة المعارف، وإليك أعضاء ديوان المدارس عند أول تكونه:
  • كلوت بك

  • كياني بك

  • أرتين بك (والد يعقوب باشا أرتين)

  • هكيكيان بك

  • وارين بك

  • رفاعة بك

  • محمد بيومي أفندي

  • لامبر

  • هامون

  • دوزول (سكرتير)

وبين أعضاء هذا الديوان جماعة من تلاميذ الإرساليات الذين تخرَّجوا في باريس، وعُيِّن رئيسًا لهذا الديوان مصطفى مختار الدويدار المتقدم ذكره، وعُرِف بمختار بك، فهو أول ناظر للمعارف بمصر.
figure
مصطفى مختار بك أول ناظر للمعارف بمصر.
وكان تلامذة المدارس الوطنيون إلى ذلك العهد لا يزالون قليلين، ولم يكونوا ينضمون إلى تلك المدارس إلا كرهًا، فلما رأوا ما ناله المتعلمون من المناصب والرواتب جعلوا يتكاثرون، فأخذ محمد علي بإنشاء مدارس ابتدائية وثانوية في أنحاء القطر، وجعل التعليم كله في اللغة العربية، واستعان بالمتقاعدين من ضباط الجيش المتخرجين في أوربا، وفي سنة ١٨٣٩ أصبحت المدارس الكبرى في القاهرة ١٦ مدرسة، هذه أسماؤها مع سني تأسيسها:
مدرسة الموسيقى العسكرية تأسست سنة ١٨٢٤
المدرسة التجهيزية الحربية في قصر العيني تأسست سنة ١٨٢٥
مدرسة الطب والصيدلة تأسست سنة ١٨٢٦
مدرسة الكيمياء العملية تأسست سنة ١٨٢٩
مدرسة المشاة تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة الفرسان تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة الطبجية تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة البحرية تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة طب الحيوان تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة التعدين تأسست سنة ١٨٣٤
مدرسة الهندسة تأسست سنة ١٨٣٤
مدرسة الزراعة تأسست سنة ١٨٣٧
مدرسة الولادة تأسست سنة ١٨٣٧
مدرسة الإدارة الملكية والحسابات تأسست سنة ١٨٣٧
مدرسة الألسن والترجمة تأسست سنة ١٨٣٧
مدرسة الصنائع والفنون تأسست سنة ١٨٣٩

وبلغ عدد التلاميذ في المدارس كلها نحو ٩٠٠٠ تلميذ، تنفق الحكومة على تعليمهم ولبسهم وطعامهم وسكنهم، والسبب في مكابدتهم الإنفاق عليهم أن معظمهم في الأصل من غلمان المماليك، فهم ملك الحكومة، وهي بالطبع مكلَّفة بإعالتهم، فلما استكثرت من التلاميذ الوطنيين عاملتهم تلك المعاملة، فجعلت تعليمهم مجانًا، ولم يكن لها بد من ذلك؛ لأنهم كانوا يدخلون تلك المدارس رغم إرادتهم، وهم يكرهون التعليم فيها كما كانوا يكرهون الجندية، وظل ذلك شأن التعليم بمصر إلى آخر أيام محمد علي سنة ١٨٤٨.

المدرسة المصرية في باريس

ولما أفضت ولاية مصر إلى ابنه إبراهيم توقع الناس تغييرًا في التعليم؛ لأنه كان قد أعد إصلاحًا مهمًّا على أثر رحلته في أوربا، ولكن الأجل عاجله قبل مباشرة العمل، وكان ديوان المدارس قد نظر منذ تأسيسه سنة ١٨٣٦ في التعليم العالي، وقرر عجز مصر عن القيام به لسببين: الأول خلوها من أساتذة قادرين على تدريس العلوم العالية، والثاني خلو اللغة العربية من الكتب اللازمة لهذه العلوم؛ ولهذين السببين قررت الحكومة الاستمرار على إرسال التلاميذ على أوربا للتفقه بالعلوم العالية، لكنها أصبحت لا ترسل غير النجباء المتخرجين في المدارس الكبرى، ولم يكن بد للتلاميذ المشار إليهم من معرفة لغة البلاد التي سيُتِمُّون علمهم في مدرستها، فأنشئوا لهذه الغاية مدرسة مصرية في باريس يديرها إسطفان بك من تلاميذ الإرسالية الأولى، معه وكيل أرمني اسمه خليل أفندي جراكيان، وأما الأساتذة فعيَّنتهم نظارة الحربية الفرنساوية من ضباط جندها.

فأرسلت الحكومة المصرية إلى هذه المدرسة نحو أربعين طالبًا، فيهم جماعة من أمراء العائلة الخديوية، وفي جملتهم البرنسان حليم وحسين ابنا محمد علي، والبرنسان أحمد وإسماعيل (الخديوي) ابنا إبراهيم، واتفق أن إبراهيم باشا مرَّ بتلك المدرسة في أثناء سياحته بأوربا، ومعه سكرتيره نوبار باشا، فأعجب بنجاحها من حيث التعليم، لكنه انتقد تقصيرها في التربية؛ لأن التلاميذ كانوا يُرسَلون إليها وهم في حدود الشباب، فارتأى أن يأتوها وهم بين الثامنة والتاسعة من العمر ليتعلموا ويتربوا معًا، وعزم أنه حالما يرجع إلى مصر يأمر رجاله جميعًا بإرسال أولادهم إلى هذه المدرسة وهم أحداث، لكن المنية عاجلته، والثورة الفرنساوية آلت إلى إقفال المدرسة سنة ١٨٤٨.

وبالجملة فإن محمد علي خدم آداب اللغة العربية بإحياء الجامعة العربية واللغة العربية، حتى الأزياء العربية فإنه كان يكره مَن يدخل في خدمته من الإفرنج أن يتزيَّوا بالزي العربي، ويتكلموا اللغة العربية، ويؤلِّفوا فيها أو ينقلوا كتبهم إليها، كما ستراه في الكلام على العلوم الدخيلة.

(١-٣) المدارس المصرية في عهد إسماعيل

توقفت هذه الحركة الفكرية المباركة في زمن عباس الأول وسعيد (١٨٤٩–١٨٦٣)؛ لأنهما كانا راغبين في الحربية عن سواها، فأقفلت أكثر المدارس المصرية وغيرها من عوامل هذه النهضة، ومن أسباب إقفالها أن المتخرجين في تلك المدارس زادوا عن حاجة الحكومة إلى موظفين؛ لأن الغرض الأصلي من التعليم كان يومئذٍ تخريج عمال للحكومة أو ضباط للجند، فلما فرغت الدولة المصرية من حروبها، وأُلغيت احتكارات الحكومة، وأُقفلت المعامل التي كان قد أنشأها محمد علي لتلبية مطالبه، زاد عدد الشبان المتعلمين تعليمًا عاليًا على المناصب الخالية، وأصبح جماعة منهم عالة على الحكومة، فلما تولى عباس باشا ألغى المدارس العالية إلا المدرسة الحربية.

فلما أفضت الخديوية إلى إسماعيل باشا سنة ١٨٦٣ أخذ في إحياء هذه المدارس، ولم يكن في مصر عند أول حكمه إلا مدرسة واحدة ابتدائية، ومدرسة حربية، ومدرسة طبية وصيدلية، فأخذ في إنشاء المدرس للعلم والهندسة والطب والحربية نحو ما فعل جده قبله، وعاد إلى إرسال الإرساليات، وأصبح غرض التعليم غير محصور في تخريج الموظفين، بل يراد به أيضًا ترقية نفوس الأمة، وإحياء آداب العرب، وحدثت في أيامه نهضة أدبية بمن وفد على مصر من رجال الأدب من كل الطوائف، فكان من جملة سعيه في سبيل هذه النهضة تنشيط التعليم وتنظيمه، فأنشأ نظارة المعارف، وعهد إليها بتنظيم المدارس على نمط جديد، فألحقوا المدرسة الحربية بنظارة الحربية، وسموا ما بقي من المدارس «المدارس الملكية» تحت نظارة المعارف العمومية، وقسموها إلى ثلاث طبقات باعتبار درجة التعليم: ابتدائية، وثانوية، وعليا، وأنشئوا مدارس لم تكن من قبلُ كمدرسة الإدارة (ثم صارت مدرسة الحقوق)، ومدرسة دار العلوم، ومدرسة الصنائع والفنون في بولاق، ومدرسة المعلمين، وأعادوا مدرسة الألسن لتخريج شبان يتولون الترجمة والتحرير في الدواوين.

ولم تمضِ عشر سنوات من حكم إسماعيل حتى كمل نظام هذه المدارس، وعنيت الحكومة بإنشاء الكتاتيب في سائر أنحاء القطر، فبلغ عددها بضعة آلاف، وزاد عدد التلامذة على مئة ألف، وفي جملتها مدارس للبنات، غير ما أنشأه الأجانب من المدارس الخصوصية، وأكثرها لجماعة المرسلين من الطوائف النصرانية.

(١-٤) المدارس المصرية في عهد الاحتلال

ولما احتل الإنكليز مصر سنة ١٨٨٢ كانت المدارس قسمين: أميرية وغير أميرية، فضلًا عن الأزهر، والأميرية طبقتان: ابتدائية وعددها ٥٣٧٠ مدرسة، تشتمل على ١٣٧٥٥٣ طالبًا، وثانوية وعددها ٢٧ مدرسة فيها ٤٦٦٤ طالبًا، غير المدرسة التجهيزية، ومدارس الفنون والمهن العلمية كالطب والهندسة والمساحة والعمليات والإدارة والصناعة وغيرها، وكانت قاعدة التعليم في هذه المدارس اللغة العربية، والعلوم تُعلَّم بكتب عربية، وفي جملتها الرياضيات والطبيعيات والكيمياء والتاريخ العام والجغرافية، غير المهن العلمية التي ذكرناها. وأما اللغات الأجنبية، فكان التلميذ يُخيَّر بين الفرنساوية والإنكليزية والألمانية فيتعلم التي يريدها، ومن أراد إتقان هذه اللغات دخل مدرسة الألسن، ومن هذه المدرسة يخرج المترجمون، ناهيك بالبعثات التي كانت ترسلها الحكومة إلى أوربا لإتقان بعض العلوم، وكان التعليم في المدارس الأميرية مجانًا.

ثم أخذت الحكومة بعد الاحتلال في تنظيم المدارس على نسق جديد، فتقلبت على أحوال شتى، وأهم ما حدث فيها إقفال مدرسة الألسن، وإغفال البعثات إلى أوربا، وإبطال التعليم المجاني، وجعل قاعدة التعليم بإحدى اللغتين الإنكليزية والفرنساوية، وقَلَّت العناية باللغة العربية رويدًا رويدًا، فبعد أن كانت معظم ساعات التدريس عائدة إلى إتقانها، أخذت تتحول إلى اللغات الأخرى تدريجًا، حتى صارت ساعات التدريس للعربية أقل من ساعات التدريس لسواها.

فضعف شأن اللغة العربية، وقامت قيامة الصحف في أوائل هذا القرن تطلب الرجوع إلى التعليم في اللغة العربية، فلم يُسمع نداؤها إلا منذ بضع سنوات، لكن فكرة نشر التعليم راجت في القطر المصري، واهتمت الحكومة في إنشاء الكتاتيب، فبلغ عدد ما أنشأته ٣٧٩٤ كتابًا، ثم تألفت مجالس المديريات لإنشاء المدارس، كل مديرية تنشئ المدارس لنفسها، وتتولى التعليم على حدة، وتنفق على ذلك من ضريبة إضافية أذنت الحكومة للمديريات بضربها على العقار سنة ١٩١١ قيمتها خمسة في المئة، فبلغ عدد مدارس هذه المجالس إلى الآن ٩٣ مدرسة، غير ٣٩ مدرسة أخرى تنفق عليها.

وزادت رغبة المصريين في تعليم أولادهم بأوربا، واتفق بعضهم مع نظارة المعارف في العام الماضي أن تتولى هي أمر أولئك الطلبة وإرشادهم، وتعينت لذلك لجنة سموها «لجنة إرشاد الطلبة المصريين»، وبلغ عدد الطلبة الذين يطلبون العلم على نفقتهم لهذا العام ٦١٤ طالبًا، منهم ٣٧٣ في بلاد الإنكليز، و١٣٩ في فرنسا، و٦٤ في سويسرا، وقد دخل من هذا المجموع نحو النصف تحت رعاية اللجنة المشار إليها، أكثرهم في بلاد الإنكليز.

ويضيق المقام عن إيراد عدد ما في مصر من المدارس الأميرية وغير الأميرية، وتاريخ إنشائها، لكننا ننقل خلاصة ذلك للسنة الماضية عن الإحصاء السنوي الرسمي الذي تصدره الحكومة المصرية، وفيه عدد المدارس الوطنية، وعدد الكتاتيب وتلاميذها لسنة ١٩١٣.
عدد المدارس بمصر عدد التلاميذ فيها
٤٩٢٩ (جملة المدارس) ٢٩٣٧٣٢ (جملة التلاميذ)
٨٠٧ المدارس المصرية ١١٤٠٥٢
٢٧٩٤ الكتاتيب المصرية ٢٣١٣٧٦
عدد المدارس الأجنبية عدد تلاميذها
٦ ألمانية ١١٢٨
١٢ نمساوية ١٨٤٤
٣٢ أميركية ٥٢٠٢
٣٧ إنكليزية ٢٦٣٦
٤٢ يونانية ٧١٤٢
٤٧ إيطالية ٦٨٨٨
١٤٥ فرنساوية ٢٢١٧٥
٢٣٨=٧ جنسيات أخرى ٤٨٢٠٣=١١٨٧
وإليك إحصاء المدارس المصرية حسب تبعيتها أو إدارتها:
عدد التلاميذ المدارس الجهة التابعة لها
١١٤٠٥٣ ٨٠٧ (الجملة)
١٤٧٧٤ ٦٨ مدارس أميرية
١٩٩٤٢ ١٥ مدارس تابعة لمجلس الأزهر
٤٠٣٢ ٢١ مدارس تنفق عليها الأوقاف
٩٦٦٨ ٩٣ مدارس تابعة لمجالس المديريات
٥٩٥١ ٣٩ مدارس لها إعانة من مجالس المديريات
١٠٠٣٢ ٥٠ مدارس تابعة للجمعيات الخيرية الإسلامية
١٦٥١٩ ١٦٣ مدارس إسلامية أهلية
١٢٨٠٦ ٩٧ مدارس تابعة للجمعيات الخيرية القبطية
٧٨٦٩ ١٥٠ مدارس قبطية إنجيلية
٩٠٧٠ ٩١ مدارس قبطية أهلية
١٧٩٦ ١٢ مدارس إسرائيلية
١٥٩٤ ٨ مدارس من جنسيات أخرى غير إسلامية

فعدد المدارس المصرية وغير المصرية في القطر المصري نحو ٥٠٠٠ مدرسة، عدد تلاميذها كلها نحو ٤٠٠٠٠٠ تلميذ، وهو قليل بالنظر إلى البلاد الراقية؛ لأن سكان هذا القطر نحو ١٢٠٠٠٠٠٠ فتكون نسبة التلاميذ إلى مجموع السكان ٣٫٥ في المئة، ونسبة ذلك في الممالك الراقية أكثر كثيرًا، فهي في الولايات المتحدة ٢٤ في المئة، وفي إنكلترا نحو ١٧، وفي اليابان ١٦، وكذلك في ألمانيا والنمسا، و١٥ في فرنسا وإيطاليا، وأخيرًا تأتي روسيا ونسبة عدد التلاميذ فيها إلى عدد السكان نحو ٥ في المئة، وقد رأيت أنها في مصر ٣٫٥ فقط.

وزد على ذلك أن العلوم التي تلقى في المدارس المصرية أقل مما تقتضيه روح العصر، فالتعليم الثانوي الذي يمنح البكالوريا علومه أقل من علوم أمثاله في الممالك المتمدنة، وكذلك أكثر المدارس الفنية في الطب والحقوق والهندسة وغيرها، والحكومة تعول في استيفاء تعليم بعض التلاميذ بإرسالهم إلى مدارس أوربا.

ولكل من المدارس المصرية العالية تاريخ ليس هنا محل الإفاضة فيه، وإنما نكتفي بتلخيص تاريخ مدرسة الطب؛ لعلاقتها بالعلوم الدخيلة التي سيأتي الكلام عليها.

(١-٥) المدرسة الطبية المصرية تأسست في أبي زعبل سنة ١٨٢٦

لهذه المدرسة أهمية كبرى في هذه النهضة؛ لأن عليها المعول في تخريج الأطباء، وأكثر نقلة العلوم الدخيلة والطبيعية من تلاميذها، وهي أقدم المدارس العالية بمصر؛ لأن الغرض الأصلي منها عسكري كما تقدم، والفضل الأكبر في إنشائها للدكتور كلوت بك، استقدمه محمد علي سنة ١٨٢٥ طبيبًا لجيشه، وقد وثق به فأشار الدكتور بإنشاء المستشفى العسكري بأبي زعبل، ثم مدرسة الطب، وأن لا ينحصر تعليم الطب بالجند بل يكون عامًّا، ففوض إليه محمد علي القيام بهذا العمل، فأنشأ المدرسة الطبية في أبي زعبل سنة ١٨٢٦، واستقدم لها الأساتذة من فرنسا غير من استقدمهم محمد علي من الأطباء والصيادلة للخدمة في الجيش المصري، وبلغ عددهم ١٥٤ طبيبًا أكثرهم من الفرنساويين والإيطاليين، ولما صدر الأمر لكلوت بك بإنشاء مدرسة الطب تولى هو إدارتها وتعليم الجراحة فيها، وأخذ في العمل، فلم تمضِ عشر سنوات حتى تخرَّج فيها ٤٢٠ طبيبًا وصيدليًّا للجيش، كانوا يتعلمون في تلك المدرسة، ويمارسون في مستشفاها.

مستشفى أبي زعبل

وكان مستشفى أبي زعبل مربع الشكل، في وسطه حديقة طولها ٢٠٠ متر، فيها المغارس اللازمة للدروس النباتية، غير ما فيها من المعدات التشريحية والكيماوية التي لا بد منها للدروس الطبية، وكان ذلك المستشفى يُقسَّم إلى ستة أقسام حسب الأمراض وأنواعها، لكنه لم يكن في أول أمره حائزًا على النظافة لقرب المدافن منه، وكان المرضى فيه يسمعون أحيانًا عويل الضباع ليلًا لوحشة المكان، فيستيقظون من رقادهم مذعورين، فعزم كلوت بك أن ينقل المدرسة إلى الإسكندرية، أو إلى جزيرة الروضة، فلم يُوَفَّقْ إلى ذلك إلا سنة ١٨٣٧، فنقلها مع المستشفى إلى قصر العيني، وكان المعسكر قد فرغ من الجند لذهاب معظمه إلى سوريا.

العقبات التي اعترضت كلوت بك في مشروعه

واعترضت كلوت بك عقبات كبيرة في سبيل عمله هذا، وكان الناس يستبعدون تخريج الأطباء من الوطنيين، وبعضهم يعد ذلك مستحيلًا، لكنه اكتفى بأن يكون محمد علي نصيره في عمله فأفلح، وظلت مدرسة الطب المصرية وحيدة في العالم العربي نحو أربعين سنة، ريثما أنشئت المدرسة الكلية الأميركية في بيروت.

ومن أهم تلك العقبات تشريح الجثث، فكانوا في أول الأمر يُشرِّحون الكلاب، ثم أذن لهم بتشريح جثث النصارى والعبيد، وأن ينقلوا الجماجم والعظام من المدافن المهجورة، وأخيرًا أذن لهم بتشريح سائر الموتى، ولا سيما الذين يُتَوَفَّون في مستشفى قصر العيني.

غير ما لاقاه كلوت بك في أثناء العمل من توالي الأوبئة على مصر، ولا سيما الطاعون والكوليرا، فقد ذكروا أن الكوليرا التي انتابت مصر سنة ١٨٣١ بلغ عدد موتاها في القاهرة وحدها ٣٦٠٠٠ نفس، وبلغ عدد وَفَيَات الطاعون سنة ١٨٢٤ نحو ٤٠٠٠٠٠ نفس في القطر المصري كله، منهم ٣٠٠٠٠ في القاهرة. وتوالى الطاعون على مصر أيضًا سنة ١٨٣٦ و١٨٤٠ فضج الناس، ووقع الرعب في قلوبهم، ومحمد علي يستحث الدكتور كلوت بك على استنباط الحيل لتقليل الوفيات، فكان من جملة مساعيه في ذلك تلقيح الناس به على مبدأ التلقيح بالجدري، فأمر أن يُلقَّح الجند بالطاعون وهم في حال الصحة فخافوا، فلم يقدر على إقناعهم حتى لقَّح نفسه أمام جمهور من الأطباء والأعيان في مستشفى كان للملكية بالأزبكية، فعل ذلك في ١٥ مارس سنة ١٨٣٥ بين يدي طائفة من الأطباء والصيادلة وكبار موظفي الحكومة، دعاهم إلى قاعة المطعونين في ذلك المستشفى، وكشف عن ذراعه، وتناول المادة الطاعونية من بثرة أحد المطعونين، ولقَّح بها نفسه على مشهد من الناس.
figure
كلوت بك يلقِّح نفسه بالطاعون على مشهد من الأطباء والصيادلة وكبار موظفي الحكومة سنة ١٨٣٥.

وناهيك بالمشقة العظمى التي لقيها في لغة التدريس؛ لأن الأساتذة لم يكونوا يعرفون اللغة العربية، والتلامذة لا يعرفون اللغة الفرنساوية، ومحمد علي يريد استثمار عمله سريعًا، فلم يصبر حتى يتعلم التلاميذ اللغة الفرنساوية، أو يتعلم الأساتذة اللغة العربية ويضعوا فيها المؤلفات اللازمة للتدريس، أو على الأقل ريثما ينقل التراجمة تلك الكتب إلى العربية ويطبعونها ليسهل تناولها، لكنه أمر بإلقاء الدروس قبل أن يتم شيء من ذلك، وأقام المترجمين بين المعلمين والتلاميذ، ولا يخفى ما في ذلك من المشقة، لكن الهمة العالية تذلل كل صعب.

كيفية إلقاء الدروس الطبية في أول أمرها

كان المعلم يأتي إلى الصف ومعه المترجم، فيشرح المعلم درس ذلك اليوم والمترجم يتلو هذا الدرس بالعربية على التلاميذ، وهم يكتبونه في دفاترهم، وإذا أشكل عليهم فهم شيء، استوضحوه فيوضحه لهم المعلم بواسطة المترجم، وعلى كل فرقة عريف يراجع الدروس للتلاميذ، وهؤلاء يقدمون كل شهر امتحانًا عن دروسهم، ويقام البارعون منهم عرفاء عليهم.
figure
صف التشريح في قاعة التشريح بأبي زعبل سنة ١٨٢٧، وهو أول درس تشريحي سمعه الطلبة والجثة بين أيديهم. وكلوت بك يشرح لهم الدرس في حضور العلماء والأساتذة في ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧، والمترجم يُعَرِّب كلام كلوت بك للتلاميذ. وهذا الشكل منقول في الأصل عن صورة رُسِمت في ذلك العهد، وقد كتبوا بالعربية في أعلى جدران القاعة أسماء مشاهير الأطباء أو العلماء قديمًا وحديثًا، وهذه أسماؤهم من اليمين إلى اليسار: جابر، القارئ؟ ابن العيني، أبو القاسم، هيروفيلوس، أرستوتليس، أبقراط، جالينوس (…؟) ابن زهر، ابن الفارس، ابن البيطار، أبو الفرج.
figure
الدكتور كلوت بك مؤسس مدرسة الطب المصرية.

ولتعجيل الاستفادة من فن الطب أنشأ كلوت بك مدرسة للغة الفرنساوية يتعلم فيها تلاميذ الطب هذه اللغة في ساعات الفراغ؛ ليستعينوا بها في مطالعة العلم في الكتب الفرنساوية، وفي آخر كل سنة يقام امتحان عام يحضره الوجهاء والأعيان والقناصل وغيرهم، تُلقَى فيه الخطب ونحوها، وبعد خمس سنوات يُتِمُّ الطالب دروسه، ويُعيَّن في الآلايات أو المارستانات أو غيرها.

الإرسالية الطبية الأولى

وارتأى كلوت بك أن يستعين في تثقيف تلاميذه بإرسالهم إلى فرنسا ليتقنوا فن الطب، فانتخب سنة ١٨٣٢ اثنى عشر تلميذًا من النبهاء، أخذهم بنفسه إلى باريس، وامتُحِنوا بحضور الجمعية العلمية الطبية فشهدت لهم بالبراعة، وكانت الأسئلة تُطرَح عليهم بالفرنساوية، ويجيبون بها؛ لأنهم أتقونها في المدرسة التي تقدَّم ذكرها، فنالوا الشهادات، وهذه أسماؤهم:
  • أحمد الرشيدي.

  • حسن الرشيدي.

  • محمد منصور.

  • إبراهيم النبراوي.

  • حسين الههياوي.

  • عيسوي النحراوي.

  • مصطفى السبكي.

  • محمد الشباسي.

  • محمد السكري.

  • محمد الشافعي.

  • أحمد بخيت.

  • محمد علي البقلي.

figure
أربعة من تلاميذ الإرسالية الطبية الأولى.

وقد عني المصورون بتصوير هذه الإرسالية الطبية كما صوروا الإرسالية العلمية الأولى، وترى في الصورة أربعة منهم، وتحت كل صورة اسم صاحبها، وكلهم تولَّوا التدريس في مدرسة الطب، وهم: محمد السكري، ومحمد الشباسي، ومحمد الشافعي، ومحمد علي.

كل ذلك ومدرسة الطب لا تزال في أبي زعبل، وفي سنة ١٨٣٧ نقلوها إلى القاهرة، ووضعوها في قصر العيني كما تقدم ومعها المستشفى، وعُرِفت من ذلك الحين بمدرسة قصر العيني، ولا تزال تعرف به إلى الآن، وفي تلك السنة أمر محمد علي بإنشاء فرع طبي في الإسكندرية كالمستشفى، وآخر في حلب لأجل تمرين المتخرجين بمدرسة الطب المصرية، وبلغ عدد من دخل مستشفى الإسكندرية للسنة التالية ٩٥٠٠ مريض، ولم يطل بقاء مستشفى حلب لخروج سوريا من حوزة الدولة المصرية.

مدرسة القوابل

وأنشأ محمد علي سنة ١٨٤٢ فرعًا لدرس فن القبالة، يتعلمه النساء لمعالجة النساء أو توليدهن؛ مراعاة للعادات الشرقية، وأنشأ لهن مستشفى خاصًّا، لكنه لاقى في ذلك مشقة؛ لأن النساء الوطنيات نفرن من هذه المدرسة لبعدها عن مألوفهن، فأدخل فيها بعض الجواري الحبشيات، وأمر أن تُمنَح الحكيمة التي تُتِمُّ دروسها منهن رتبة بكباشي، مع التصريح لها بدخول قصور الكبراء، ومن أشهر أولئك القوابل تمرهان الحبشية والدة جليلة تمرهان، وهذه أيضًا تعلَّمت القبالة وعلَّمتها في تلك المدرسة في زمن إسماعيل، وقد ألغيت هذه المدرسة بعد إدخال النظام الجديد على مدرسة الطب، وعوضوا عنها بمدرسة التمريض لإخراج الممرضات.

طبع الكتب الطبية

وكانت الهمة مبذولة من الجهة الأخرى في طبع الكتب الطبية العربية في مطبعة أنشأها محمد علي في أبي زعبل، ولم يمضِ بضع سنوات حتى ظهرت عدة كتب طبية تعليمية عليها نُمَرٌ متسلسلة حسب ظهورها، وفي آخر كل كتاب تاريخ طبعه، وبلغ عدد الكتب الطبية التي طُبِعت في تلك المطبعة عشرة، أولها كتاب القول الصريح في علم التشريح تأليف الدكتور كلوت بك، طُبِع سنة ١٨٣٢، وآخرها كتاب الأربطة الجراحية تأليف إبراهيم بك النبراوي، طُبِع سنة ١٨٣٨، وطُبِعت فيها كتب أخرى غير هذه سيأتي ذكرها.

النظام الجديد في مدرسة الطب

وما زال التعليم في المدرسة الطبية باللغة العربية، يتخرج فيها الأطباء والعلماء يعلمون بالعربية، ويؤلفون في العربية، وهم نخبة رجال هذه النهضة، وعليهم كان المعول في نقل العلوم الحديثة بالترجمة أو التأليف أو التلخيص — ظلوا على ذلك نحو سبعين سنة، ثم رأت الحكومة سنة ١٨٩٨ أن تغيِّر بروغرام هذه المدرسة، فأدخلت فيها إصلاحات كثيرة من حيث إتقان المعدات والأدوات، وإدخال العلوم الحديثة، وإنشاء المعامل الكيماوية والمكرسكوبية، لكنها جعلت صبغتها إنكليزية — وذلك أنها كانت في إبان زهوها تعطي دبلوما عالية، فجعلوا شهادتها سنة ١٨٩٠ بسيطة، وأبطلت الدبلوما، ثم استقدمت الحكومة مديرًا من كبار مديري المدارس الطبية في لندن، وطلبت إليه أن يرفع تقريرًا في الإصلاح اللازم لهذه المدرسة، فأشار بضم المستشفى والمدرسة إلى إدارة واحدة، وذكر إصلاحات تتعلق بالدروس والأساتذة ولغة التدريس وغير ذلك، وكان التعليم مجانًا، والمدرسة تساعد التلاميذ برواتب شهرية، فأبطل هذا كله، وصار الطالب يدفع راتبًا سنويًّا، وفي سنة ١٨٩٨ جعلوا التعليم فيها باللغة الإنكليزية، وضُمَّت المدرسة إلى المستشفى، وجعل نظامها يشبه نظام مدرسة الطب في جامعة لندن، وأصبح الطالب بعد أن يُتِمَّ دروسه في قصر العيني يسوغ له أن يمكث سنة في تلك الجامعة، ثم ينال شهادتها، وتأييدًا لعلاقة هذه المدرسة بتلك الجامعة يأتي منها مندوب كل سنة لحضور الامتحان النهائي في هذه المدرسة، وهذا جدول رؤساء هذه المدرسة أو نظارها من أول إنشائها إلى الآن.
رؤساء أو نظار مدرسة الطب
الأسم السنة
الدكتور كلوت بك ١٨٢٧
الدكتور دقنو بك ١٨٣٧
الدكتور برون ١٨٣٩
الدكتور محمد شافعي أفندي ١٨٤٧
الدكتور راير ١٨٥٦
الدكتور حسن أفندي عارف ١٨٥٩
الدكتور أرنو بك ١٨٦٢
الدكتور بورجير بك ١٨٦٣
الدكتور حافظ أفندي محمد ١٨٦٣
الدكتور محمد علي بك ١٨٦٧
الدكتور محمد شافعي بك ١٨٧٠
الدكتور محمد علي بك ١٨٧٣
الدكتور جلياردو بك ١٨٨٣
الدكتور محمد بك القطاوي
الدكتور عيسى باشا حمدي ١٨٨٣
الدكتور حسن باشا محمود ١٨٨٩
الدكتور إبراهيم باشا حسن ١٨٩١
الدكتور كيتنج ١٨٩٨
figure
جلياردو بك أحد رؤساء مدرسة الطب سنة ١٨٨٣.

وسنأتي على تراجم الذين اشتهروا من متخرجي مدرسة الطب في باب العلوم الدخيلة.

(١-٦) الجامعة المصرية

ويجدر بنا قبل ختم الكلام في المدارس المصرية أن نقول كلمة في «الجامعة المصرية»؛ لأن لها مهمة تمتاز عما سواها من المدارس الأميرية وغير الأميرية.

لما صار التعليم في المدارس الأميرية باللغات الأجنبية، وانحطت طبقات التعليم في تلك المدارس وغيرها شعر عقلاء الأمة بهذا النقص، فأخذوا يتحدثون بالتعويض عن ذلك بإنشاء المدارس الأهلية التي ينفق عليها الأهلون، ولم يكونوا قد تعودوا ذلك من قبلُ، فأنشئوا عدة مدارس لم تغنِ فتيلًا، أو أنها لم يطل بقاؤها لكثرة النفقات، فاتجهت الأنظار إلى إنشاء كلية مصرية كبرى تُجمَع لها الأموال، وتُوقَف لها الأوقاف ليُضمَن بقاؤها، وكنا قد اقترحنا إنشاء هذه الكلية منذ بضع عشرة سنة بمقالات متوالية في السنة الثامنة من الهلال فما بعدها، وبيَّنَّا شدة الحاجة إلى هذه المدرسة للتعليم والتربية، ولكن لسبب لا نعلمه لما قام رجال الإصلاح لترقية التعليم الأهلي على قواعد ثابتة سنة ١٩٠٦، اقترحوا إنشاء «جامعة مصرية» ترجمة (University) الإنجليزية، فتوجهت الأنظار إلى أن تكون المدرسة المذكورة على نسق جامعات أوربا.
اقترح هذا المشروع رسميًّا مصطفى بك كامل الغمراوي من أعيان بني سويف في أكتوبر سنة ١٩٠٦، وافتتح الاكتتاب بخمسمائة جنيه تبرع بها، واستحث الأمة على إنشاء جامعة مصرية، فكان لهذا الاقتراح وقع حسن عند كرام الوطنيين؛ فاجتمع جمهور منهم في منزل سعد باشا زغلول، وشكلوا لجنة تحضيرية رئيسها سعد باشا، وسكرتيرها قاسم بك أمين، وأمين صندوقها حسن بك سعيد، فاكتتب الحاضرون بمبلغ ٤٥٨٥ جنيهًا، وقرروا ما رأوه من حيث غرض الجامعة، وكيفية تأسيسها.٤
وانتخبوا البرنس فؤاد باشا رئيسًا لهذا العمل، وأخذ مجلس الإدارة الجامعة يجمع المال، فاعترض سعيهم الأزمة المالية سنة ١٩٠٧، لكنهم ثابروا على العمل بهمة ونشاط، فلم تمضِ سنة حتى ظهرت تباشير النجاح، فاكتتبت نظارة الأوقاف بأمر الجناب الخديوي بخمسة آلاف جنيه تدفعها كل سنة، ووهب حسن باشا زايد خمسين فدانًا من أطيانه وقفًا على المشروع، وتوالت الاكتتابات والوقفيات بعد ذلك، فاكتتبت نظارة المعارف بألفي جنيه كل سنة، ووقف بعض أهل البر أطيانًا وأبنية فتوطدت الآمال، وتقرر افتتاح الجامعة، فاحتفلوا بافتتاحها في ٢١ ديسمبر سنة ١٩٠٨ احتفالًا رسميًّا حضره الجناب الخديوي، وألقى فيه خطبة نفيسة.٥

وفتحت الجامعة أبوابها، وأخذت في العمل بإرسال الإرساليات إلى أوربا لتخريج أساتذة وطنيين يعلِّمون العلوم في اللغة العربية، واستقدموا أساتذة موقَّتين من الإفرنج وغيرهم لإلقاء المحاضرات في العلوم الفلسفية والاجتماعية والتاريخية وآداب اللغة، كما تفعل أرقى جامعات أوربا، لكن ذلك وراء ما نحتاج إليه من العلوم، ونحن نعتقد أننا في حاجة إلى العلوم الطبيعية والرياضية وغيرها من الفنون التعليمية التي تنقص المدارس الثانوية المصرية، فضلًا عن تربية الأخلاق الراقية، وهي لازمة لزوم العلوم أو أكثر، فكتبنا في الهلال ٢٧٢ سنة ١٧ مقالةً ضافية بيَّنَّا فيها حاجة البلاد إلى هذه العلوم، واقترحنا تعديل طرق إلقاء الدروس في الجامعة، وفعل ذلك سوانا من محبي مصر، فأخذت الجامعة في تعديل خطتها، وقررت سنة ١٩٠٩ إرسال شبان مصريين لتلقي العلوم الطبيعية، وغيرها مما كنا التمسناه، وأدخلت في السنة التالية تحسينات أخرى، وفتحت فرعًا لتعليم المرأة، وقررت في السنة التالية إنشاء قسمين عاليين لتدريس الفنون الأدبية والعلوم الاقتصادية وغير ذلك، ولا تزال عاملة على التحسين في كل يوم، حسب حاجة البلاد وما تسمح به ماليتها.

ولا نزال نرجو أن تعدل خطتها، وتطبق علومها على حاجة البلاد مما ينجلي لمجلس إدارتها بالاختبار والبحث؛ فإنهم من خيرة رجال الفضل المخلصين في سعيهم، ولا سيما بعد أن أقدمت البرنسس فاطمة هانم عمة الجناب الخديوي على الأخذ بناصر الجامعة، فوقفت لها ٦٧٤ فدانًا في الدقهلية، ووهبتها قطعة أرض مساحتها ستة فدادين قرب قصرها في بولاق الدكرور بضواحي القاهرة لتبني للجامعة فيها بناء فخمًا، وأعطتها مجوهرات قدَّرتها بثمانية عشر ألف جنيه يقام بها ذلك البناء، فإذا لم تكفِ أتمت ما يبقى، وقد وضعوا الرسم اللازم للبناء، واحتفلوا بوضع الحجر الأول في ٣٠ مارس سنة ١٩١٤ بحضور الجناب الخديوي، وقد وضعه بيده الكريمة، وشهد ذلك الأمراء والوزراء والأعيان، ومجلس إدارة الجامعة في احتفال شائق.

فأصبحت مالية الجامعة المصرية الآن عبارة عن ٢٠٠٠٠ جنيه مودعة في البنك الألماني، و١٠٢٨ فدانًا من أجود الأطيان، غير الإعانات المفروضة، وهي عشرة آلاف جنيه كل سنة، منها ٥٠٠٠ جنيه من الأوقاف، و٢٠٠٠ جنيه من المعارف، والباقي من ريع النقود والأطيان وغيرها.٦

(٢) المدارس الحديثة في سوريا

للمدارس الحديثة في سوريا تاريخ يختلف عن تاريخ المدارس في شقيقتها مصر، فقد علمت أن الباعث على إنشاء المدارس المصرية رغبة محمد علي في النهوض بالأمة المصرية، وإحياء آداب اللغة العربية، أما سوريا فكان الباعث على إنشاء المدارس فيها على الأكثر منافسة الإرساليات الدينية أو البعثات التبشيرية.

(٢-١) التعليم في سوريا قبل هذه النهضة

وقبل النظر في إنشاء المدارس في القرن التاسع عشر، ننظر في حال التعليم على الإجمال قبل دخول ذلك القرن، كانت المدارس الإسلامية في سوريا في الجوامع والزوايا، أكبرها مدرسة الجامع الأموي في دمشق، ولا يزال مدرسة إسلامية إلى الآن.

وكان في دمشق وحلب وحمص وغيرها مدارس أخرى إسلامية في غير المساجد نحو ما كان بمصر، لكن من أراد التبحر في العلم لا يستغني عن مدرسة الأزهر، ولا يزال ذلك دأبهم في العلوم الإسلامية إلى اليوم، وكان في دمشق مدارس للشيعة أنشأها مشايخُ بيت علي الصغير المتاولةُ.

أما المدارس النصرانية قبل هذه النهضة، فأقدمها في لبنان للطائفة المارونية، غير ما كان منها في حلب للرهبنات المختلفة كما تقدم، وللموارنة فضل السبق بإنشاء المدارس في لبنان من عهد بعيد في إهدن وصوفر وبقرقاشة في شمالي لبنان، ومنها مدرسة أسسها البابا غريغوريوس سنة ١٥٨٤، وكان أساتذة هذه المدارس بوجه الإجمال من الكهنة إلا نادرًا، ناهيك بالمدارس الصغرى التي كانوا ينشئونها في الأديرة، ويسمونها «أنطوش»، مثل: أنطوش جبيل أنشئ سنة ١٧٦٢، وأنطوش زحلة عام ١٧٦٩، وأنطوش دير القمر ١٧٨٢ وغيرها.
figure
الجامع الأموي في دمشق.

ومن المدارس القديمة مدرسة عجلتون أنشئت عام ١٧٥١، ومدرسة وادي شحرور عام ١٧٥١.

وأشهر المدارس المارونية التي أنشئت في القرن الثامن عشر «مدرسة عين ورقة»، وكانت ديرًا على اسم مار أنطونيوس، فجعلها البطريرك يوسف إسطفان عام ١٧٨٩ مدرسة على مثال مدرسة رومية، وكانت تعلم فيها اللغة السريانية والعربية والفصاحة والمنطق وعلم اللاهوت.

ثم أنشئت مدارس كثيرة كمدرسة مار عبدا هرهريا عام ١٨٣٠، ومدرسة ريفون عام ١٨٣٢، ومدرسة مار يوحنا مارون، وغيرها مما لا محل لإيراده هنا، والساعي في إنشاء هذه وأمثالها الرهبنات الدينية.

وكان للروم الكاثوليك مدارس في عين القش، وعين تراز، وللروم الأرثوذكس مدارس صغيرة في الكنائس والديور.

(٢-٢) المدارس السورية في هذه النهضة

الطور الأول قبل سنة ١٨٦٠

تقسم هذه المدارس على طورين: الأول قبل سنة ١٨٦٠، والثاني بعده، وأكثر الإرساليات الدينية سعيًا في إنشاء المدارس في الطور الأول الآباء العازاريون واليسوعيون والمرسلون الأميركان، وأقدمهم العازاريون أنشئوا مدرسة عينطورا بلبنان سنة ١٨٣٤، ولا تزال عامرة إلى الآن، ثم أنشأ القس وليم طمسن الأميركاني مدرسة في بيروت عام ١٨٣٥ تعطلت عام ١٨٤٠، وفي تلك السنة قَدِم الدكتور فانديك الشهير إلى سوريا فجال فيها، واختبر أحوالها، فرأى البلاد تحتاج إلى المدارس العليا، فأنشأ مدرسة عبية (لبنان) عام ١٨٤٧، وهي مدرسة عالية، وفي هذه السنة أنشأ الآباء اليسوعيون مدرستهم في غزير (لبنان)، والمنافسة بين الأميركان واليسوعيين في إنشاء المدارس في سوريا من الأمور المألوفة.

على أن الأجانب لم ينشئوا المدارس الكبرى في بيروت إلا في الطور الثاني على أثر حوادث سنة ١٨٦٠ المشئومة، ومهاجرة اللبنانيين وغيرهم إلى بيروت، وبها تبدأ النهضة الحقيقية.

الطور الثاني بعد سنة ١٨٦٠

مدارس البنات

أقدم مدارس هذا الطور في بيروت أنشئت للبنات؛ لأن المهاجرين المنكوبين كان أكثرهم من الأرامل والأيتام ممن فقدن أزواجهن وآباءهم في أثناء تلك الحادثة، وأسبق تلك المدارس إلى هذه الخدمة «المدرسة الإنكليزية»، أنشأتها مسز بوين طمسن سنة ١٨٦٠، وتُعرَف الآن بمدرسة مسز موط، ثم المدرسة الكلية الإنجيلية الأميركانية للبنات أنشئت سنة ١٨٦١، ولا حاجة بنا إلى بيان ما كان لهاتين المدرستين من العمل العظيم في نهضة السوريين؛ اكتفاء بما لتعليم البنات من التأثير المشهور في ترقية الأمم، وتفرَّع من هاتين المدرستين بعد ذلك مدارس كثيرة في بيروت ولبنان، نبغ منها نخبة من ربات المنازل، فعمرن البيوت، وأصلحن شئون الهيئة الاجتماعية، ثم أنشئت مدارس أخرى للبنات، منها مدرسة الراهبات العازريات، ومدرسة راهبات المحبة والناصرة، ومدرسة بروسيا، ومدرسة مس تيلر، ومدرسة زهرة الإحسان للروم الأرثوذكس وغيرها.

وحدث بسبب ذلك نهضة تعليمية، وأقدم أهل البر على إنشاء الكليات للذكور، ومنها الكليات الوطنية، والكليات الأجنبية، ونقتصر من ذلك على مدارس بيروت، وهي من أرقى مدارس العالم من حيث التعليم لكثرة ما فيها من الكليات، وبينها مدرستان طبيتان، ومدرسة حقوق، ومدرستان تجاريتان، فنتكلم أولًا عن الكليات الوطنية، ثم الكليات الأجنبية.

(٢-٣) المدارس الكلية الوطنية في بيروت

تنبه السوريون على أثر تلك النهضة إلى حاجة البلاد، فأخذوا في إنشاء المدارس من عند أنفسهم، وهي التي سميناها المدارس الوطنية، أقدمها «المدرسة الوطنية» للمعلم بطرس البستاني، وهو السابق إلى هذه المنقبة مثل سبقه في أشياء كثيرة من أسباب هذه النهضة، ومثل سبق طائفته الأصلية (الموارنة) إلى التعليم قبلًا، أنشأ مدرسته هذه سنة ١٨٦٣، وكانت زاهرة ونبغ منها طائفة من الأدباء وأرباب الأقلام هم زهرة سوريا في ذلك العهد، وبينهم جماعة من أرباب المناصب العالية الآن، وكانت ممتازة بصبغتها الوطنية، وحرية الدين والتعليم، لكنها تعطلت سنة ١٨٧٦، وكانت الطوائف الأخرى قد أخذت تعمل مثل عمله.

فأنشئت المدارس الكلية الوطنية للطوائف الأخرى، أهمها المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك أنشئت سنة ١٨٦٥، وهذه ظهر من تلامذتها جماعة من الأدباء، ثم مدرسة الثلاثة الأقمار للروم الأرثوذكس كانت في سوق الغرب، ونُقِلت إلى بيروت سنة ١٨٦٦، وكان لها شأن بين المدارس الوطنية.

ومدرسة الحكمة للمطران يوسف الدبس أُنشِئت سنة ١٨٦٥، وهي للطائفة المارونية، والمدرسة الوطنية الإسرائيلية للحاخام زاكي كوهين أُنشِئت سنة ١٨٧٤، وهي أكبر مدرسة إسرائيلية، وقد أُقفِلت منذ بضع وعشرين سنة، وتوفي صاحبها في مارس من هذا العام عند أبنائه بمصر عن نيف وثمانين سنة، وهو أول مَن أنشأ الكليات العربية الإسرائيلية.

والمدرسة الرشدية أقدم مدارس المسلمين الحديثة، ومدرسة دار المعلمين، وكلتاهما للحكومة، والكلية العثمانية الإسلامية أحدث كليات بيروت الوطنية، أُنشِئت بعد الدستور، وكانت قبله صغيرة نهارية، فأنشئوا فيها سنة ١٣١٨ﻫ (١٩٠٠) قسمًا داخليًّا، ولما أُعلِن الدستور جعلوها كلية وسموها «الكلية العثمانية الإسلامية»، تعلم علوم الكليات الكبرى، وتديرها عمدة من نخبة أدباء بيروت ووجهائها المسلمين برئاسة الشيخ أحمد عباس الأزهري، ويؤخذ من بيانها السنوي أنها عازمة على إنشاء فرع لتعليم الحقوق وآخر للتجارة، وهي من أقوى عوامل النهضة الإسلامية في بيروت، ومن المدارس الإسلامية في بيروت المدرسة العثمانية، فيها قسم داخلي، وهي من أقدم مدارسهم الأهلية.

وفي الدولة العثمانية الآن نهضة حديثة لإنشاء المدارس العالية في العالم العربي، منها مدرسة كلية عالية في المدينة، ومدرسة للحقوق في بيروت.

(٢-٤) المدارس الكلية الأجنبية في بيروت

قد رأيت أن البيروتيين سبقوا الأجانب إلى إنشاء الكليات الكبرى فيها، ثم أقدم الأميركان على إنشاء كليتهم الشهيرة، واقتدى بهم سواهم.

الكلية الأميركية

أنشأها المرسلون الأميركان في بيروت سنة ١٨٦٦، وكانت مدرستهم في عبيه تعلم علوم الكليات الكبرى من الرياضيات والطبيعيات وغيرها، وقد تقدَّم أنها أنشئت سنة ١٨٤٧، فهي أقدم الكليات العربية في سوريا على النمط الحديث، وقد تخرَّج فيها طائفة من العلماء كانوا من جملة أركان هذه النهضة في سوريا، ومن معلمي مدارسها الكبرى، وكان البستاني منشئ المدرسة الوطنية من جملة أساتذتها، ولما عمرت بيروت بعد حوادث ١٨٦٠ أنشأ الأميركان المدرسة الكلية التي نحن في صددها، والفضل الأكبر في إنشائها إلى الدكتور دانيال بلس، كان مرسلًا للتبشير في سوريا سنة ١٨٥٦، فرأى البلاد في حاجة إلى كلية علمية تمهد للطلبة تلقِّي العلوم الفنية كالطب وغيره، فاقترح على زملائه إنشاء هذه الكلية، فأكبروا اقتراحه، لكنه ثبت وسافر إلى أميركا لجمع المال اللازم فنجح، وتألفت لجنة للعمل تحت رئاسة عضوَيْها الدكتورين فانديك وورتبات، وما زال هو رئيسًا للمدرسة حتى أقعدته الشيخوخة، فتولاها ابنه الدكتور هورد بلس منذ بضع عشرة سنة، فتحت الكلية أبوابها وعدد تلاميذها ٤٦، وهم الآن نحو ألف طالب، وكان أساتذتها ثلاثة، فأصبحوا الآن بضعة وثمانين أستاذًا ومعلمًا، وكانت علومها محصورة في الطب وبعض فروع العلم، فتعددت فروعها وأقيمت لها الأبنية، حتى صارت كالجامعة الكبرى مؤلَّفة من عدة كليات:
  • (١)

    الاستعدادية.

  • (٢)

    الكلية العلمية.

  • (٣)

    الطبية.

  • (٤)

    الصيدلية.

  • (٥)

    طب الأسنان.

  • (٦)

    التجارية.

  • (٧)

    الآثار القديمة.

  • (٨)

    المرصد الفلكي.

وفي عزمها إنشاء فرع للحقوق، وآخر للهندسة، وآخر للزراعة، ويسمونها عند ذلك «جامعة»، وقد تخرَّج في الكلية الأميركية جيش الكتاب والأطباء والعلماء والصيادلة والمعلمين، وفي جملتهم طائفة من أرباب الصحف والمجلات، وأرباب المناصب العالية في دوائر الحكومة بمصر وسوريا، غير التجار والصناع، ويُقدَّر المتخرجون من أبناء هذه المدرسة ببضعة آلاف منتشرين في أنحاء العالم.٧

وتمتاز الكلية الأميركية بالتدريب على استقلال الفكر وترقية النفس، وبإحياء الآداب العربية، وخدمة الجامعة العربية؛ لأنها كانت منذ نشأتها تعلِّم العلوم باللغة العربية، فهان على تلاميذها التأليف في هذا اللسان، فكثر المؤلفون ونبغ الخطباء فيها، وأساتذتها الأولون هم الذين قاموا بنقل العلوم الطبية والطبيعية والرياضية إلى اللغة العربية كما سترى، لكنها عدلت عن التدريس في العربية منذ ثلاثين سنة، وجعلته في اللغة الإنكليزية.

الكلية اليسوعية

هي للآباء اليسوعيين أنشئوها أولًا في غزير، ثم نقلوها إلى بيروت سنة ١٨٧٤، وهي تعلِّم اللغات والآداب والطبيعيات والرياضيات والتجارة والفلسفة والفلك والتاريخ الطبيعي وسائر العلوم الطبيعية، وقد تخرج فيها مئات من الطلبة، بينهم طائفة من الكتَّاب والمؤلفين والشعراء وغيرهم، وكانت تعلِّم في اللغة العربية فعدلت عنها إلى الفرنساوية، ولها فرع طبي أُنشِئ سنة ١٨٨٣ للتعليم باللغة الفرنساوية تنفق عليها الحكومة الفرنساوية، وقد تخرَّج فيها طبقة من خيرة الأطباء المشاهير، وأنشئوا فيها فرعًا للحقوق، وسينشئون فروعًا أخرى بحيث يصدق عليها اسم الجامعة.

(٢-٥) المدارس السورية خارج بيروت

اكتفينا ببيروت مثالًا لحركة التعليم في سوريا، لكننا نقول كلمة في كيفية انتشار التعليم الحديث في سائر مدائن سوريا، في دمشق وحلب وحمص وحماة وطرابلس وفي لبنان وغيرها، والغالب أنها فعلت ذلك اقتداءً ببيروت، ولكل منها تاريخ خاص بها من حيث التعليم والمدارس، ويقال بالإجمال: إن المحرك الرئيسي لإنشاء المدارس فيها إنما هو المنافسة الطائفية بعد انتشار مدارس التبشير الأجنبي، فنهضت الطوائف النصرانية الوطنية لإنشاء المدارس، ثم أخذت الحكومة في إنشاء المدارس الأميرية غير ما كان للمسلمين من المدارس القديمة، ونكتفي بذكر مدارس حمص مثالًا لسائر المدائن السورية.

مدارس حمص

تنقسم المدارس في حمص حسب الطوائف إلى خمس طبقات:
  • (١)

    المدارس الإسلامية.

  • (٢)

    الأرثوذكسية.

  • (٣)

    الإنجيلية.

  • (٤)

    اليسوعية.

  • (٥)

    السريان.

فالمدارس الإسلامية بضع عشرة مدرسة، أكبرها «الكلية العلمية» تأسست سنة ١٣٢٢ مالية (١٩٠٦)، وهي مدرسة عالية، مدة التدريس فيها عشر سنوات: ٣ ابتدائية، و٣ استعدادية، و٤ علمية، عدد طلبتها ٣٢٠، وتدرِّس اللغات العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية، تليها مدرسة الاتحاد الوطني، وهي إعدادية، عدد طلبتها ٢٠٠، تليها مدارس تديرها الحكومة العثمانية، غير المدارس الأهلية القديمة، وعدد التلاميذ المسلمين في كل المدارس الإسلامية ٢٥٣٠ تلميذًا، و٩٤ معلمًا. والأرثوذكسيون بدأت نهضة التعليم عندهم في النصف الثاني من القرن الماضي، ولا سيما بعد تولية مطرانهم الحالي السيد إثناسيوس عطا الله، فأصبح عندهم خمس دوائر تعليمية، منها «المدرسة العلمية» تقابل المدرسة الاستعدادية في الكلية الأميركية، لها لجنة تدير شئونها، وهناك عدة مدارس ابتدائية تنفق عليها جمعية فلسطين الروسية، والإنجيليون الأميركان لهم أربع مدارس بعضها أقدم مدارس حمص الحديثة، منها واحدة داخلية، ويقال نحو ذلك في اليسوعيين والسريان وغيرهم.

إحصاء المدارس في المملكة العثمانية

ويحسن بنا أن نختم الكلام في المدارس السورية بخلاصة إحصاء نظارة المعارف العثمانية الرسمية لهذا العام عن مدارسها في المملكة العثمانية، ويؤخذ منه أن في الملكة العثمانية نحو ٤٠٠٠ مدرسة ما بين ابتدائية ورشدية، أكثرها للذكور، وعدد المعلمين نحو ٦٠٠٠ معلم، والتلاميذ ٢٠٣٠٠٠ من الذكور، و٤٠٤٥٥ من الإناث، وأنه في كل ولاية دار معلمين ابتدائية، وفي العاصمة دار معلمين عالية، ودار معلمات للإناث، وأكثرها داخلية.

أما المدارس الإعدادية وغيرها فهي ٩٤ مدرسة، ٢٣ منها داخلية، وعدد المدارس العالية ١٧ مدرسة، فيها كليات الطب والحقوق والصنائع والتجارة، غير المدارس العسكرية الابتدائية والعالية.٨

(٢-٦) لغة التعليم في المدارس بمصر والشام

مر على المدارس الكبرى في سوريا ومصر عشرات من السنين، والتعليم فيها باللغة العربية، فزهت هذه اللغة وأزهرت، وهو عصرها الذهبي في هذه النهضة، ولذلك فنحن نشكو من الكلية الأميركية والكلية اليسوعية في بيروت، ومن المدارس الأميرية المصرية؛ لأنها جعلت التعليم فيها باللغات الأجنبية، وحجة أصحاب هذا التغيير قلة الكتب التعليمية في اللغة العربية، وكثرتها وإتقانها في اللغات الإفرنجية، وهو اعتراض وجيه بالنظر على التعليم بحد ذاته، لكن التعليم يراد به أيضًا شيء آخر لا يقل أهمية عن ذلك، نعني ترقية شئون الأمة، وجمع كلمتها، وإحياء آمالها، وهذا لا يكون إلا بترقية لسانها، وإحياء آدابه بتأليف الكتب العلمية والأدبية، وإنشاء الصحف والمجلات فيه، ولا يتيسر ذلك إلا إذا كان هو قاعدة التدريس في المدارس العالية، فلو ظلت هذه المدارس كما كانت عليه في أول نهضتها لكانت اللغة العربية كما يتمناها كل محب للعرب، ولم يبقَ ما يحتجُّ به بعض الراغبين في اللغات الأجنبية من قصور التعبير عن المصطلحات العلمية.

على أن ذلك ميسور الآن بالرجوع إلى ما فعله أصحاب هذه النهضة في أوائلها، كما تراه مفصلًا في تاريخ مدرسة الطب، وما سيأتي في باب العلوم الدخيلة. ولما كانت مصر هي قلب العالم العربي، ولا حياة له إلا بها، فعليها القيام بهذه المهمة، وقد أخذت بذلك نظارة المعارف المصرية في وزارة حشمت باشا (من سنة ١٩١٠–١٩١٣)، فأرجع أكثر التعليم إلى اللغة العربية، وأخذ في إحياء آدابها بنشر الكتب العربية الهامة، ونصرة أهل الأدب، ووضع جرثومة الأكاديمية العربية بلجنة سماها لجنة الاصطلاحات العربية لوضع المصطلحات العلمية، وأنشأ لجنة لترجمة العلوم، وغير ذلك، وكان سعد باشا زغلول وزير المعارف قبله قد هَمَّ بشيء من هذا القبيل.

لكن هذه المشروعات مرتبطة بإرادة الحكومة، وهي على ما يظهر لا ترى الإصلاح يأتي من هذا الطريق.

على أن الآمال معقودة في هذا السبيل بالجامعة المصرية إذا أُحسِن استخدامها، وتعدلت طرق التعليم فيها إلى ما يلائم حاجة البلاد؛ لأنها أنشئت من أموال المحسنين من الأهلين.

هوامش

(١) تفصيل ذلك في الهلال سنة ١٥.
(٢) Artine Pacha, I’Instruction Publique en Egypte 29 وغيره.
(٣) الذهب الإبريز لرفاعة بك.
(٤) تفصيل ذلك في الهلال ٧٤ سنة ١٥.
(٥) نَصُّها في الهلال ٢٤٢ سنة ١٧.
(٦) تفصيل ذلك في الهلال ٥٦٥ سنة ٢٢.
(٧) تجد تفصيل ذلك في الهلال صفحة ٤٤٣ سنة ٢٢.
(٨) من شاء التوسع في تاريخ المدارس الحديثة في الشرق، فليطالع الهلال سنة ٩ و١٣ و١٤ و١٥ و١٩ و٢١، والمقتطف سنة ٧، وتاريخ مصر الحديث ج٢، وآداب اللغة العربية للأب شيخو، وتراجم مشاهير الشرق ج٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤